
ولَّد انهيار نظام الأسد الابن وانتصار الثورة السورية، في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، مناخًا من التفاؤل والابتهاج، الذي لم تعشه سوريا منذ عقود. ولم يكن غريبًا أن يشعر كثير من السوريين بأن بلادهم تعيش لحظة أشبه بالاستقلال الثاني. كان السوريون يعرفون أن الطريقة التي أدارت بها هيئة تحرير الشام الشمال المحرَّر، خلال السنوات السابقة، شابها الكثير من القصور، وأثارت الكثير من الانتقادات. ولكن الخطاب الذي تبنَّته قيادات الهيئة، منذ تسلمت مقاليد الحكم في دمشق، بعث على اطمئنان معظم السوريين إلى أن البلاد تخطو بالفعل نحو دولة جديدة تليق بالتضحيات التي قدمها الشعب السوري طوال سنوات الثورة.
لم تعد "الدولة الجديدة" مجرد طموح بعيد المنال، ولكنها أخذت في التجلي في حياة ملموسة. فقد أراد السوريون أن يعيشوا في ظل دولة موحدة وعادلة، دولة تنمية ورفاه، دولة في حالة سلام مع مواطنيها، ودولة منفتحة على العالم الذي عرفه ملايين السوريين أثناء سنوات هجرتهم الطويلة. لم ير السوريون، أو أنهم حاولوا أن لا يروا، حجم الكارثة التي أُوقِعت ببلادهم خلال نصف قرن من حكم البعث، وثلاثة عشر عامًا من الثورة وما تخللها من صراعات أهلية.
لقد حقق النظام الجديد إنجازات لا تخفى خلال الشهور الثمانية، تعلق معظمها بالسياسة الخارجية، وبالعلاقات مع الدول الفاعلة في الجوار العربي والإسلامي. ولكن، على الرغم من إنجازات السياسة الخارجية، إلا أن عددًا من أبرز قضايا ومهمات الداخل السوري تبدو كأنها لم تزل مستعصية. بعض هذا الاستعصاء يعود إلى أخطاء ارتكبها الحكم الجديد لقلَّة خبرة قادته، أو إلى صعوبة وتعقيدات الانتقال من حالة الثورة إلى متطلبات الحكم والدولة. ولكن أغلبه، بلا شك، يتعلق بالخراب متعدد الأوجه الذي أُوقِع بمؤسسات الدولة السورية، وبمكونات الشعب وعلاقات هذه المكونات ببعضها البعض، خلال عقود الحكم التسلطي الأقلوي.
فما الملفات التي نجح الحكم السوري الجديد في التعامل معها؟ وما الأسباب التي أفضت إلى هذا النجاح؟ وما الملفات العالقة، التي أخفق الحكم الجديد في التعامل معها، أو تسبب في تفاقمها؟ وإلى أي حدٍّ يمكن للسوريين الشعور بأن بلادهم تسير في الطريق الصحيح؟
إنجازات خارجية: اختراقات على صعيد العلاقات الإقليمية والدولية
لم يكن قادة هيئة تحرير الشام، القوة الرئيسة التي قادت عملية التغيير وتسلمت مقاليد الحكم، في حاجة لكسب ودِّ وحسن ظن معظم القوى الفاعلة في الجوار العربي-الإسلامي، مثل تركيا وقطر والمملكة العربية السعودية.
فقد كانت تركيا، في مواجهة إيران وروسيا، أحد أطراف الصراع الرئيسة على سوريا منذ اندلاع الثورة في 2011. كما أن ثمة أدلة تشير إلى أن صلات وثيقة ربطت بين قيادات هيئة تحرير الشام وأجهزة الدولة التركية الأمنية والدفاعية منذ سيطرت الهيئة على الشمال السوري المحرر وتحملت أعباء إدارة شؤونه. ولذا، لم يكن مستغربًا أن تتحرك أنقرة لدعم وتأييد الهيئة بعد انطلاق عملية ردع العدوان. كما نظرت حكومة العدالة والتنمية التركية إلى انتصار الثورة السورية باعتباره انتصارًا لسياساتها الإقليمية.
قطر، التي ناصرت الثورة السورية منذ أيامها الأولى، وأحجمت عن الالتحاق ببعض الدول العربية، التي بدأت تطبيع علاقاتها مع نظام الأسد بعدما شعرت بأن النظام أوقع الهزيمة بالمعارضة، لم تتردد هي الأخرى في الترحيب بإطاحة نظام الأسد وانتصار الثورة السورية. وطالما رأت الدوحة أن الأغلبية السورية تلتف حول نظام الحكم الجديد وقادته، لم تكن خلفية هؤلاء القادة موضع تساؤل من القطريين.
أما الموقف السعودي، فكانت دوافعه أكثر تعقيدًا. فقد ظلت الرياض تراقب بقلق لا يخفى، تزايد النفوذ الإيراني في سوريا خلال السنوات التالية لاندلاع الثورة السورية. ولأن إيران أصبحت القوة المهيمنة في العراق منذ ما بعد الاحتلال الأميركي، في 2003، وفشل الأميركيين في بناء دولة عراقية خالصة الولاء لهم، فقد أدركت السعودية أن إيران توشك على السيطرة على بوابة الجزيرة العربية البرية برمتها. والمؤكد أن القلق السعودي من التمدد الإيراني أصبح أكثر إلحاحًا بعد نجاح الحوثيين في الاستيلاء على السلطة في صنعاء وتفردهم بحكم اليمن الشمالي.
وليس ثمة شك أن الرياض رأت في إطاحة نظام الأسد وإخراج إيران والميليشيات التابعة لها كلية من سوريا تحولًا إستراتيجيًّا هائلًا في مصير جوارها العربي، بعد أن كانت فقدت الأمل في إحداث تغيير جوهري في سوريا واضطرت إلى التطبيع مع الأسد ومحاولة دفعه إلى التحرر، ولو جزئيًّا، من أسر الهيمنة الإيرانية. ولكن، لأن السعودية قطعت صلاتها منذ عقود بأغلبية الإسلاميين العرب السنَّة، ولا تخفي قلقها من نشاطات الفصائل المسلحة بينهم، فقد كان على الرئيس السوري، أحمد الشرع، أن يقنع القيادة السعودية بأنه وزملاءه، وإن تحدروا من خلفية إسلامية مسلحة، فإنهم يتبنون رؤية وطنية لسوريا الجديدة وليس لديهم أية نوايا ثورية إسلامية عابرة للحدود.
هذا الاحتضان من السعودية وقطر وتركيا ساعد على الانفراج المبكر في علاقات سوريا الجديدة مع الولايات المتحدة، وعلى اللقاء الذي عُقد في الرياض بين الشرع وترامب، في 14 مايو/أيار 2025، بحضور محمد بن سلمان ومشاركة أردوغان الهاتفية. قبل ذلك، كانت إدارة بايدن قد بدأت اتصالًا حذرًا بدمشق وأرسلت وفدًا، تقوده مساعدة وزير الخارجية الأميركي للاجتماع بالشرع. ولكن إدارة بايدن، التي كانت في أيامها الأخيرة، لم تستطع أن تتخذ قرارًا جوهريًّا فيما يتعلق بالعلاقات مع قادة دمشق الجدد. أما ترامب، فقد سارع بعد اجتماع الرياض إلى الإعلان عن رغبته في مساعدة سوريا على الاستقرار، وعن عزمه رفع العقوبات الأميركية المتراكمة عليها طوال عقود.
ما وقع في ملف العقوبات امتد أيضًا إلى السفير الأميركي في أنقرة، توم باراك، الذي أصبح أيضًا مبعوثًا خاصًّا لسوريا ولبنان. باراك رجل أعمال من أصول لبنانية بعيدة، ولكن علاقته الوثيقة بترامب، وليس أصوله العربية، هي ما منحه موقعه المميز في تركيا وسوريا ولبنان. وقد تبنَّى باراك منذ تسلم مقاليد منصبه سياسة تودد واضحة تجاه القادة الأتراك والسوريين على السواء، معربًا من وقت إلى آخر عن وعي بشؤون المشرق وتاريخه الحديث. وقد أكد باراك في أكثر من مناسبة على وحدة سوريا واستقرارها، كما عمل على التوسط بين دمشق وقادة قسد في شمال شرقي سوريا للتوصل إلى تفاهمات دائمة، دون أن تظهر نتائج ملموسة لهذا التوسط بعد.
ما عزَّز الانطباع باحتضان غربي، كان التحرك الأوروبي، سيما البريطاني والفرنسي، للانفتاح على سوريا وإعلان إلغاء العقوبات عنها. وكانت بريطانيا وفرنسا في الحقيقة أسبق من الولايات المتحدة في تطبيع علاقاتهما مع دمشق. وثمة تقارير تفيد بأن جوناثان باول، الذي سبق له العمل في ميدان العلاقات الخارجية البريطانية، قام بصفته مسؤولًا عن مؤسسة اتصالات خارجية مدنية بزيارة لإدلب قبل عامين على الأقل من سقوط نظام الأسد، تعرَّف خلالها على تجربة هيئة تحرير الشام في إدارة المنطقة المحررة. تركت الزيارة، كما يبدو، انطباعًا إيجابيًّا لدى باول حول هيئة تحرير الشام وحول قائدها، أحمد الشرع.
في نوفمبر/تشرين الثاني 2025، أعلن رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، عن تعيين باول مستشارًا للأمن القومي. وما إن نجحت الهيئة في إطاحة نظام الأسد حتى عمل باول على أن تتبنى الحكومة البريطانية مقاربة نشطة تجاه الوضع السوري. ولابد أن باول، كما العديد من محترفي السياسة الخارجية البريطانية، وجد في حركة التغيير السوري الكبيرة والمفاجئة فرصة أخرى، شبيهة بفرصة سنوات الحرب العالمية الثانية، لتعزيز النفوذ البريطاني في المشرق على حساب القوى الغربية الأخرى، الحليفة أو المنافسة.
في هذا السياق، أُرسِلت السيدة آن سنو، أحد أكثر الدبلوماسيين الغربيين نشاطًا في دمشق، مبعوثًا خاصًّا إلى سوريا. وفي 5 يوليو/تموز، وصل وزير الخارجية البريطاني، ديفيد لامي، إلى العاصمة السورية؛ حيث التقى نظيره السوري والرئيس الشرع، وأعلنت بريطانيا رسميًّا عن استئناف العلاقات الدبلوماسية مع سوريا. وفي 5 أغسطس/آب، وصل جوناثان باول، مستشار الأمن القومي البريطاني، شخصيًّا إلى دمشق، والتقى بالرئيس الشرع.
فرنسا، من جهتها، لم تتخلص مطلقًا من ميراث تعاملها مع سوريا باعتبارها منطقة نفوذ تقليدية. فقد بادرت باريس إلى إجراء اتصال مبكر مع القيادة السورية الجديدة، كما أجرى الرئيس الفرنسي اتصالًا مباشرًا مع الرئيس الشرع. وفي 13 فبراير/شباط 2025، احتضنت العاصمة الفرنسية، باريس، مؤتمرًا دوليًّا لدعم المرحلة الانتقالية في سوريا، شارك فيه وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني. وفي السابع من مايو/أيار، استقبل الرئيس ماكرون الرئيس الشرع في أول زيارة رسمية له إلى العاصمة الفرنسية، أو لأي عاصمة غربية. ولأن فرنسا تحتفظ بوجود عسكري رمزي، إلى جانب القوات الأميركية، في شمال شرقي سوريا، وبعلاقات وثيقة مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، فقد عرضت باريس التوسط لحل المعضلة الكردية في سوريا.
وربما تعد زيارة أسعد الشيباني المفاجئة لموسكو، في السابع من يوليو/تموز، واجتماعه بنظيره الروسي، لافروف، ومن ثم استقباله من قبل الرئيس بوتين، أحد أبرز المؤشرات على تبلور تصور سوري إستراتيجي لعلاقات دمشق مع العالم. وكان لافتًا توكيد الشيباني في مؤتمره الصحافي المشترك مع لافروف على أن سوريا ترغب في علاقاتها بروسيا في التحرر من أسر ميراث الماضي والتطلع إلى مستقبل أفضل لعلاقات البلدين. فروسيا كانت حليفًا كبيرًا لنظام الأسد، وكما إيران، لعبت روسيا دورًا رئيسًا في دعم الأسد وفي حربه الوحشية ضد شعبه طوال سنوات الثورة. ولكن القيادة السورية الجديدة تجنبت اتخاذ أية خطوة استفزازية لروسيا ولقواتها المتواجدة في قاعدة حميميم السورية.
الواضح أنه، على الرغم من الانفتاح الغربي السريع على دمشق الجديدة، فقد سعى الشرع وزملاؤه إلى إقامة علاقات خارجية متعددة الأقطاب والخيارات حتى لا تقع سوريا أسيرة علاقات متفردة مع القوى الغربية. ولكن كان لابد أن يمر وقت قبل اتخاذ خطوة إيجابية باتجاه تطبيع العلاقات مع موسكو، سيما أن فئات واسعة من السوريين لا تزال تحمل مشاعر مفعمة بالعداء لروسيا. وليس ثمة شك في أن السرعة التي تحركت بها القيادة السورية لفتح قنوات الاتصال مع روسيا بوتين عبَّرت عن شجاعة ملموسة لديها، وربما أشَّرت أيضًا إلى بداية بروز شكوكٍ ما لدى دمشق في حقيقة الموقف الغربي والمدى الذي يمكن أن تذهب إليه القوى الغربية في تأييد ودعم سوريا الجديدة، سيما فيما يتعلق بالتدخلات الإسرائيلية في الجنوب السوري.
برفع العقوبات عن سوريا، وإن كان ذلك جزئيًّا، أصبح بإمكان حلفاء النظام السوري الجديد من العرب والمسلمين، كما بعض الدول الغربية، التقدم للمساعدة في النهوض الاقتصادي وترميم بنية البلاد التحتية. وقد قام الشرع بثلاث زيارات لتركيا، ناقش في الأخيرة منها مختلف جوانب التعاون بين البلدين. وسرعان ما تبعه عدة وزراء من حكومته، بمن في ذلك وزراء التعليم والطاقة والاتصالات والاقتصاد والداخلية والطوارئ، وعقدوا اتفاقيات مع نظرائهم الأتراك. وهناك تقارير تفيد بأن تركيا تقوم بتسليح عدة فرق سورية بالسيارات المدرعة، وأن ضباطًا أتراكًا سيمدون يد المساعدة في عملية إعادة بناء وتدريب الجيش السوري الشاقة.
من جهة أخرى، استقبلت سوريا مجموعة من المسؤولين ورجال الأعمال السعوديين والقطريين، الذين أعلنوا مباشرة عن عدد من مشاريع الاستثمار العملاقة في سوريا. كما استحوذت شركة كويتية على شركة اتصالات سورية. وتعهدت قطر بتمويل عقد لمدِّ سوريا بالغاز الأذربيجاني عبر تركيا، للمساعدة على النهوض بقطاع إمدادات الكهرباء السورية. وكانت شركة فرنسية قد وقَّعت مع الحكومة السورية، في أول مايو/أيار، اتفاقًا لتطوير وإدارة مرفأ اللاذقية الحيوي لثلاثين عامًا. ولوحظ أن وزير الدفاع ومدير الاستخبارات السورييْن قد رافقا الشيباني في زيارته لموسكو، وعقدا جلسة مباحثات مع نظيريهما الروسيين؛ ما يؤشر إلى رغبة في عودة العلاقات العسكرية والأمنية التقليدية بين سوريا وروسيا.
بيد أن اتفاقيات التعاون الاقتصادي وغير الاقتصادي، التي نجمت عن الإنجازات السورية الملموسة في حقل العلاقات الخارجية، لم تمتد بعد إلى الساحة السياسية-الأمنية الداخلية، وملفي إعادة توحيد البلاد والعدوان الإسرائيلي المستمر على سوريا. والمشكلة الرئيسة هنا تتعلق بطبيعة الموقف الأميركي الملتبس من سوريا الجديدة.
فالواضح أن ثمة انقسامًا في إدارة ترامب حول الموقف من سوريا، وأن الذين يقولون بالتريث في الانفتاح على سوريا الجديدة، لا يقلون نفوذًا عن الداعين لمساعدة السوريين على النهوض. ويبدو أن العلاقة الوثيقة مع إسرائيل هي ما يجمع دعاة التريث ومراقبة تصرفات الحكومة السورية، سيما في دوائر الخارجية الأميركية وفي مجلسي النواب والشيوخ. هذا الانقسام، على أية حال، هو ما أدى في النهاية إلى أن تتحقق وعود الرئيس ترامب برفع العقوبات بصورة جزئية فقط، وإلى التجديد لحزمة العقوبات المعروفة باسم قيصر، وربطها بمراقبة سلوك الحكومة السورية فيما يتعلق بما بات يُعرف بملف الأقليات، وبالشأنين الداخلي والخارجي.
ولأن المبعوث الأميركي الخاص لسوريا، توم باراك، يبدو وكأنه يمثل معسكرًا واحدًا فقط في الإدارة الأميركية، لم يستطع أن يوظف وزن ونفوذ الولايات المتحدة لحماية سوريا من التدخل الإسرائيلي في أزمة السويداء في يوليو/تموز، ولا في منع الإسرائيليين من قصف قوات الجيش السوري في جنوب البلاد، وقصف مقر هيئة أركان الجيش في قلب دمشق. ما استطاع باراك القيام به في النهاية هو ترتيب لقاء بين وزير الخارجية السورية ووزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي في باريس، لم ينجم عنه سوى توكيد الجانب الإسرائيلي على بسط مظلة حمايته على المنشقين الدروز في السويداء، وعلى شروط إخلاء محافظات الجنوب السوري الثلاث من قوات الجيش السوري. أما فيما يتعلق بمسألة قسد والإدارة الذاتية الكردية، فعلى الرغم من تصريحات باراك المتكررة المؤكدة على وحدة سوريا، فليس ثمة ما يشير إلى ضغوط كافية من واشنطن لدفع القادة الأكراد إلى التفاهم مع دمشق وإنهاء حالة الانشقاق غير الرسمي التي أسسوا لها في شمال شرقي البلاد.
الوضع السوري الداخلي: صراع المركزية واللامركزية
فقدت الدولة السورية خلال سنوات الثورة وحدتها وسيادتها على معظم أرضها؛ بعد أن عجز نظام الأسد عن هزيمة القوى المعارضة المسلحة في معظم شمال وشمال شرقي البلاد، وفي درعا والسويداء. كما فجرت سياسات النظام، من ناحية، وسنوات الصراع المحتدم بين النظام ومعارضيه من ناحية أخرى، البنية الوطنية للشعب السوري، وأطلقت العنان للعصبيات الإثنية والطائفية. ولذا، فإن سيطرة القوى التي تسلمت قيادة البلاد عقب سقوط النظام اقتصرت على الشمال المحرر، الذي كانت قوى الثورة تديره أصلًا، وعلى المنطقة من سوريا التي كانت تحت حكم نظام الأسد. ولم يكن صعبًا على القيادة السورية الجديدة تبين الارتباط الشرطي بين نجاحها في إعادة توحيد البلاد، وبين تأسيس شرعيتها وشرعية تحدثها باسم سوريا والشعب السوري.
خطت دمشق أولى خطوات الوحدة والسيادة في محافظة درعا والحدود السورية-الأردنية، مستخدمة أحيانًا وسائل التفاوض وأحيانا التهديد الصريح لقادة الميليشيات في درعا، الذين عُرفوا بعلاقاتهم الوثيقة مع إحدى دول الخليج العربية، ومع الأردن. ولكن الإنجاز السريع في درعا لم يكن ممكنًا دون دعم وتأييد أغلب قطاعات الشعب السوري في المحافظة، وحرص أهالي حاضنة الثورة السورية الأولى على الانضواء في إطار الدولة السورية الجديدة. أما في منطقة الساحل والجبال الغربية، حيث الأغلبية العلوية، فما أن أُخمد التمرد المسلح الذي قادته فلول النظام السابق، في مارس/آذار، لم تواجه الدولة السورية تحديًا ملموسًا لسيادتها، وإن ظلت المنطقة تشهد توترًا ملحوظًا في العلاقة بين عموم السكان العلويين والقوى الأمنية، ولم تزل جيوب صغيرة من الفلول تنشط في مناطقها النائية.
وفي 10 مارس/آذار، وقَّع الرئيس السوري، أحمد الشرع، وقائد قوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي، اتفاقًا، وضع إطارًا لعودة الدولة السورية إلى مناطق ما عُرف باسم الإدارة الذاتية في شمال شرق البلاد. ولكن الاتفاق، الذي دفعت إليه ضغوط أميركية محدودة وخجلة على قسد، كُتب بصيغة عامة وبلغة ملتبسة قابلة لعدة تفسيرات. ولأن التقدم في تطبيق الاتفاق تطلَّب مزيدًا من التفاوض حول التفاصيل والإجراءات، فسرعان ما تبين أن قسد لم تتخلَّ عن تصورها الخاص لمستقبل العلاقة مع دمشق.
بعد شهور من تعطيل تطبيق الاتفاق، طرح قادة أكراد، بمن في ذلك مظلوم عبدي، مطالبهم من الدولة السورية الجديدة. تمثلت تلك المطالب في: (1) التخلي عن "العربية" في اسم الجمهورية العربية السورية. (2) إعادة صياغة الدستور المؤقت. (3) إعادة النظر في قانون إجراء الانتخابات لمجلس الشعب المؤقت. (4) الموافقة على اللامركزية كأساس للدولة السورية الجديدة. ولم يخف القادة الأكراد رفضهم تخلي قوات قسد عن سلاحها، مشترطين الحفاظ على وحدات قسد العسكرية في تشكيلها القائم في حال جرى التحاقها بوزارة الدفاع السورية.
أما في السويداء، محافظة الأغلبية الدرزية، فقد واجهت الدولة الجديدة وضعًا أكثر تعقيدًا. وكان الشيخ حكمت الهجري، أحد شيوخ العقل الثلاثة الكبار للدروز السوريين، خلال السنوات القليلة الماضية، قد فرض نفسه باعتباره القيادي الديني المتفرد للدروز. ونظرًا لأن النظام السابق مارس قمعًا منهجيًّا للحراك السياسي المدني في عموم سوريا، لم تعد هناك قيادات سياسة مدنية ذات تأثير ملموس في السويداء. ومنذ سقوط النظام، بدا واضحًا أن مشيخة الهجري والمجموعات المسلحة الموالية له في المحافظة، تعمل معًا على إقامة ما يشبه الإدارة الذاتية، وعدم السماح لأجهزة الدولة لبسط سيادتها على المحافظة.
وفي يناير/كانون الأول، مُنعت قوة من الأمن العام من دخول السويداء. ولم تحرز محاولة الدولة السورية تشكيل قوة أمنية من أبناء السويداء تقدمًا يُذكر في الشهور التالية. وفي 11 يوليو/تموز، بعد اشتباك عرضي بين سائق سيارة نقل درزي ومسلحين من عشائر السويداء العرب السنَّة، اندلعت اشتباكات في أنحاء المحافظة بين مسلحين من أتباع الهجري ومسلحين عشائريين. وعندما حاولت قوى الأمن والجيش السوري الانتشار في أنحاء المحافظة لاستعادة الأمن، تدخل سلاح الجو الإسرائيلي، بدعوة من الهجري وحلفائه من الدروز الإسرائيليين، وأجبر قوات الأمن والجيش السوري على مغادرة السويداء. وكما في العلاقة مع قسد، لم تنجح اتفاقات التهدئة بين الهجري ودمشق في تطبيع الأوضاع، أو في عودة أجهزة الدولة وقواها الأمنية إلى العمل في المحافظة. فلماذا تتعثر خطوات دمشق نحو إعادة توحيد البلاد وبسط سيادة الدولة على شعبها وأرضها؟
في الثامن من أغسطس/آب، عُقد في مدينة الحسكة، الواقعة تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، مؤتمر لم يُعقد مثله منذ ولادة سوريا الحديثة. عُقد المؤتمر، الذي نظمته الإدارة الذاتية لشمال شرقي سوريا، التي تمثِّل الوجه المدني لقسد، وترأَّسه كل من حسين عثمان، الرئيس المشارك للمجلس التنفيذي في الإدارة الذاتية، وإلهام أحمد، مسؤولة العلاقات الخارجية في المجلس، تحت عنوان "وحدة الموقف لمكونات شمال شرقي سوريا". وقد عمل المنظمون على أن يضم المؤتمر ممثلين عن كافة المكونات الإثنية والدينية التي تقطن في شمال شرقي البلاد: الأكراد والعرب، والمسلمين والمسيحيين من مختلف الكنائس. ولكن الهدف الأبعد للمؤتمر كان حشد القوى الطائفية والإثنية المعارضة لحكم دمشق، والتي تلتقي مع قسد في تصورها لسوريا الجديدة.
حرص منظمو المؤتمر على أن يتحدث إلى المؤتمر الشيخ حكمت الهجري، شيخ عقل الدروز الذي يقود الحراك في السويداء ضد دمشق، والشيخ غزال غزال، رئيس ما يسمى بالمجلس الديني في المجلس الإسلامي العلوي، الصوت العلوي الأبرز في المعارضة العلوية لدمشق، والمتهم بالتعاون مع قادة الفصائل العلوية المسلحة، التي شاركت في قمع أغلبية الشعب السوري خلال سنوات الثورة. تحدث إلى المؤتمر أيضًا الشيخ مرشد معشوق الخزنوي، أحد أعلى العلماء الأكراد السوريين صوتًا في التعبير عن القومية الكردية ومعاداة العرب، باعتباره ممثلًا للكرد السوريين. عمومًا، كان معظم المشاركين في المؤتمر، الذين قُدِّر عددهم بنحو أربعمئة شخص، من منتسبي الإدارة الذاتية أو كوادرها.
وعلى الرغم من أن عنوان مؤتمر الحسكة تعلق بموقف مكونات شمال شرقي سوريا، فقد تحول في النهاية إلى ملتقى لما بات يُعرف بالأقليات السورية. وقد طالب رجال الدين الثلاثة، الدرزي والعلوي والكردي، بدولة علمانية ديمقراطية، واتهموا النظام السوري الجديد بارتكاب تجاوزات ومجاز في الساحل والسويداء، ودعوا إلى إعادة بناء نظام الحكم. وفي لغة مشابهة، بدا بيان المؤتمر وكأنه يقدم تشخيصًا خاصًّا بالأسباب التي تقف خلف أزمة وحدة سوريا المتفاقمة. فطالب البيان بدستور سوري جديد "دستور ديمقراطي يكرس ويعزز التنوع القومي والثقافي والديني، ويؤسس لدولة لا مركزية تضمن المشاركة الحقيقية لكافة المكونات في العملية السياسية والإدارية، بما ينسجم مع حرية المعتقد والعدالة الاجتماعية والحوكمة الرشيدة".
كان الهدف من مؤتمر الحسكة، وبغضِّ النظر عن توقعات التحالف بين قيادات الأقليات الذين شاركوا في أعماله، أن يطرح تصورًا خاصًّا لمستقبل سوريا، يضع نهاية لنظام الحكم المركزي. ويقيم، بدلًا من ذلك، دولة تتوزع فيها سلطة الدولة على أقاليم تُرسم حدودها على أساس إثني، في الحالة الكردية، وعلى أساس طائفي في الحالتين العلوية والدرزية، بغضِّ النظر عن حقائق التداخل الديمغرافي السوري وميراث ما يزيد عن مئة عام من الجمهورية السورية. والمهم، أن هذا التصور للدولة السورية يتناقض مع التصور الذي طرحه الدستور الانتقالي للدولة الجديدة، الذي صيغ بلغة المواطنة ومساواة السوريين جميعًا أمام القانون، ونص على وجود جيش وطني واحد، ومؤسسات حكم ودولة واحدة في البلاد.
ليس من الواضح مدى مصداقية تمثيل المجتمعين في ملتقى الحسكة للمكونات السورية التي تحدثوا باسمها. ولكن الإدارة الذاتية لشمال البلاد الشرقي تستند إلى قوة السلاح الذي تحمله قوات سوريا الديمقراطية، وإلى الدعم الغربي، والأميركي على وجه الخصوص. في السويداء، خرج شيوخ العقل الدروز الثلاثة الكبار في اليوم التالي لمؤتمر الحسكة بكلمات متتالية، منسقة على الأرجح، حملت هجومًا صريحًا على حكومة دمشق، وإشادة بالدعم الإسرائيلي، ومطالبة بالحماية الدولية للسويداء من تدخلات النظام السوري الجديد. أما في الساحل السوري، حيث يقطن أغلب العلويين، فلم يجد خطاب الشيخ غزال غزال صدى يُذكر، لا بين الشيوخ العلويين الآخرين ولا بين الشخصيات العلوية العامة الأخرى.
ومهما كان الأمر، فقد كشف مؤتمر الحسكة عن وجود تصورين مختلفين لمستقبل سوريا وللدولة السورية الجديدة. تصور تطرحه قيادات طائفية ذات نزعة انفصالية تدفع نحو حكم لا مركزي، وآخر تحمله قيادات سوريا الجديدة، بما تمثله من أغلبية المجتمع السوري ومن يصطف إلى جانبها من أبناء الأقليات الإثنية والطائفية، كردًا ودروزًا ومسيحيين. هذا الخلاف التصوري يمثل جذر الأزمة السورية الداخلية في حقبة ما بعد نظام الأسد. وكافة الإشكالات الأخرى محل الجدل السياسي في سوريا الجديدة هي في الحقيقة أعراض جانبية.
طريق محفوف بالمخاطر
أولت القيادة السورية منذ تسلمها مقاليد الحكم في دمشق اهتمامًا بالعلاقات الخارجية، سواء على المستويين العربي والإقليمي أو على المستوى الدولي، أكبر بكثير من الاهتمام بالوضع السوري الداخلي، سيما ما يتعلق بتحديات إعادة توحيد البلاد والتعامل مع القوى الانفصالية. ويمكن تفسير هذا التباين في الاهتمام بانفتاح الخارج الإيجابي على سوريا، الذي فوجئ به القادة السوريون. وربما لأن دمشق سرعان ما اكتشفت أن إخراج سوريا من وطأة الاختناق الاقتصادي والسياسي مشروط بانفتاح سريع على الخارج الإقليمي والدولي. أما السبب الثالث فقد يكون تبلور تقدير لدى القيادة الجديدة بأن معظم قضايا توحيد البلاد وثيقة الصلة بالقوى الخارجية.
والواضح، بعد مرور ثمانية شهور على التغيير السوري الكبير، أن حصاد الجهود السياسية على الصعيد الخارجي لم يكن تمامًا بحجم الآمال التي عُلِّقت عليها. فقد نجحت سوريا في رفع بعض من العقوبات، وليس كلها. كما أن المردود الاقتصادي من المساعدات والاستثمارات العربية، وإن بدا مبشرًا، فليس ثمة ما يؤكد أن دعمًا عربيًّا أو دوليًّا مباشرًا قد قُدِّم للدولة السورية ذاتها. أما بخصوص إعادة توحيد البلاد وتعزيز سيادة الدولة؛ الأمر الذي كان من المنتظر أن تقوم فيه الولايات المتحدة والقوى الأوروبية بالدور الأكبر، فلم تزل دمشق تنتظر المساعدة الضرورية. ولم ترفع الولايات المتحدة، ولا فرنسا، مظلة الحماية عن قسد، ولا استطاعت القوى الغربية إيقاف إسرائيل عن التدخل في الشأن السوري الداخلي، أو الانسحاب من المناطق التي توغلت فيها منذ ديسمبر/كانون الأول 2024.
ويبدو أن القيادة السورية الجديدة، هي الأخرى لم تساعد نفسها كما يجب، ولا بذلت ما يكفي من الجهد لحشد مختلف تيارات الشعب السوري خلفها، سيما في الشهور الأولى التالية على انتصار الثورة وإطاحة النظام السابق. فقد سارعت القيادة إلى تطهير مؤسسات الدولة السابقة وبناء أجهزة دولة وقوات مسلحة جديدة، ولكنها لم تعمل على توسيع قاعدة الحكم لتشمل القطاع الأوسع من قوى الثورة وتياراتها بما في ذلك مكونات المعارضة السابقة، لا على مستوى مسؤولي الدولة الجديدة، ولا عبر مؤتمر الحوار الوطني، الذي لم يستمر سوى ليوم واحد، ولا من خلال تشكيل الحكومة الانتقالية.
ما يبدو واضحًا، في النهاية، أن سوريا باتت تقف أمام مفترق طريقين، تحف المخاطر بكل منهما: الأول: هو المضي نحو استخدام القوة، قوة الدولة الجديدة، والقطاعات الشعبية المؤيدة لها، وعدد من الحلفاء الأوثق، لحسم الموقف في شمال شرقي البلاد، وفي السويداء، والتعامل مع ما تبقى من جيوب التمرد في الساحل. وهذا بالتأكيد هو طريق اندلاع العنف الأهلي، الذي تصعب قراءة عواقبه على مستوى التماسك الوطني، أو على مستوى مواقف القوى الغربية. والثاني: هو التمسك بنهج الحوار المستمر مع القوى الانفصالية، الذي لا يعرف أحد كيف ومتى يمكن أن يحقق التوافق، ولا ما إذا كانت القوى الانفصالية ستعمل خلاله على تثبيت مزيد من الوقائع على الأرض.