مناطق الاحتجاجات والمظاهرات ضد النظام في سوريا (الجزيرة) |
عرف تدويل الأزمة السورية تحولاً جديدًا بعد الفيتو الروسي-الصيني المزدوج في مجلس الأمن على مشروع القرار المستند إلى المبادرة العربية، فقد خاطرت كل من موسكو وبيجين بمواجهة الدول العربية، وتحدي إرادة الكتلة الغربية، وخسران التضامن السابق للدول الصاعدة، مثل الهند وجنوب إفريقيا، اللتين صوتتا لصالح القرار. والواضح على أية حال أن هناك توجهًا دوليًا متصاعدًا لنزع الشرعية عن بشار الأسد، والسعي إلى إحداث تغيير تدريجي في النظام السوري.
لم تصل الأزمة السورية إلى هذا المستوى إلا بعد أن فشل النظام السوري في حلها داخليًا، ثم فشلت الجامعة العربية في حلها عربيًّا. ولم تفشل مبادرات حل الأزمة إلا لأن منطق الأطراف المعنية متعارض؛ فالنظام لا يزال يشعر أنه أقوى من تقديم أي تنازل في القضايا الرئيسية: بقاء الرئيس بشار الأسد في السلطة، وبقاء النظام.
النظام ورهان الحل الأمني
في البداية، أطلق بشار الأسد جملة من "مبادرات الحوار"، أفشلها بالعمليات الأمنية المتواصلة، وبالمنطلقات التي جعلها أرضية لكل حل يوافق عليه، وتتلخص في التوجهات التالية:
-
حل الأزمة بيده وبمنطقه وبتوقيته، ومع أطراف يحددها مسبقًا.
-
الوعود بالإصلاحات التي قدمها هي سقف لكل حوار مع المعارضين.
-
اعتبار مطالب الحراك الثوري والقطاع الأكبر من المعارضة، حين تتجاوز السقف الذي حدده النظام، تجليًا لأجندات دول خارجية تنتهز الفرصة لعقاب سوريا على موقفها المقاوم.
والخلاصة: الحل بيد بشار وداخل النظام. وهذا ما يرفضه الثوار والقطاع العريض من المعارضة، على أساس أن بشار هو الجزء الرئيسي من المشكِل، وأن مهمة النظام هي تسليم السلطة لنظام جديد.
وبدا أنه مع إصرار بشار الأسد على الحل الأمني واستمراره في تبرير حملاته بالخوف على مصير الطوائف، وإصرار الثوار على تحديه، وتزايد عزلة النظام الدولية، بدأ الوقت المتاح للحل الأمني ينفد، فسارع النظام السوري إلى القبول بالحل العربي ربحًا للوقت على أقل تقدير، وتحقيقًا لطلباته من خلال مخرج عربي تفاوضي كأقصى تقدير.
وبالمقابل، كانت المبادرة العربية، من جهة رؤية المعارضة السورية، تتلاقى مع مطالبهم على مستويين: إما أن تكون مبادرة الجامعة العربية قادرة على ضبط وإدارة عملية هبوط سلس للنظام تفتح الطريق أمام الانتقال نحو التغيير الديمقراطي، أو يستمر النظام في مراوغته ومنطقه، فيعطي التحرك العربي بذلك فرصة لقوى الثورة والحراك المجتمعي في الداخل لالتقاط أنفاسها، وتكون النتيجة عندئذ عزلة أكبر للنظام، وإفقاد مبادرته المصداقية، وفك التحالفات الدولية من حوله.
فشلت المبادرة العربية لأن النظام رفض الربط بين مهمة المراقبين العرب والتزاماته السابقة مع الجامعة العربية، وهي: سحب قواته المسلحة من المدن، وإطلاق المعتقلين، والسماح بالتظاهرات، والشروع في الحوار مع المعارضة، خاصة القوى الرئيسية فيها.
الحسابات الدولية
مع تعثر المبادرة العربية بدأ المجتمع الدولي إعادة تقدير مواقفه من أجل إنضاج جملة من العوامل. كانت الولايات المتحدة، والغرب عامّة، يرغب في تشكيل موقف دولي يفتح الطريق أمام انتقال هادئ للسلطة، مع تصميم واضح على سحب شرعية بشار الأسد وتغيير بنية النظام دون تعريض الدولة السورية للتفكك أو التداعي. وكان هذا أهمّ الدروس التي استقتها الولايات المتحدة من احتلال العراق.
كما أنّ الرهان على الموقف الدولي يمليه الوضع السياسي داخل الولايات المتحدة وباقي الدول الغربية، فهي ليست جاهزة للتورط في مغامرة خارجية مجهولة الأفق، خاصة أن تأكيدات المعارضة السورية على قدرتها على ضبط الأوضاع الداخلية، بما يضمن مشاركة كافة مكونات الشعب السوري في المرحلة الانتقالية، ناهيك عن قدرتها على تحقيق تمثيل جامع لهذه المكونات، لم تكن مقنعة للقوى الدولية الرئيسية.
ومع انسداد الحل العربي، والتردد الغربي، تحركت روسيا من أجل ضمان مصالحها الإستراتيجية في سوريا على محورين: فك العزلة عن النظام السوري خارجيًّا مع تبني مطلب الإصلاح من خلال إشراك المعارضة؛ وساعد موسكو على تحركها ارتباطها بعلاقات جيدة مع أطراف رئيسية في الأزمة: النظام السوري، وخاصة الجيش، وإيران.
على التوازي، كانت الجامعة العربية تتحرك قُدمًا لإنضاج مبادرة دبلوماسية تمهِّد لانتقال آمن للسلطة وتحقيق تطلعات المعارضة السورية. وبذلك كان يُفترض أن يحصل تقاطع بين دور الجامعة العربية والدور الروسي في لحظة معينة تمهيدًا لإطلاق عملية سياسية في هذا الاتجاه تتبناها الأمم المتحدة. لكنّ تعنت الأسد ورفضه للمبادرة العربية التي استند عليها مشروع القرار الأممي، ناهيك عن تقديرات الأجهزة الروسية بأن نظام الأسد يستطيع الصمود لفترة أطول، وأنّ روسيا لم تتمكن بعد من ضمان مصالحها، أدى إلى رفض موسكو لمشروع القرار الأممي المؤيد للمبادرة العربية.
أصبحت المعركة بين الغرب وروسيا تجاه سوريا معركة مفتوحة، كما برز في تصريحات الدبلوماسيين الغربيين والروس؛ فالولايات المتحدة أكدت أن روسيا لم يعد لها دور في الأزمة، بينما تسعى روسيا للحفاظ على آخر مواقعها في المتوسط، وهي تحاول الآن أن تستفيد من كونها الطرف الدولي الوحيد الذي يتعامل بفاعلية مع السلطة السورية، كما تجلَّى بشكل خاص خلال زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف. وبالرغم من ذلك، يبدو أن أوراق روسيا التفاوضية في الأزمة السورية قد تناقصت، وخاصة مصداقية وساطتها تجاه الحراك الثوري وقوى المعارضة السورية.
بيد أن روسيا ما تزال مصرة على أن ترعى الحل، ويتلخص الحل من وجهة نظرها في العمل على تشكيل حكومة انتقالية وتحقيق بعض الإصلاحات داخل النظام؛ بالرغم من أن قدرة موسكو على إنجازه محل شك، خاصة وأنها لم تتمكن من انتزاع أي تنازل ذي مغزى من النظام السوري؛ الأمر الذي يضعها أمام مسؤولية مباشرة عن أعمال القتل التي يرتكبها النظام كما يتهمها الثوار السوريون في جمعة "روسيا تقتل أطفالنا"، بل إن النظام السوري لم يتوقف عن عملياته العسكرية في حمص وغيرها من المناطق حتى خلال وجود لافروف في دمشق.
أما بيجين فتسير خلف موسكو برخاوة، ولا يبدو أنها مستعدة للعب دور مباشر، لا في الشرق الأوسط ولا في سوريا. فالصين لا تملك أوراقًا مؤثرة بشكل كبير، ولا تملك أفقًا واضحًا لسياستها، بل هي اختارت أن تعبِّر بهذه الطريقة عن احتجاجها على تحدي الأميركيين لمواقعها في كل من آسيا وإفريقيا، في ليبيا والسودان، لكن مع ترك الروس يدفعون ثمن مواقفها. وإذ يحاول الروس بأشكال مختلفة اتهام تركيا بالمسؤولية عن العنف المضاد للنظام، فإن أنقرة تتحرك لتشكيل تحالف دولي يوفر الغطاء الأخلاقي والسياسي والدبلوماسي يتجاوز الانسداد في مجلس الأمن، ويضم قوى كانت أصلاً متناقضة ومتصارعة بما فيها فرنسا وتركيا.
إفشال الحل الأمني
تطور الموقف الحالي قد يكون حسب السيناريوهات التالية:
1- دعم دولي سياسي للثوار السوريين مقابل استمرار دعم روسي للنظام
على افتراض استمرار الموقف الروسي وإصرار النظام السوري على الحل العسكري، وقيام المجتمع الغربي والعربي وتركيا بتقديم الدعم السياسي والإغاثي دون تدخل عسكري، ستسير الأزمة السورية باتجاه المجابهة الشاملة وتتصاعد مخاطر اندلاع الحرب الأهلية، إضافة إلى مخاطر تداعي بنية الجيش والدولة، وتصبح سوريا ساحة مفتوحة لصراع دولي في وقت تتناقص أوراق روسيا تدريجيًا بما يحرمها من أي سهم في تشكيل الحل النهائي. وسيؤسس هذا الموقف، ليس فقط لتدهور موقع روسيا في العالم العربي والشرق الأوسط، بل سيضر بمصداقيتها الأخلاقية وقدرتها على أن تشكِّل قطبًا دوليًا بديلاً للهيمنة الغربية على المنطقة العربية وشعوبها.
2- تطوير السيناريو الأول باتجاه تدخل لحماية المدنيين
قد يدفع تزايد عنف النظام ووحشيته في قمع المتظاهرين إلى تزايد الضغط الدولي بشكل هائل لمنع تدهور الأوضاع نحو حرب أهلية تخرج من السيطرة وتهدد سوريا نفسها بالانقسام، فيضطر المجتمع الدولي حينها إلى تجاوز الاستعصاء في الأمم المتحدة، وتجاوز العقبة الروسية، فتسارع القوى الإقليمية والدولية الرافضة للنظام السوري بالتوافق لتوسيع مروحة خياراتها. ويتضمن هذا السيناريو، إضافة للدعم السياسي والإغاثي الغربي والعربي وتركيا، تدخل تحالف دولي لحماية المدنيين بفرض منطقة حظر جوي وملاذات آمنة، وتوجيه ضربات للقوى الجوية وللمدرعات والمدفعية التي تقتحم المدن والبلدات.
3- دعم غربي وعربي سياسي ومادي مع تحول في الموقف الروسي
يفلت الوضع من سيطرة نظام الأسد، فيسارع الروس إلى المساومة على تغييره للحفاظ على بعض مصالحهم، فيستعملون ورقة التخلي عن حق النقض للعودة كطرف مؤثر في ترتيبات مرحلة تغيير النظام السوري. هذا التحول سيُفقد النظام أحد أهم أسباب الرهان عليه داخليًّا، فتشعر القوى المستفيدة منه بأنه يضعف مع مرور الوقت، وأن من مصلحتها الابتعاد عنه تحضيرًا لترتيبات المرحلة التالية لتغييره أو سقوطه. وهو ما سيؤدي لتزايد الانشقاق في هيئات الدولة، علاوة على أن تدهور الوضع الاقتصادي سيُفقد النظام الفئة الاجتماعية المنتفعة من سياسته الاقتصادية.
وبالموازنة بين مختلف السيناريوهات، يبدو من الصعب التوصل إلى حل داخلي أو عربي أو أممي في الوقت القريب، والأرجح أن يستمر النظام في الحل الأمني، مع بقاء الروس مساندين له لاعتقادهم أنه لا يزال قادرًا على البقاء في السلطة، ولصعوبة حصولهم على مقابل مجزٍ من أميركا في ملفات حيوية مثل الدرع الصاروخية. وفي المقابل، يتفق قسم كبير من القوى الإقليمية والدولية على مساندة المناهضين للأسد داخليًّا لمنعه من سحق الثورة، وإضعافه، حتى يتفكك تدريجيًّا من الداخل، فتتناقص قدرته على الإمساك بالبلد، وحينها يمكن أن تتبدل مواقف روسيا والصين حتى يخفِّفا من خسائرهما.