إيران في سوريا: تنسحب أم تعيد بناء استراتيجيتها؟

لا يبدو أن قائد فيلق القدس الجديد، إسماعيل قاآني، ولا نائبه صاحب التأثير الكبير في الساحتين، السورية واللبنانية، محمد حجازي، عازمان على وضع خطة للانسحاب من سوريا، بالشكل الذي تتحدث عنه إسرائيل. تناقش هذه الورقة التقارير التي تتحدث عن انسحاب إيراني من سوريا، والخيارات التي تملكها طهران.
12 مايو 2020
الأسد خلال زيارة إلى طهران (رويترز نقلا عن سانا)
الأسد خلال زيارة إلى طهران (رويترز نقلا عن سانا)

تقول إسرائيل إنها أحرزت تقدمًا على صعيد تحقيق هدفها المتمثل بإخراج إيران من سوريا في 2020، وعلى الجانب المقابل لا تنكر إيران حساسية الأوضاع على الساحة السورية، لكن لا أحد في طهران يتحدث عن خروج من سوريا، بل على العكس. ولا يبدو أن قائد فيلق القدس الجديد، إسماعيل قاآني، ولا نائبه صاحب التأثير الكبير في الساحتين، السورية واللبنانية، محمد حجازي، عازمان على وضع خطة للانسحاب من سوريا، ويبدو أنهما على وشك الكشف عن استراتيجية جديدة لفيلق القدس في الإقليم، تشير إلى تحول في الآليات تناسب مرحلة ما بعد اغتيال قاسم سليماني. تناقش هذه الورقة التقارير التي تتحدث عن انسحاب إيراني من سوريا، والخيارات التي تملكها طهران. ونرفق في هذه الورقة أيضًا:

•    إسماعيل قاآني: العقل المدبِّر في فيلق القدس
•    محمد حجازي، نائب قائد فيلق القدس: 40 عامًا من الخبرة داخل الحرس
•    ما وراء عودة الإمارات إلى الساحة السورية.. قراءة إيرانية (ملخص)

سوريا: عود على بدء: العامل الخارجي

رغم إقرار كثير من الدراسات الإيرانية بتأثير ووجاهة العامل الداخلي كمحرك أساسي للاحتجاجات إلا أن سياستها تجاه سوريا جاءت مرسومة بفعل قراءة متوجسة لتأثيرات العامل الخارجي وما يمكن لهذا العامل أن يُحدث من تغيير في مجريات الساحة السورية، بصورة تقود إلى المساس بالمثلث الاستراتيجي الذي يربط إيران بحزب الله ما يؤثر سلبًا على نفوذها الإقليمي.
يتحدث شریفیان وفريقه(1) في دراسة حول توجهات إيران وتركيا تجاه الأزمة السورية عن وجود عوامل داخلية كانت مسؤولة عن الاحتجاجات التي اندلعت في سوريا، من أبرزها ليس فقط فشل بشار الأسد في الوفاء بوعوده الكثيرة التي أطلقها عندما وصل إلى السلطة، بل واتساع الفجوة الطبقية، وانتشار البطالة. ومع تأكيد الدراسة على العوامل الداخلية إلا أن شريفيان يتحدث عن مجموعة من "العوامل الخارجية"(2) كان لها دور مهم في تعميق الأزمة في سوريا. وفي تفصيله لهذه العوامل، يرى أن سوريا كان لها سياسة خارجية مستقلة وقدَّمت على الدوام الدعم لـ"محور المقاومة"، وكان إضعاف سوريا هدفًا أميركيًّا لحماية إسرائيل. ومع اندلاع الاحتجاجات، سارعت أنظمة عربية حليفة لواشنطن إلى "تأجيج هذه الاحتجاجات"، وواكب هذه السياسات "دعم إعلامي من شبكات إعلامية دولية قامت بتضخيم حالة الاحتجاج في سوريا(3). لکنه -وفي موضع لاحق من الدراسة- يعود ليؤكد أن تحليل حالة عدد من التجارب والدول يفيد بأنه في حال نجحت الدولة في حل ومعالجة المشكلات الداخلية، فإن دور التدخل الخارجي على صعيد تشكيل الخلافات الداخلية لا يقوم بدور مؤثر بصورة كبيرة(4).

تصلح النظرية الواقعية لتفسير وتحليل السلوك السياسي في السياسة الخارجية لدولة ما وردود أفعالها تجاه التغييرات والتحولات التي تحدث في محيطها الإقليمي والدولي، خاصة أن هذه النظرية تعطي أهمية كبيرة لحفظ المنافع القومية للدولة في علاقاتها مع غيرها من الدول. وبناء عليه، فإن السياسة الإيرانية تجاه الثورة السورية يمكن تفسيرها من خلال النظرية الواقعية، وكذلك النظرية الواقعية الجديدة(5)؛ فحفظ النظام السوري وحمايته يصب في خانة حفظ النظام في إيران فضلًا عن حفظ المصالح الوطنية والإقليمية لها، وعزَّز من هذا التوجه دخول لاعبين كثر بمصالح متضاربة إلى الساحة السورية، وصاحب ذلك حالة من غياب الثقة المتبادل، وهو ما أوجد لعبة جيوسياسية تقوم على قاعدة أن فوز أحد أطرافها يعني خسارة الطرف الآخر. شعرت إيران بأن تحولات الساحة السورية تعني تغيير نسق العلاقات القائم في المنطقة، وأن مصالحها تقتضي تأمين بقاء نظام الأسد، لتأمين أمنها. وإضافة إلى أمنها الوطني فالجمهورية الإسلامية فيما يتعلق بسوريا لديها مصالح إقليمية ودولية(6). وفي إطار نظرية "توازن المصالح" لراندل شويللر(7)، (Randall Schweller) قد تعرِّف الدول وتتابع أهداف سياستها الخارجية في ضوء الخوف (الأمن) والطمع(8) والمزج بينهما(9)؛ حيث تقوم الدول، ومنها إيران، بصياغة سياساتها الخارجية وتنفيذها على أساس مزيج من السلطة والمصالح، لذلك، فإن طهران، قد تسعى في إعادة تشكيل سياستها الخارجية، إلى الحفاظ على وضع النظام القائم في سوريا، بهدف تحقيق الحد الأقصى من الأمن، أو بهدف تعظيم القدرة، ونتيجة لذلك، فإن الجمهورية الإسلامية قد تدخل تحالفات ليس فقط من أجل خلق حالة من التوازن في فقدان القوة وتحمل الخسائر، ولكن أيضًا لتحقيق الربح وتعظيم المنافع(10). وبالنظر إلى طروحات الواقعية البنيوية، فهاجس الأمن ملازم للدول، والتهديد وليس القوة هو ما يجعل الدول تتحد (توازن القوى وتوازن التهديد)، ويستخدم ستيفن والت (Stephen Walt) مفهوم التوازن في التهديد باعتباره عنصرًا مُهمًّا لتفسير العلاقات الدولية ويعتقد أن التهديد وليس القوة هو ما يشكِّل ثقل القلق الأمني للدول في النظام الدولي. فالدول تسعى لزيادة قدراتها العسكرية لتحقيق التوازن، ليس في القوة، وإنما في التهديد(11). وفيما يتعلق بالحالة السورية فإنه يمكن اللجوء إلى نظرية توازن التهديد لتفسير حالة التحالف الاستراتيجي بين إيران والنظام السوري وكذلك القراءة الإيرانية لتأثير مجريات الساحة السورية على محورها الاستراتيجي المتمثل بسوريا وحزب الله.

ولا يمكن في حالة إيران وسوريا إسقاط الأيديولوجيا كمتغير بوصفه دافعًا للتحالف، وإن كان هذا المتغير -وكما يقول والت- مهمًّا ولكنه محدود وهو أقل أهمية بالمقارنة مع متغيري القوة والتهديد، إلا أن كثيرًا من التقارب الأيديولوجي يمكن تفسيره كشكل من أشكال فعل موازنة القوة(12)

عقد من الوجود الإيراني

مضى عقد على التدخل الإيراني في سوريا، ولا يوجد من المعلومات والمعطيات ما يمكِّن من معرفة عدد القوات الإيرانية في سوريا وأماكن انتشارها بصورة دقيقة. كانت الخطوة الرسمية الأكثر أهمية لإيران في هذا الاتجاه هي الإعلان عن وجود مؤسسة تسمى "مركز مستشاري إيران في سوريا"، وهي مؤسسة شبه رسمية، وتعلن عن أنشطتها من خلال بيانات رسمية، توجه رسائل واضحة بخصوص الساحة السورية. تقول إيران إنها ذهبت إلى سوريا بطلب من النظام السوري لكن ذلك لم يأت من خلال اتفاقية موقَّعة مع حكومة الأسد، واتخذ في البداية طبيعة سرية، ومع تصاعد المواجهة في سوريا عقب تسليح المعارضة ونشوب حرب أهلية، استندت الدعاية الإيرانية في البداية على الحديث عن تقديم المساعدة "الاستشارية" ونقل الخبرات إلى الجانب السوري. ومنذ مطلع العام 2013، بدأ الوجود الإيراني في سوريا يتعاظم ويعلن عن نفسه من خلال ميليشيات متعددة، وقوات ضمن ما يسمى بـ"مدافعي الحرم" وهي قوات تضم متطوعين هدفها حماية المراقد المقدسة لدى الشيعة مثل "حرم السيدة زينب" وغيرها، وسعت إيران من خلال ذلك إلى بناء مشروعية مذهبية للتدخل، وتبرير ذلك أمام فئة من مواطنيها. ثم اتخذ الحضور الإيراني بُعدًا آخر مع دخول روسيا إلى ساحة المواجهة في سوريا عام 2015، وأصبحت إيران إلى جانب روسيا وتركيا من أبرز المؤثرين في الملف السوري.

ورغم الضربات التي تلقتها إيران في سوريا، ومقتل عدد من نخبة الحرس الثوري هناك ومن أبرزهم العميد حسين همداني، إلا أن هذا لا يعني أن الحكومة الإيرانية لم تستفد من التدخل العسكري في سوريا، من أجل تحسين مكانتها الدولية في المنطقة، فمن خلال الوجود في سوريا وساحات أخرى مثل لبنان واليمن والعراق، عزَّزت إيران من أوراق المساومة السياسية التي تمتلكها في الشرق الأوسط.

جنازة القائد البارز في الحرس الثوري حسين همداني الذي قتل في سوريا (الأوروبية)
جنازة القائد البارز في الحرس الثوري حسين همداني الذي قتل في سوريا (الأوروبية)

 شكْل الحضور الإيراني برواية حسين سلامي

سبق للعميد حسين سلامي يوم أن كان نائبًا لقائد الحرس الثوري أن تحدَّث عن الوجود الإيراني في سوريا، وبالعودة إلى هذا الحديث نجده قد قسَّم هذا الوجود من الناحية العملياتية أو التشغيلية إلى أربعة مستويات، هي(13):

  • مجال الاستشارات الاستراتيجية، والقضايا السياسية والمعنوية، وتقوية الحكومة والنظام والشعب السوري. 
  • نقل خبرات فترة الحرب العراقية-الإيرانية إلى كبار قادة الجيش السوري.
  • تجديد وإعادة بناء هيكلية الجيش السوري. 
  • تنظيم وتدريب وتجنيد أفراد جدد في الجيش السوري.

ويقوم مستوى الاستشارات العملياتية الإيرانية في سوريا على مساعدة قادة المستويات العملياتية، بما في ذلك قادة الفرق والألوية في الجيش السوري، وإدارة وتنسيق العمليات ضد المجموعات المسلحة. وفيما يتعلق بالأمور التكتيكية والفنية والإغاثية نجد أنها تشمل تدريب قادة الكتائب، والاستعداد، والتعمير، والإنقاذ، ويقول سلامي إنها كلها تتم بناءً على طلب رسمي من الحكومة السورية.

اللواء حسين سلامي قائد الحرس الثوري (رويترز)
اللواء حسين سلامي قائد الحرس الثوري (رويترز)

ونجد حديثًا صريحًا عن البعد الأهم في خلق الوجود الإيراني في سوريا بقوله: "رؤيتنا لسوريا تتجاوز البعد الاعتقادي وهي ذات قيمة استراتيجية كبيرة لنا لأن أجزاء من أمننا القومي والإقليمي مرتبطة بها". ويُرجع سبب زيادة عدد القتلى الإيرانيين في سوريا إلى توسيع المستوى الكمي والنوعي لوجود إيران في ساحات المواجهة هناك(14).

2018: تكثيف الهجمات الإسرائيلية ضد إيران

منذ العام 2018، كثفت إسرائيل هجماتها على مواقع في سوريا مستهدفة الوجود الإيراني، وقد قُتل العديد من الإيرانيين في هذه الهجمات، يقول مسؤولون إسرائيليون: إن إيران أصبحت الآن عبئًا إضافيًّا على سوريا. 

وترصد دراسة أميركية قامت على مقابلات ميدانية مع قادة عسكريين إسرائيليين العمليات الإسرائيلية ضد إيران في سوريا، وتقول الدراسة التي أعدها أربعة باحثين في "مركز الدراسات الأمنية للأميركيين الجدد" أن "حملة بين الحروب" الإسرائيلية (الاسم العبري المختصر: مابام) ضد إيران والجماعات المدعومة من إيران في سوريا تعد واحدة من أنجح الجهود العسكرية للرد على إيران في "المنطقة الرمادية"(15). ويشير كتَّاب التقرير إلى أنه منذ بداية الحرب الأهلية السورية في عام 2011، وخاصة منذ أوائل عام 2017، شنَّت إسرائيل أكثر من 200 غارة جوية داخل سوريا ضد أكثر من 1000 هدف مرتبط بإيران وقوات الحرس الثوري الإسلامي التابع لها فيلق القدس، وضد الجماعات المدعومة من الحرس الثوري الإيراني مثل حزب الله اللبناني. وقد أدت هذه الحملة وفق الدراسة السابقة إلى إبطاء الحشد العسكري الإيراني في سوريا مع تجنب نشوب مواجهة إقليمية واسعة كان يمكن أن تضر بمصالح إسرائيل(16). وفي 2018 وحدها، ألقت إسرائيل 2000 قنبلة ضمن عملياتها التي شنَّتها ضد أهداف إيرانية في سوريا(17).

إسرائيل استهدفت أكثر من 1000 هدف إيراني في سوريا (أرشيف)
إسرائيل استهدفت أكثر من 1000 هدف إيراني في سوريا (أرشيف)

ويبدو أن هناك قراءات متباينة لمدى قدرة إسرائيل على إخراج إيران من سوريا؛ ففي حين أن الإسرائيليين تسببوا بشكل واضح في إلحاق ضرر كبير بقدرات إيران في سوريا، فإنه ليس من الواضح كيف سيكون لذلك مغزى استراتيجي في نهاية المطاف؛ إذ يتحدث المسؤولون الإسرائيليون بإصرار عن أن هدفهم الاستراتيجي طويل المدى هو إزالة الوجود العسكري الإيراني من سوريا بل إن بعضهم وضع سقفًا زمنيًّا قريبًا حدده في 2020، وهو هدف غير واقعي بالنظر إلى مدى ترسخ وجود إيران في سوريا، وهناك تقييمات مختلفة داخل المؤسسة الحربية والسياسية الإسرائيلية لمستوى النجاح الذي حققته إسرائيل في الضغط على الوجود والتأثير الإيراني في سوريا؛ حيث يعتقد البعض في الحكومة أن العملية قد نجحت في جعل نفوذ إيران في سوريا يتراجع، أو على الأقل تعطيل قدرتها على ضرب إسرائيل ويصفه البعض الآخر بأنه ليس سوى انتصار قصير المدى، حيث تواصل إيران ترسيخ نفسها في سوريا والعراق ولبنان واليمن، وستواصل بهدوء وبصرامة الحفاظ على وجودها وزيادته وتعزيزه(18).

وتحدث وزير الدفاع الإسرائيلي، نفتالي بينت، عن التموضع الإيراني في سوريا بقوله: "نحن أكثر تصميمًا، وسأقول لكم لماذا، بالنسبة لإيران سوريا هي مغامرة على مسافة 1000 كلم من حدودها، وبالنسبة لنا هذه حياتنا. لن نتنازل ولن نسمح بإقامة قاعدة إيرانية أمامية في سوريا"، وجاءت هذه التصريحات متزامنة مع ما نقله موقع "يديعوت أحرونوت" عن مسؤولين أمنيين إسرائيليين بأن إيران "بدأت لأول مرة منذ دخولها إلى سوريا تقليص عدد قواتها هناك وإخلاء قواعد تابعة لها"(19). وبحسب موقع "يديعوت أحرونوت"، قال مسؤولون أمنيون، في إيجاز صحافي، لمراسلين عسكريين في الصحف الإسرائيلية: إن "سوريا تدفع ثمنًا متزايدًا بسبب الوجود الإيراني على أراضيها، وعن حرب ليست لها. لقد تحولت إيران من "ذخر" للنظام إلى عبء عليه". 

وزير الدفاع الإسرائيلي نفتالي بينيت يتوعد الإيرانيين بإخراج إيران من سوريا (رويترز)
وزير الدفاع الإسرائيلي نفتالي بينيت يتوعد الإيرانيين بإخراج إيران من سوريا (رويترز)

لكن مزاعم المسؤولين الإسرائيليين عن النجاح في إرغام إيران على تقليص حضورها في سوريا قوبل بتشكيك من المعلقين وباتهامات لوزير الأمن، نفتالي بينت، بمحاولة تسجيل انتصارات وهمية لاعتبارات شخصية وانتهازية وفق مقربين من نتنياهو. وأيًّا يكن من شأن تصريحات بينت فإن تحويل إيران إلى عبء إضافي هو في الواقع هدف تسعى إليه إسرائيل مثلما تسعى إلى تعظيم كلفة الوجود الإيراني في سوريا من خلال هجمات تستهدف نخبة وقيادات من الحرس الثوري وحزب الله. 
ويمكن الحديث عن مجموعة من الأسباب التي دفعت إسرائيل إلى تكثيف استهدافها للوجود الإيراني في سوريا من خلال الغارات الجوية. ومن أبرز هذه الأسباب استمرار الأزمة في سوريا، وإطالة الأزمة يعني إدامة وجود إيران في الجوار الجغرافي لإسرائيل. وكذلك التغيير الذي طال الخطاب الإيراني من مساعدة استشارية لنظام يواجه ثورة شعبية إلى "مواجهة مشروعة" ضد مجموعات تكفيرية وفي مقدمتها تنظيم الدولة "داعش". وكانت النماذج العنيفة والمتوحشة التي قدمتها هذه التنظيمات والفشل الذي منيت به الثورة السورية، وعجزها عن تقديم خطاب مضاد سببًا في تعزيز حضور الخطاب الإيراني لدى الرأي العام في المنطقة.

ومع تعاظم حضور شخصية قائد فيلق القدس السابق، قاسم سليماني، في المنطقة، وحتى بعد اغتياله، بدا أن الإيرانيين لم يعودوا متحفظين أو متوجسين من الحديث عن التدخل العسكري خارج إيران، بل على العكس بات هذا الحضور يُصوَّر كمحور في الخطاب المعادي للغرب في الشرق الأوسط، والذي أعلن عن هدفه بإخراج القوات الأميركية من المنطقة. ولا تقف واشنطن متفرجة على صعيد السعي لإخراج إيران من سوريا، ولعل الدعم الذي تقدمه لإسرائيل يتمثل في "الضغط الأقصى" التي تسعى من خلاله واشنطن إلى إفلاس إيران، لجعلها عاجزة عن تمويل أهدافها وتقديم الغطاء المالي لحلفائها في الإقليم. ويفاقم من كلفة الوجود الإيراني في سوريا تعاظم الخلافات مع تركيا بشأن الحل المقترح في سوريا، ويبدو أن تركيا وإيران لا تسيران في نفس الخط على هذا الصعيد. إن نهاية الحرب الأهلية السورية أو سيطرة النظام السوري الكاملة على الأراضي السورية هي من بين السيناريوهات التي لديها إمكانات كافية لتشكيل مخرج مقبول ينظم خروجًا متدرجًا لإيران من سوريا، لكن عقدة إدلب ودور تركيا على هذا الصعيد يقول بأن الوقت مبكر جدًّا على الحديث عن نهاية للأزمة في سوريا.

قائد فيلق القدس اسماعيل قاآني يتلو وصية الجنرال قاسم سليماني(رويترز نقلا عن وانا)
قائد فيلق القدس اسماعيل قاآني يتلو وصية الجنرال قاسم سليماني(رويترز نقلا عن وانا)

خيارات إيران

  • معادلة خاسر-خاسر: تقوم هذه المعادلة على طرح يقول بأنه حتى لو لم تنجح تل أبيب بشكل كامل في إخراج إيران من سوريا، فإن طهران ستبقى في وضع حرج هناك، ولذلك فهي تخسر إن انسحبت من سوريا، وستخسر إن بقيت مع استمرار الإسرائيليين في استهداف القوات الإيرانية من وقت لآخر. ومعادلة  "خاسر- خاسر"، التي باتت مفروضة على إيران، ستستمر إلا إذا استطاعت إيران أن تحد من مستوى التهديد الإسرائيلي لوجودها في سوريا.
     
  • الانسحاب من سوريا (الخيار المستبعد): لا يوجد في الدوائر العسكرية والأمنية ولا حتى السياسية في إيران من يتحدث عن الانسحاب من سوريا في المدى المنظور، ويأتي ذلك من قناعة ما يمكن أن يلحقه ذلك من ضرر بطهران من أوجه عدة:

 ما سيرافقه من تراجع إن لم يكن انهيار نفوذها وقوتها الناعمة بصفتها رأس "محور المقاومة". 

 لن يقف ذلك عند الصورة التي تقدمها إيران لنفسها أمام خصومها، بل سيطول ذلك حلفاءها الذين سيجدون أن حليفتهم التي راهنوا عليها قد تخلت عنهم، وتحسب إيران لذلك حسابًا كبيرًا؛ إذ إن التخلي عن حلفائها في الساحتين، السورية والعراقية، يعني انكماش إيران إقليميًّا وعجزها مستقبلًا عن بناء أية تحالفات. 

 يعني ذلك انهيار النفوذ الإقليمي لإيران وفي المحصلة سلبها أهم أوراق قوتها في أية عملية تفاوضية.

 سيرتب ذلك أزمة داخلية إيرانية؛ إذ إن حماية الأمن القومي كانت مبررًا جرى إعلانه للتدخل الإيراني في سوريا والإقليم عامة، ولذلك فالانسحاب يعني جعل الأمن القومي في معرض الخطر مجددًا، أو الوصول إلى نتيجة مفادها أن ذلك كان ذريعة غير واقعية جرى تقديمها للمواطن الإيراني للتغطية على أهداف أخرى، وهو ما سيجاهد الممسكون بزمام نفوذ إيران الإقليمي لتحاشيه. 
 خسارة المعركة الدعائية مع إسرائيل: الانسحاب يعني أن إيران ستخرج صفر اليدين من سوريا، مجبرة تحت وطأة الضربات الإسرائيلية، ودون أن ترد وهو ما يضر بصورة إيران الجسور والقادرة. 

  • سقوط بشار الأسد: لا يُعد هذا خيارًا جيدًا بالنسبة لإيران، خاصة أن التقارير الإيرانية تتحدث عن سعي إقليمي ودولي، لتوظيف نخبة عسكرية سورية لديها موقف مناهض لإيران للإطاحة ببشار الأسد. وإذا حدث ذلك فإن إيران ستكون في مواجهة مأزق متعدد الأوجه، سيكون حزب الله في لبنان من أبرز ضحاياه. وكان هادي معصومي قد نشر عددًا من التقارير المهمة على هذا الصعيد من أبرزها تقرير مكون من ثمانين صفحة بعنوان "توازن التوازن: بناء نظام سياسي جديد في سوريا" (نرفق ملخصًا له) حول فترة ما بعد الحرب في سوريا مع التركيز على مسألتين: الحاجة لإعادة الإعمار وتغيير نهج بعض الدول العربية من الخليج (وتحديدًا الإمارات العربية المتحدة) من خلال عودتها الرسمية والصريحة إلى دمشق، وإعادة فتح السفارة الإماراتية، وتحسن العلاقات بين الطرفين رسميًّا وعلنًا. وتحدث التقرير الذي لم يُنشر كاملًا بل وُزِّع على عدد من صنَّاع القرار عن مخطط لانقلاب في سوريا ترعاه الإمارات، مع التأكيد على بوابة إعادة الإعمار كمدخل مهم لأبوظبي(20).
     
  • موازنة التهديد الإسرائيلي بالرد: مؤشرات كثيرة تقول بأن إيران لن تستمر في حالة "عدم الرد"، وقد كانت تلك استراتيجية انتهجها قاسم سليماني، وتقوم على تحمل الخسائر مع الاستمرار في تعزيز الوجود على الأرض، وتجنب الدخول في مواجهة واسعة تجعل إيران تخسر ما حققته، ولكن مصادر عدة تحدثت لها الباحثة، أشارت إلى أن قائد فيلق القدس الجديد، إسماعيل قاآني، كان على الدوام صاحب رأي مختلف بهذا الخصوص، وأنه سبق وطرح ضرورة الرد أمام سليماني أكثر من مرة، وبالنظر إلى السيرة الذاتية لقائد فيلق القدس، إسماعيل قاآني، وكذلك السيرة الذاتية لنائبه، محمد حجازي، الذي بات الاسم الأبرز في إدارة الملف السوري، يعطيان نتيجة مفادها أن الاستراتيجية الإيرانية على صعيد إدارة النفوذ الإقليمي لإيران على وشك التغيير، وأن ملامح جديدة تتشكل، وأن إيران ستعمد إلى تقليل العدد في سوريا لكن مع رفع الكفاءة والفعالية للموجودين على الأرض هناك. وفي المحصلة، لن تفرط إيران بالورقة السورية كما هي الحال بالنسبة للورقة العراقية واليمنية.

نبذة عن الكاتب

مراجع

(1) شريفيان جمشيد، كبيري اباصلت، طحان منش عليرضا، "تعامل وتقابل إيران وترکيه در بحران سوريه"(التفاعل والمواجهة الإيرانية التركية في أزمة سوريا)، دورية امنيت پژوهي: صيف 1391، الدورة 11، العدد 38، صص139 – 184، ص

(2) شريفيان وآخرون، مرجع سابق، ص 151-152.

(3) المرجع السابق.

(4) المرجع السابق.

(5) وفق هذه النظرية، فإن البقاء (survival) وكذلك الأمن هي الأهداف الأساسية التي تسعى إليها الدول وتوظف في سبيلها كافة إمكانياتها الداخلية والخارجية.

  انظر: Kenneth N. Waltz ,Realism and International Politics, (New York: Routledge, 2008), p137 
 ووفقًا لما يقترحه والتز، فإن القوة وسيلة وليست هدفًا في حدِّ ذاتها ولذلك فالدول في عملية التحالف تقوم بالمحافظة على التوازن (balancing) مفضِّلة الطرف الضعيف عوضًا عن (bandwagoning) أي الانضمام إلى الطرف القوي، للحيلولة دون سيطرة دولة بعينها. انظر:
T.V. Paul , Soft Balancing in the Age of U.S. Primacy,International Security International Security
Volume 30, Issue 1,Summer 2005, p.46-71

(6) دهقاني فيروز آبادي، سيد جلال الدين، (1390ش)، "واقع گرایی نوکلاسیک و سیاست خارجی جمهوري اسلامی ایران" (الواقعية الكلاسيكية الجديدة والسياسة الخارجية لجمهورية إيران الإسلامية)، دورية "سیاستخارجی"، السنة 25، العدد 2، صيف 1390 ش، ص 248.

(7) يرى "راندل شويللر" ورواد الواقعية الكلاسيكية الجديدة أن الدول الصغيرة والمتوسطة ليست مجبرة على مسايرة الركب على أساس عجزها عن تحقيق توازن قوى مع الدول الكبرى وأن هذه الدول يمكنها تجنب تهديدات الدول الكبرى من خلال تطبيق استراتيجية أخرى، هي استراتيجية "توازن المصالح"، عن طريق توظيف الدول الصغيرة والمتوسطة لما يسميه "شويللر" بالقوة المعنوية، وهي القوة التي يمكن من خلالها إضفاء الشرعية أو نزعها عن سياسات القوى الكبرى في منطقة معينة. انظر:

حسين، بلخيرات، استراتيجيات الدول الصغرى في مواجهة القوى الكبرى، المعهد المصري للدراسات، 30 أبريل/نيسان 2018، (تاريخ الدخول: 7 مايو/أيار 2020):  https://bit.ly/3frIYqm 
 
(8)  Randall L., Schweller, “The Problem of International Order Revisited,” International Security, Vol.26, No.1, Summer 2001, pp.161–185

(9) Randall L. Schweller, Bandwagoning for Profit: Bringing the Revisionist State Back In, International Security, Vol. 19, No. 1 (Summer, 1994), pp. 72-107

(10) دهقاني فيروز آبادي، مرجع سابق، ص 285.

(11)   Walt, Stephan M. (1988), Testing theories of alliance formation: the case of Southwest Asia, International Organaization.Volume 42, Issue 2. Spring 1988, pp. 275-316

(12) Walt, Ibid

(13) سردار سلامی تشریح کرد؛دستاوردهای حضور در سرزمین شام/در ۴سطح در سوریه حضور مستشاری داریم (العميد سلامي يشرح إنجازات الوجود في أرض الشام: لدينا وجود استشاري على 4 مستويات في سوريا)، مهر نيوز، 5 آبان 1395 (تاريخ الدخول: 10 مايو/أيار 2020): https://bit.ly/2SPtnYf 

(14) المرجع السابق.

(15) يقصد بالمنطقة الرمادية الحالة التي تقع بين حالة السلم وحالة الحرب.

(16) Ilan Goldenberg, Nicholas Heras, Kaleigh Thomas and Jennie Matuschak, Countering Iran in the Gray Zone,What the United States Should Learn from Israel’s Operations in Syria, Center for a New American Security, April 14, 2020 (accessed: May 20, 2020): https://bit.ly/35OimeJ

(17)  Michael Herzog, Iran Across the Border: Israel's Pushback in Syria, The Washington Institute, July 2019, (accessed: May 20, 2020): https://bit.ly/3cibJEc

(18) - Countering Iran in the Gray Zone, Ibid.

(19) نضال محمد وتد، "يديعوت أحرونوت": إيران تبدأ بتقليص قواتها في سورية، صحيفة العربي الجديد، 5 مايو/أيار 2020، (تاريخ الدخول: 7 مايو/أيار 2020): https://bit.ly/2SJZubF

(20) هادي معصومي زارع، بازگشت پدرخوانده دلار و کودتا به سوریه (عودة الأب الروحي للدولار والانقلاب إلى سوريا)، مرصاد، اذرماه 1398 ش(تاريخ الدخول: 10 مايو/أيار 2020):  https://bit.ly/3duWNCM