الرئاسيات المصرية: الثورة في مواجهة النظام السابق من جديد

بعد الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية المصرية، سيتواجه في الدور الثاني، محمد مرسي مرشح الإخوان، وأحمد شفيق المحسوب على نظام مبارك، مما أوقع القوى الثورية في معضلة: التصدي لصعود شفيق لكن دون تسليم السلطة بالكامل للإخوان.
201252811653537734_20.jpg
 
من اليسار، محمد مرسي، حمدين صباحي، عبد المنعم أبو الفتوح، وأحمد شفيق (الجزيرة)

انتهت الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة المصرية بعد حملة انتخابية، تراوحت بين العام الكامل لكل من عمرو موسى وعبد المنعم أبو الفتوح، والشهر الواحد لمحمد مرسي. وانتهت بعدد من المفاجآت، ستجعل الحملة الانتخابية القصيرة لجولة الإعادة بالغة القسوة والحدة. كان العدد الكبير للمرشحين الثلاثة عشر، خمسة بينهم اعتبروا  الأكثر  جدية وتنافسية، كفيلاً بتوزيع الأصوات ومنع أي منهم من تجاوز عتبة الخمسين بالمائة. ولكن تشتت الأصوات بلغ مستوى لم يكن متوقعاً، بعد أن أخفق كل من الخمسة الرئيسيين في تجاوز حتى نسبة الثلاثين بالمائة ممن أدلوا بأصواتهم. ولأن الواضح، حتى قبل الإعلان عن النتائج بصفة رسمية، صعود أحمد شفيق، الذي يوصف عادة بمرشح النظام السابق، ومحمد مرسي، المرشح الإخواني، للجولة الثانية والنهائية، فإن البلاد تشهد الآن سباقاً محموماً من أجل جذب الكتل التصويتية المختلفة.

هذه قراءة لنتائج الجولة الأولى، للأسباب التي أدت لتوزيع الأصوات، لطبيعة الأصوات التي ذهبت لكل من المرشحين الرئيسيين، ولاتجاهات التدافع من أجل كسب الجولة الثانية.

مرسي  في الجنوب وشفيق في الشمال

لم تعلن النتائج الرسمية بعد (1)، ولكن ما بات مؤكداً  أن محمد مرسي حصل على الموقع الأول، بنسبة أصوات لا تتجاوز الربع إلا قليلاً، وبعدد من الأصوات يفوق تلك التي ذهبت لشفيق بأقل من مائتي ألف صوت. وجاء المرشح الناصري حمدين صباحي ثالثاً بخمس الأصوات. أما الرابع فكان الإسلامي المستقل عبد المنعم أبو الفتوح؛ ليليه، في ذيل قائمة الخمسة الكبار، عمرو موسى، وزير الخارجية الأسبق والأمين العام السابق للجامعة العربية.

خسر مرسي أربعا من المحافظات الرئيسية الست (القاهرة، الجيزة، الدقهلية، الشرقية، الإسكندرية، البحيرة)، التي يتراوح عدد ناخبيها بين ستة ونصف مليون صوت (محافظة القاهرة)، وأكثر من ثلاثة ملايين صوت بقليل (محافظة البحيرة)، بما في ذلك مسقط رأسه (محافظة الشرقية)؛ ولم يفز إلا في محافظتي الجيزة والبحيرة، من المحافظات الكبار. وقد فاز شفيق في الشرقية والدقهلية، وجاء ثانياً في القاهرة، بفارق ضئيل من الأصوات عن صباحي، الذي حقق انتصاراً كبيراً في القاهرة والإسكندرية.

بصورة عامة، برز مرسي الأقوى في جنوب البلاد، بينما كان شفيق وصباحي الأقوى في القاهرة والشمال. ولكن ما ساعد مرسي كان حصوله على أعداد ملموسة من أصوات الناخبين في أغلب المحافظات السبع وعشرين المصرية، بما في ذلك المحافظات التي لم يحتل فيها الموقع الأول. وبينما كان من المعروف أن القاهرة لا تنحاز للإسلاميين عادة، فإن إخفاق مرسي الكبير في الإسكندرية يظل غير قابل للتفسير حتى الآن، سيما أن المحافظة عُرفت بأنها موقع تقليدي للتيار الإسلامي.

ثمة بعض التقارير تفيد بوجود أعداد كبيرة من المجندين ورجال الشرطة على قوائم الناخبين (وهو أمر غير قانوني، نظراً لأن العسكريين والشرطة في مصر لا يسمح لهم بالتصويت في الانتخابات)، وأن أغلب هؤلاء أعطوا أصواتهم لشفيق. ولكن المرجح أن هذه كانت مخالفات غير منظمة، وأن تزويراً واسعاً ومؤثراً على النتائج لم يحدث. وحتى بعد انقضاء أيام على الانتخابات، لم يتوفر بعد عدد دقيق للمقترعين. ولكن الواضح أن نسبة من أدلوا بأصواتهم تقل عن الخمسين بالمائة، وأنهم لن يصلوا إلى حجم المقترعين في الجولة الأولى من انتخابات مجلس الشعب. ولابد أن يثير هذا التراجع في عدد المقترعين الكثير من الأسئلة في الأوساط السياسية المصرية، سيما أن التفسير الوحيد الممكن لهذه الظاهرة، بالرغم من الحماس السياسي الكبير في البلاد، أن قطاعاً من المصريين لم ير في أي من المرشحين من هو جدير برئاسة مصر في هذه المرحلة بالغة الحساسية.

منتخبون أقل وأصوات الثورة مشتتة

ليس ثمة مفاجأة في حجم الأصوات التي حصل عليها أحمد شفيق. في كل الثورات الشعبية، لا ينحاز الشعب كله للثورة، وتوجد دائماً فئات وقوى تسعى لاستعادة النظام السابق. وهذه كانت كتلة شفيق الأولى. ومعها، وقف عدد من أبرز رجال الأعمال، الذين استغلوا حاجة الكثير من المصريين، واستخدموا المال على نطاق واسع من أجل مرشحهم. كما يعتقد أن بين الخمسة ملايين صوت التي ذهبت لشفيق، هناك ما يصل إلى مليوني صوت قبطي، سيما بعد أن توجهت الأغلبية القبطية نحوه في الأسابيع القليلة السابقة ليومي التصويت، عوضاً عن تأييد عمرو موسى، الذي كان لفترة طويلة المرشح المفضل في الأوساط القبطية. إضافة إلى ذلك، استفاد شفيق من دعم ما تبقى من شبكة الحزب الوطني، من تعاطف بعض رجال جهاز الأمن الوطني (أمن الدولة سابقاً)، وعناصر في الإدارة المحلية (المتبقية على ما هي من عهد مبارك).

صعود شفيق الحثيث في الأسابيع القليلة الماضية، أطاح بحظوظ عمرو موسى، الذي راهنت حملته الانتخابية على ذات الكتل التصويتية التي استهدفها شفيق. وبالرغم من أن موسى استخدم المال أيضاً على نطاق واسع، فإن الدعم المالي الذي تمتع به شفيق يفوق مقدرات المرشحين الآخرين مجتمعين. والحاصل أن صراع شفيق الأساسي كان مع موسى وليس مع أي من المرشحين الآخرين؛ بمعنى أن صعود أحدهما للجولة الثانية كان متوقعاً، على أية حال. ما حدث أن دينامية حملة شفيق والمقدرات المتاحة له، حسمت الصراع بين الاثنين لصالح الأخير.

الملاحظة الأخرى كانت في التراجع الكبير لأبو الفتوح، الذي تصور كثيرون أنه سيكون أحد الاثنين الصاعدين للدور الثاني. ولكن الواضح أن أبو الفتوح أخفق، بالرغم من الجهد الكبير، في كسب أي قطاع ملموس من الأصوات التي ذهبت لغير الأحزاب الإسلامية في انتخابات مجلس الشعب. كما أن القوى السلفية الكبيرة التي قررت دعمه في الأسابيع الأخيرة من الحملة الانتخابية، لم تعمل له بنشاط كاف لحشد الأصوات، بل إن بعضها لم يذهب للاقتراع أصلاً. وإن وضعنا في الاعتبار أن الصوت السلفي انقسم مناصفة بين أبو الفتوح ومرسي، فالواضح أن الصوت السلفي لم يضف الكثير لأصوات كل منهما؛ ربما لأن ارتباكاً أصاب الكتلة التصويتية السلفية بفعل انقسام قادتها وشيوخها بين أبو الفتوح ومرسي، ولأن غياب مرشح سلفي عن المنافسة ولَّد شعوراً لدى السلفيين بأن لا ناقة لهم ولا جمل في المعركة المحتدمة.

إضافة إلى ذلك، ثمة تراجع ملموس في حجم الصوت الإسلامي، مقارنة بالانتخابات التشريعية، ترك أثره الواضح على حجم الأصوات التي حققها مرسي وأبو الفتوح. لم يأت هذا التراجع من عدم قيام السلفيين بواجباتهم الانتخابية وحسب، بل ومن ضعف أداء الإسلاميين في مجلس الشعب، ومن الحملة الإعلامية الهائلة التي يواجهونها منذ حصولهم على الأغلبية البرلمانية، ومن سلسلة من القرارات السياسية الخاطئة التي اتخذوها في الشهور القليلة الماضية، سواء من حيث طبيعة هذه القرارات أو توقيتها، ومن التراجع الكلي في أصوات الناخبين.

كل هذا أضر أيضاً بفرص محمد مرسي، وتسبب في ضعف كتلته التصويتية، بالرغم من حصوله على الموقع الأول. ولكن ما أضعفه إضافة إلى ذلك، كانت الفترة المحدودة لحملته الانتخابية، التي لم تتجاوز الشهر الواحد، وهو ما حد من قدرته على الوصول إلى قطاعات واسعة من المصريين؛ إضافة إلى كونه مرشحاً احتياطياً وليس أصيلاً لحزب الحرية والعدالة، مما أثار الكثير من الجدل حول صلاحيته للموقع.

أما الأصوات التي ذهبت لصباحي فقد جاء أغلبها من الكتلة التي تؤيد الثورة أو تتعاطف معها، وترفض التصويت للإسلاميين أو تخشى سيطرتهم على مقاليد الحكم. ويعتقد بأن قلة من الصوت القبطي ذهبت أيضاً لصباحي، سيما من الشبان والليبراليين الأقباط، الذين يرفضون الانصياع لتوجيهات الكنسية.

ارتكبت حملتا عمرو موسى وأبو الفتوح خطأً فادحا عندما نظمتا مناظرة متلفزة تقتصر عليهما، مما أوحى بشعور فائق بالثقة لدى المرشحين بأنهما المرشحان الأقوى، وترك كلاً منهما ليفترس الآخر أمام الملايين من المشاهدين؛ إضافة إلى أخطاء أخرى تتعلق باختيار الكتل التصويتية المستهدفة. ولم تخل حملة مرسي الانتخابية من الأخطاء، سيما على صعيد الخطاب الذي وجهه للناس في حملته القصيرة. أما شفيق وصباحي فقد عرفا ما يريدان منذ البداية، وسارا نحو هدفيهما بقدر واضح من الانضباط والاتساق.

الاحتماء بمرسي من شفيق

في أحد وجوهه، يعتبر سيناريو الإعادة بين مرسي وشفيق هو الأفضل لمرشح حزب الحرية والعدالة والإخوان المسلمين، حيث أن الإعادة مع صباحي أو أبو الفتوح ستدفع إلى حشد أغلب القوى الأخرى تحت شعار "أوقفوا الإخوان"، وتجعل من الصعب على مرسي الفوز بمقعد الرئاسة، سيما في ظل التراجع في كتلة الأصوات الإسلامية. الآن، وقد أصبحت المواجهة بين مرسي وشفيق، فقد تأكد من الساعات الأولى لظهور النتائج أن القوى الإسلامية كافة، بما في ذلك حزب النور السلفي والجماعة الإسلامية، الذين أيدوا أبو الفتوح في الجولة الأولى، ستحتشد خلف مرسي. ويعتقد أن أغلب من صوتوا لأبو الفتوح في الأولى سيتجهون نحو مرسي في الإعادة. المشكلة ستكون في أصوات صباحي وعمرو موسى، وفي حشد مؤيدي مرسي وحثهم على القيام بواجبهم الانتخابي في جولة الإعادة.

يعتقد صباحي أن النتائج ليست عادلة وأنه كان الأولى بالصعود للإعادة؛ وسيحاول الدفع بطعون مختلفة على العملية الانتخابية. ولكن احتمالات نجاحه في تغيير النتيجة ضئيلة (2). وبالرغم من أن ثمة توجهات في صفوف الإخوان المسلمين للتوصل إلى صفقة ما مع صباحي وأبو الفتوح، لضمان دعمهما لمرسي في الإعادة، فليس من الواضح حجم مطالب صباحي، إن اقتنع أخيراً بعدم جدوى محاولة تغيير النتائج. أما أبو الفتوح، فالأرجح أنه لن يقبل موقعاً في رئاسة مرسي، بالرغم من أن له مطالب أخرى بالتأكيد.

من جهة ثانية، ليس من المؤكد أن دعم صباحي وأبو الفتوح لمرسي سيضمن أن تصب أصواتهما لصالح المرشح الإخواني. وإن كان ذلك هو الأقرب للاحتمال في حالة أبو الفتوح، فليس من المتيقن في حالة صباحي. ونظراً لأن أغلب مؤيدي صباحي من المتخوفين من الإسلاميين، لا يمكن استبعاد إحجام عدد كبير من بينهم عن التصويت في الجولة الثانية كليا. كما أن النسبة الصغيرة من الأقباط بينهم ستذهب على الأرجح لشفيق. بكلمة أخرى، يبدو أن عدد من سيعطي صوته لمرسي من مؤيدي صباحي سيكون صغيراً، وأن عدداً صغيراً آخر قد يذهب لشفيق، بينما ستحجم الأغلبية عن التصويت.

بصورة عامة، وكما حدث في انتخابات مجلسي الشعب والشورى، تتناقص أعداد المقترعين عادة في الجولة الثانية عنها في الأولى. إن شهدت الانتخابات الرئاسية الظاهرة نفسها، فالأغلب أن العدد الأكبر ممن سيتغيب عن التصويت في جولة الإعادة سيكون من بين من اقترعوا لصباحي في الأولى. في مواجهة هذه الظاهرة، تنمو في المحافظات التي حقق شفيق فيها تقدماً على منافسيه حركات وجماعات سياسية تدعو إلى إسقاطه في جولة الإعادة وتحرير سمعة المحافظة من الارتباط برجال النظام السابق.

أخيراً، من المتوقع أن تصبح القوى التي وقفت خلف شفيق أكثر تصميماً، بعد أن بدأت ترى اقتراب مرشحها من مقعد الرئاسة. ستتوفر لشفيق أموال تفوق ربما ما توفر له في الشهور القليلة الماضية، وستصبح الشبكات المساندة له من بقايا الحزب الوطني ومن داخل الإدارة أكثر جرأة.

الإخوان ورهان  الحشد

كان الاعتقاد السائد في أوساط النظام السابق طوال أيام الثورة المصرية أن الثورة ليست سوى حلقة جديدة في المواجهة بين النظام والإسلاميين، سيما الإخوان. وتبدو انتخابات الرئاسة، فعلياً ورمزياً، أنها انتهت إلى مواجهة بين أحد أبرز رجال النظام السابق والمرشح الإخواني. ولكن الحقيقة أن هذه المعركة، المعركة الأخيرة في مسيرة الثورة والتغيير، أكبر بكثير من الإخوان المسلمين.

مهما كانت أسباب نجاح شفيق في الوصول لجولة الإعادة، فليس ثمة شك في أنه يظهر مهارة سياسية ملموسة للعمل في ظل مناخ ديمقراطي، تعددي. ولأن ثمة ما يدفع للاعتقاد بأنه سيكون أول من ينقلب على هذا المناخ إن وصل إلى مقعد الرئاسة، فإن ما يدور في معسكر القوى السياسية المؤيدة للثورة أن من الضروري حشد كافة القوى لإيقاع الهزيمة به. من جانب آخر، سيسعى مرسي لأن يحقق فوزا مقنعاً وكافياً للقول بأن الشعب المصري اختار فيه المستقبل الذي تعد به الثورة، وأن الانتخابات وفرت للرئيس شرعية لا يتطرق إليها الشك، لأن شرعية الرئيس ستكون أداته الأهم لمواجهة مراكز القوى المختلفة في جسم الدولة، التي تسعى للعب أدوار من أجل الاحتفاظ بمواقع فوق - دستورية.

ورغم  أنه من الصعب حشد جميع القوى المؤيدة للثورة خلف مرسي، فإن الإخوان يتحملون مسؤولية كبيرة في حشد القطاع الأكبر من هذه القوى؛ إضافة إلى مسؤولية تطمين قطاعات الشعب المختلفة التي لم تعط أصواتها لأي من المرشحين الإسلاميين.
______________________________
الهوامش

1- الورقة منشورة قبل إعلان النتائج النهائية، وقد جاءت قريبة جدا من النتائج الأولية.

2- هذا ما أكدته لجنة الانتخابات الرئاسية برفضها طعون صباحي.