الثورة المصرية والمجلس العسكري... إلى أين؟

يثار في مصر حاليا سؤالان، أولهما عن تقييم أداء المجلس العسكري الأعلى منذ توليه إدارة شؤون البلاد عقبت تنحية مبارك، والثاني عن حقيقة موقف القوى السياسية وتجمعات الشباب وائتلافاتهم تجاهه، وتأثير ذلك على مسار الأحداث في مصر خلال الفترة المقبلة.
1_1074166_1_34.jpg

تباطؤ المجلس العسكري في قراراته أثار حفيظة الجماهير (الجزيرة)

مركز الجزيرة للدراسات

خلقت ردود فعل غاضبة على بيان حاد أصدره المجلس وألقاه عضوه اللواء محسن الفنجري يوم الثلاثاء الماضي (12 يوليو/تموز) انطباعا بأن الشعب والجيش لم يعودا "يد واحدة".
عندما أطلق فريق من الداعين إلى مظاهرات الجمعة الأخيرة 15 يوليو/تموز عليها "جمعة الإنذار الأخير"، بعد اعتصام في ميدان التحرير وميادين مصرية أخرى استمر أسبوعا منذ "جمعة الثورة أولا" في 8 يوليو/تموز، بدا كما لو أن الأمر يتجه إلى صدام مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي يدير شؤون البلاد منذ تنحي حسني مبارك أو تنحيته بعد ظهر 11 فبراير/شباط الماضي.

فقد خلقت ردود فعل غاضبة على بيان حاد أصدره المجلس وألقاه عضوه اللواء محسن الفنجري يوم الثلاثاء الماضي (12 يوليو/تموز) انطباعا بأن الشعب والجيش لم يعودا "يد واحدة"، وأن العلاقة الإيجابية التي جمعتهما وساهمت في نجاح ثورة 25 يناير/كانون الثاني باتت في خطر.

ويثير ذلك سؤالين ملحين، أولهما عن تقييم أداء المجلس الأعلى العسكري منذ توليه إدارة شؤون البلاد، والثاني عن حقيقة موقف القوى السياسية وتجمعات الشباب وائتلافاتهم تجاهه، وتأثير ذلك على مسار الأحداث في مصر خلال الفترة المقبلة.

أولا: "أداء المجلس العسكري": جدل التباطؤ والتواطؤ
ثانيا: المجلس العسكري والثورة.. ماذا بعد؟

أولا: "أداء المجلس العسكري": جدل التباطؤ والتواطؤ 

اختار "المجلس العسكري" منذ اللحظة الأولى التي تولى فيها إدارة شؤون البلاد طريق الشرعية الدستورية لا الشرعية الثورية، بالرغم من أن وجوده في موقع رئيس الدولة فعليا كان نتيجة ثورة وقف معها منذ أن نزلت القوات المسلحة إلى الشارع بعد ظهر الجمعة 28 يناير/كانون الثاني الماضي (جمعة الغضب).

وكان موقفه واضحا من حيث إنه يقوم بمهمة مؤقتة في مرحلة انتقال يسّلم البلاد بعدها إلى حكم مدني منتخب؛ ولذلك بدأت مرحلة انتقالية كان وجود "المجلس العسكري" فيها على رأس السلطة نتيجة حالة ثورية، ولكنه أراد أن تكون إدارته لهذه السلطة من خلال شرعية دستورية. وكانت هذه الازدواجية التي لا تخلو من تعارض بين واقع ثوري لا يمكن تجاوزه وحالة دستورية أُريد تأسيسها هي المصدر الأول للاختلال الذي لا يزال يربك المرحلة الانتقالية ويؤثر سلبيا في أداء "المجلس العسكري".

وإذا أردنا مثالا واحدا على ذلك، من بين أمثلة عدة، فليكن الحديث المتكرر في الشارع السياسي عن الفرق بين التعامل الحازم مع مدنيين أُحيلوا إلى محاكمات عسكرية سريعة ناجزة أصدرت في حقهم أحكاما خلال أيام أو أسابيع قليلة، والتعاطي مع رموز النظام السابق والمتهمين بقتل شهداء الثورة الذين أحيلوا إلى قاضيهم الطبيعي في محاكمات سارت ببطء حتى الآن. والحق أن خيار المجلس العسكري بشأن تغليب الشرعية الدستورية لم يكن خطأ، لأن ثورة 25 يناير/كانون الثاني هي ثورة ديمقراطية هدفها الأساسي تحقيق الحرية التي لا يمكن ضمانها في ظل شرعية ثورية كاملة تبدأ –عادة حين تُطبق– بتعطيل النظام القانوني وإعلان أحكام عرفية.

كما أن مثل هذه الشرعية قد تفتح الباب أمام حكم استبدادي آخر ولكن في صورة جديدة قد تكون أقل بطشا وفسادا ولكنها ليست أكثر ديمقراطية.

ولذلك كان خيار المجلس العسكري صحيحا من حيث المبدأ. ولكن ما حدث فعليا خلق شعورا لدى قطاعات غير قليلة في المجتمع عموما، وفي أوساط معظم قوى الثورة خصوصا، بأن تغليب الشرعية الدستورية لم يؤد إلى أكثر من تجميل الوضع السابق "نيولوك"، إذ أُقصي مبارك ورموز نظامه وحل معظمهم في سجن مزرعة طرة، ولكن هيكل نظامهم السياسي ظل مستمرا في حكومة عصام شرف - التي قيل إن رئيسها جاء من ميدان التحرير بينما معظم وزرائها من ميدان مصطفى محمود حيث يتجمع أنصار مبارك من وقت إلى آخر للمطالبة بتكريمه وليس محاكمته - وفى وزارة الداخلية والتليفزيون الرسمي وكثير من أجهزة الدولة.

وأدى ذلك إلى فجوة بين قطاع أساسي في المجتمع وكل من المجلس العسكري والحكومة، في الوقت الذي حدث ارتباك في الساحة السياسية منذ إجراء الاستفتاء على تعديل بعض مواد دستور 1971 في 19 مارس/آذار الماضي ثم إلغاء هذا الدستور بعد إضافة عدد من مواده إلى المواد التي جرى تعديلها في إعلان دستوري جديد صدر في نهاية الشهر نفسه.

بدأت "المبارزة" بين شعاري "الانتخابات أولا" و"الدستور أولا" بما اقترن بها من شعور عام بالارتباك والإحباط غذّاه بطء محاكمات رموز النظام السابق، وغموض الموقف على صعيد محاكمات ضباط وأفراد الشرطة المتهمين بقتل شهداء الثورة.
فقد أدى عدم وضوح الهدف من الاستفتاء إلى استقطاب لم يكن له مبرر بين القوى الإسلامية وغيرها. فلو أن الاستفتاء أُجري على الإعلان الدستوري الجديد بعد إلغاء دستور 1971، لما حدث استقطاب كان مرجعه الغموض الذي أحاط مصير المادة الثانية فيه والخاصة بأن مباديء الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع. وأنتج ذلك الاستقطاب انقساما منذ أبريل/نيسان الماضي بشأن خطوات المسار السياسي الذي حدده الإعلان الدستوري، وهو إجراء الانتخابات البرلمانية أولا لينتخب البرلمان جمعية تأسيسية تضع مشروع دستور جديد وطرحه للاستفتاء العام، على أن تكون الانتخابات الرئاسية هي الخطوة الأخيرة في هذا المسار.

وبدأت "المبارزة" بين شعاري "الانتخابات أولا" و"الدستور أولا" بما اقترن بها من شعور عام بالارتباك والإحباط غذّاه بطء محاكمات رموز النظام السابق، وغموض الموقف على صعيد محاكمات ضباط وأفراد الشرطة المتهمين بقتل شهداء الثورة، وعدم إلقاء القبض على معظمهم أو حتى وقفهم عن العمل حتى انتهاء هذه المحاكمات. فكان المشهد مدهشا، فضلا عن كونه مستفزا، عندما يذهب ضباط متهمون بالقتل إلى المحكمة التي يُحاكمون أمامها ثم يغادرونها إلى مواقع عملهم في مديريات الأمن وأقسام الشرطة ليستغلوا سلطاتهم ونفوذهم في إزالة كل ما يمكن أن يُستخدم دليلا يدينهم، والضغط على الشهود لتغيير أقوالهم في التحقيقات.

وتوازى ارتباك المسار السياسي والانقسام بشأنه، وبطء المسار القضائي مع غياب المسار الاجتماعي المتعلق بالشروع في الحد من الظلم الفادح والتناقض الطبقي الصارخ؛ فقد عجزت حكومة عصام شرف عن اتخاذ أي إجراء يعيد الأمل في إمكان تحقيق عدالة اجتماعية مفقودة؛ إذ تولى إدارة هذا الملف فيها ثلاثة وزراء من النظام السابق كان أبرزهم (وزير المالية) عضوا في أمانة سياسات الحزب الوطني التي يرأسها جمال مبارك ومن تلاميذ المدرسة الليبرالية الجديدة.

وفي غضون هذا كله، ظلت الحكومة منزوعة السياسة. فلم يُعرف عن أحد من وزرائها ممارسة العمل السياسي طول حياته باستثناء ثلاثة جيء باثنين منهم من حزبين معارضين (الوفد والتجمع) في وزارتين ثانويتين، وعُين الثالث الذي كان في منطقة وسط بين النظام السابق والمعارضة نائبا لرئيس الحكومة ولكنه عجز عن مد أي جسر مع شباب الثورة وانحاز إلى أطراف ضد أخرى في الساحة السياسية؛ فطغى ميله العلماني الصريح على الدور التوافقي الذي كان مفترضا أن يقوم به. وأدار حوارا وطنيا لم يكن له من اسمه نصيب، مثله مثل حوار مواز عهدت به الحكومة إلى رئيس وزراء سابق تولى هذا المنصب في منتصف سبعينيات القرن الماضي.

وكان تشكيل الحكومة على هذا النحو عبئا على المجلس العسكري بدلا من أن يكون عونا له. ومع ذلك، لم يبادر إلى أي تغيير فيها بل تواترت روايات تفيد أنه رفض مثل هذا التغيير عندما طلبه رئيسها مقترحا استبدال سبعة وزراء. كما رفض استقالة نائب رئيس الحكومة بالرغم من توسع نطاق المطالبة بتغييره في مظاهرات واعتصامات ومؤتمرات عدة. وحتى عندما وافق رئيس الحكومة على استقالته، رفضها المجلس العسكري.

ونظرا لأن بعض ما حدث في الكواليس خلال الشهرين الأخيرين تحديدا لم يُكشف النقاب عنه بعد، لم تتوفر إجابات على أسئلة من نوع سبب تمسك المجلس العسكري بحكومة ساهم ضعف أدائها في توسيع الفجوة بينه وبين قطاع في المجتمع وخصوصا شباب الثورة يوما بعد يوم، ومغزى عدم تدخله للاستجابة إلى مطالب يسهل تحقيقها أو الشروع في ذلك، مثل تسريع المحاكمات، وتطهير وزارة الداخلية، واستبعاد وزراء النظام السابق وما إلى ذلك. وازدادت أهمية هذا النوع من الأسئلة عندما تبين إمكان تحقيق تقدم بشأن المحاكمات وجهاز الأمن وتغيير الوزراء في أيام قليلة خلال الأسبوع المنصرم، وهو الأسبوع الأكثر سخونة على الإطلاق منذ إنهاء حكم مبارك في 11 فبراير/شباط الماضي.

ولذلك أخذ الجدل حول السؤال الخاص بما إذا كان هناك تباطؤ أم تواطؤ، يزداد بالرغم من أن الموقف المشرف الذي اتخذه الجيش مع الثورة منذ بدايتها يكفي تماما وبشكل حاسم لاستبعاد الافتراض الخاص بالتواطؤ أو حتى بإمكان أن تكون الأخطاء التي وقع فيها المجلس العسكري مقصودة. ومع ذلك أفسح التباطؤ مجالا لمثل هذا الافتراض الذي سعى بعض أتباع النظام السابق وآخرون أصحاب مصالح خاصة إلى تغذيته في إطار محاولات بدأت مبكرا للوقيعة بين الشعب والجيش، وحذر منها المجلس الأعلى في بعض بياناته منذ منتصف مارس/آذار الماضي.

غير أن التحذير وحده لا يكفي، وقد لا يفيد، من دون معالجة الأخطاء وإزالة الاختلالات التي شابت المرحلة الانتقالية وأتاحت الفرصة أمام من يريدون تفكيك العروة التي ما كان ممكنا لثورة 25 يناير/كانون الثاني أن تنجح في إقصاء مبارك ورموز نظامه بدونها.

ثانيا: المجلس العسكري والثورة.. ماذا بعد؟ 

لم يقّدر المجلس أهمية حضور الشعب؛ ولذلك اختار مسارا سياسيا لبناء النظام الجديد من أعلى (البرلمان والرئاسة) وليس من أسفل (المحليات والنقابات العمالية والمهنية والجامعات وغيرها).
لم يكن التباطؤ على صعيد المحاكمات وبشأن الشروع في خطوات أولى ذات دلالة لتحقيق العدالة الاجتماعية، وارتباك المسار السياسي الانتقالي هو كل ما أخطأ فيه المجلس العسكري؛ فقد أخطأ أيضا لأنه لم يستدع الشعب للمشاركة المباشرة في اختيار مستقبله إلا مرة واحدة في الاستفتاء على التعديلات الدستورية.

لم يقّدر المجلس أهمية حضور الشعب؛ ولذلك اختار مسارا سياسيا لبناء النظام الجديد من أعلى (البرلمان والرئاسة) وليس من أسفل (المحليات والنقابات العمالية والمهنية والجامعات وغيرها). وقد قُدِّمت إلى المجلس اقتراحات تفيد أن بناء الديمقراطية يكون أفضل وأكثر صلابة حين يبدأ من أسفل ودون أي إخلال بالموعد الذي حدده مبدئيا للانتخابات البرلمانية في الخريف المقبل.

كان ممكنا إجراء انتخابات محلية وأخرى عمالية شاملة وثالثة للنقابات المهنية كلها وفي الجامعات في الفترة بين مايو/أيار ويوليو/تموز 2011، قبل الذهاب إلى الانتخابات البرلمانية في نوفمبر/تشرين الثاني بعد فتح باب الترشيح لها في سبتمبر/أيلول.

غير أن افتقاد الخبرة السياسية حال دون تقدير المجلس أهمية استحضار الشعب بشكل مباشر حتى لا يضطر إلى الاستماع إلى كل من يقول إنه يعبر عن هذا الشعب، أو يحمل لواء الثورة، أو يبحث عن موقع، أو يسعى إلى هدف عام أو فئوي.

فكانت النتيجة هي أن قنوات الاتصال لم تكف، على كثرتها، لتحقيق تواصل بنّاء بين المجلس وكم هائل من الأحزاب والجماعات والائتلافات التي تكاثرت كالفطر، ولا للحيلولة دون توسع الفجوة التي أخذت في الازدياد نتيجة التعارض بين الأداء البطيء والتوقعات الثورية التي تحرق الزمن.

وعندما تتوسع مساحة الفجوة، قد يظن بعض الأطراف أنهم يستطيعون استغلالها لمآرب خاصة تتقاطع مع الأهداف العامة للثورة ولكنها لا تتطابق. ولذلك سعى البعض إلى استغلال حال الارتباك في المسار السياسي لإعادة طرح مطلب طرحته بعض قوى الثورة في وقت مبكر ولم يحدث توافق عليه، وهو إنشاء مجلس رئاسي مدني يعاون المجلس العسكري، في صيغة جديدة وهي أن يكون بديلا عنه.

وحين أُعيد طرحه على هذا النحو خلال الأسبوع الأخير بدءا من "جمعة الثورة أولا" في 8 يوليو/تموز، في الوقت نفسه الذي قام بعض المعتصمين في ميدان التحرير بغلق أكبر مبنى إداري في مصر (مجمع التحرير)، وطالبوا مع آخرين في محافظات أخرى بغلق قناة السويس والطرق التي تربط بين بعض هذه المحافظات، بدا الأمر كما لو أن الثورة تتجه إلى صدام مع المجلس العسكري. ولعل هذا يفسر حدة البيان الذي صدر عنه الثلاثاء الماضي (12 يوليو/تموز) وأكد فيه أنه (لن يتخلى عن دوره في إدارة شؤون البلاد)، و(لن يسمح بالقفز على السلطة أو تجاوز الشرعية لأي من كان)، و(سيتخذ ما يلزم من إجراءات لمجابهة التهديدات التي تحيط بالوطن).

وفضلا عن حدة اللهجة التي أُلقي بها البيان تلفزيونيا، أوحت عمومية صيغته بأنه يحذر قوى الثورة كلها أو الكثير منها، في حين أن هذا التحذير كان ينبغي توجيهه إلى جزء صغير فيها استغل عدم مشاركة معظمها في الاعتصام الذي بدأ السبت 9 يوليو/تموز؛ حيث كان شباب غاضبون غير مسيسين وأهالي شهداء محبطون هم معظم جمهور هذا الاعتصام حين تقرر غلق (مجمع التحرير)، والتهديد بممارسات تخرج عن نطاق الطابع السلمي لثورة 25 يناير/كانون الثاني.

وقد نجح التيار الرئيس بين قوى الثورة في تصحيح هذه الممارسات بسرعة، وأصدرت 17 من أهمها بيانا أعاد تأكيد سلمية الثورة، وكذلك أحزاب (التحالف الديمقراطي من أجل مصر) التي أضافت تجديد ثقتها في المجلس العسكري مع تأكيد ضرورة الإسراع لتحقيق أهداف الثورة.