تُظهر المؤشرات الميدانية على أرض الواقع وحالة التوتر المتصاعد والاستعدادات العسكرية الجارية من قبل النظام السياسي والثورة الشعبية في اليمن أن الأوضاع تسير فعلا على حافة الحرب، وأن احتمالات المواجهة العسكرية الشاملة تتسارع أكثر من أي وقت مضى. يكبح اشتعالها حتى الآن الخيط الرفيع من الأمل في إمكانية الوصول إلى تسوية تجنب البلاد ويلات الدمار، بالإضافة إلى الجهود الحثيثة للقوى الدولية والإقليمية الحريصة على منع الانزلاق نحو خيار الحرب.
ومن الواضح أن تطورات الصراع بين الثورة والنظام السياسي في اليمن تتأرجح في مسارين لا ثالث لهما؛ إما التوافق على إحداث تغيير سلمي يحقق أمل الثورة في التغيير، ويحافظ في نفس الوقت على الحد الأدنى من مصالح النظام السياسي والنخبة الحاكمة، أو الانزلاق إلى حرب شاملة، لن تكون في كل الأحوال في صالح النظام السياسي، فمآلات الحرب ستفضي إما إلى انتصار الثورة أو دخول البلاد في دوامة من العنف والفوضى لا تنتهي.
ويظل الأمل الوحيد لمنع اندلاع الحرب مرهون بمدى قدرة القوى الإقليمية والدولية الفاعلة على ممارسة ضغوط جادة للوصول إلى تسوية سريعة.
عوامل الانزلاق نحو الحرب
هناك العديد من العوامل والمؤشرات ترجح احتمالات الانزلاق إلى الخيار العسكري، يأتي في مقدمتها التصعيد المتبادل من قبل طرفي الصراع، والذي يوحي على ما يبدو بتبلور قناعة مشتركة، بعد ثمانية أشهر من الشد والجذب، باستحالة استمرار الأوضاع على نفس المنوال إلى ما لا نهاية، وأنه لابد من الوصول إلى مرحلة فاصلة يحسم فيها الصراع. وهناك استعدادات للوصول إلى مرحلة الحسم لكل منهما بطريقته. الثورة اتجهت بعد النجاح الباهر للثورة الليبية والهروب المذل للقذافي وأبنائه، إلى تبني برنامجا للتصعيد الثوري السلمي يصل بها إلى مرحلة الحسم مهما كانت التضحيات. وهي خطوة تضع الثورة في مواجهة مباشرة ومفصلية مع النظام، يرافقها تطور جديد هذه المرة بتلويح القوات المؤيدة للثورة بصورة غير مباشرة أنها لن تقف مكتوفة الأيدي في حال بادر النظام إلى استخدام القوة، وأنها لا تفتقر إلى الإمكانيات ولا الدوافع الوطنية للدفاع عن الثورة.
أما النظام السياسي فيستمر على نهجه السابق في مواجهة الثورة السلمية بمزيد من التمترس خلف القوة وأدوات القمع، ويوطِّن نفسه على الصمود أمام الاحتجاجات السلمية مهما طال أمدها، وعمد إلى استقدام مجاميع قبلية مسلحة من مناطق القبائل إلى العاصمة، والتوسع في توزيع السلاح على أنصاره المدنيين لمواجهة حركة الاحتجاجات من جانب، ودعم النظام في حال تطور الصراع إلى مواجهة عسكرية من جانب آخر.
والاستعدادات العسكرية لطرفي الصراع جارية على قدمٍ وساق، فالنظام يعمل دون مواربة على التزود بالقوة وتعزيز قدراته العسكرية، وإعادة توزيعها في مواجهة قوى الثورة، وشراء أسلحة ومعدات جديدة. كان آخرها شراء صفقتي سلاح من روسيا تتم خلال أسبوعين، وتجنيد المزيد من الجنود لقوات الحرس الجمهوري من أجل معادلة القوة البشرية للثورة. وفي مقابل التحفز العسكري للنظام قام الجيش المؤيد للثورة بقيادة اللواء علي محسن، بحملة تجنيد واسعة في أوساط شباب الثورة، وتدريب الثوار المدنيين على استخدام السلاح.
وتُظهر حالة الاستنفار المسلح المتصاعد ومحاولة الطرفين الاستحواذ على مواقع إستراتيجية داخل العاصمة وفي محيطها أن الأوضاع على شفا الانفجار ينقصها فقط من يشعل الفتيل.
ودون شك أن الشعور بانسداد مسار الحل التوافقي، واليأس من جدواه يَصُب مزيدا من الزيت على النار ويعزز القناعات بخيار الحل العسكري كحل الأخير لحسم أطول ثورة شعبية عربية في "الربيع العربي" حتى الآن. وتُفَسّر حالةُ الانسداد القائمة بطبيعة الصراع بين مشروعين متضادين، كل منهما متمسك بمطالبه؛ الثورة الشعبية متمسكة بمطالبها وغير مستعدة – في ظل حالة ثورية تجتاح المنطقة- تقديم تنازلات تجعلها في وضع أقل من باقي الثورات الأخرى التي نجحت في انتزاع حقوقها من حكوماتها المستبدة، وتنوي على ما يبدو الاستمرار في خيار الثورة حتى تتحقق مطالبها مهما كانت التضحيات.
أما النظام السياسي، فرغم أن المبادرة الخليجية لازالت هي الأرضية الوحيدة لخيار الحل التوافقي، والرئيس صالح هو من طالب بها دول الخليج لمواجهة الثورة، إلا أنه يُبدي تعنتا حينا ومراوغة حينا آخر في التوقيع عليها، مرتكنا ربما لشعوره أن المملكة العربية السعودية تسانده وتدعم خياراته، ولتقديرات قد تكون غير دقيقه أنه لا يزال المتفوق في ميزان القوى، وبمقدور النظام حسم الصراع عسكريا لصالحه إن أضطر إلى ذلك. ويختزل ما يُسمى بجناح الصقور في الحزب الحاكم الصراع في وجود عدد محدود من القوى السياسية والعسكرية والقبلية الطامعة في السلطة، إذا تم القضاء عليها أو إضعافها، تم إخماد الثورة دون الحاجة لتقديم تنازلات. ويدفع هذا الجناح باتجاه التشدد في المواقف بحجة أن الثورة الشبابية جرى إضعافها عما كانت عليه عند انطلاقها، ويُراهن على سياسة القوة والعقاب الجماعي لسحب "ما تبقى" من رصيد الثورة من الشارع اليمني، ويرى أن من مصلحة النظام بدلا عن تقديم تنازلات، لم يوافق على تقديمها قبل حادثة الاغتيال الفاشلة للرئيس وكبار قيادات الدولة، أن يسعى لاستخدام هذا الحادث كذريعة ومبرر للتخلص من أشد خصومه المؤيدين للثورة، الشيخ حميد الأحمر واللواء على محسن قائد الفرقة الأولى مدرع، اللذين يُروِّج الإعلام الرسمي أنهما متورطان في الحادث. وبالتأكيد أن تحويل ملف الاتهام إلى القضاء مؤشر على رغبة أطراف داخل النظام تعقيد أفق الحل والدفع باتجاه صدام عسكري محتوم.
العوامل الكابحة لمنزلق الحرب
ينظر بعض المحللين إلى قرار الرئيس صالح تفويض نائبه عبد ربه منصور هادي لإجراء حوار مع المعارضة (الأطراف الموقعة على المبادرة الخليجية) للوصول إلى آلية متفق عليها لتنفيذ المبادرة الخليجية، بأنها تمثِّل بادرة انفراج تحرك المياه في مسار الحل التوافقي – وإن كان البعض يختلف معهم في ذلك- وتُقرِّب طرفي الصراع من انجاز التسوية. فالقرار من جانب يُعطي حوارات النائب مع المعارضة الصبغة الرسمية الملزمة والغير قابلة للنقض حتى من الرئيس نفسه وتلزمه بنتائجها بموجب التفويض، والأهم أنها تعزل المسار التفاوضي عن تأثير مراكز القوى العسكرية داخل النظام، ولدى النائب بموجب التفويض سلطة اتخاذ القرار والتوقيع نيابة عن الرئيس، كما أن الحوار يتم برعاية إقليمية ودولية لا يمكن الالتفاف على نتائجه.
بينما يرى فريق آخر في قرار التفويض مراوغة جديدة من مراوغات الرئيس صالح ومحاولة للالتفاف على المبادرة الخليجية، والتنصل من التفاهمات السابقة التي وصل إليها النائب في حوارات مع المعارضة استمرت لأسابيع للاتفاق على مقترح الآلية التنفيذية للمبادرة الخليجية المقدم من مبعوث الأمم المتحدة "جمال بن عمر"، وتم الاتفاق فيها على آلية من ثلاث نقاط: تقضي أن يصدر الرئيس مرسوماً يدعو فيه إلى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة نهاية 2011، وينقل كامل صلاحياته الرئاسية إلى نائبه، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية. ويقول هذا الرأي أن الوصول إلى تسوية لا يحتاج إلى مزيد من الحوارات وإنما إلى توقيع الرئيس على ما تم الاتفاق عليه، وقرار التفويض لا يعدو أن يكون محاولة لإعادة اللعبة إلى المربع الأول، والمراهنة على عامل الوقت لإجهاض الثورة، ولا جدوى من تفويض الرئيس لنائبه التوقيع على المبادرة الخليجية لأنها تنص على توقيع الرئيس وليس النائب، كما أن الرئيس يستطيع إلغاء أي اتفاق يتوصل إليه النائب مع المعارضة إذا شعر بأنه لغير مصلحته، والأخطر أن جر المعارضة إلى حوار علني قبل التوقيع على المبادرة سيسحب الثورة إلى مربع الأزمة كما يخطط النظام ويعمل على شق الصف بين المعارضة وشباب الثورة.
وأيا كان الأمر فان موقف القوى الإقليمية والدولية الرافضة للحرب لا يزال هو العامل الرئيسي الكابح لهذا الخيار. ويبدو أن هذه القوى مصرة بشده على منع الانزلاق إليه لتعارضه مع مصالحها في اليمن، وتدرك أن خيار التسوية هو الأنسب لحماية هذه المصالح، لذلك تضغط على الطرفين لتحقيق التسوية، وتُحذِّر أن من يبادر إلى إشعال الحرب سيفقد الدعم والمساندة الإقليمية والدولية. وكانت الدبلوماسية الأوروبية وجَّهَت للقادة العسكريين تحذيرات صريحة أثناء التوترات الأخيرة أنهم معرضون لملاحقة محكمة الجنايات الدولية في حال تورطهم في تفجير الوضع عسكريا. ولا يزال الموقف السعودي عامل كابح أكثر من غيره لامتلاكه أدوات الضغط على الطرفين.
وعوامل أخرى تحول دون خيار الحرب تتمثل في حالة شبه التكافؤ في ميزان القوى والتداخل البشري بين المعسكرين، والشعور أن الحرب مغامرة خطيرة ستكون تكلفتها البشرية والمادية باهظة، وستزيد أوضاع البلد الاقتصادية والأمنية المتردية سواء، وهو ما يجعل قوى الثورة وكذلك المعتدلين في الحزب الحاكم أكثر حرصا على تجنب هذا المنزلق.
النتائج المتوقعة للخيار العسكري
قد يكون من الصعوبة بمكان الجزم بالنتيجة الفورية للحرب على المدى القصير، والمدة الزمنية التي ستستغرقها بسبب حالة توازن القوة وتعدد عناصرها لدى الطرفين، واحتمال تغير خارطة التحالفات الداخلية والخارجية لكل منهما، وإمكانية حدوث انشقاقات في الوحدات العسكرية النظامية، أو حدوث تغير في ولاءات مشائخ القبائل بحيث ترجح كفة أحد الطرفين. أما النظرة الكلية للصراع فتُرجِّح حتمية انتصار الثورة في نهاية المطاف، فمن الصعب القضاء على ثورة شعبية، تؤمن أن مطالبها عادلة، بالقوة العسكرية. ذلك أن الثورات العربية المعاصرة أثبتت أن فرصة الأنظمة المستبدة في الصمود أمام الثورات الشعبية تكاد تكون معدومة. ويتوقف الأمر على الوقت والتكلفة البشرية والمادية اللازمة ليتحقق انتصار الثورة. ولا خيار لاستقرار الأوضاع في اليمن سوى أن يحدث تغيير –سلما أو حربا - أو أن تدخل البلاد في حالة من الفوضى وعدم الاستقرار لا نهاية له.
ورغم تفوق النظام في ميزان القوى العسكري، إلا أن قواته النظامية تفتقر إلى حافز أو دافع حقيقي لخوض القتال باستثناء العدد المحدود الذين تربطهم العصبية العائلية أو القبلية. ونقطة الضعف القاتلة لدى النظام افتقاره إلى قضية عادلة يحارب من أجلها، تبرر للجنود الحكوميين التضحية بحياتهم. وقطعا أن القتال من أجل استمرار عائلة في الحكم في نظام جمهوري لا يمثل قضية مُبررة ليموت الجنود من أجلها. وكان ذلك واضحا في حالة الثورة الليبية، على عكس الطرف الآخر الذي يرى أنه يقاتل من أجل قضية دينية ووطنية عادلة ولديه الاستعداد للتضحية بحياته من أجلها. لذلك من المتوقع عند نشوب الحرب أن يُعلن مزيد من وحدات الجيش انضمامه للثورة، ويحدث مزيد من الانشقاقات داخل الحزب الحاكم تقودها الشخصيات الوطنية الرافضة للحرب.
وتذهب تحليلات إلى أنه في حالة الدخول في حرب شاملة فمن المحتمل أن يستطيع النظام في الجولة الأولى إلحاق أضرار بالقوات النظامية التابعة للثورة بسبب تفوقه الجوي، لكن ذلك لن يستمر طويلا، ولن يلبث أن يتحول جزء من الصراع إلى حرب داخل المدن تُفقِد النظام ميزة التفوق الجوي، ويكون عامل الحسم للروح المعنوية للمقاتلين. وسينحصر الصراع في المدن الرئيسية للسيطرة على المنشآت الحيوية وصولا إلى السيطرة على القصر الجمهوري في العاصمة. وهناك من يَقصِر الحرب في ثلاث مدن رئيسية، إلا أن الأرجح أنها ستتسع لتصل إلى معظم المدن الرئيسية في المحافظات الشمالية، ومن المتوقع في الأيام الأولى للحرب أن تسقط مدن ومحافظات بأكملها في يد الثورة. يدخل الطرفان بعدها في حرب ممتدة من الصعب التكهن بمدتها الزمنية. وتتمكن الثورة من تحقيق نصر نهائي وحاسم على النظام السياسي حسب عدد من الاعتبارات، حدوث انشقاقات مبكرة في البنية العسكرية للنظام، والموارد المتاحة لكل طرف، وقدرة الثورة على الحشد والتعبئة الشعبية خلف خيار الحرب.
وكلما طالت الحرب واتسعت، كانت التكلفة البشرية أكبر، والآثار الاقتصادية والاجتماعية أعمق وأكثر خطورة . فيُبدي عدد من المحللين تخوفهم من أن إطالة أمد الحرب قد تؤدي إلى دخول البلاد في حالة من الفوضى، إلا أن ما يخفف من إمكانية حدوث ذلك أن القوى الإقليمية والدولية المهتمة لن تكون مسرورة بانزلاق اليمن نحو الفوضى لتعارضه مع مصالحها. ويراهن بعض المحللين على أن ذلك سيدفع العديد منها لحسم خياراتها والوقوف إلى جانب الثورة باعتباره الخيار الوحيد لإيقاف دائرة العنف في اليمن، فهم يسايرون الموجة الثورية في الإقليم، وسيكون دعم النظام بمثابة السباحة عكس التيار والمراهنة على الفرس الخاسر.
ويرتبط بسيناريو امتداد أمد الحرب المخاوف من سعي قوى الحراك الجنوبي بسط سيطرتها على المحافظات الجنوبية وإعلان الانفصال من جانب، وإجبار أي نظام قادم بعد انتهاء الحرب على التعامل مع الانفصال كأمر واقع. وأيضا إمكانية استغلال الحوثيين انشغال النظام السياسي وقوى الثورة بالحرب، والعمل على توسيع نفوذهم في المحافظات الشمالية بدعم إيراني، إلا أن هناك من يقلل من إمكانية حدوث مثل هذا السيناريو، فمن ناحية من المستبعد أن تسمح المملكة العربية السعودية بتوسع النفوذ الحوثي الشيعي على حدودها الشمالية مع اليمن وستعمل على التدخل المبكر لمنع إمكانية حدوث ذلك بكل السبل. كما أن الحرب لن تؤدي إلى إضعاف قوى الثورة كما هو سائد، بل ستزيد من قوتها مع الوقت بسبب التعبئة البشرية والعسكرية الكبيرة الناتجة عن مواجهة تحدي الحرب والشواهد الواقعية على حدوث ذلك عديدة. وستكون قوى الثورة قادرة بعد التخلص من النظام على بحث حلول توافقية عادلة للقضية الجنوبية دون التفريط في الوحدة، بالاستعانة بالقوى الجنوبية المؤيدة للثورة والرافضة لمبدأ الانفصال.