وراء السويداء: ثبات إسرائيلي في إفشال الدولة السورية

حالت إسرائيل دون فرض الدولة السورية الأمن والنظام في السويداء، بمبرر حماية الدروز هذه المرة، لكنها استعملت مبررات مختلفة منذ نظام بشار الأسد، لتبرير ضربها المتواصل للقدرات السورية، حتى تكون الدولة السورية عاجزة عن حكم البلاد وحمايتها، فتصير خاضعة لإسرائيل وعاجزة عن استرداد المناطق المحتلة.
الأمن السوري يحاول فك عقدة السويداء (رويترز)

لم تتوقف إسرائيل عن مهاجمة سوريا طوال السنوات العشر السابقة على سقوط نظام الأسد. هاجمت بالطائرات والمسيرات أو الصواريخ الموجهة، أهدافًا متنوعة في كافة أنحاء سوريا، بما في ذلك مخازن سلاح وذخيرة، ومصانع عسكرية، ومواقع دفاع جوي، وطائرات شحن في مطار دمشق. وبررت هجماتها خلال السنوات الأخيرة من حكم الأسد بالادعاء أن سوريا باتت مركز نفوذ إيرانيًّا، وأن إيران تستخدم سوريا لتعزيز مقدراتها العسكرية وتهديد الأمن الإسرائيلي.

مباشرة بعد سقوط الأسد، بدأت إسرائيل موجة ثانية من الهجمات على سوريا، على الرغم من أن قوى المعارضة السورية التي أسقطت الأسد كانت تُعرف بعدائها لإيران وعزمها على التخلص كلية من النفوذ الإيراني ومن الميليشيات التابعة لها. خلال الشهور القليلة التالية على انتصار الثورة السورية، استهدفت إسرائيل كل ما استطاعت الوصول إليه مما تبقى من مقدرات الجيش السوري: معسكرات، ومطارات، وطائرات، ومواقع دفاع جوي، ومرابض مدفعية، ووحدات دبابات ومدرعات، ومستودعات سلاح. وإلى جانب ذلك، توغلت قوات إسرائيلية بعمق عدة كيلومترات على طول خط فصل القوات لعام 1974، شرقًا وشمالًا، وصولًا إلى جبل الشيخ، لتحتل المزيد من الأرض السورية.

في مساء 14 يوليو/تموز، وعلى خلفية تفاقم الأزمة في محافظة السويداء ذات الأغلبية الدرزية، أطلقت إسرائيل موجة جديدة من الهجمات على سوريا. استهدفت الهجمات في يومها الأول طابورًا من دبابات الجيش السوري، التي كانت في طريقها لتعزيز قوات الجيش والأمن العام المتقدمة نحو مركز السويداء. كما استهدفت مقار للجيش السوري في محافظة درعا. ادعت إسرائيل أن دفع الدولة السورية بالسلاح المدرع والثقيل إلى درعا والسويداء يعد انتهاكًا لسياسة تل أبيب المعلنة بنزع سلاح الجنوب السوري، الذي يمكن أن يشكِّل تهديدًا أمنيًّا على إسرائيل.

ولكن الهجمات على سوريا لم تتوقف ولم تقتصر على تمركزات معدات الجيش السوري الثقيلة. ففي اليوم التالي، بدأت إسرائيل قصف مواقع قوات الجيش والأمن العام السوري داخل مدينة السويداء، بما في ذلك مقر قيادة الأمن العام في السويداء، كما الحشود العسكرية في طريقي درعا-السويداء، ودمشق-السويداء؛ ما أدى إلى سقوط العشرات من الضحايا في صفوف قوات الجيش والأمن العام. هذه المرة، كشف رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع، يسرائيل كاتس، عن موقفهما بما لا يترك مجالًا للالتباس: إن لدى إسرائيل التزامًا بحماية الدروز في سوريا، بمقتضى عهد الدم الذي وقَّعه دروز فلسطين مع قيادة دولة إسرائيل في مطلع خمسينات القرن الماضي، وإن على القوات السورية أن توقف محاولتها السيطرة على السويداء.

في اليوم الثالث، 16 يوليو/تموز، أعاد القادة الإسرائيليون تهديد الدولة السورية ومطالبتها بالانسحاب من السويداء، كما وجَّه شيخ عقل الدروز، حكمت الهجري، الذي يقود التمرد في السويداء ضد الدولة السورية، وللمرة الأولى، نداء إلى "الرئيس ترامب ودولة رئيس الحكومة نتنياهو، للتحرك لحماية دروز سوريا". وسرعان ما اتسع نطاق الهجمات الإسرائيلية ليستهدف مقر هيئة أركان الجيش العربي السوري في ساحة الأمويين بقلب دمشق، وموقعًا عسكريًّا واحدًا على الأقل في محيط القصر الجمهوري، كما عدَّة أهداف في درعا.

فكيف، إذن، تفاقمت الأزمة في السويداء وتحولت من مسألة سورية داخلية إلى مسألة إقليمية ودولية؟ وما الدوافع الحقيقية خلف التدخل الإسرائيلي العدواني السافر في شأن سوري داخلي بحت؟

الطريق إلى أزمة السويداء

لم تستطع الدولة السورية الجديدة فرض سيطرتها على محافظة السويداء، على الرغم من محاولاتها المتكررة، منذ سقوط نظام الأسد، في ديسمبر/كانون الأول 2024. كانت المحافظة قد شهدت اندلاع انتفاضة شعبية ضد نظام الأسد في خريف 2023، حملت أهدافًا مشابهة لحركة الثورة السورية المستمرة منذ 2011. وعلى الرغم من عدم وضوح الأسباب خلف انفجار السويداء ضد نظام الأسد في هذه المرحلة المتأخرة من الثورة السورية، فالأرجح أن الضغوط الاقتصادية والأمنية كانت المحرك الرئيس للانتفاضة. هذا على المستوى الشعبي العام، أما على مستوى القيادات الدينية في المحافظة، فليس من المستبعد أن دوافع طائفية وطموحات زعامة قد لعبت دورًا ما في انتقال هذه القيادات من موقع موالاة النظام إلى معارضته، والمطالبة، من ثم، بنوع من الإدارة الذاتية في المحافظة.

خلال أكثر من عام من الانتفاضة ضد الأسد، تكدس السلاح بصورة متزايدة في أيدي النشطين الدروز في المحافظة، كما برز أكثر من مجموعة مسلحة منظمة، عُرِف عدد منها بمعارضة النظام والانضواء في الحراك الثوري الشعبي، وعدد آخر بالارتباط بالشيخ حكمت الهجري، أحد أبرز شيوخ العقل السوريين الثلاثة. لم تكن العلاقات بين هذه المجموعات ودية أو وثيقة دائمًا. ولكن ذلك لم يمنع مجموعات مسلحة درزية، في الأيام الأخيرة من عملية ردع العدوان، عندما بدا واضحًا أن نظام الأسد في طريقه إلى السقوط، من الاندفاع باتجاه دمشق والمساهمة في السيطرة على العاصمة السورية. إلا أن هذه المجموعات سرعان ما انكفأت عائدة إلى السويداء ما أن انتشرت قوات الثوار القادمة من الشمال السوري في دمشق، سيما بعد أن طالبت الحكومة السورية الجديدة كافة المسلحين بالانضواء في قوات وزارة الدفاع.

ولكن العلاقة بين الدولة السورية الجديدة ومجموعات المسلحين الدروز المرتبطة بالشيخ حكمت الهجري سرعان ما أخذت في التوتر. في يناير/كانون الثاني 2025، منع المسلحون من أتباع الهجري رتلًا من إدارة العمليات العسكرية للجيش السوري الجديد من دخول محافظة السويداء وتأسيس وجود حكومي أمني في المحافظة، كما كانت الحكومة السورية قد فعلت في محافظتي درعا والقنيطرة المجاورتين.

وبخلاف جماعة رجال الكرامة المسلحة التي يقودها النشط الدرزي، ليث البلعوس، والمجموعة المعروفة باسم لواء الجبل، اللتين أعلنتا الولاء لدمشق والترحيب بعودة الدولة ومؤسساتها إلى السويداء، أعلنت عدة مجموعات مسلحة أخرى، عُرفت بصلاتها الوثيقة بالشيخ الهجري، رفض الاعتراف بشرعية الدولة الجديدة والخضوع لسلطتها. في 6 مارس/آذار، نظمت المجموعات المتمردة، بما في ذلك المجلس العسكري في السويداء، وتيار سوريا الفيدرالي، والتيار السوري العلماني، مظاهرة تدعو إلى إسقاط الرئيس الشرع ونظامه، ورفعت صور الشيخ الهجري.

وقعت اشتباكات ذات طابع طائفي، في مارس/آذار وأبريل/نيسان، في محافظة السويداء، كما في بلدتي جرمانا وأشرفية صحنايا من ريف دمشق؛ حيث الوجود الدرزي الملموس، استدعت تدخلات مباشرة من قوات الأمن العام السوري. ما ساعد في النهاية على إخماد الاشتباكات ومنعها من التمدد، كان التوصل إلى اتفاق لاستعادة السلم في المحافظة بين ممثلي الدولة السورية ووجهاء وأعيان ورجال دين، بدون وجود الهجري أو ممثلين عنه، نصَّ على تشكيل قوات الأمن من أبناء المحافظة، تحت قيادة المركز في دمشق، وعودة ممثلي الدولة إلى مراكز عملهم في المحافظة. ولأن الهجري لم يخف معارضته للاتفاق، فإن العدد الأكبر من مسلحي السويداء أحجم عن تسليم سلاحه، أو الالتحاق بقوات الأمن الجديدة. خلال الأسابيع التالية، اتسم التحرك لتطبيق الإجراءات المتفق عليها بقدر كبير من البطء، إلى أن فقد الاتفاق فاعليته.

القيادة المذهبية للدروز السوريين

يقود المرجعية الدينية لدروز سوريا ثلاثة شيوخ عقل: حكمت الهجري، وحمود الحناوي، ويوسف الجربوع. تسلم الثلاثة مواقعهم بصورة وراثية، ليس فقط لأن العلم في الطائفة الدرزية يورث داخل دائرة محدودة من كبار شيوخ الطائفة، ولكن أيضًا لأن العائلات التي ينتمي إليها الثلاثة عُرفت بتأثيرها على المجتمع الدرزي، وبتفردها بتقديم شيوخ العقل منذ القرن التاسع عشر على الأقل. ولكن العلاقات بين شيوخ العقل الثلاثة ليست علاقات مؤسسية، وليست ودية بالضرورة. يصطف الحناوي والجربوع، اللذان اتخذا من بلدة عين الزمان مقرًّا لهما، عادة في جهة، ويقف الهجري من مقره في القنوات في جهة أخرى. ولكن الهجري، ونظرًا لوزن عائلته الكبير، يدَّعي دائمًا موقعًا أعلى من موقع منافسيه، بل ويطلق على مقره اسم "الرئاسة الروحية" لدروز سوريا.

المشكلة في السويداء أن الرأي العام الدرزي بات أسيرًا، وبصورة كلية تقريبًا، للمرجعية الدينية. أغلب الجماعات السياسية أو الجماعات المسلحة، وأغلب الشخصيات النشطة في العمل العام، بمن في ذلك ذوو التوجه العلماني، يصعب عليها الخروج عن رأي مشيخة العقل. الجماعة الوحيدة التي تجرأت على معارضة مشيخة العقل كانت حركة الكرامة التي قادها الشيخ وحيد البلعوس، الذي أطلق حراكًا في السويداء مؤيدًا للثورة السورية. اغتيل وحيد البلعوس في 2015، بدون أن تُعرف الجهة التي أمرت باغتياله؛ وتولى ابنه ليث قيادة المجموعة، التي تؤكد على ولائها للدولة السورية الجديدة.

لم تكن الأوضاع هكذا دائمًا في سوريا الحديثة؛ ولكن التراجع الفادح في الحياة السياسية السورية في نصف القرن الماضي، وتهميش العمل الحزبي، وتراجع نفوذ الضباط الدروز في قيادة النظام الأسدي، أفسح المجال لتزايد نفوذ المرجعية الدينية للطائفة وما يشبه تفردها في الحديث باسم الدروز السوريين.

عُرف الشيخ حكمت الهجري، الذي خلف شقيقه أحمد في مشيخة العقل في 2012، بالولاء لنظام الأسد، تمامًا كما كان شقيقه، وكما كان شيخا العقل الآخرين، الحناوي والجربوع. والشائع أن خلافًا وقع بين الهجري وبين قائد استخبارات النظام، المسؤول عن السويداء، في 2021، كان السبب الذي أدى إلى ابتعاد الشيخ عن النظام. قد تكون طموحات الهجري في تحقيق استقلال إقليم درزي بسوريا أخذت في التنامي عندما تزايدت المؤشرات على ضعف المركز السوري. ولذا، وما أن انطلقت انتفاضة السويداء ضد النظام في 2023، لم يتردد الهجري في تأييد الحراك الشعبي في المدينة؛ ما ساعد على تقوية موقعه.

عقد الهجري علاقات مع شيخ العقل، موفق طريف، الذي يمثل المرجعية الدينية للدروز في إسرائيل. يتمتع موفق طريف بعلاقات وثيقة مع القيادة الإسرائيلية، تعود إلى "عهد الدم" الذي عقده شيوخ دروز في فلسطين مع القيادة الإسرائيلية في خمسينات القرن الماضي، وترتب عليه التحاق الدروز بالجيش والأجهزة الأمنية الإسرائيلية، بخلاف المسيحيين والمسلمين من عرب إسرائيل الآخرين.

تتعدد تفسيرات حرص الهجري على الابتعاد عن الدولة السورية الجديدة والتشكيك في شرعيتها منذ الأيام الأولى التالية على سقوط نظام الأسد، على الرغم من توجه القيادات الدينية لكافة الطوائف المسيحية والشيعية، إضافة إلى شيخي العقل الآخرين للدروز، إلى بناء علاقات طبيعية مع قيادات الدولة، في دمشق وفي مراكز المحافظات، وتقبل الدولة الجديدة بصفتها المعبِّرة عن إرادة أغلبية الشعب السوري.

ثمة من يعتقد أن معارضة الهجري للحكم الجديد تعود إلى مخاوف طائفية بحتة، ترسبت من الانعطافة الراديكالية في بنية الدولة السورية، التي انتقلت مرة واحدة وبصورة مفاجئة تمامًا من نظام حكم أقلوي إلى نظام حكم تقوده شخصيات سُنِّية ذات خلفية إسلامية بخلفية قتالية. وهناك بالطبع من يفسر موقف الهجري من زاوية علاقاته الحديثة بالمرجعية الدينية الدرزية-الإسرائيلية، وسعيه إلى الاستقلال بكيان درزي. وهناك، من جهة ثالثة، من يرى أن معارضة الهجري لدمشق تنبع من دوافع أنانية بحتة، ومن طموحات زعامة ذاتية.

أظهر تفاقم أزمة العلاقة بين جماعة الهجري والدولة السورية، واندلاع الصراع على مصير السويداء، أن الهجري بات يشكِّل عقبة كبرى أمام مشروع توحيد سوريا، وأمام انضواء دروز السويداء في الجماعة الوطنية السورية. وليس الهجري ومن التفوا حوله، وحسب، بل القوة الإسرائيلية الباطشة الموغلة في العدوانية.

انفجار الأزمة في السويداء

اندلعت أزمة السويداء، في مرحلتها الأخيرة، يوم الجمعة 11 يوليو/تموز، عندما هاجمت مجموعة مسلحة من البدو السنَّة عربة نقل خضروات يقودها سوري درزي على طريق السويداء-دمشق، واستولت على العربة. لم تكن هذه بالتأكيد حادثة معزولة، أو خارج سياق العلاقات الاجتماعية بين عشائر البدو والدروز في السويداء؛ فالعلاقات بين الطرفين، سواء في غرب، شمال، أو شرق المحافظة يشوبها التوتر وفقدان الثقة منذ عشرات السنين. عُرفت السويداء منذ قرون باسم جبل العرب لأنها كانت أصلًا مستقرًّا ومرعى لعشائر بدوية من قبائل الزبيد وعنزة وبني خالد. ولم يبدأ الدروز في التوافد إلى المنطقة من موطنهم في جبل لبنان إلا في نهاية القرن السابع عشر وفي القرنين التاليين، بفعل الصراعات القبلية بين القيسيين واليمنيين الدروز أنفسهم، أو بين الدروز والمسيحيين المارون.

أطلقت حادثة عربة الخضار سلسلة من الصدامات بين الجماعات الدرزية وأبناء العشائر، سيما في غرب السويداء، أخذت في التصاعد واكتساب طابع اقتتال دام، يومي السبت والأحد، 12-13 يوليو/تموز. قُتل في الصدامات العشرات من الطرفين، وتعرضت مستقرات العشائر للتدمير. وهذا ما دفع الدولة إلى التدخل لمحاولة الفصل بين الجماعات المتصارعة وفرض الأمن؛ ولكن القوة المحدودة من قوات الأمن السورية التي أرسلت إلى المحافظة تعرضت لكمين من المسلحين الدروز، ومقتل تسعة من أفرادها، على الأقل، وأسر آخرين. ولأن الدولة لم تكن طرفًا في الاشتباكات، كان واضحًا أن قوات الأمن تعرضت لعمل غادر من عصابات درزية مسلحة ترفض الانصياع للقانون وسلطة الدولة.

منذ صباح الاثنين، 14 يوليو/تموز، عقدت القيادة السورية العزم على إحكام سيطرة الدولة على السويداء برمتها، ووضع نهاية للانهيار الأمني ومحاولات فصل المحافظة عن الوطن السوري. أُنجز انتشار قوات الجيش والأمن العام السورية في المحافظة ومركزها الإداري في السويداء بسرعة فائقة وبسلاسة، وبدون خسائر تُذكر. ولكن، وما إن حل مساء اليوم حتى بدأ التدخل الإسرائيلي الأول بقصف المعدات الثقيلة التي أُرسلت إلى السويداء لمساندة قوات الجيش والأمن، وقصف عدد من معسكرات الجيش في درعا المجاورة.

استمرت الهجمات الإسرائيلية بصورة متصاعدة، يومي الثلاثاء والأربعاء، 15-16 يوليو/تموز، موقعةً خسائر فادحة في قوات الجيش والأمن العام، إلى أن وصلت ذروتها بقصف بناية هيئة أركان الجيش في ساحة الأمويين بالعاصمة، دمشق، وهدف عسكري آخر في جوار القصر الجمهوري. ولأن التقارير حول خسائر القوات السورية وفي صفوف أبناء العشائر انتشرت في كافة أنحاء البلاد، فقد ولَّد تداعي الأوضاع في السويداء غضبًا عارمًا في أوساط الرأي العام السوري. برر القادة الإسرائيليون في البداية مهاجمة القوات السورية بمسوغات أمنية، مؤكدين أنهم لن يسمحوا بنشر الجيش السوري والسلاح الثقيل في محافظات سوريا الجنوبية الثلاثة: القنيطرة ودرعا والسويداء. ولكنهم عادوا في اليوم التالي إلى الإعلان عن أن الهدف من الهجمات على سوريا وعاصمتها هو حماية الدروز ومنع سيطرة الدولة السورية على السويداء. فكيف، إذن، أقدمت دمشق على إرسال قوات الجيش إلى السويداء وهي تعلم أن الإسرائيليين سيستهدفون هذه القوات إن نُشرت في أي من المحافظات الجنوبية الثلاث؟

خلال الشهور الثلاثة السابقة على انفجار الوضع في السويداء، عُقد عدد من جلسات التفاوض المباشر، وغير المباشر، بين مسؤولين سوريين وإسرائيليين، بوساطة تركية وعربية وأميركية، بهدف التوصل إلى اتفاقية أمنية بين الطرفين. أراد السوريون من الاتفاق أن يستند إلى اتفاقية فصل القوات 1974 ويبني عليها، وأن يؤدي إلى الانسحاب من مناطق التوغل التي سيطرت عليها القوات الإسرائيلية بعد سقوط نظام الأسد، وإلى توقف الهجمات الإسرائيلية المتكررة على المواقع العسكرية السورية. في المقابل، عرض السوريون تقديم ضمانات بأن لا تشكِّل سوريا تهديدًا أمنيًّا للدولة العبرية.

ولكن الجانب الإسرائيلي أراد اتفاقًا جديدًا كلية، يتضمن إقرارًا سوريًّا بأن خط فصل القوات لعام 1974 يمثل خط الحدود الرسمية بين الدولتين، بما يعني تخليًا سوريًّا، وإن مستبطنًا، عن الجولان الذي احتُلَّ في 1967. كما طالب الإسرائيليون بأن تكون المحافظات الجنوبية السورية الثلاث: القنيطرة ودرعا والسويداء، خالية تمامًا من الوجود العسكري السوري. بهذا التباين الواسع بين تصوري الطرفين لما يجب أن يكون عليه الاتفاق الأمني، وصلت المفاوضات، كما يبدو، إلى طريق مسدود.

ولكن فشل المفاوضات لم يقف حاجزًا أمام تحرك قوات الجيش السوري إلى الجنوب، ربما لأن دمشق حسبت أن الإسرائيليين لن يجرؤوا على استهداف قوات أُرسلت لمعالجة مسألة سورية داخلية وليس لتهديد إسرائيل. والأرجح، أن دمشق ظنَّت أن الأميركيين لن يسمحوا لنتنياهو بالتدخل العسكري في السويداء، سيما بعد سلسلة التصريحات الصادرة من واشنطن وعن مبعوثها إلى تركيا وسوريا، توم باراك، التي أكدت على وحدة سوريا، وعلى أن كافة الطرق لابد أن تؤدي لدمشق، وعلى أن نظام ما بعد الحرب العالمية الأولى أوقع مظلمة كبرى بشعوب المشرق. بكلمة أخرى، وضع السوريون ثقتهم في الأميركيين، أو في استجابة إسرائيل للتطمينات المتلاحقة من دمشق؛ وأخطؤوا من ثم الحساب.

مهما كان الأمر، فقد كان التدخل الإسرائيلي قد دفع المسؤولين السوريين في السويداء إلى التوصل إلى اتفاق مع وجهاء المحافظة، بتأييد من شيخ العقل يوسف جربوع، بعد ظهر الأربعاء، 16 يوليو/تموز، يقضي بوقف إطلاق النار، واتخاذ كافة الإجراءات الكفيلة بانضواء السويداء في جسم الدولة السورية، وانسحاب قوات الجيش من المحافظة والإبقاء فقط على قوات الأمن العام. كما نَصَّ الاتفاق على توسع تشكيل قوات الأمن بضم أكبر عدد ممكن من الشبان المحليين، سيما أولئك الذين تخلوا عن السلاح. وما أن أُعلن عن الاتفاق، حتى سارعت دمشق إلى الأمر بانسحاب قوات الجيش من السويداء.

بيد أن الاتفاق لم يسمح له بالمضي قدمًا، بأي حال من الأحوال. سارع الشيخ الهجري إلى إصدار بيان حمل رفضًا صريحًا للاتفاق، والإصرار على استمرار القتال حتى إخراج كافة قوات الدولة السورية من أرض السويداء. كما أعلن الإسرائيليون في الوقت نفسه أنهم لن يتوقفوا عن مهاجمة القوات والمؤسسات السورية إلا بعد انسحاب كافة القوات السورية، العسكرية والأمنية على السواء، من السويداء.

وهذا ما دفع إلى إطلاق جهود وساطة محمومة، شاركت فيها تركيا والسعودية والولايات المتحدة، توصلت مع منتصف ليل الأربعاء/الخميس، 14-17 يوليو/تموز، إلى ما يشبه التفاهمات القاضية بتوقف الاعتداءات الإسرائيلية، مقابل الانسحاب الكامل لقوات الجيش والأمن العام السوريين من السويداء. ولابد أن هذا الاتفاق المهين لدمشق هو ما دفع الرئيس السوري، أحمد الشرع، إلى توجيه خطاب إلى الشعب السوري، في ساعات صباح الخميس المبكرة، يشرح فيه اضطراره إلى سحب قوات الجيش والأمن من السويداء، تجنبًا لحرب مدمرة مع "الكيان الإسرائيلي".

تداعيات التدخل الإسرائيلي

ظن كثيرون أن أزمة السويداء قد تم احتواؤها، وإن جزئيًّا، وأن دعاة الانقسام في المحافظة حققوا، بدعم من إسرائيل، انتصارًا مؤكدًا على الدولة السورية الجديدة، حتى إن رئيس الحكومة الإسرائيلية، نتنياهو، لم يستطع منع نفسه من التفاخر بالنجاح في فرض السلم في السويداء وفي حماية حلفاء إسرائيل في المحافظة بالقوة وليس بالتوسل والتفاوض. ولكن الأمور في سوريا، كما هي عادة طوال قرون من تاريخ المشرق، كانت أكثر تعقيدًا مما ظنت أطراف الأزمة الخارجية.

خلال الساعات التالية على انسحاب قوات الجيش والأمن العام من السويداء، عادت الجماعات المسلحة الموالية للشيخ الهجري إلى السيطرة على المدينة، والاندفاع إلى ريف المحافظة الغربي، مرتكبة في طريقها مجازر بشعة في حق البدو السنَّة، واحتجاز آلاف من النساء والأطفال رهائن. وبدا واضحًا أن المسلحين الدروز أرادوا من العنف البالغ، الذي حرصوا على إذاعته ونشره، إيقاع نوع من التطهير الديمغرافي ودفع أبناء العشائر إلى مغادرة المحافظة كلية.

ولأن العشائر التي تقطن السويداء ليست سوى امتداد قبلي لعشائر زبيد وعنيزة وبني خالد في جوار السويداء السوري، كما في العراق والأردن والسعودية، فسرعان ما أثارت تداعيات الوضع في السويداء ردود فعل تضامنية في أوساط العشائر العربية السورية في درعا ودير الزور، وفي ريف دمشق، كما في محافظات الوسط والشمال، إضافة إلى العشائر التركمانية في شمال اللاذقية. طوال يومي الخميس والجمعة، 17-18 يوليو/تموز، تدفق الآلاف من أبناء العشائر المسلحين، مستخدمين كافة الوسائل والطرق، نحو السويداء لنجدة وحماية أشقائهم من عشائر بدو المحافظة.

اكتسح المسلحون العشائريون قرى وبلدات غرب السويداء خلال ساعات قليلة؛ ومع مساء الجمعة 18 يوليو/تموز، كانوا قد اقتحموا مدينة السويداء نفسها، مطالبين بالإفراج عن الآلاف المحتجزين لدى المسلحين الدروز. شهدت المدينة قتالًا بالغ العنف والتدمير بين الطرفين، وبدا أن المسلحين الدروز في طريقهم لخسارة المعركة. وهذا ما دفع إلى إحياء جهود الوساطة من جديد، التي قادتها هذه المرة الولايات المتحدة. توصل الوسطاء الأميركيون إلى اتفاق جديد لوقف النار في السويداء، تكفله تركيا والأردن، لم يتضح ما إن كان اتفاقًا بين الدولتين، السورية والإسرائيلية، وحسب، أو أن الشيخ الهجري كان هو الآخر طرفًا في الاتفاق. ولكن المؤكد أن الاتفاق لم يكن ممكنًا بدون إدراك الإسرائيليين أن حلفاءهم في السويداء باتوا في موقف عسكري حرج.

لم يُنشر نص رسمي واحد من الاتفاق في دمشق. ما نُشر كان تسريبات غير رسمية، إضافة إلى تصريحات من وزير الإعلام السوري، أشارت إلى أن الاتفاق يتكون من ثلاث مراحل، تنتهي بنزع سلاح الجماعات المتمردة وعودة قوات الأمن وكافة مؤسسات الدولة وممثليها إلى المحافظة. ولكن الشيخ الهجري، الذي تحدث بعد إعلان التوصل إلى الاتفاق، أكد من ناحية قبوله بوقف إطلاق النار، ولكنه قال أيضًا: إن قوات الأمن لن يُسمح لها بدخول السويداء، بأي صورة من الصور.

خلال يوم السبت، 19 يوليو/تموز، كانت قوات الأمن العام السورية قد انتشرت في منطقة أقرب إلى الحدود بين محافظتي السويداء ودرعا، بدون أن تعمل على دخول مدينة السويداء نفسها. قامت هذه القوات بمنع المزيد من مسلحي العشائر من التوجه إلى المدينة. وفي الوقت نفسه، كان ممثلو وزارة الداخلية السورية يسعون، بقدر كبير من الإقناع والضغط، لدفع رؤساء العشائر إلى الالتزام بوقف إطلاق النار وإخراج المسلحين من أبنائهم من السويداء. ومع منتصف ليل اليوم نفسه، كان كافة مسلحي العشائر قد انسحبوا بالفعل من المدينة.

ولكن رد فعل الهجري لم يكن إيجابيًّا. ففي صباح الأحد، 20 يوليو/تموز، منع الهجري وأتباعه قافلة إغاثة طبية وغذائية من وزارتي الصحة والشؤون الاجتماعية من دخول مدينة السويداء، وطالب بأن تقوم منظمات دولية بتنظيم الإعانات. ولم يلبث الهجري أن عاد بتصريح آخر، طالب بخروج كافة قوات الدولة السورية وممثليها من المحافظة. قد يكون طلب الهجري فتح ممر عبر الأردن لإيصال المساعدات للسويداء هو من أجل تكريس حالة الكيان المستقل أو الإدارة الذاتية للمحافظة، التي سعى إليها دائمًا. ولكن ما بدا واضحًا خلف ذلك كله، على أية حال، أن الاتفاق لا يسير على ما يرام.

عندما أُجبرت دمشق، تحت ضغط الهجمات الإسرائيلية، على سحب كافة قواتها من السويداء، ظهرت الدولة السورية بمظهر الضعيف والمنكسر، العاجز عن فرض السيادة على محافظة صغيرة من محافظات البلاد. ولكن اتفاق 19 يوليو/تموز جاء في وقت استعادة دمشق لزمام المبادرة، وعجز إسرائيل عن التدخل من جديد بدون إيقاع تدمير واسع النطاق بالسويداء، بعد أن انتشر الآلاف من أبناء العشائر في شمال وغرب المحافظة، كما في أحياء مدينة السويداء. وجَّه السوريون الانتقاد لقيادات دولتهم الجديدة، لقبولها الاتفاق بصورة مبكرة، وعملها على وقف إطلاق النار وإخراج مسلحي العشائر، قبل أن تحسم المواجهة بصورة قاطعة مع الهجري واتباعه. رغم أن الحراك العشائري عزز موقع الدولة السورية إلا أنها كانت قد أصبحت في وضع بالغ الحرج، ولم يكن رفض الوساطة الأميركية ليصب في مصلحتها.

يدل نص الاتفاق المنشور على أن الدولة السورية حققت مكاسب مهمة، فلقد كفل توقف الاعتداءات الإسرائيلية، ونزع السلاح المتوسط والثقيل من كافة الجماعات المتصارعة، وعودة سيادة الدولة التدريجية إلى المحافظة. ولو اختارت دمشق التأخر في قبول الاتفاق أو رفضته، قد تبدو أنها اختارت الوقوف موقف المتفرج على اقتتال أهلي، يدور على أرض بلادها، تخوضه جماعات من شعبها ضد بعضها البعض، فتظهر بمظهر الدولة العاجزة عن توفير الأمن لسكانها.

إفشال الدولة السورية

بدون التدخل الإسرائيلي، لم يكن ثمة شك في أن الدولة السورية كانت في طريقها لحسم الأزمة في السويداء، خلال أيام وبأقل قدر من الخسائر. أضاف التدخل الإسرائيلي تعقيدًا جديدًا إلى الأزمة، وعمل على تهميش دور الدولة السورية في واحدة من محافظات بلادها. وعلى الرغم من أن قطاعًا ملموسًا من النشطين الدروز اختار الدولة واصطف إلى جانبها، فقد استهدف الإسرائيليون من تدخلهم إظهار الأزمة وكأنها تجلٍّ لصراع بين الأقلية الدرزية ودولة السوريين السنَّة. ولكن التصور الإستراتيجي خلف التدخل الإسرائيلي ودوافع هذا التدخل كانت أبعد بكثير من مجرد حماية جماعة واحدة من دروز سوريا.

كما أي كيان كولونيالي استيطاني، غريب كلية عن محيطه العربي والإسلامي، وُلِدت إسرائيل مسكونة في بنيتها الجينية بالشعور بالضعف والتهديد. للتعايش مع هذا الشعور كان لابد لإسرائيل أن تصبح مصدر تهديد معاكسًا ومديدًا لجوارها؛ وأن تكون في حالة حرب دائمة.

خاضت إسرائيل منذ ولادتها حروبًا عديدة على جوارها القريب والبعيد لإضعافه، كما تحرص إسرائيل على تقييد الأردن، وتقويض كافة عناصر القوة في لبنان وتشجيع الانقسام الطائفي اللبناني، واعتماد سياسة الحرب الدائمة ضد الفلسطينيين، لذا فإنها لن تسمح باستعادة سوريا لوحدتها ومصادر قوتها واستقرارها. التدخل لمنع الدولة السورية من توكيد سيادتها في السويداء، سيتلوه تدخل إسرائيلي مشابه، وبكافة الوسائل الممكنة، لمنع الدولة السورية من حسم الموقف في الجزيرة والشمال الشرقي. والدافع الأساسي في الحالتين ليس التعاطف مع الدروز أو الأكراد، بل إبقاء سوريا هشة، منقسمة على نفسها، ومستهلَكة في تدافعاتها الداخلية.

يبدو أن القيادة السورية الجديدة أعطت الأولوية للبناء الاقتصادي، وإعلان توجهات انفتاح على الغرب، والولايات المتحدة على الخصوص، وتقديم ضمانات أمنية بحتة لإسرائيل. قد تكون تقديراتها أن هذه الإجراءات ستحمي سوريا من التهديدات والمخاطر ولكن سياسة إسرائيل تجاه سوريا لا تتعلق بما هو أمني مجرد، وحسب؛ بل بكل ما يعنيه بروز سوريا موحدة وقوية مهما كان لونها الديني أو المذهبي أو الأيديولوجي. لكن الأحداث المتتالية تشير إلى أن سوريا الجديدة لن تستطيع حماية نفسها من التهديد الإسرائيلي الإستراتيجي، لذلك قد تسلك القيادة السورية سيناريو تعزيز مقدَّراتها الدفاعية، من ناحية، والعمل على استعادة وحدة أرضها وشعبها في أسرع وقت ممكن، من ناحية أخرى. قد يحتاج تحقق هذا السيناريو تحالفات وثيقة مع القوى الشقيقة والصديقة في الإقليم والعالم، وإعادة النظر في قاعدة نظام الحكم الجديد وتوسيع نطاق هذه القاعدة، وإقامة سياسة دفاعية على أساس من الشراكة العضوية بين مؤسسات الدولة وقطاعات الشعب السوري المختلفة.  

السيناريو الثاني المكمِّل للسيناريو الأول قد تختار فيه القيادة السورية العمل مع الولايات المتحدة بصورة فعالة لتطبيق سياستها المعلنة تجاه سوريا الجديدة بناء على ما تقوله الإدارة الأميركية من أنها تريد سوريا مستقرة وموحدة، وصديقة للغرب؛ وهذا يحتاج إلى إرغام الولايات المتحدة لإسرائيل على وقف زعزعة استقرار سوريا. لكن هذا السيناريو لا يزال هدفًا بعيد المنال.