التقى وزير الخارجية التركي، أحمد داوود أوغلو، يوم الثلاثاء، 9 أغسطس/ آب، الرئيس السوري بشار الأسد في مباحثات ماراثونية، دارت حول الأزمة السورية وسياسة الأسد تجاه الحركة الشعبية المطالبة بالحريات والتغيير. وفي ضوء التصريحات الغاضبة التي صدرت عن نائب رئيس الحكومة التركي، بولنت أرينش، وعن رئيس الحكومة طيب رجب أردوغان، في الأيام القليلة التي سبقت مباحثات داوود أغلو في دمشق، لم يكن هناك شك، سورياً وإقليمياً ودولياً، حول أهمية الزيارة القصوى.
فيما يلي قراءة لمهمة داوود أوغلو في دمشق، وما يمكن أن يكون قد نجم عنها، وأثرها على الموقف التركي من الوضع في سورية.
الزيارة: تحذيرات متبادلة
تعرض موقف الحكومة التركية من سورية لضغوط متصاعدة منذ بداية شهر الصيام، الموافق لبداية أغسطس/ آب، ليس من صيحات الجموع الشعبية في شوارع المدن السورية وحسب، ولكن أيضاً من القاعدة التركية الشعبية، المحافظة والإسلامية، لحزب العدالة والتنمية الحاكم. كان رئيس الحكومة التركية قد حذّر نظام الأسد من ارتكاب مجازر ضد الانتفاضة الشعبية؛ وبالرغم من أن أنقرة مارست ضغوطاً متواصلة على الأسد في إبريل/ نيسان ومايو/ أيار، فإن الصوت التركي الرسمي خفت نسبياً بعد ذلك. وما أن بدأت القوات الموالية للرئيس الأسد حملتها ضد حماة والمدن السورية الأخرى في نهاية يوليو/ تموز، حتى بدت أنقرة في موضع حرج، لاسيما أن هناك اتفاقاً عاماً على أن تركيا صاحبة الدور الأهم في الشأن السوري.
استقبل وزير الخارجية التركي بتصريحات من مستشارة الرئيس السوري بثينة شعبان، حين ردت على تحذير إردوغان بأن وزير خارجيته سيُبَلغ الرئيس الأسد رسالة حازمة، بالقول أن داوود أوغلو سيسمع رداً حازماً. وكان واضحاً أن امتناع وزير الخارجية السوري وليد المعلم عن استقبال نظيره التركي في مطار دمشق هو في حد ذاته رسالة عدم ترحيب واحتجاج مسبق.
بدأ لقاء الوفدين بارداً إلى حد كبير، وإن استمر لثلاث ساعات، انفرد بعدها الرئيس الأسد والوزير داوود أوغلو لثلاث ساعات أخرى، هي الأهم بالتأكيد. ويعتقد أن وزير الخارجية التركي أبلغ الرئيس السوري بأن الفرصة المتبقية له قصيرة جداً، وأن عليه الاستجابة للمطالب الشعبية أو يلقى مصير صدام حسين أو القذافي، وأن إيران لن تنفعه حينها، مؤكداً على أن استمرار الأسد في سياسته سيؤدي إلى وقوف تركيا نهائياً وقطعياً إلى جانب المجتمع الدولي لدعم المعارضة السورية وفرض عقوبات متصاعدة على نظامه وعزله كلية.
نتائج الزيارة: وعود جوفاء
تحدث وزير الخارجية التركي للصحافيين بعد عودته إلى أنقرة، مشيراً إلى أنه يتوقع نهاية سريعة لحملة القمع التي يقودها النظام السوري ضد شعبه، لاسيما في حماة، وأنه ينتظر إعلان دمشق عن إجراءات إصلاحية جذرية خلال 10 – 15 يوماً، تكفل "انتقالاً سلمياً للسلطة." وهذا بالتأكيد ما يُعتقد أنه الوعد الذي حصل عليه داوود أوغلو؛ بمعنى نهاية فورية لحملة العنف الرسمي، ومن ثم إعلان الأسد عن تعديل جذري في الدستور وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية تعددية، تحت إشراف دولي، مع نهاية العام الحالي. وفي خطابه لمجموعة حزب العدالة والتنمية البرلمانية في اليوم التالي، كرر رئيس الحكومة إردوغان مضمون تصريحات وزير خارجيته، مؤكداً على أن أنقرة تراقب الوضع في سورية عن كثب، وموحياً بأن الموقف التركي ليس نهائياً.
بيد أن من الواضح أن الإعلام السوري الرسمي تجاهل الزيارة كلية، ولم يتناولها إلا من خلال البيان الرسمي الذي صدر في نهايتها عن وكالة الأنباء الرسمية "سانا"، الذي أشار إلى أن النظام السوري أبلغ الوفد التركي عزمه على استمرار مطاردة "العصابات المسلحة" في أنحاء البلاد، وهي العبارة التي يستخدمها النظام لتبرير حملته العسكرية – الأمنية على المدن والبلدات السورية. وكانت هذه أولى الدلائل على عدم جدية وعود الأسد لداوود أوغلو.
لم تتوقف آلة القتل الرسمية، لا في يوم الزيارة ولا في الأيام التالية لها. وبعد جدل حول انسحاب أو عدم انسحاب قوات الجيش من مدينة حماة، سمحت دمشق للسفير التركي ووفد صحفي تركي بزيارة المدينة. والحقيقة أن قوات الجيش المدرعة قد انسحبت فعلاً من المدينة، ولكن عناصر من الجيش وقوات الأمن والميليشيات التابعة لأجهزة الأمن لم تزل حتى يوم الجمعة 12 أغسطس/ آب منتشرة في أنحاء حماة؛ وهو ما أدى إلى منع الأهالي من التظاهر بعد صلاة الجمعة، وإلى مقتل اثنين من المدنيين في اليوم نفسه.
في المدن والبلدات الأخرى، مثل دير الزور والبوكمال وحمص وبلدات ريف دمشق واللاذقية وإدلب ودرعا، استمرت آلة القتل الرسمية في عملها كالمعتاد منذ انطلاقة الثورة. وقد كان لافتاً للنظر أن بعض المتظاهرين السوريين، يوم الجمعة 12 أغسطس/ آب، رفع لافتات تنتقد التصريحات التركية عقب زيارة داوود أوغلو لدمشق، وتدعو أنقرة إلى توضيح موقفها أو الصمت.
الموقف التركي: الخروج من المأزق
ليس من المبالغة القول بأن أنقرة تواجه مأزقاً بالغ التعقيد في موقفها من الأزمة السورية. فبالرغم من أنها لم تتوقف عن توجيه نصائح للأسد بإجراء إصلاحات ديمقراطية، فإنها لم تتوقع ثورة سورية شعبية بهذا الحجم والإصرار، ولا قمعاً رسمياً بهذا الحجم والإستمرار. والأرجح أن مستوى الثقة بين أنقرة ودمشق انهار بدرجة كبيرة منذ منتصف مايو/ أيار، وقد تولدت قناعة لدى المسؤولين الأتراك بأن الأسد يمارس الكذب والخداع، وأن سياسته تقوم على كسب الزمن لتصفية الحركة الشعبية بقوة السلاح، معتمداً على ولاء الجيش وأجهزة الأمن وبيروقراطية النظام. وسرعان ما تطور خلال أشهر الصيف شعور تركي بالقنوط والعجز، نظراً لتجاهل الأسد النصائح والضغوط، وإخفاق المجتمع الدولي في الإجماع على قرار أممي، واقتناع القيادة التركية بأن التدخل العسكري الخارجي، التركي أو الغربي، ليس مقبولاً، وليس ممكناً على المستوى القانوني، وليس واقعياً.
يضاف إلى تعقيدات المأزق التركي في سورية المواقف الإقليمية الأخرى؛ إذ لم يستدع التصريح الغاضب الذي صدر عن إردوغان قبل زيارة داوود أوغلو لدمشق رداً من بثينة شعبان وحسب، بل وكان على الأرجح السبب خلف تصعيد سريع في الموقف السعودي، وقرار الملك عبد الله استدعاء السفير السعودي من دمشق للتشاور، ليتبعه مباشرة قراران مشابهان من البحرين والكويت. لم يأت التصعيد السعودي على خلفية الغضب المتزايد في الشارع السعودي تجاه ما تشهده سورية وحسب، بل وللتوكيد على دور عربي في تقرير مستقبل سورية لا يقل عن دور تركيا. لكن في الآن نفسه، واجهت تصريحات إردوغان وزيارة داوود أوغلو تصريحات احتجاجية من مسؤولين إيرانيين.
بيد أن آمال الشارع السوري، والقاعدة الشعبية التركية لحزب العدالة والتنمية، كانت من البداية معلقة على الموقف التركي. كما أن قيادة حكومة العدالة والتنمية تدرك أن تركيا ستكون المتضرر الأول والأكبر من تفاقم الوضع السوري باتجاه انقسام أهلي - جغرافي أو حرب أهلية، أو وقوع تدخلات خارجية عسكرية لصالح النظام، من إيران أو حزب الله، أو ضده، من قبل دول غربية. وهذا بالتأكيد ما أدى إلى زيارة داوود أوغلو لدمشق والمواجهة الصريحة والتهديدية له مع الرئيس الأسد.
الواضح الآن أن تركيا لم تصل بعد إلى لحظة القرار بأن على الأسد ونظامه أن يذهبا؛ ولا يزال الموقف التركي يعول على أن وضع الأسد بات من الحرج إلى حد يدفعه إلى الاستجابة للضغوط التي تستهدف إجباره على تبني إصلاحات جذرية، كفيلة بأن توفر فرصة لانتقال تدريجي وسلمي للسلطة خلال أشهر أو عام على الأكثر.
ويمكن الترجيح بأن موقف أنقرة يلعب دوراً هاماً في تحديد الموقف الأميركي، وليس العكس.
ثمة أسباب عديدة خلف تردد أنقرة في القول بنهاية نظام الأسد، منها الخشية من أن يسهم هذا الموقف في تسارع الأمور نحو انفجار حرب أهلية – طائفية في سورية، ومنها الخوف من اشتعال طائفي أوسع في المشرق لا يمس تركيا وحسب بل ويهدد وضع سنة العراق أيضاً، ومنها الخوف من عدم وجود بديل وطني ذي مصداقية كافية لنظام الأسد، ومنها عدم توفر مؤشرات كافية على تراجع ولاء الجيش وقوى الأمن السورية للنظام، ومنها التباين الخطر في المواقف الإقليمية، ومنها خشية التورط في أزمة سورية متفاقمة في الوقت الذي استطاع فيه نظامان أضعف بكثير، مثل نظامي القذافي وعبد الله صالح، الصمود لشهور طويلة في مواجهة ثورة شعبية واسعة النطاق.
ما يجب ملاحظته أن تغييراً سياسياً في سورية سيصب لصالح تركيا؛ وهو ما تعيه حكومة إردوغان. ولكن الأتراك يخشون من اتخاذ قرار خاطئ، أو اتخاذ قرار صحيح في توقيت خاطئ. وربما من الضروري الإشارة إلى أن الآلة الدبلوماسية التركية، وبالرغم من الإعجاب الواسع الذي أثارته مؤخراً، ليست مؤهلة بعد للتعامل مع أزمات معقدة بحجم وتعقيد الأزمة السورية.
مشكلة الموقف التركي أنه لا يأخذ في الاعتبار سجل مصداقية الرئيس الأسد منذ انطلاق الحركة الشعبية ضد نظامه، من ناحية، ولا التحول الملحوظ في توجهات الشارع السوري وقوى المعارضة السورية السياسية، من ناحية أخرى. مصداقية الرئيس الأسد هي الآن في أدنى مستوى لها منذ منتصف مارس/ آذار، ومن الصعب أن يأخذ السوريون وعوده مأخذ الجد. وحتى لو ألقى الأسد خطاباً جديداً عن الوعود بالإصلاح فمن غير المتوقع أن يقنع الكثير من السوريين.
فبعد التصعيد الكبير في حملة القمع الدموية خلال الأسبوعين الماضيين، واتساع نطاق سفك الدماء في كافة أنحاء سورية، الواضح أن الشارع السوري، وقوى المعارضة معه، لن يقبلا بأقل من سقوط النظام.
بيد أن الموقف التركي لا يزال يتطور. فبالرغم من كل التعقيدات التي تحيط بالأزمة السورية، فإن حكومة إردوغان تتمتع بحساسية بالغة تجاه الرأي العام الإقليمي والتركي. فاستمرار سياسة القمع في سورية وتصاعد الضغط الشعبي على حكومة إردوغان سيؤديان إلى تطور حثيث في الموقف التركي. ولعل صدور أمر، في 11 أغسطس/ آب، باستدعاء كل الضباط الأتراك الذين تقاعدوا في السنوات الخمس الماضية للخدمة، وتوزيعهم على المراكز العسكرية الحدودية مع سورية، ينبئ بمواصلة الاستعدادات التركية لكل طارئ.
إن وصلت تركيا أخيراً إلى الدعوة إلى تغيير سياسي فوري في سورية، فهذا لا يعني بالضرورة بدء عمليات عسكرية تركية ضد قوات الرئيس الأسد. فتدخل عسكري خارجي في سورية هو تطور بالغ الخطورة والتعقيد، ويتطلب غطاء قانونياً دولياً، ودعماً سياسياً عربياً على وجه الخصوص، وكلا هذين الشرطين يصعب توفره الآن. ولكن المتوقع أن يؤدي تطور الموقف التركي إلى تطور مشابه في الموقفين الأميركي والأوروبي، ويشكل قوة ضغط كبيرة على روسيا والصين، باتجاه تغيير في سياسة الدولتين من الحدث السوري؛ وأن تتعهد تركيا دوراً إيجابياً لتعزيز وضع المعارضة السورية، وتوفير مزيد من الدعم للحركة الشعبية في سورية؛ بكل ما يعنيه هذا من أثر على اتساع نطاق الحركة الشعبية وبداية تفكك جسم النظام وقوى المجتمع التي تقف إلى جانبه.
أما إن لم يتطور الموقف التركي قبل فوات الأوان، فإن خسارة تركيا في المنطقة العربية ستكون كبيرة، إذ أن رؤية المسؤولين الأتراك المبكرة إلى أن سورية ستكون محك الصعود أو التراجع للتأثير التركي في الجوار العربي – الإسلامي صحيحة الآن أكثر من أي وقت مضى.