إيران في الحسابات الإسرائيلية: ملامح الخطوات القادمة

لم تحقق الحرب الإسرائيلية/الأميركية على إيران الأهداف المتوخاة كاملة. قد تكون ألحقت أضرارًا جسيمة بالمنشآت النووية الإيرانية، وتفوقت نسبيًّا في المواجهة المسلحة، لكن أسباب العداوة بين الجانبين لا تزال قائمة، وقابلة للتصعيد، وقد يندلع الصدام المسلح مجددًا.
منظومة إسرائيل الدفاعية: باهظة و مخترقة وتابعة

شرعت إسرائيل في قصف إيران، في يونيو/حزيران 2025، واستمرت 12 يومًا، فاستهدفت منشآت نووية، ومنصات دفاعية، ومراكز صاروخية، ومنشآت مدنية، ردَّت عليها إيران بهجمات صاروخية وطائرات مسيرة، استهدفت مواقع عسكرية ومنشآت حيوية. والتحقت الولايات المتحدة بالحرب لمساندة إسرائيل فقصفت المنشآت النووية، خاصة منشأة فوردو، فردَّت إيران بقصف قاعدة العديد الأميركية، ثم نجحت الوساطة القطرية في وقف القتال.

راجعت إسرائيل حساباتها عقب انتهاء هذه المواجهة بناء على الأهداف التي عدَّتها من مقتضيات أمنها القومي، وهي القضاء النهائي على المشروع النووي الإيراني، وإضعاف نفوذها الإقليمي المكون من حلفائها في المنطقة، والقضاء -إنْ أمكن- على قوتها الصاروخية، وإسقاط النظام الإيراني أو التمهيد لإسقاطه هدفًا نهائيًّا.

أضرار النووي: تقديرات متباينة

وقع خلاف حول تحقيق الضربات الإسرائيلية والأميركية لهدف القضاء على المشروع النووي الإيراني، بين تقديرات متفائلة، يؤكدها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بأن هذه الهجمات قضت نهائيًّا على المشروع النووي الإيراني، وتقديرات أخرى بأن الهجمات أوقعت به أضرارًا قد تتمكن القيادة الإيرانية من إصلاحها في فترات تتراوح بين أشهر وسنوات.

من جهته، أكد بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل، أن الهجمات أخَّرت البرنامج النووي الإيراني لعقود، وهو ما أكدته أيضًا الاستخبارات الإسرائيلية، الموساد وأمان (الاستخبارات العسكرية). لكن نتنياهو تعهد في الوقت ذاته بمواصلة إسرائيل العمل بحزم لمنع إيران من استئناف مشروعها النووي.

رجَّح رئيس الوكالة الدولية للطاقة، رافائيل غروسي، أن الضربات أوقعت أضرارًا جسيمة بمنشأة نطنز وأصفهان وأراك، لكنه أكد أن إيران تستطيع استئناف تخصيب اليورانيوم خلال أشهر، لامتلاكها المعرفة التقنية وبعض البنية التحتية.

تتفق التقديرات المتباينة على تأخير المشروع النووي الإيراني وليس القضاء المبرم عليه، وهذا يخالف الهدف الإسرائيلي. وما يعزز استمرار البرنامج النووي، تعهد القيادة الإيرانية بمواصلة تخصيب اليورانيوم لأنه حق أصيل لكل دولة، للاستخدام في الأغراض السلمية ورفضها التنازل الكلي عن هذا الحق كما يطالب ترامب والقيادة الإسرائيلية. يندرج في هذا المسار، قرار القيادة الإيرانية تعليق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي كانت المتعهد القانوني بتفتيش المنشآت النووية الإيرانية حسب الاتفاقات الدولية. يأتي هذا القرار بعد اتهام طهران الوكالة بالإخلال بالتزاماتها والتقصير في أداء وظيفتها، خاصة أنها لم تندد بالضربات الإسرائيلية والأميركية، لذلك يحق لإيران خفض التزاماتها أيضًا.

مع مغادرة موظفي الوكالة الدولية للطاقة الذرية الأراضي الإيرانية وتوقف تقاريرها الدورية، ستتراجع قدرة القيادتين، الأميركية والإسرائيلية، على متابعة حالة المشروع النووي الإيراني، وسيقتصر بناء موقفيهما على التقديرات الاستخباراتية الخاصة بهما. قد يشجع هذا الغموض القيادة الإسرائيلية على تضخيم الخطر النووي الإيراني لشن هجمات جديدة، وهذا الأرجح. وقد يجعل القيادة الأميركية تهوِّن من الخطر النووي الإيراني، تفاديًا للدخول في مواجهة عسكرية جديدة.

الغالب، أن تحاول الدولتان، استغلال قرار التعليق الإيراني للتعاون مع الوكالة، لحشد توافق دولي، خاصة في مجلس الأمن، لفرض عقوبات مشددة على إيران ترغمها على القبول مجددًا بعودة التفتيش لمنشآتها النووية. لكن الهجمات الإسرائيلية/الأميركية، المخالفة للقانون الدولي، قد تعيق هذا المسعى، وقد تحبط روسيا والصين أي قرار غربي لفرض عقوبات دولية على إيران بموجب قرار صادر عن مجلس الأمن. وقد أبدى البلدان تفهمهما لقرار التعليق، وعدَّتاه ردًّا على الهجمات العسكرية المخالفة للقانون الدولي.

ميزان عسكري مختل

كشفت هذه الحرب الوجيزة عن اختلال في الميزان العسكري، تميل كفته لإسرائيل حسب عدد من المؤشرات. فقد تمكنت إسرائيل من تنفيذ عمليات استخباراتية معقدة، نجحت من خلالها في شنِّ هجمات بالطائرات المسيرة من داخل الأراضي الإيرانية، والقضاء على عدد كبير من القيادات العسكرية والعلمية الإيرانية، شمل نحو 17 قائدًا عسكريًّا من الصف الأول، ونحو 6 علماء نوويين. كما تمكنت إسرائيل من العمل بحرية شبه كاملة في المجال الجوي الإيراني، لقصف المنشآت النووية والحيوية. كشفت الحرب كذلك، عن تفكك محور المقاومة، فلم يلتحق حزب الله بالمعركة، وكذلك الفصائل العراقية المسلحة الموالية لإيران، ولم يشارك إلا الحوثيون، لكن ضرباتهم الصاروخية لم تحدث فرقًا في مجريات الحرب.

خلال هذه الحرب، أثبتت الأنظمة الدفاعية الإسرائيلية (القبة الحديدة، السهم 2/3، مقلاع داوود) فاعلية كبيرة، فقد تصدت لنحو 65% إلى 90% من الصواريخ الإيرانية. غير أن هذه الفاعلية بدأت بالتراجع في الأيام الأخيرة نتيجة الإجهاد وتغير أنماط الاستهداف الإيراني.

رغم هذا التفاوت، أثبتت إيران أن ضرباتها الصاروخية قادرة على إيقاع خسائر جسيمة بإسرائيل. فقد نجح عدد من الصواريخ في ضرب أهداف عسكرية وحيوية، وتشير التقديرات إلى أن 77 صاروخًا من بين 550 أصابت أهدافها. وقد قدَّر خبراء من جامعة أوريغون الأميركية، حلَّلوا صور الأقمار الصناعية، أن الصواريخ الإيرانية ضربت 5 قواعد عسكرية إسرائيلية. وشكَّك محللون في امتلاك إسرائيل مخزونًا من الصواريخ الاعتراضية كافيًا لاعتراض الصواريخ الباليستية الإيرانية. أما محور المقاومة، وإن لم ينخرط في هذه المواجهة، فلا يزال موجودًا. فحزب الله يحتفظ بجزء من قوته، وقد يتمكن من إعادة بنائها في المستقبل. والفصائل العراقية المسلحة الموالية لإيران بإمكانها استهداف القواعد الأميركية في العراق. وقد تمنح إيران الأولوية لتقوية الحوثيين بعد أن أثبتوا قدرة كبيرة على القتال والصمود، ويمكنهم أن يلحقوا أذى جسيمًا بالمصالح الأميركية والإسرائيلية، خاصة أن طرق إسنادهم أسهل وأقل تعقيدًا.

أما عن هدف إسقاط النظام الإيراني، فقد أثبتت الحرب أن حسابات إسرائيل بعيدة عن الواقع. وكانت القيادة الإسرائيلية قد عبَّرت عن مسعاها لتغيير النظام في أكثر من مناسبة، سواء في الكلمة التي وجَّهها نتنياهو أثناء الحرب للشعب الإيراني، يدعوه فيها للتحرر من النظام الإيراني، أو في تصريحاته بأن الحرب لا تقصد تغيير النظام لكنها تمهد له، من خلال إضعاف مرتكزاته، ملمحًا لسيناريو سقوط بشار الأسد. من أجل ذلك، يستند الخطاب الإسرائيلي إلى الادعاء بأن هذه الحرب ليست على الشعب الإيراني وإنما على القيادة الإيرانية، وأن التخلص منها يجلب له الأمان والرفاهية.

على هذا الصعيد، يقدِّر محلِّلون أن الحرب أتت بنتائج عكسية بناء على عدد من المؤشرات، مثل غياب احتجاجات مناهضة للقيادة الإيرانية، وقياسًا على النمط التاريخي الذي يعيد التفاف الإيرانيين حول بلادهم في أوقات تعرُّضها لهجوم خارجي. وتَعُدُّ غالبية الإيرانيين الهجوم على المنشآت النووية عدوانًا على بلادهم، بقطع النظر عن موقفهم من النظام. وقد بيَّن استطلاع للرأي، أجرته مؤسسة غالوب في 2022، أن 65% من الإيرانيين يعدون البرنامج النووي مصدر فخر وطني لا يختلفون عليه.

استئناف حروب الظل

لم تتمكن إسرائيل من القضاء التام على ما تعده تهديدات إيرانية لأمنها القومي، لذلك من المتوقع أنها ستواصل السعي لتحقيق أهدافها، وستأخذ بعين الاعتبار نتائج الحرب وتداعياتها.

الراجح أن إسرائيل ستتفادى في الوقت القريب شنَّ هجمات جديدة لأنها بحاجة إلى تقييم نتائج هجماتها على المنشآت النووية، وتعويض مخزونها من الصواريخ الاعتراضية، والتنسيق مع الإدارة الأميركية. كل هذا سيحتاج إلى وقت قد يطول، لعدة عوامل، منها أن المخزون الأميركي من القذائف بلغ مستوى حرجًا يمنعه من تعويض المخزون الإسرائيلي. فقد أشارت مجلة نيوزويك إلى أن الولايات المتحدة استخدمت، خلال حرب يونيو/حزيران 2025، ما بين 15% و20% من مخزونها العالمي من صواريخ "ثاد" الاعتراضية خلال 11 يومًا فقط للدفاع عن إسرائيل والتصدي للصواريخ الإيرانية، بتكلفة تجاوزت 800 مليون دولار. وقد تضطر الولايات المتحدة لتعويض ذلك إلى السحب من مخزونها المخصص لأوكرانيا وتايوان. وقد أحدثت المشاركة الأميركية في الحرب صدعًا داخليًّا في قاعدة ترامب بين فئة أميركا أولًا وفئة المساندين لإسرائيل. وعلى الأرجح، سيتسع هذا الصدع إذا واصلت إدارة ترامب الانخراط المباشر في الحروب الإسرائيلية.

هذه العوائق قد تدفع إسرائيل إلى التركيز على العمليات الاستخباراتية والسيبرانية التي أثبتت فاعليتها وقلة تكلفتها في تخريب المشروع النووي وإضعاف مرتكزاته العلمية والتقنية. وكذلك الإمعان في إضعاف الفصائل المسلحة الموالية لإيران، خاصة حزب الله، حتى تمنع نهوضها مجددًا. بالموازاة، قد تتعاون إسرائيل والولايات المتحدة في توسيع اتفاقات التطبيع للتضييق على إيران وعزلها إقليميًّا، مروجين لادعاء أن الحرب أثبتت قدرة إسرائيل على ردع إيران، وأن هذه فرصة لبقية دول المنطقة، التي تعد إيران تهديدًا لها، لمزيد إضعافها وتركيز الضغط الاقتصادي والدبلوماسي عليها.

تراهن إسرائيل على أن نجاحها في ردع إيران يشجع دول المنطقة على التطبيع معها، لكن النتائج التي انتهت إليها الحرب، لا ترجح اتساع نطاق التطبيع إلى دول عربية كبيرة أخرى. فقد احتاجت إسرائيل للدفاع عن نفسها وإيقاع أضرار جسيمة بالمنشآت النووية الإيرانية إلى التدخل المباشر للولايات المتحدة الأميركية. وكان الهجوم الأميركي حاسمًا في وقف الحرب، وليس واضحًا إن كانت إسرائيل قادرة على مواصلة الحرب أو إنهائها بمفردها. كما أثبتت الصواريخ الإيرانية فاعلية متزايدة في اختراق منظومات الدفاع الإسرائيلية المتطورة وإيقاع أضرار بالغة بعدد من المنشآت الحساسة والحيوية. وستكون أقدر على إلحاق أضرار أفدح بدول أخرى لا تمتلك نفس المنظومات الدفاعية ولا تتمتع بالحماية الأميركية. وقد تلجأ إيران، إذا ضاقت عليها الخيارات، إلى اتخاذ إجراءات أخرى لتوقع أضرارًا بالغة بالجميع، مثل إغلاق مضيق هرمز، كما لمَّحت لذلك أثناء الحرب.

في المدى المتوسط، سيتكيف الموقف الإسرائيلي حسب السلوك الإيراني. فإذا قررت إيران المضي في تخصيب اليورانيوم بهدف الحصول على قنبلة نووية وتحصين إقليمها ونظامها من التهديدات الخارجية، حينها ستحاول إسرائيل مجددًا إفشال المسعى الإيراني بشن المزيد من الهجمات على المرافق النووية. لكن كلفة تلك الهجمات سترتفع لأن إيران ستكون قد أصلحت الخلل الذي كشفته الحرب، فتحصل على أنظمة دفاعية روسية مثل إس-400 لحماية منشآتها النووية ومراكز الصواريخ الباليستية. وقد تحصل على طائرات مقاتلة صينية وروسية حديثة لتغطية أجوائها أو شنِّ هجمات مضادة. وستستمر بالتأكيد في تطوير صواريخها الباليستية التي أثبتت فاعلية عالية خلال الحرب الأخيرة.

إذا قررت إيران المضي في هذا الطريق، ستتمسك بقرارها تعليق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وقد تفك ارتباطها مع معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النوية. عندها، ستحوِّل منشآتها إلى مناطق جبلية شديدة الارتفاع، عالية التحصين، منيعة عن الضربات الجوية، حتى لا تستطيع المقاتلات الإسرائيلية أو الأميركية الوصول إليها. وإذا فشلت إسرائيل في القضاء على البرنامج النووي أو تعطيله تعطيلًا كبيرًا، ستحوِّل إستراتيجيتها نحو تغليب إسقاط النظام على أولوية القضاء على المشروع النووي. عندها ستكثف من عمليات الاغتيال باستهداف القيادات السياسية والعسكرية والأمنية، وتخريب البنية التحتية مثل شبكات الاتصالات والكهرباء والمياه بهدف إحداث الفوضى. ستسعى إسرائيل بمختلف الوسائل إلى خلق الأجواء المناسبة لتأجيج الاحتجاجات الاجتماعية وإضعاف قدرة النظام على التحكم في الشارع وتحويل بعض المناطق إلى مراكز للتمرد.

المؤكد من كل ذلك، أن ما فعلته حرب الاثني عشر يومًا، هو إخراج المواجهة بين إسرائيل وإيران من الظل إلى العلن. وما لم تحدث تغييرات جوهرية في إدراك الجانبين لطبيعة التهديدات الخارجية وترتيبها، ستكون هذه المواجهة مقدمة لجولات قادمة أو حرب طويلة الأمد.