الانقلاب الرابع: مالي بين الانتقال السلمي والانفلات الأمني

أطاحت مجموعة من الضباط الماليين بالرئيس كيتا من الحكم، وشكَّلت هيئة لقيادة البلاد، وقد لاقت خطوتهم ترحيبًا داخليًّا وتنديدًا خارجيًّا، وتواجه مهمتهم ضغوطات داخلية وخارجية تضطرهم إلى البحث عن مخرج توافقي من الأزمة.
الجيش يعود للمرة الرابعة إلى الحكم في مالي (الفرنسية-غيتي)

شهدت جمهورية مالي الواقعة في غرب إفريقيا، يوم الثلاثاء، 18 أغسطس/آب الجاري (2020)، تمردًا في قاعدة كاتي العسكرية بالعاصمة، باماكو، تحول لاحقًا إلى انقلاب أطاح بالرئيس، إبراهيم ببكر كيتا، الذي يحكم البلاد منذ 2013، وقد نجح الانقلابيون في اعتقال الرئيس ووزيره الأول وعدد من الوزراء، ثم في دفْع الرئيس إلى إعلان استقالته في بيان قرأه في تليفزيون البلاد الرسمي.

فما أسباب هذا الانقلاب؟ ومن قادته الحقيقيون؟ وهل له صلات بحركة الخامس من يونيو/حزيران التي يقودها الإمام محمود ديكو؟ وما صلات الأطراف الخارجية به؟ وكيف سيتعاطى مع الجوار الإقليمي؟ وما صلة الانقلاب بالأوضاع الأمنية في شمال ووسط مالي؟

انقلاب سريع واستقالة اضطرارية

في صباح الثلاثاء، 18 أغسطس/آب 2020، سُمعت أصوات الرصاص في ثكنة سوندياتا كيتا في "كاتي" على بعد 15 كلم من العاصمة، باماكو، وبينما المواطنون يسألون عن هذه التطورات، وخلفياتها، دخلت سيارات عسكرية وجنود مدججون بالسلاح إلى شوارع في العاصمة، وبدأ الحديث يتصاعد عن محاولة انقلابية يقودها عقداء من الجيش، ولا يشارك فيها أصحاب الرتب العليا من جنرالات الجيش المالي.

في مساء نفس اليوم، اقتيد الرئيس، إبراهيم ببكر كيتا، إلى ثكنة الانقلابيين، ولم يشفع لرئيس الوزراء، بوبو سيسي، بيانه الذي أعرب فيه عن بعض التفهم لما يحدث ودعا إلى الحوار، فاعتُقل بدوره ومعه عدد من الوزراء.

وهنا، بدأت الأسماء الرئيسية لقيادة الانقلاب، فيما أصبح يُعرف باللجنة الوطنية لخلاص الشعب، في البروز، وكان من أهمها:

- العقيد آسيمي غويتا، قائد القوات المالية الخاصة (BAFS)، والذي سيصبح رئيس اللجنة لاحقًا.

- العقيد مالك دياو، نائب قائد ثكنة كاتي، والذي شاع بعض الوقت أنه زعيم الانقلاب، وكان في تدريب في روسيا.

- العقيد صاديو كمرا، الذي دخل قادمًا من روسيا حيث كان في دورة تدريبية قبل 15 يومًا فقط، وقيل عنه: إنه العقل المدبر.

- العقيد إسماعيل واغي، الناطق الرسمي باسم اللجنة.

ينتمي هؤلاء الضباط للمستويات المتوسطة أو العليا في الجيش المالي، وشكَّلوا مسارهم العسكري من قتال الجماعات المتمردة في شمال مالي، وشاركوا في دورات تكوينية عديدة في عدة دول بالخارج، ويشير نجاحهم في الإطاحة بالرئيس كيتا بسرعة ودون خسائر كبيرة من القتلى إلى أنهم يتحكمون في بقية أفرع الجيش، وأنهم جهزوا للعملية منذ مدة.

وردت أنباء عن أن السبب المباشر لسخطهم هو أوضاعهم المادية وتكبدهم خسائر كبيرة في الأرواح خلال عملياتهم القتالية لكن رتبهم العليا في الجيش ترجِّح أن السبب الأهم سياسي وهو الشعور بأن القيادة العليا للبلاد لا تكترث للقادة العسكريين الميدانيين؛ فلقد نقلت لوفيغارو الفرنسية، في عدد 20 أغسطس/آب الجاري، أن هؤلاء القادة الميدانيين يعتقدون أن القيادة العليا للبلاد، السياسية والعسكرية، منشغلة بإثراء نفسها بينما ترسلهم للموت في قتال الجماعات المتمردة.

وبدأت التساؤلات عن مصير الحركة الانقلابية وما يريده قادتها، وكان واضحًا أن السياق الداخلي والخارجي لا يسمح بالانقلابات التقليدية وأن استقرار الأمر للانقلابيين متعذر، وقد قالت رئيسة المعهد الإفريقي للأمن، الدكتورة نياكالى باكايوكو: "على العموم، لا يستطيعون ولا يريدون البقاء في السلطة".

ترحيب الداخل ورفض الخارج

بدا الداخل المالي أقرب إلى تفهم الحركة الانقلابية وأحيانًا تأييدها. رافق أعداد من الشباب المتظاهرين الانقلابيين في الشارع وأسمعوهم عبارات الدعم والتأييد. في المقابل هاجم عدد من هؤلاء المتظاهرين منزل ابن الرئيس، كريم كيتا، ومنزل زوجته الثانية، وخربوهما وأخذوا بعض المقتنيات منهما، وانتشر فيديو يُظهر بعض المراهقين يلعبون في حوض السباحة الخاص بكريم كيتا المتهم على نطاق واسع بأنه رأس الفساد الاقتصادي والسياسي خلال حكم والده.

أما المعارضة ممثَّلة في تجمعها الأكبر "حركة 5 يونيو"، فقد عبَّرت عن ترحيبها الحذر بإزاحة الرئيس المالي واعتبرت ذلك محصلة لنضالاتها وأعلنت أنها "أخذت علمًا بما أعلنته المجموعة العسكرية من عزمها فتح مرحلة انتقالية مدنية"، وقالت في بيان، يوم 19 أغسطس/آب الجاري إنهم "مستعدون لبلورة خريطة طريق مع اللجنة العسكرية وجميع القوى الحية في البلاد".

الإمام ديكو، الزعيم الأبرز لحراك 5 يونيو/حزيران، شكر العسكريين ودعا الماليين للوحدة، وقال إنه سينكبُّ مجددًا على دور الإمامة بالمسجد لأنه ليس سياسيًّا، وقد كان أحد مقرَّبيه أكد أن لا صلة له بالانقلابيين. أما عيسى كاوانجيم، المنسق العام لتنسيقية الحركات والجمعيات والمؤيدين للإمام محمود ديكو (CMAS)، فقد اعتبر في تصريحات للوموند الفرنسية أن "مرحلة انتقالية أمر لا مناص منه". من جانب آخر، هناك أنباء عن أن قائد الانقلاب، آسيمي غويتا، وقع في 2012 في قبضة الحركة الوطنية لتحرير أزواد، ونجح الإمام ديكو في إقناعهم بإطلاق سراحه، للإشارة إلى أن هناك صلة بين الإمام ديكو وقائد الانقلاب، آسيمي.

وتُظهر الاجتماعات المتواصلة، أيام 19 و20 و21 أغسطس/آب الماضية، مع الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والشخصيات الوازنة والأمناء العامين للوزارات أن هناك استعدادًا واسعًا للتعاطي مع الانقلابيين، وليس بالضرورة قبولهم حكامًا مستمرين. ويدل تقديم الانقلابيين للاجتماع مع الأحزاب السياسية الحاكمة والإدارة، أنهم يعطون الأولية للسير العادي للمؤسسات القائمة وأنهم لا يسعون إلى تغيير واسع لنظام الحكم قد يدفع القوى النافذة في البلاد إلى تعطيل عمل المؤسسات لإحداث حالة عامة من التذمر تطلق احتجاجات واسعة يفشل الانقلابيون في السيطرة عليها، فتفلت الأوضاع من أيديهم. 

مقابل الترحيب الداخلي، سارعت المنظمات الإقليمية والقارية إلى رفض الانقلاب. كان البيان الصادر عن المنظمة الاقتصادية لدول غرب افريقيا "الإيكواس"، يوم الأربعاء 19 أغسطس/آب، الأوضح في هذا الصدد؛ فقد صرَّح بـ:

- رفض أية شرعية للانقلابيين، وفرض عودة النظام الدستوري.

- إطلاق سراح الرئيس والرسميين المعتقلين فورًا.

- تعليق عضوية مالي في كل أجهزة المنظمة، وإيقاف كل المعاملات الاقتصادية والتجارية والمالية بين المنظمة ودولة مالي.

- طلب عقوبات فورية ضد الانقلابيين وشركائهم والمتعاونين معهم.

كما أعلنت المنظمة عن مؤتمر لرؤساء دولها بالفيديو، يوم الخميس 20 أغسطس/آب الجاري، تحت رئاسة رئيسها الدوري، رئيس النيجر، محمدو يوسفو، وهو المؤتمر الذي صدر عنه تصريح قوي قال فيه رئيس النيجر: "إن عهد الانقلابات قد ولَّى، نريد إعادة إبراهيم ببكر كيتا لمنصبه رئيسًا للجمهورية، وسنرسل وفدًا رفيع المستوى فورًا لضمان العودة الفورية للنظام الدستوري".

وقد برزت تباينات بين دول منظمة دول "الإيكواسطالبت غينيا وساحل العاج بعقوبات شديدة، بل إن رئيس ساحل الحاج، الحسن واتارا، تحدث عن تقديم الانقلابيين لمحكمة الجنايات الدولية، وقصْد القيادتين منعُ انتشار العدوى إلى بلديهما المقبلتين على انتخابات رئاسية هذا العام. لكن غالبية دول المنظمة وازنت بين الحاجة إلى معاقبة الانقلابيين حتى لا يكونوا سابقة تغري غيرهم في بقية البلدان الافريقية، والحاجة إلى دعم الجيش المالي في قتاله للجماعات المتمردة، فطالبت بوركينا فاسو والسنغال بعقوبات انتقائية، لا تشمل إمدادات البترول والمواد الأولية والكهرباء والدواء وتجهيزات مكافحة كوفيد 19.

وتبع الاتحاد الإفريقي منظمة الإيكواس في موقفها؛ حيث ندد بالانقلاب وطالب بإطلاق سراح الرئيس ومن معه، وعلَّق عضوية مالي حتى يعود النظام الدستوري.

بدورها، ندَّدت دول الساحل الخمسة بالانقلاب وأعلنت وجوب إطلاق سراح الرئيس، كيتا، وإعادته لممارسة مهامه الرئاسية.

أما فرنسا، الدولة الأقوى نفوذًا في المنطقة، والتي تملك قوات على الأرض المالية تبلغ نحو 5000 جندي، فقد بادرت وزارة الخارجية في "الكي دورسي" إلى إعلان اتفاق فرنسا مع الإيكواس، ومطالبتها الانقلابيين بالعودة إلى ثكناتهم. وأعلن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أنه تواصل مع رؤساء النيجر (محمدو يوسوفو) وساحل العاج (الحسن واتارا) والسنغال (ماكي صال)، بل إنه كلَّم الرئيس المطاح به قبل اعتقاله بقليل. ولكن لهجة الفرنسيين أخذت تعيد ترتيب الأولويات في موقف المستعمر السابق، فقد غرَّد الرئيس ماكرون، يوم الأربعاء 19 أغسطس/آب الجاري، قائلًا: إن "فرنسا والاتحاد الأوروبي يقفان إلى جانب المنظمة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا والاتحاد الإفريقي، من أجل التوصل إلى حل للأزمة في مالي، السلام والاستقرار والديمقراطية هي أولوياتنا". من جانبها نشرت الصحيفة الفرنسية الأشهر، لوموند، أن الأولوية بالنسبة لباريس "هي مواجهة المجموعات الجهادية في المنطقة الاستراتيجية للحدود الثلاثية مالي-بوركينافاسو-النيجر". وفي المؤتمر الصحفي المشترك مع المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، أوضح الرئيس الفرنسي أن" القوة العسكرية دون مسار ديمقراطي غير منتجة".

وكان رئيس المجلس الأوروبي، شارل ميشيل، قد دعم هذا التوجه قائلًا: "استقرار منطقة مالي ومكافحة الإرهاب هي الأولويات".

أما الموقف الأميركي، فقد اكتفى وعلى نحو مبكر بالموقف العام الرافض للتغييرات السياسية بالقوة، فكتب مبعوث الولايات المتحدة الأميركية لمنطقة الساحل، بيتر فام، على حسابه في تويتر: "نتابع بقلق التطورات في مالي، الولايات المتحدة تعارض أي تغيير غير دستوري للحكومة، سواء وقع عن طريق الشارع، أو عن طريق قوات الدفاع والأمن". كما علَّقت الولايات المتحدة تعاونها العسكري مع الجيش المالي، كما ورد على لسان بيتر فام خلال مؤتمر صحفي.

واكتفى مجلس الأمن الدولي المنعقد بطلب مشترك بين فرنسا والنيجر (الرئيس الدوري للإيكواس) بمخاطبة الانقلابيين: "عودوا إلى ثكناتكم دون تأخير".

وهكذا، يتضح أن التنديد والرفض غلبا على المواقف الإقليمية والقارية والدولية، وتبدو أغلب الأطراف في هذا السياق غير مستعدة للتعايش مع حكم انقلابي في مالي، وإنْ ظهر الاستعداد لقبول مسار ديمقراطي سريع في انتظار ما ستسفر عنه تفاعلات المشهد في العاصمة، باماكو.

سمات المرحلة الانتقالية

في إعلان اللجنة العسكرية بعد استقالة الرئيس، كيتا، قال ناطقهم الرسمي، العقيد إسماعيل واكي: "نحن القوى الوطنية المتجمعة في إطار اللجنة الوطنية من أجل خلاص الشعب، قررنا تحمل مسؤولياتنا أمام الشعب وأمام التاريخ، لنضمن استمرار الدولة والخدمات العامة". كما صرَّح القائد المساعد للقوات الجوية بـ"أنهم لن يبقوا في السلطة، وليسوا طرفًا في الصراعات السياسية والأيديولوجية وبعيدون عنها"، وفي إعلانه رئيسًا للجنة الوطنية لخلاص الشعب، أكد العقيد، آسيمي غويتا، أن "مالي توجد في وضعية أزمة اجتماعية سياسية أمنية، لا حقَّ لنا في الخطأ، لقد قمنا بالتدخل يوم أمس (18 أغسطس/آب 2020) لنضع مصلحة البلد فوق كل اعتبار، مالي أولًا".

وكان ممثلو القيادة الانقلابية في اتصالاتهم مع مختلف الأطراف يؤكدون على أنهم ذاهبون عن السلطة، وأن مرحلة انتقالية يقودها مجلس انتقالي برئيس عسكري أو مدني هي خيارهم.

وقد نشرت جهات إعلامية مطلعة ما أسمته الالتزامات الخمسة عشر لانقلابيي "كاتي"، وأهمها:

- مجلس انتقالي من 24 عضوًا (6 عسكريين، و18 مدنيًّا من الأحزاب والمجتمع المدني ومنظمات النساء والشباب وهيئة المحامين والمنظمات الدينية والماليين في الخارج). يختار هذا المجلس رئيسه الذي يتولى مهام رئيس الدولة ورئيس المرحلة الانتقالية، كما يتولى هذا المجلس المهمة التشريعية مؤقتًا. تستمر المرحلة الانتقالية تسعة أشهر على أن يُنَصَّب رئيس الجمهورية الجديد يوم 25 مايو/أيار 2021.

- اختيار وزير أول من طرف المجلس الانتقالي، ويكون شخصية تتمتع بالنزاهة والمصداقية، وتُشكَّل حكومة مصغرة من 15 وزيرًا، مع الأخذ بعين الاعتبار تمثيل مختلف القوى المؤثرة.

- لا يمكن لأي عضو في المجلس الانتقالي أو الحكومة الترشح في الانتخابات القادمة.

- تشكيل لجنة وطنية لمراجعة الدستور.

- تنظيم انتخابات ثلاثية حرة وشفافة (استفتاء، رئاسية، نيابية) في أبريل/نيسان 2021.

- استئناف المفاوضات لإطلاق سراح سمايلي سيسي (زعيم المعارضة المختطف من طرف جماعات العنف).

- تنظيم ملتقى وطني للسلام.

- إطلاق مفاوضات مع شركاء وأصدقاء وجيران مالي.

هذا، ويبدو أن تفهم الماليين لنيات الانقلابيين وإعلاناتهم لا يستبعد أن يضغط على الأطراف الخارجية بما فيها الأكثر تشددًا. في المقابل هناك اعتبارات تضطر الانقلابيين إلى أن يبحثوا عن صيغة توافقية تُرضي حركة 5 يونيو/حزيران الاحتجاجية، التي يعود لها الفضل في توفير الشرعية السياسية للإطاحة بالرئيس كيتا، وترضي أيضًا القوى الخارجية، فرنسا والإيكواس خاصة، لأن دعمهما حاسم في قدرة الجيش المالي على قتال الجماعات المسلحة المتمردة.                 

ظلال أزمة الشمال والوسط

معروف أن جمهورية مالي عاشت أزمة متعددة الأبعاد في شمال البلاد، وأن الجماعات الجهادية شكَّلت خطرًا حقيقيًّا على السلطة المركزية في باماكو، مما حدا بهذه الأخيرة إلى طلب التدخل الخارجي، وهو ما استجابت له فرنسا التي أرسلت قواتها في عملية سرفال ثم حولتها إلى برخان، كما استجابت دول في الإقليم كان أبرزها تشاد التي أسهمت بقوة عسكرية فعالة، ثم لحقت مجموعة دول الساحل الخمسة التي أصبحت لها قوات مشتركة لمحاربة الجماعات المسلحة المتمردة.

ومعروف أن الصراع مع جماعات التمرد يعود إلى أزمات سياسية أخذت طابعًا عرقيًّا عجزت الدولة المالية عن تسويتها سواء مع الطوارق أو العرب أو الفلان في الشمال والوسط.

لقد أكد الانقلابيون احترامهم لكل الاتفاقيات بما فيها اتفاقية الجزائر للسلام، في 2015، كما أعربوا عن التزامهم بالتعاون مع القوة الأممية "المينيسما" و"برخان" الفرنسية و"تجمع الساحل الخماسي" و"قوة تاكوبا" الأوروبية، وأعطوا أكثر من إشارة بأنهم يريدون الأمن والسلام ومحاربة الجماعات المسلحة المتمردة.

من ناحية أخرى، تبدو العناصر الرئيسة للانقلاب ذات اهتمامات وعلاقات بالأوساط الخارجية المؤثرة؛ فقائد اللجنة الوطنية لخلاص الشعب، العقيد آسيمي غويتا، هو قائد القوات الخاصة المالية، وهي كتيبة تعمل بالتنسيق مع الأميركيين بانتظام، والعقيدان، مالك دياو وصاديو كمرا، من المتدربين في روسيا، أما فرنسا فتبقى الطرف الأكثر حضورًا في أوساط القيادات العسكرية وفي الميدان.

والواضح من خلال المؤشرات المتوفرة حتى الآن أن القيادة الانقلابية مستعدة للتنسيق مع كل الأطراف الخارجية ذات التأثير دون الارتهان الأحادي لأحد هذه الأطراف.

مشاهد ما بعد الانقلاب

وسط تصاعد الأحداث وتصارع الأطراف وحضور الخارج، تبدو عدة سيناريوهات، أبرزها:

سيناريو نجاح الانقلاب وما يترتب عليه من مرحلة انتقالية تنتهي في مايو/أيار 2021 بتنصيب مؤسسات جمهورية منتخبة. هذا الخيار وإن بدا ضبابيًّا في أعين الكثيرين من المراقبين اليوم، إلا أن شواهد الحال تقود إليه. فقد جاء الانقلاب في لحظة تصاعد الغضب الشعبي الذي لم تنجح قوات الأمن في السيطرة عليه ولا ضغوطات الخارج في تحجيمه ولا صعوبة الوضع الصحي والاقتصادي في الحد منه، ولم تنفع معه مناورات كيتا. لذلك فقد التفَّ الشارع -وإنْ بحذر- حول الانقلابيين وتجاوز مرحلة التفهم إلى مرحلة التأييد مع إعلان قياداته استعدادهم للتفاهم مع العسكريين على قيادة مرحلة انتقالية. مما يرجح هذا الاحتمال ما ظهر من تراجع في حدة الموقف الفرنسي والأوروبي ثم في برودة الموقف الأميركي، فتلك الأطراف الغربية أكدت في المجمل على أن العملية الديمقراطية وسلامة البلد هي ما يهمها وهو ما يحيل ضمنًا إلى أنها لا تهتم كثيرًا لكيتا وحكومته.

ينضاف إلى ذلك أن الإيكواس تعاني من مشاكل ليس أقلها البُعد الأخلاقي؛ ففيها زعيمان، هما: الرئيس الكوناكري، ألفا كوندى، والإيفواري، الحسن واتارا، يهيئان لخرق دستوري بالترشح لمأمورية ثالثة يرفضها النظام وتتصدى لها المعارضة. تتهم أيضا هذه المنظمة بأنها مجرد ناد للرؤساء يحافظ على استمراريتهم رغم فشلهم وخرقهم للمشروعية الدستورية. وقد تسرب من محادثات الرؤساء قبيل قمتهم الأخيرة اتجاه يدعو للتفهم والسعي للمحافظة على تماسك مالي التي خرج شعبها يريد التغيير وتضامن معه الجيش والأمن وأن الصدام مع الجيش في مالي سيؤدي إلى انهيار ما تبقى من دولة على وشك الفشل.

ويندرج تحت هذا السيناريو، سيناريو فرعي، هو نجاح الانقلاب من خلال الوصول إلى حل وسط بين الانقلابيين ومعارضي الانقلاب في الداخل والخارج، وهو السيناريو الذي يفترض قدرة الإيكواس على زحزحة الانقلابيين عن موقفهم وإقناع الرئيس المعزول بتغيير مخططاته التي تتجاهل الشارع وتكرِّس واقعًا مرفوضًا شعبيًّا على رأسه: فساد نجله، وغيابه المتكرر عن المشهد، وانفلات الأمن، وتدني الاقتصاد، وفشل مجمل سياساته. ويمكن تصور الاتفاق على مرحلة انتقالية يتخلى فيها الرئيس المعزول عن صلاحياته كليًّا أو جزئيًّا وتولِّي حكومة تشكلها الأطراف الفاعلة في غياب الرئيس ونجله تسيير هذه المرحلة الانتقالية.

سيناريو الحكم العسكري: تمسُّك الانقلابيين بالحكم، ورفضهم تسليمه لقيادة مدنية مننتخبة، أو تنظيمهم انتخابات غير معترف بها داخليًّا ودوليًّا، فتندلع احتجاجات داخلية، وتُفرَض عزلة خارجية على مالي. تخشى دول الإيكواس وفرنسا من انفلات الوضع واستغلال الجماعات المسلحة المتمردة هذه الفرصة للسيطرة على البلاد، فتتفق على تشكيل قوة عسكرية مشتركة للإطاحة بالحكم العسكري. هذا السيناريو وارد لكنه مستبعد لأن الانقلابيين لا يمكنهم الدخول في مواجهة على ثلاث جبهات: مع المحتجين، والمتمردين، والقوى الخارجية.

سيناريو عودة كيتا: سيناريو يقوم على قدرة الإيكواس مع الفرنسيين على تغيير موازين القوى الأمنية والعسكرية في العاصمة، باماكو، وإعادة الرئيس كيتا بالقوة إلى قصره لممارسة صلاحياته. ما يجعل هذا الخيار ضعيفًا أو مستبعدًا هو جانب المغامرة بالأمن في مالي التي لم يبق فيها من معالم الدولة الكثير للتضحية به، فبعد خروج الشارع الواسع وانضمام الجيش إليه تغدو مواجهتهما مغامرة غير محسوبة النتائج في بلد أكثر مساحته بأيدي الجماعات الجهادية، وتتصارع فيه القوميات ويعاني فيه الشارع من غياب الأمن والخدمات. وتحضر هنا مقارنة البعض تدخل الإيكواس العسكري في غامبيا، عام 2017، لإزاحة الرئيس المنهزم في الانتخابات، يحيى جامع. لكن هناك اختلاف بين الحالتين، فغامبيا كانت تعاني من أزمة سياسية فقط وليس فيها قوة عسكرية يمكنها الصمود أمام قوات الجارة، السنغال، فضلًا عن قوات منظمة الإيكواس، كما أنه لا توجد أزمة من قبيل المنظمات الجهادية والصراع العرقي.

ختامًا، هناك جملة من المحددات تحكم الوضع في مالي وتفرض تحديات تفوق قوة مختلف القوى السابقة منفردة وتضطرها إلى التعاون: لمالي حدود واسعة مع عدد من الدول وتعاني من هشاشة أمنية، وتركيبة البلاد معقدة على المستويين، العرقي والاجتماعي، والمظالم متراكمة ومتداخلة، والوضع الاقتصادي غاية في الصعوبة، والتحديات الأمنية والجيوستراتيجية من الحجم الكبير، وأزمة كوفيد 19 في تصاعد مع ضعف البنية الصحية. كل هذه الصعوبات ستدفع مختلف القوى الداخلية والخارجية إلى تفادي انفلات الوضع حتى لا تستغله الجماعات المسلحة المتمردة كما فعلت في انقلاب 2012. لذلك سيكون الانقلابيون دون شك أكثر مرونة والتزامًا بتعهداتهم، والسياسيون أكثر حذرًا وانفتاحًا، والأطراف الخارجية أكثر تفهمًا للفرق بين الانقلاب عند حدوثه والانقلاب بعد تقبله. وجميع هذه المواقف ستكون عوامل حاسمة في صياغة مستقبل بلاد السودان المعروفة اليوم بجمهورية مالي.