تأثير العامل الاقتصادي على الثورة الليبية

ما تمر به الثورة الليبية من فقر في الموارد المالية هو حدث عارض، وليس أزمة بالمفهوم الاقتصادي لوجود موارد طبيعية تدر عملات صعبة، والمهم في المعالجة أن لا يتم توريط البلاد في التزامات مالية تكون عبئا في مرحلة ما بعد سقوط النظام.
1_1070066_1_34.jpg

من المهم أن لا يتم توريط ليبيا في التزامات مالية كبيرة تكون عبئا ثقيلا في مرحلة ما بعد سقوط النظام، (الجزيرة)

مركز الجزيرة للدراسات

أضحى نقص السيولة والفقر في الموارد المالية من أعقد القضايا المعيشية التي تواجه ثورة السابع عشر من فبراير/شباط بليبيا في هذه المرحلة، عَكَس ذلك تصريحات الدكتور علي الترهوني، مسؤول الدائرة المالية والنفط في المكتب التنفيذي التابع للمجلس الوطني الانتقالي، الذي أكد أن خزينة المجلس فارغة، وتواجه المناطق المحررة أزمة سيولة يمكن أن تزيد الوضع العام تعقيدا.

الثورة وفقدان الموارد المالية
اختلاف درجات التأثير
سيناريوهات المعالجة
خلاصة

الثورة وفقدان الموارد المالية

هموم المعنيين بالشأن المالي في المؤسسات السيادية التابعة للثورة تدور حول قضايا أساسية ملحة، منها: تغطية مرتبات العاملين في القطاع العام والتي تبلغ 270 مليون دينار ليبي شهريا (الدولار يعادل 1.25 رسميا، ويصل إلى 1.70 في السوق الموازية) وذلك في المناطق الشرقية، يضاف إليها نفقات توفير الوقود والتي تصل إلى 190 مليون دينار ليبي شهريا، كما جاء بالتقرير المالي المقدم للمجلس الانتقالي عن شهر مايو، يضاف إليها نفقات تسيير بعض القطاعات الحيوية وهي مبالغ ضئيلة على أي حال.

هموم المعنيين بالشأن المالي في المؤسسات السيادية التابعة للثورة تدور حول قضايا أساسية ملحة، منها: تغطية مرتبات العاملين في القطاع العام والتي تبلغ 270 مليون دينار ليبي شهريا (الدولار يعادل 1.25 رسميا، ويصل إلى 1.70 في السوق الموازية) وذلك في المناطق الشرقية

وتكمن المشكلة في غياب أي مورد ثابت لتغطية النفقات المذكورة، فضلا عن تغطية أعباء مالية للاحتياجات الضرورية كتوفير السلع الأساسية التي يكاد مخزونها ينضب، ويتحمل القطاع الخاص، والمؤسسات الإغاثية توفير ما يزيد عن 80% منها، بالإضافة تحمل المذكورين توفير احتياجات جبهة القتال من الطعام والمستلزمات الأخرى من خيام وأغطية وملابس وحتى أجهزة اتصالات ومناظير وغيرها.

وبحسب ما صرح به مسؤول الدائرة المالية، فإنه لا موارد ذاتية للثورة بعد تعطيل مضخات دفع النفط الخام من حقلي السرير ومسلة في جنوب شرق البلاد من قِبل كتائب القذافي، وضرب أنابيب نقله إلى حيث يصدَّر من ميناء طبرق، أما العوائد السيادية من رسوم وضرائب فقد شرعت الدائرة المالية في إعادة تنظيم جبايتها، ولا يُتوقع أن يتم تحصيل مبالغ مجزية في ظل الظروف الاقتصادية القاهرة.

كما أن الآلية التي تم الاتفاق عليها من قبل مجموعة الاتصال بدت غير فاعلة، علاوة على أن المستهدف من مبالغ تأتي من قِبل مجموعة الاتصال يغطي بالكاد النفقات الرئيسية من مرتبات ووقود، لتظل المرافق الحيوية الأخرى، من كهرباء وماء ومرافق عامة بما في ذلك خدمات النظافة وصيانة الأملاك العامة عرضة للتدهور إذا لم يتم توفير التمويل اللازم في القريب العاجل؛ فبالرغم من تعهد الكويت بتقديم منحة بمبلغ 180 مليون دولار، وتركيا 100 مليون دولار، وتسهيلات تقدمها شركة إيني الإيطالية تصل إلى 400 مليون دولار، بضمان من الحكومة الإيطالية، إلا أن ما دخل حسابات المجلس الانتقالي منها لم يتعد 100 مليون دولار فقط.

من ناحية أخرى، تواجه المكتب التنفيذي والدائرة المالية مشكلة نقص السيولة المحلية، وتواجه الدائرة المالية صعوبة في جذب المبالغ المسيلة في شكل مرتبات ونفقات أخرى بالدينار الليبي إلى البنوك، وذلك لتخوف المواطنين خاصة التجار وأصحاب الأعمال من تحكم المجلس الانتقالي في أرصدتهم بسبب القيود المفروضة على السحب.

والحل في رأي الخبراء يكون إما بتبني سياسات تقود إلى استقرار النشاط الاقتصادي وهذا يتطلب استقرارا سياسيا لا يمكن أن يتحقق في المدى القصير، أو اللجوء إلى بيع عملات صعبة بكميات كبيرة في السوق المحلية لامتصاص المبالغ الضخمة التي يتم تداولها خارج أوعية البنوك، (في السوق المحلي، وعمليات مضاربة على الحدود الليبية المصرية). وتكمن مشكلة الخيار الثاني في افتقار الدائرة المالية للعملات الصعبة، وتوجيهها في حال توفرها إلى توفير سلع مستوردة مثل الوقود وبعض السلع الأساسية.

الأزمة المالية عند النظام
لا تختلف الصورة في الطرف الغربي من البلاد، فنظام القذافي يعاني من شح كبير في النقد المحلي، وبحسب فرحات بن قدارة، الرئيس السابق لمصرف ليبيا المركزي حتى اندلاع ثورة 17 فبراير/شباط، فإن الرصيد من الدينار الليبي في خزائن المصرف لم يتجاوز 500 مليون دينار ليبي عند تنحيه عن منصبه، وما يتوفر من عملات أجنبية وذهب لا يشكل أهمية، وذلك للقيود التي فرضها المجتمع الدولي على الوارد والصادر عبر نظام القذافي.

وتبدو الأزمة أكثر حدة في العاصمة حيث بلغ سعر صرف الدولار في السوق السوداء نحو أربعة دنانير (أكثر من ضعف سعره في المناطق المحررة شرقي البلاد)، وارتفع سعر لتر البنزين إلى نحو دينارين حسب شهود عيان (سعر اللتر 15 قرشا في المناطق المحررة ومتوفر بشكل طبيعي)؛ حيث تتناوب العائلة الواحدة على طوابير البنزين نحو خمسة أيام للحصول على ما تحتاجه من الوقود.



اختلاف درجات التأثير

إذاً كلا الطرفين يعانيان من أزمة مالية حادة، إلا أن فروقا جوهرية تجعل من الأزمة في القطاع الشرقي أقل حدة لاعتبارين: أولهما: التحام الجماهير بالثورة وتفهمها لأسباب وطبيعة الضغوط المالية، بينما تضيف الأزمة المالية في العاصمة والمدن التي يسيطر عليها نظام القذافي إلى حالة الاحتقان بسبب القمع وفقدان النظام الشرعية. الاعتبار الثاني: هو أن الأزمة قابلة للانفراج في المناطق المحررة لما تتمتع به الثورة من دعم دولي، بينما لا يلوح انفراج لها في الطرف الآخر لتشديد الحصار الدولي على طرابلس.

كلا الطرفين يعانيان من أزمة مالية حادة، إلا أن فروقا جوهرية تجعل من الأزمة في القطاع الشرقي أقل حدة لاعتبارين: أولهما: التحام الجماهير بالثورة وتفهمها لأسباب وطبيعة الضغوط المالية

من ناحية أخرى، فبالإضافة إلى تركيز المعنيين بالقرار الاقتصادي في المجلس الانتقالي والمكتب التنفيذي في البحث عن موارد لتغطية النفقات الرئيسية المتمثلة في المرتبات والسلع الرئيسية والوقود، فإنهم يناقشون سبل تقليص الإنفاق وترشيده للتخفيف من الضغوط على الميزانيات المؤقتة، وهي أفكار بعضها جيد، وبعضها الآخر قد لا يلقى قبولا وقد ينعكس سلبا على حالة الاستقرار النسبي التي تتمتع بها المناطق المحررة.

إنه وأمام حساسية المرحلة الانتقالية -وما تحمله من ضغوط نفسية على مجموع الناس بسبب استمرار تهديد النظام للثورة، وبسبب غياب التركيز التربوي لمعالجة تلك الضغوط من قبل الجهات المسؤولة- سيكون من الصعب تمرير إجراءات تقليص الإنفاق وما يترتب عليها من تخفيض المرتبات، وتحديد سقف للمبالغ المسحوبة من المصارف، وتقليص الوظائف وما قد يستدعيه ذلك من إعادة تنسيب موظفين لا يباشرون وظائفهم إلى أجهزة أمنية أو مؤسسات عسكرية كما جاء في توصيات الدائرة المالية- سيكون من الصعب تمرير تلك السياسات دون تداعيات سلبية قد تكون كبيرة في حال طالت فترة المرحلة الانتقالية.

فلدى المجتمع الليبي عقدة من سياسة ترشيد الإنفاق التي فرضها النظام في فترات عديدة سابقة؛ وذلك مع اليقين بالحاجة إليها مؤقتا؛ لذا قد يكون من الخطأ البناء على فرضية استعداد الجميع للصبر والتضحية، خصوصا مع غياب برنامج قومي وطني مكثف للتوعية والتعبئة، وقد يكون من الضروري الاهتمام بتوفير الموارد اللازمة لتلبية الطلب المحلي في المرحلة الانتقالية، وتقديمه على الأفكار المتعلقة بتقليص الإنفاق وضغط المصروفات التي تضمنتها بعض توصيات تقارير الدائرة المالية المشار إلية سابقا.



سيناريوهات المعالجة

الوضع الشائك يتطلب تبني إستراتيجية قصيرة المدى تتسم بالمرونة العالية وتكون قابلة للتمديد في حال استدعى الأمر ذلك، وقد يكون من الملائم أن تشتمل الإستراتيجية على برنامج مختلط، الأولوية فيه لزيادة الموارد (موارد سهلة التحصيل وبكلفة غير عالية)، مقترنة بسياسة ترشيد الإنفاق، وسياسة إعادة التشغيل المتزنة مصحوبة بحملة توعية وتعبئة تهيئ الناس وتخفف من الأثر العكسي لتلك السياسات.

الوضع الشائك يتطلب تبني إستراتيجية قصيرة المدى تتسم بالمرونة العالية وتكون قابلة للتمديد في حال استدعى الأمر ذلك، وقد يكون من الملائم أن تشتمل الإستراتيجية على برنامج مختلط، الأولوية فيه لزيادة الموارد
علاوة على ما سبق، فإنه ينبغي التنبيه إلى أنه من أعظم الوسائل تأثيرا في معالجة المشاكل التي تواجه الثورة –بعد استفراغ الوسع في تبني السياسات الصحيحة والتنفيذ السليم – هي الشفافية في عرض المشاكل وعرض الحلول المطروحة لمعالجتها.

فمكاشفة الناس بالواقع وأن ما تواجهه الثورة من صعاب في الحقيقة ليس بسبب أخطاء المجلس أو المكتب بل بسبب ظروف خارجية، يمكن أن تُكسب سياسة التقشف ثقة الرأي العام، والثقة تُعين كثيرا على الصبر وحتى التضحية، وهما عدة النجاح؛ لهذا سيكون من الناجع لاحتواء الآثار السلبية للأزمة المالية اتباع كافة السبل التي تُشرك الناس وتطلعهم على ما يرد من أموال وأوجه صرفها، وحجم العجز المالي، والخطط الموضوعة لسد هذا العجز.



الخلاصة

ما تمر به الثورة من فقر في الموارد المالية هو حدث عارض، مرتبط بعمر مرحلة التحرير التي تؤكد العديد من المؤشرات أنها لن تطول، وليس أزمة بالمفهوم الاقتصادي لوجود موارد طبيعية تدر عملات صعبة وفيرة، وبالتالي لا خوف من عدم القدرة على سداد الالتزامات المالية والوفاء بالاستحقاقات وتوفير التمويل اللازم لتحريك عجلة الاقتصاد، لكن من المهم أن لا يتم توريط البلاد في التزامات مالية كبيرة تكون عبئا ثقيلا في مرحلة ما بعد سقوط النظام، وتعرقل مسار التنمية الاقتصادية التي طالما تطلع إليها الليبيون ولم تتحقق.