المناطق الرئيسية للمواجهات في سوريا (الجزيرة) |
لم يتهيأ النظام السوري لا سياسيا ولا أمنيا لمواجهة ثورة شعبية تسعى للإطاحة به، فالأخطار المتصورة التي تشكلت لمواجهتها الأجهزة الأمنية السورية ، وتمرست في مواجهتها، هي إما جماعات سياسية معارضة، أو مجموعات تسميها إرهابية صغيرة العدد، تقوم بعمليات متناثرة كاغتيال شخص أو وضع متفجرة في مكان ما. ويقع خارج المتخيل السياسي والأمني لهذه الأجهزة، ولقيادة النظام ذاته، تفجر ثورة شعبية واسعة القاعدة، يشارك فيها مئات الألوف وأكثر في عشرات أو مئات المواقع في البلد. غير أن "الحذر يؤتى من مكمنه" حسب قول المثل العربي، والثورة الشعبية هي بالضبط ما وقع في سورية بدءا من منتصف مارس/ آذار من العام الماضي 2011.
العنف والكراهية: مزيج متفجر
حيال وضع لم يكن ضمن مخططاته الذهنية، زج النظام وحدات الجيش السوري في المواجهة، وأقحم ميلشيات مدنية وهي "الشبيحة"، وأعطاها جميعا أوامر تنص على وجوب إنهاء الأنشطة الاحتجاجية السلمية "بأي طريقة"، حسب تقرير صادر عن منظمة هيومان رايتسووتش في الشهر الأخير من 2011، منسوب إلى مسؤول سوري كبير، يُعتقد أنه بشار الأسد شخصيا.
وبالفعل، وُوجه الجمهور الثائر بعنف شديد القسوة، اقترن أيضا بكراهية وعداوة شديدتين لعموم المشاركين في الاحتجاجات عبرتها عنها التصريحات الرسمية والتغطية الإعلامية الحكومية. لكن نهج القضاء على الاحتجاجات "بأي طريقة" قاد إلى شيئين: أولهما انشقاقات متتالية في الجيش، بأعداد صغيرة في كل مرة، لكن عددها الإجمالي خلال حوالي 14 شهرا، كبير. والثاني تجذر الاعتراض على النظام شعبيا وتصلبه نفسيا، وانضمام مدنيين في العديد من مناطق البلد إلى العسكريين المنشقين ومشاركتهم في رفع السلاح في وجه قوات النظام.
أثار مزيج العنف والكراهية الذي اعتمد عليه النظام في مواجهة المحتجين شعورا شديدا بالغضب والنقمة عند المشاركين في الثورة، وعند قطاع واسع من الجمهور غير المشارك أصلا. وشكلت هذه الروح الناقمة والساخطة الأرضية النفسية للاستمرار في الثورة. وقد سجلت هتافات الثائرين ولافتاتهم وأهازيجهم مدى القطيعة النفسية التي صارت تفصلهم عن النظام، ومن تلك الهتافات واللافتات ما يتضمن تحقيرا شديدا للرئيس بشار الأسد، وكذلك لروح أبيه، حافظ، في هتاف متعدد النغمات (منه تسجيلات على إيقاعات غربية)، ووصف النظام بأنه محتل وبأن قواته الأمنية والعسكرية هي قوات احتلال أو عصابات.
ويبدو أن استمرار الاحتجاجات الشعبية طوال أكثر من عام، مع تحول أشكالها والمناطق الطليعية فيها، ودون أدنى مؤشر على احتمال توقفها أو تراجعها في أي مستقبل قريب، يعود أساسا إلى ما تحقق للسوريين من تحرر نفسي وسياسي من نظام الأسد، الابن والأب. ولعله يجد رافدا إضافيا من إدراك مشترك بأن استتباب الأمور للنظام، وهو على ما يعلمون من القسوة والثأر في سلوكه الحالي أو في بطشه السابق بالسوريين خلال الثمانينيات، سيؤدي إلى 30 عاما أخرى من الاذلال والفساد والخراب العام، المادي والمعنوي والسياسي. هذا سبب قوي لما يمكن وصفه بسيكولوجية حرق المراكب عند أعداد أكبر من السوريين، حيث نجد ترجمة هذه الحقيقة في أن عددا ممن يتكلمون إلى القنوات الفضائية اليوم من داخل البلد لا يخفون أسماءهم ووجوههم. صحيح أنهم حذرون في تحركاتهم، لكنهم لم يعودوا يموهون هوياتهم، خلافا لما كانت الحال في أشهر الثورة الأولى.
من عوامل تواصل التمرد الشعبي العام أيضا اتساع قاعدته الجغرافية والبشرية. بات السوريون والعالم من حولهم على معرفة بأسماء عدد كبير من المدن والبلدات والأحياء والقرى التي كانت منسية ومغمورة من قبل. يشعر سليل درعا بالقرب من الميداني الشامي و"الدوماني" (سليل دوما) والحمصي ساكن باب عمرو والبانياسي، وساكن "كفرنبل المحتلة"، وطالب الجامعة الحلبي، والديري (ساكن دير الزور)، هذا إن اقتصرنا على أسماء قليلة فقط. وتُحيّي المدن والبلدات بعضها، وخاصة من تتعرض منها في حينه لبطش قوات النظام، فتولد شعور بالتضامن بين المناطق الثائرة زاد من عزلة النظام داخليا.
هذه العوامل، القطيعة النفسية والسياسية، ومزاج حرق المراكب، واتساع القاعدة البشرية والجغرافية للثورة، هي المنابع الأساسية لاستمرارها. وسيسهم عجز النظام عن تطوير أي مقاربة غير متمحورة حول القمع في تثبيت فاعلية تلك العوامل.
ويميل هذا التقدير أيضا إلى أن تنوع تعابير الثورة السورية، ومنها المقاومة المسلحة، و شبكات الإغاثة التي ساعدت بقدر ما في تخفيف معاناة نحو مليون من اللاجئين الداخليين، ساهمت في تحمل الثورة لضربات النظام، وأمدت المقاومة بالطاقة والقدرة على الاستمرار.
التمدد الزائد والمال المتناقص
لقد توزعت قوى النظام في جميع أرجاء البلد، ويحتمل أن تظهر عليها علامات فرط تمدد استراتيجي في أي وقت، أي تجاوز أكلافها الأهداف المسطرة فيعجز النظام عن توفير الموارد الضرورية. وحتى إذا كان النظام لا يزال يلقى الدعم المادي القوي من إيران، وربما من حكومة المالكي العراقية، فمن غير المتصور أن يستطيع هؤلاء الاستمرار في تعويض نزيفه لوقت طويل. علما أن الكلفة الشهرية لعمليات النظام تقدر بنحو مليار دولار أميركي، وأن الرصيد الأجنبي الباقي في خزائنه يقدر اليوم ما بين 5 و10 مليار دولار أميركي (كان 20 مليار دولار قبل الثورة)، حسب ما ورد في مقال بواشنطن بوست. ويرجح محللون أن إطلاق النظام يد "الشبيحة" وقوى الأمن في ممتلكات السوريين، إلى حد نشوء سوق للمنهوبات في بعض أحياء حمص الموالية، مؤشر على تراجع قدرة النظام على تمويل حربه.
تتعارض هذه الصورة المعبرة عن استمرار زخم الثورة السورية مع نبرة الاستغاثة التي تحملها أصوات ناطقين محليين باسم الثورة في مواقع متعددة من البلد، ومع مقاربة ناطقين سياسيين باسم الثورة خارج البلد، وهي تصريحات تراهن على منطق الاستغاثة لحشد دعم دولي ضد النظام، لكنها قد تعطي انطباعا خاطئا على قدرة الثورة على الاستمرار بخلاف ما تفيد به نظرة عامة إلى الثورة السورية في البلد ككل وعلى مدى أكثر من 400 يوم، بأن الثورة ماضية في سبيلها بعزم متجدد، وأنها لا تكف عن تنويع وسائل المقاومة والجمع بينها. لذلك لا يصح الحكم على الثورة من مواقع جزئية داخل البلد، أو من مواقع إيديولوجية داخله أو خارجه. لا ريب أن كلفة الاستمرار البشرية والمادية باهظة، ولا ريب أن ما تتسبب به من آلام هائلة هو ما يعطي الانطباع بأن الثورة تتعرض للخنق، وما يبث الجزع في نبرات المتكلمين. لكن الثورة التي تحاصر هنا أو هناك، تنبثق في مناطق أخرى كثيرة، وتنبعث في المناطق المعرضة للخنق ذاتها ما إن تخف عنها قبضة النظام. لقد حصل هذا الانبعاث مرارا وتكرارا.
الأكيد أن النظام لم يستطع تغطية كل البؤر في الآن نفسه, لذلك يبدو الإكثار منها عنصرا مهما في استراتيجية الثورة السورية. ويبدو أنها تكثر فعلا.
وفي هذا المسار المجمل ليس هناك تأثير مهم لعوامل عارضة مثل دخول المراقبين العرب في نهاية العام الماضي 2011، أو مراقبين دوليين في منتصف شهر أبريل/نيسان 2012. يمكن لذلك أن يؤدي إلى انخفاض وقتي في عدد الضحايا، ويمكن أن يشكل حماية نسبية ومؤقتة بدورها لبعض المناطق، لكن في الحالين كان عدد المراقبين وأدواتهم وتفويضهم أقل بكثير من أن يصنع فرقا مهما. هذا لا يقلل من فائدة وجود نوع من رقابة عربية أو دولية، خلافا للميل العام المتذمر من قبل ناطقين محليين باسم الثورة، أو بعض الناطقين السياسيين. من المهم وجود طرف ثالث، إن لم يسهم وجوده في الحد من عدوانية النظام وتوفير بعض الدماء، فإنه يوفر شهادة على النظام، وعلى ثورة السوريين.
بخلاف قوى كثيرة في الثورة ة والمعارضة، فإن النظام وحده من ينطلق في تعامله مع الأزمة التي يواجهها من نظرة عامة تغطي البلد ككل، ويحتمل أنها تشكلت من خبرة أجهزته المتراكمة خلال عمر الثورة، بعد أن رصدت السلطات موارد وقوى كبيرة تشمل الجيش والمخابرات والإدارة والبعثيين والشبيحة، على نحو ما تسرب من وثائق "خلية إدارة الأزمة".
لكن يحد من اتساع نظرة النظام الضيق الفكري والأخلاقي لمخططيه السياسيين وشدة تطرف سياستهم، لذلك لم ينجحوا في سحق الثورة رغم ما توفر لهم من موارد وقوى متفوقة بصورة حاسمة خلافا لما هو متاح للثائرين.
استراتيجية الاستنزاف
السؤال الآن، وبعد أكثر من عام من كلام متكرر على أن الأزمة "خلصت"، وهي "لم تخلص"، كيف يحتمل أن يتعامل النظام السوري في الفترة القادمة مع هذا التهديد المصيري؟
لا ريب أن عماد خطته سيبقى مواجهة الثورة بالعنف. فنقطة تفوق النظام هي استئثاره بوسائل العنف، أما في غير مجال تفوقه هذا هو خاسر حتما. لذلك لن يفرط بهذا الامتياز الكبير. فرغم التزامه المعلن بخطة عنان، ليس على الأرض إلا ما ينفي هذا الالتزام، وليس في سجله التاريخي ما يفيد بأنه يلتزم بما يتعهد به حيال مواطنيه. على أنه سيبذل كل جهد للإيحاء بأن هناك طرفا آخر غير ملتزم بالخطة، ويركز على ما يسميها "عمليات قذرة"، يلصقها ب"العصابات الإرهابية المسلحة"، التي صار يضيف إليها مؤخرا صفة "التكفيرية". على أن هناك العديد من علامات الاستفهام حول عمليات التفجير التي جرت في الشهور الأخيرة، أيام الجمع غالبا. فإن لم تجن السلطات من هذه العمليات تصديق بعض السكان لروايتها، فإنها تثير الخوف العام من فقدان الأمن الشامل، ما قد يكون من شأنه دفع قطاعات من السكان إلى لوم الثورة على ذلك، والحنين إلى أيام "الأمن والأمان" الخوالي.
سيمضي النظام أيضا في ما يسميه "عملية الإصلاح الشامل"، ومضمونها الحقيقي إجراءات شكلية لا تطال بحال "النظام"، أي المركب السياسي الأمني، أي بعبارة واضحة: عائلة الأسد وأجهزة المخابرات والوحدات العسكرية النخبوية التي تحمي في المقام الأول النظام من الشعب وهي (الحرس الجمهوري، الفرقة الرابعة). ومن بين هذه الاستحقاقات انتخابات مجلس الشعب في السابع من مايو/أيار 2012. وكان سبقها وضع دستور جديد والاستفتاء عليه في الأيام الأخيرة من شهر فبراير/شباط 2012. والغرض المجمل منها الإيحاء بأن الاصلاحات السياسية جارية وأن من يصر على الثورة له أهداف أخرى غير معلنة تستهدف دور سوريا المقاوم. لكن الفاعلية الداخلية لهذه الدينامية محدودة جدا، وإن فضل الروس وحلفاء النظام الترويج بأنها عملية سياسية حقيقية.
سيعمل أيضا على الاستفادة من انقسامات المعارضة وعلى تغذيتها من وراء الستار. وهذا عنصر متزايد الأهمية في سياسته، مستفيدا من مبادرة عنان التي تنص على إطلاق عملية سياسية تجمع النظام والمعارضة، وكذلك من اهتمام الجامعة العربية اللافت بتوحيد المعارضة السورية.
لكن مزيج العنف المنفلت والتخويف و"الإصلاح" لم يثمر خلال أكثر من عام، وليس هناك أي مبرر للاعتقاد بأنه سيثمر في المستقبل. أما اللعب بتناقضات المعارضة فيحتمل أن يكون مثمرا أكثر ، بفعل خلافاتها المعقدة وعدم قدرتها على تطوير رؤية عامة للوضع السوري اليوم ولسورية الجديدة. لكن مشكلات المعارضة كانت دوما محدودة الانعكاس على سير حركة الاحتجاج الداخلي.
في خلفية سياسة النظام الظاهرة هناك سياسة ضمنية، إن جاز التعبير، تجمع بين إثارة انقسامات المجتمع السوري وتأليب السوريين مختلفي الجذور الأهلية ضد بعضهم، وبين تحويل الأزمة السورية إلى مسألة داخلية مزمنة، ومنبع نزاع إقليمي معقد ومتعدد الجبهات ويتعذر تقدير مضاعفاته وتحمّل أكلافه على أي كان. الهدف من الوجه المحلي للسياسة الضمنية هو تضييق معسكر الخصوم كي يسهل التغلب عليهم، أما الهدف من وجهها الإقليمي فهو توسيع معسكر المتضررين المحتملين كي يتردد الجميع في مواجهته، لكنهما معا موجهان نحو الفوز بالمعركة الكبرى، معركة من يحكم دمشق، وكيف تُحكم.
استراتيجية النفس الطويل
المرجح في أفق الحاضر هو دوام الأوضاع الراهنة. النظام لا يستطيع، ولن يستطيع، وقف تمرد شعبي قوي الزخم وعميق المنابع، والتمرد الشعبي لا يستطيع حاليا إسقاطه. لكن بينما يبدو النظام قريبا من استنفاد أوراقه في المواجهة، فإن من شأن اعتماد الثائرين استراتيجية نفس طويل، وتنسيق العلاقات بين مكونات الثورة، وقدر أكبر من المرونة في تحرك المكون العسكري، وتأمين العون المادي للأوساط الأكثر تضررا، أن يكون عونا حاسما في تأجج الاعتراض الشعبي إلى حين يتداعى النظام من الداخل، وربما بمساعدة أوضاع إقليمية ودولية مواتية أكثر.