العلاقات المدنية العسكرية بالمغرب: حدود العقم السياسي للجيش وسؤال الخضوع للسيطرة الديمقراطية

تقدم الورقة ملخصًا لدراسة موسعة نُشرت في العدد السادس من ملجة لباب، الصادرة عن مركز الجزيرة للدراسات، وتكشف عن شكل السيطرة المدنية على الجيش في ظل خصوصية النظام الملكي للمغرب، وحدود استقلالية وحيادية الجيش في التاريخ السياسي للبلاد، ومدى استجابته لديناميات الإصلاح الديمقراطي.
(الأناضول)
انشغال الجيش بمهام فوق عسكرية خارج المغرب يُجنِّبه العطالة التي تجعله فريسة للمؤامرات السياسية (الأناضول)

تفترض الدراسة أن الدول النامية، ومنها المغرب، ما زالت تؤمن بأن الدور السياسي للجيش لا يكون متعلقًا بالتدخل بشكل مباشر في الأزمات فحسب، بل يمكن أن يكون عن طريق التدخل بشكل مؤسساتي داخل الحياة السياسية. كما أن قوة الجيش وتأثيره الاجتماعي أو السياسي تتحدَّد تبعًا لظروف خاصة؛ إذ يمكن أن تلعب القوات المسلحة أدوارًا متعددة غير دورها التقليدي. فالدور السياسي للمؤسسة العسكرية قد لا يرتبط بحالة الأزمات في شكل تدخل مباشر، بل قد يكون لها دور عام في الحياة السياسية بصفة دائمة لاسيما في ظل تحوُّل التهديدات. فعلى الرغم من أن درجة ومدى النفوذ العسكري والمشاركة في السياسة تختلف من مجتمع إلى آخر، فإن الجيش يشارك بشكل أو بآخر في السياسة الوطنية، بغضِّ النظر عمَّا إذا كان الجيش يعمل في العالم المتقدم أو النامي؛ نظرًا لأن السياسة تدور حول التوزيع الموثوق للقيم في المجتمع، فلن يرغب أي جيش في الانسحاب من المشاركة في العملية السياسية بطريقة أو بأخرى في أي وقت.

وعليه، فالعَسْكَرَة على المستوى الداخلي، بحسب الأكاديمي نبيل زكاوي، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، لم تعد مرادفة للحكم العسكري أو الاستبدادي كبناء مسلح للسلطة من خلال الانقلابات العسكرية أو هيمنة أجهزة الدولة القوية والقمعية، بل يمكن أن تكون موجودة أيضًا في الأنظمة المدنية؛ حيث إن انسحاب الجيش من السياسة لا يُلغي ممارسات العَسْكَرَة التي صارت تشير إلى انتشار الرموز والقيم والخطابات التي تثبت القوة العسكرية في المجتمع. لهذا، يجب أن يتجاوز مفهومُ تفكيكِ النزعة العسكرية فكرةَ الانسحاب الرسمي للجيش من الساحة السياسية، وأن يشمل تفكيكَ الهياكل الأيديولوجية والمُؤَسَّسِية للعَسْكَرَة والأخلاقيات السلطوية، وإعادة تأكيد السيطرة المدنية والثقافة الديمقراطية على أجهزة الدولة.

وعلى مرِّ السنين، ما انفك الباحثون المهتمون بالشؤون العسكرية يؤكدون مقولة الرئيس الأميركي الأسبق، الجنرال دوايت أيزنهاور، التي تساءل فيها عن "ماذا يمكن أن يحدث لو ازداد النفوذ السياسي للجيش في غياب الرقابة والقيود؟"، منبِّهين إلى ضرورة انصراف العسكريين عن الانشغال بالسياسة وخضوع العسكر للقيادة السياسية المنتخبة حتى ولو تعلق الأمر بالترتيبات الاستراتيجية التي هي محض خبرة عسكرية.

وقد كانت هناك محاولات عبر التاريخ لضمان الحياد السياسي للقوات المسلحة، فقد رأى المنظِّرون الفرنسيون للعلاقات المدنية-العسكرية أن الجمهورية الثانية نموذج لهذا الحياد؛ إذ كانت القوات المسلحة خلال تلك المرحلة صامتة مطيعة تهتم بالمسائل المهنية والتكتيك العسكري فقط تاركة للمدنيين القضايا الخاصة بشؤون البلاد، لأن الطاعة لديها كانت غاية في حدِّ ذاتها.

وتبقى المؤسسة العسكرية في دول العالم الثالث بشكل عام، وفي الدول العربية والإفريقية بشكل خاص، المؤسسة الوحيدة، المنسجمة والهرمية، القادرة على المحافظة على الأنظمة وكذلك تغييرها من الداخل. فالتدخل العسكري في السياسة عمومًا كان له تأثير مؤلم لربط الجيش بالقمع السياسي وانتهاكات حقوق الإنسان التي عانى منها العديد من هذه البلدان منذ الاستقلال، حيث إن تورُّط الجيش في السياسة يغطي سلسلة متصلة كاملة، من الحد الأدنى إلى التأثير الأقصى، اعتمادًا على قدرة القيادة السياسية المدنية على التمسك بالسلطة، وحالة التهديدات الداخلية والخارجية، وصورة الجيش عن دوره ومكانته في المجتمع.

إذن، وبناءً على ما تقدَّم من اختلاف في تصور العلاقات المدنية-العسكرية، وفي ضوء الموضوع الذي يثير اهتمام الباحثين فيها بالحاجة إلى منع انشغال العسكريين بالسياسة عن طريق آلية تحكُّم مدنية تجبر الجيش على أن يكون تابعًا للقيادة السياسية، فإن هذه الدراسة تنظر إلى السيطرة المدنية على أنها توزيع سلطة اتخاذ القرار بين المدنيين والجيش. وفي ظل التعدد الاصطلاحي للظاهرة المدروسة؛ حيث تستخدم الأوساط الأكاديمية مصطلح "المؤسسة العسكرية"، بينما تستعمل الأدبيات العسكرية تعبير "القوات المسلحة"، في حين يستعمل الشارع السياسي لفظ "الجيش"، فإن الدراسة تستخدمها مجتمعة وتحاول مقاربتها من الناحية القانونية والسياسية والسوسيولوجية في السياق المغربي في محاولة لفكِّ خيوط علاقة التنظيم العسكري بالدائرة المدنية وفق المنهج النسقي الذي سيقود الباحث إلى الكشف عن شكل السيطرة المدنية على الجيش في ظل خصوصية النظام الملكي للمغرب، وحدود استقلالية وحيادية الجيش في التاريخ السياسي للبلاد، ثم كيفية تفاعل الجيش مع المحيط السياسي والمجتمعي، ودرجة الرقابة المدنية على الجيش، وكذا طبيعة العلاقات بين النخبتين، المدنية والعسكرية، من حيث كونها تنافسية أم تضامنية، وأخيرًا مدى استجابة الجيش لديناميات الإصلاح الديمقراطي.

وخلصت الدراسة، في سياق مقاربتها لأبعاد وخصوصية العلاقات المدنية-العسكرية في ظل النظام الملكي بالمغرب، إلى مجموعة من الاستنتاجات:

- دستوريًّا، الجيش غير منفصل عن الملك المحتكِر لشرعية حماية الوطن والحفاظ على أمنه واستقراره.

- سياسيًّا، كان الجيش وسيظل لاعبًا أساسيًّا في معترك النظام السياسي بحكم التحديات التي واجهها المغرب ولا يزال؛ إذ تهيمن المؤسسة الملكية على الجيش وتضبط حركته. فباستثناء محاولتي الانقلاب (1971، 1972) أصبح الجيش مرتبطًا بالنظام الملكي الذي يعتبر العامل الوحيد الذي يُوحِّد النفوذ العسكري والسياسي. وبالرغم من أن الجيش أصبح وسيلة لدعم الملكية عن طريق إيجاد أدوار جديدة لنفسه إلا أن القوة المدنية للسيطرة التي تُنفَّذ من قبل الملك تعمل كصمام أمان ضد تدخل الجيش بالسياسة أو ضد تدخل النخبة العسكرية لمعارضة النخبة السياسية.

- إن عدم استغناء الجيش عن أدوار محلية بموازاة تركيزه على المهمات الدولية الحربية والسلمية، لا يمكن أن يخرج عن إطار سيطرة السلطة المدنية الملكية ووفق فترات زمنية غير متصلة تضمن عدم توسع تلك الأدوار بدرجة أكبر لتبلغ محظور التدخل في العمليات السياسية.

- إذا كان الجيش يحتاج إلى إصلاح مؤسساتي يشمل تطوير هيكلته وتنظيمه في أفق تحسين قدراته حتى يكون في مستوى تحديات التهديدات المستحدثة، فالرهان هو أن يؤول ذلك الإصلاح إلى دَمَقْرَطَة الجيش، أولًا: من الداخل بنشر ثقافة الديمقراطية بين هياكله باعتماد تنشئة عسكرية عصرية تُعْلِي من قيم المواطنة والمسؤولية، وثانيًا: في علاقته بالمحيط؛ وذلك بجعله منفتحًا على المجتمع عبر تمكين هذا الأخير من تقاسم وتملك ميراث الجيش ورصيده، وهو ما يمكن أن يضطلع به إعلام عسكري متكامل من مجلات أو مواقع إلكترونية أو غيرها.

للاطلاع على النص الكامل للدراسة (اضغط هنا) وللاطلاع على عدد المجلة كاملًا (اضغط هنا)

نبذة عن الكاتب