حدود الجباية: تناقضات السياسة المالية للحكومة المصرية

تناقش هذه الورقة الأسباب الاقتصادية الكامنة وراء الغضب الشعبي، والتوترات الميدانية التي شهدتها المدن المصرية، على خلفية الرسوم الجديدة لمخالفات الإسكان، وما تلاه من هدم للمنازل. تقدم الورقة وصفا للسياسة المالية، ورفع أجور الخدمات والضرائب لمحاولة تعويض آثار فشل الإدارة الاقتصادية.
تهديم المنازل غير المرخصة، أثار غضب الشارع المصري. (وكالة فرانس برس)

"عندما تكثر الجباية، تشرف الدولة على النهاية" ابن خلدون

أثارت رسوم "مخالفات" الإسكان الجديدة التي قررتها الحكومة المصرية غضبًا شعبيًّا واسعًا؛ ما أثار توترات محدودة على ما اعتبره الشعب تتويجًا لممارسات جبائية جائرة، استمرت بشكل متصاعد لا هوادة فيه منذ تسلم النظام الحالي مقاليد الحكم، بما طال كافة مناحي الحياة اليومية، من رفع لأسعار كافة الخدمات العامة من مياه وكهرباء ونقل عام، ولرسوم كافة الخدمات العامة بقفزات غير منطقية، فضلًا عن الضرائب غير المباشرة على كل شيء تقريبًا، وبما أضرَّ بالاقتصاد في مجموعه؛ ما يطرح تساؤلات بخصوص السياسة المالية لذلك النظام: خلفيتها العامة ومنطقها الجوهري ودوافعها الحقيقية، فضلًا عن آثارها الفعلية.

وبشكل عام، تلعب السياسة المالية للحكومة العديد من الأدوار المركزية في حياة الشعوب اقتصاديًّا واجتماعيًّا؛ حيث تمثل الأداة الأساسية لعمل الدولة وممارسة الحكومة لدورها الفاعل في الوجود الاجتماعي، وهو الدور الذي تزايدت أهميته في العصر الحديث مع تعاظم دور الدولة بتنوع مهامها وتوسع مجال عملها؛ الأمر الذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتضخم رأس المال الاجتماعي في المجتمعات الحديثة، وتزايد أهميته في استمرارها ونموها.

ومما يدل على الأهمية الكبيرة للمالية العامة، أنها كانت أحد روافد نشأة علم الاقتصاد السياسي الحديث كله، خاصة رافده الألماني "الكاميرالي"، بل إن عودة في التاريخ، ستجعلنا نكتشف جذورًا قديمة عميقة لبحوث ذلك الحقل وتأثيراته العملية في حياة الشعوب والدول، وليس أشهر من العلامة العربي، ابن خلدون، وتبصراته العميقة التي تستحق بندًا خاصًّا في هذا الباب، خاصة لما لبعض تلك التبصرات من اتصال غريب ولافت للنظر بواقع المالية العامة المصرية الحالية.

ابن خلدون: الظلم (المالي) مُؤذِنٌ بخراب العمران(1)!

بدأ ابن خلدون بربط تطور ومسار المالية العامة بحياة الدولة من النشوء إلى التدهور، بتوضيح أن "الجباية في أول الدولة تكون قليلة الوزائع كثيرة الجملة، ثم في آخرها تكون كثيرة الوزائع قليلة الجملة"، أي تكون الضرائب في البداية قليلة العبء على الناس كثيرة الإيراد، ثم مع تدهور الدولة وزيادة نفقاتها بانخفاض كفاءتها وضعف اقتصادها وتغلغل الفساد فيها، تبدأ في زيادة أعباء ضرائبها لتعويض ما يعتري إيراداتها من انخفاض دون جدوى.

بل إنه يذهب في قوله لحدٍّ من التفصيل تشعر معه كما لو كان يعيش بيننا، فيذكر ضمن ما ذكر، الإفراط في فرض الرسوم وما شابه من ممارسات مالية لقادة تلك الدول المتدهورة؛ حيث "يُكثرون الوزائع حينئذ على الرعايا والأكره والفلاحين وسائر أهل المغارم، ويزيدون في كل وظيفة ووزيعة مقدارًا عظيمًا لتكثر لهم الجباية، ويضعون المكوس على البياعات وفي أبواب المدينة، ثم تتدرج الزيادات فيها مقدارًا لتدرج عوائد الدولة"، ثم يستطرد واصفًا نتائج هذه الممارسات قصيرة النظر على العمل والاستثمار "فتذهب غبطة الرعايا في الاعتمار لذهاب الأمل من نفوسهم بقلَّة النفع، إذا قابل بين نفعه ومغارمه وبين ثمرته وفائدته؛ فينقبض كثير من الأيدي عن الاعتمار جُملة، فتنقص جملة الجباية"، أي تتدهور الإيرادات الضريبية بسبب الجباية المُجحفة نفسها التي أضعفت الاستثمار والعمل في الاقتصاد بجملته، ما يمثل اكتشافًا مبكرًا لقانون لافر الضريبي(2)، وتبدأ حينها الحلقة الخبيثة من تعويض نقص الإيرادات الضريبية بمزيد من الجباية، وإضعاف زيادة الجباية لمصدرها من الإيرادات الصافية؛ ما عبَّر عنه بقوله: "ولا تزال الجملة -من الإيرادات- في نقص ومقادير الوزائع في زيادة لما يعتقدونه من جبر الجملة بها، إلى أن ينتقص العمران بذهاب الآمال من الاعتمار، ويعود وبال ذلك على الدولة لأن فائدة الاعتمار عائدة إليها"، أي إن الأصل في الأشياء تحقيق الدولة إيراداتها من/وكنتيجة لتنميتها الاقتصاد وزيادة العوائد فيه، ليعود عليها جزء منها، لا بالاقتطاع المُجحف من أرزاق الناس بما يقطع أملهم في العمل ويفقدهم الحافز فيه، وهو ما يتوافق مع أحدث النظريات الاقتصادية، بل حتى مع الحكمة القديمة بأخذ جزء من لبن البقرة لا القطع من لحمها، مما يبدو أن حكومات مصر في القرن الحادي والعشرين لا تفهمه!

ولم يقف عند ذلك الحد، بل أفرد بندًا خاصًّا بعنوان "في أن التجارة من السلطان مُضِرَّة بالرعايا مُفسدة بالجباية"، تحدَّث فيه عن مضار منافسة السلطة للشعب في ميدان الاقتصاد ومزاحمتها المالية لهم بما لها من مزايا وقوة ليست لهم؛ مما يفسد السوق ويهدر الموارد ويضر بالمجتمع، قائلًا: إن "الرعايا متكافئون في اليسار أو متقاربون، ومزاحمة بعضهم بعضًا تنتهي إلى غاية لوجودهم أو تقرب، فإذا رافقهم السلطان في ذلك، وما له أعظمُ كثيرًا منهم، فلا يكاد أحد منهم يحصل على غرضه في شيء من حاجاته، ثم إذا السلطان قد ينتزع الكثير من ذلك إذا تعرض له غصبًا"، أي بوسائل السلطة العامة لا المنافسة العادلة القائمة على الكفاءة في خدمة أغراض العمران ومصالح العباد، ما يزيد في رأيه كذلك من الفساد وممارسات الريع كون "الجاه مفيد للمال"، على حدِّ قوله.

كذا، حاول تفسير الآثار السلبية للتقشف بطريقة غير مباشرة بأن "الدولة والسلطان هي السوق الأعظم للعالم، ومنه مادة العمران، فإذا أخذا الأموال أو الجبايات، أو لم يصرفاها في مصارفها، قَلَّ حينئذ ما بأيدي الحاشية والحامية، وانقطع أيضًا ما كان يصل منهم لحاشيتهم وذويهم، وقلَّت نفقاتهم جُملةً وهم معظمُ السَّواد، ونفقاتهم أكثرُ مادة للأسواق ممن سواهم؛ فيقع الكساد حينئذ في الأسواق، وتضعف الأرباح في المتاجر فيقل الخراج لذلك، لأن الخراج والجباية إنما تكون من الاعتمار والمعاملات ونفاق الأسواق وطلب الناس للفوائد والأرباح، ووبال ذلك عائد على الدولة بالنقص لقلة أموال السلطان حينئذ بقلة الخراج. فإن الدولة -كما قلناه- هي السوق الأعظم، أُمُّ الأسواق كلها، وأصلها ومادتها في الدَّخْل والخَرْج، فإنْ كسدت وقلَّت مصارفها، فأجدر بما بعدها من الأسواق أن يلحقها مثل ذلك وأشد منه، وأيضًا فالمال متردد بين الرعية والسلطان؛ منهم إليه، ومنه إليهم، فإذا حبسه السلطان عنده فقدته الرعية، سُنَّة الله في عباده".

ولا نظنُّنا بحاجة لكثير من القول في مضار الجباية الجائرة بعد ما قاله الرجل الذي مات منذ أكثر من ستة قرون، والذي أثبتت وقائع التاريخ الاقتصادي صحة أقواله، فضلًا عن أرسخ النظريات الاقتصادية، كلاسيكيُّها وحديثها على حدٍّ سواء؛ ما يثير التساؤل والعجب عن أسباب مخالفة الحكومات الحديثة لما أصبح في عداد الحكمة شبه البديهية منذ قرون!

الاقتصاد السياسي للمالية الجبائية

لا يفسِّر الاقتصاد البحت هذه الممارسات، التي تدخل في نطاق العبث غير الرشيد بمعاييره، بل يخرج الأمر عنه إلى نطاق الاقتصاد السياسي الذي يوسِّع إطار النظر، ليحلل تفاعلات السياسة والاقتصاد والاجتماع لفهم الممارسات الاقتصادية، مُشدِّدًا على مركزية الدولة ونمط الإنتاج وشبكات المصالح، كأطر عامة لصياغة السياسات الاقتصادية والاجتماعية(3)، ومُعتبرًا السياسة المالية بخاصة تعبيرًا عن الطابع الحقيقي للدولة.

وفي هذا السياق، كنَّا قد ناقشنا، في ورقة سابقة حول الاقتصاد السياسي للدولة المصرية(4)، طبائعها العامة كدولة "كوربوراتية محاسيبية"، انتهى تطورها لمسار "الريعية العامة" أو "ريعية الممارسات"، التي تغلِّب ممارسات الحصول على الريع وتوزيعه كأداة سياسية وممارسة اقتصادية، على حساب التنمية والعدالة، وكيف يتصل ذلك بميلها للاستبداد سياسيًّا وعجزها تنمويًّا.

وفي سياق هذا الميل العام لممارسات السعي للريع، لا يكون غريبًا اتخاذ المالية العامة الطابع الجبائي، الذي يحيل الدولة نفسها وبيروقراطيتها لما يشبه مؤسسة ربحية تحصِّل المكاسب من المجتمع، بدلًا من القيام بدورها التقليدي كجهاز إدارة تنفيذي يتوسط بينه وبين حاجاته العامة والاجتماعية، وهو الاتجاه الذي تعزَّزَ خصوصًا مع تفاقم الأزمة المالية المُزمنة للدولة المصرية، بتدهور مواردها مقابل تضخم التزاماتها، مع تعاظم ميلها الاستداني، الذي يفرض بذاته مزيدًا من الضغط المالي لتلبية معايير الاستدانة وشروط المنظمات الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي.

ولاشك أن خلف هذه الممارسة الجبائية ضعف هيكلي في النظام الاقتصادي ونمط النمو نفسه؛ بما خلق عجزًا ماليًّا مزمنًا، عزز الميل لاستخلاص الموارد الريعية السهلة، فضلًا عمَّا يعانيه نوعيًّا من ميول للسعي للريع؛ حيث أدى الضعف الصناعي مع اختناق آفاق نمو الإنتاج والفضاء السوقي محليًّا وخارجيًّا، ومعه التراجع الزراعي المرتبط بتراجع الإمكانات الزراعية النسبية، لضعف الموارد الضريبية الإنتاجية، وتعزيز الفجوة التجارية السلبية، ليتفاعل الاثنان مع الفجوة المزمنة في النقد الأجنبي، والمُتصلة بالبنية الهيكلية لواقع التبعية الاقتصادية، التي تمثل تلك الفجوة التجارية أحد أعراضها، لتنتج ثلاثية "فجوات السيولة"، المالية والتجارية والنقدية، والتي دفعت الحكومة في النهاية للتركيز على تنمية الموارد الريعية كحلول سريعة وسهلة، لا تشترط تحسينًا بطيئًا وصعبًا ومُكلفًا بطبيعته في الإنتاجية والاقتصاد بعمومه؛ ما زاد من الاعتماد على موارد السيولة الخارجية والداخلية، أي عوائد البترول والسياحة وقناة السويس وتحويلات العاملين بالخارج والمعونات الخارجية من ناحية، والدَّيْن العام المحلي من ناحية أخرى.

وحيث بدأت موارد السيولة الخارجية في التراجع النسبي، مع اتجاهات واضحة باستمرار ذلك التراجع، خصوصًا مع ما ظهر من بوادر انتهاء الطفرة النفطية وتراجع أسعار النفط عالميًّا؛ بما ترتبه من آثار مباشرة على أهم موْرِدين من الموارد الأربعة الخارجية، وهما: تحويلات العاملين بالخارج وصادرات النفط المحدودة نفسها (التي كانت تمثل تقليديًّا حوالي 40% من صادرات مصر السلعية)، فضلًا عمَّا ترتبه من آثار غير مباشرة على الموْرِدين الآخرين من عوائد سياحة ومعونات عربية؛ كان لابد وأن تتجه الحكومة المصرية لزيادة الموارد السهلة باعتمادها على موارد سيولة أخرى لتعويض هذا التراجع.

هكذا، كانت العودة للاقتراض المُفرط من الخارج، بعد التجربة الثمانينية السيئة لمبارك في هذا المضمار، فضلًا عن "حَلْب" السيولة الداخلية بمزيد من الضرائب والرسوم وإيرادات الاحتكارات الخدمية، مع تقليص النفقات الاجتماعية وإعادة هيكلتها بصورة تخفض أعباءها على الموازنة العامة المتهالكة بضعف الكفاءة الاقتصادية عمومًا والمالية خصوصًا، أي تعزيز الاتجاه الجبائي كممارسة سياسية مُعتمدة.

وقد تعزز هذا الاتجاه برؤية شخصية للمسؤولين، أعلنوا عنها صراحةً وضمنًا أكثر من مرة، تخلط بين الدولة والشركة، فلا تتصور الدولة كجهاز إدارة عامة خاص بالمجتمع يُعنَى بحاجاته ومطالبه، بل يراها كما لو كانت كيانًا مستقلًّا عنه، لتتحول العلاقة بينهما من علاقة "وكيل بمُوكل" مسؤول عن مصالحه، لعلاقة "بائع بزبون" يستهدف استنزافه للحصول على أكبر عائد لصالحه الشخصي، وهى الرؤية التي بعيدًا حتى عن معانيها وتطبيقاتها الاجتماعية، تفتقد للمنطق الاقتصادي بعيد النظر، لتقتصر على رؤية محاسبية تتصور الاقتصاد القومي دفترًا ماليًّا، تقتصر حنكة إدارته على "الضبط المالي"، بضيق أفق محاسب لا يغادر كشوف "منه-له"، أو جداول "المدين–الدائن" المحاسبية، التي لا تعدو قيمتها تقرير الوقائع وإثبات العمليات وتأكيد الحقوق وملء الخزائن، دون أن تتجاوز ذلك حتى إلى وعي مدير مالي يفهم التخطيط الاستراتيجي ويعي أبعاد الربح الكلي، ناهيك عن الوعي المُفترض للدولة، أي الوعي الاقتصادي الماكروي أو الاستراتيجي التنموي المعني بقضايا "النمو الاقتصادي" و"التوازن الكلي" و"التكلفة الاجتماعية" و"التطور الهيكلي"..إلخ.

ولا ينتج هذا ببساطة عن مجرد صدفة أو جهل مثلًا، فالأمر أخطر من ذلك، حيث نتعامل مع دولة طرفية أصبحت مهمتها إدارة السوق الهامشية وتفريغها لحساب رأس المال العالمي وذيله المحلي، ولو على حساب حاجات النمو والتطور المحلي، ما تجسَّد في رضوخ الحكومة المصرية لبرنامج صندوق النقد الدولي، المعني أولًا وأخيرًا بـ"تأمين حقوق الدائنين" بتكريس المالية العامة -المسحوبة من دم وثروات الشعب- لهم (فأصبحت مُستحقات أقساط وفوائد الديون أكبر من الأجور والدعم معًا!)، وخلق الفرص للمستثمرين (بانسحاب الدولة حتى من القطاعات الاستراتيجية للاقتصاد والمجتمع كالبنوك التي خُصخص الكثير منها والسكك الحديدية المُنتوى خصخصتها أيضًا!).

وهكذا، أصبح طبيعيًّا، في سياق هذا التكريس لأولويات المالية العامة على حسابات التنمية الاقتصادية طويلة الأجل، تجاهل كافة حسابات التكلفة والعائد على مستوى الاقتصاد؛ لتصبح الإدارة المحاسبية ضيقة الأفق هذه معنية فقط بملء الخزائن لصالح الحكومة ودائنيها، ولو أضعفت الاقتصاد وإمكانات النمو طويل الأجل، لكن ما يبدو ضيق أفق محاسبي لا يرى أبعد من دفاتره، ليس كذلك في الحقيقة، فاختيار أولوية وتجاهل أخرى ليس مجرد قصور نظر حَسَن النية، بل اختيار واع وانحياز اجتماعي وسياسي مُسبق، بناءً على مصالح لقوى اجتماعية مُحددة، فمفاهيم كالأولويات والتكاليف، وما ينبني عليها من سياسات، ليست مفاهيم نظرية تسبح في سماوات المجرد، بل مفاهيم اجتماعية وخطابات سياسية بالأساس.

لا عجب فيما نراه من تناقضات يشيب لها الولدان في منطق الأولويات والتكاليف الذي تطرحه الحكومة، فيتحدث الرئيس عن معضلة تدبير 30 مليار جنيه لتطوير المترو الذي يخدم عشرات الملايين ويوفر سيولة النقل منخفض التكلفة لاقتصاد ضعيف الإنتاجية في بلد شديد المركزية ديمغرافيًا، ليحدثنا بأولويات مستثمر عن عوائد استثمارها كودائع بنكية(!)، وليعتمد ميزانيات تريليونية بها عشرات المليارات ومئات الملايين للأمن وبناء السجون ومراقبة الإنترنت وحجب المواقع، وفيما يعترف محافظ البنك المركزي بأنهم يطبعون ما يحتاجونه من نقود حين الحاجة!

تناقضات تقنية: سياسات لا تحقق أهدافها المعلنة!

مع ذلك، لا تخلو هذه السياسات من تناقضات على المستوى التقني، حتى مع دعاواها المُعلنة ذاتها، مما يذكره المسؤولون مرارًا من أهداف رفع للنمو مع ضمان الحماية الاجتماعية كأهداف رئيسة للموازنة العامة؛ لأن هذه الإصلاحات التي يعلنونها باستمرار، سواء ما رأيناه منها أو ما تظهره اتجاهات الموازنة، وباتساقهما مع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، لا يؤيدان هذا الكلام؛ فنجد عديدًا من التناقضات بين تلك الإصلاحات وبين أهداف الحكومة المُعلنة، بل وبين تلك الأهداف وبعضها البعض، ودون غرق في التفاصيل نجد أبرز تلك التناقضات والملاحظات فيما يلي:

أولًا: تناقض بين خفض العجز كسياسة انكماشية ورفع معدل النمو العام؛ خصوصًا أن الانكماش بالتعريف يستهدف بالسلب -قبل المكونات الأخرى- الاستهلاك المحلي أكبر مُحرك للنمو الاقتصادي في مصر، ولا يُنتظر من الاستثمار الخاص -محليًّا أو أجنبيًّا- في ظل تدهور الدخول والمدخرات وضعف الاستقرار النقدي والاقتصادي والسياسي، أن يحل محله في القريب العاجل، وبالمثل لا يُتوقع من الاستثمار العام قليل الكفاءة بسبب سوء التخصيص وغلبة توجيهه للبنية التحتية، فضلًا عن الإهدار بالفساد، أن يقوم بذلك الدور استراتيجيًّا، ليعوض أي منهم "كامل" أثر انخفاض الاستهلاك.

ثانيًا: تناقض بين أدوات خفض العجز في الأجلين، القصير والمتوسط، ففي الاقتصاد العام إذا أدرت اقتصادك فقط بمنطق العجز المالي؛ عُوقبت بالمزيد منه، فاستخدام أدوات انكماشية مُتعجلة في الأجل القصير تقوم أساسًا على خفض الإنفاق وزيادة الضرائب، وفي ظل وضعية ركود وسوء توزيع للدخل؛ إنما يعني فقط خفض إمكانات النمو الحقيقي في الاقتصاد في الأجلين، القصير والمتوسط؛ ومن ثم خفض الإيرادات الضريبية التي تسعى الحكومة لزيادتها، ما يتماشى مع استنتاجات ابن خلدون سالفة الذكر.

ثالثًا: تفاؤل مُفرط من الحكومة فيما يتعلق بالقدرة على رفع التحصيلات الضريبية بشكل سريع وجوهري، دون تضارب مع اعتبارات الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية خصوصًا، وهو ضرب من الخيال في ضوء معرفتنا بضعف كفاءة الجهاز الضريبي وخبرتنا التاريخية بالعجز الحكومي المُزمن في هذا المجال، فضلًا عن تجنب الحكومة لأي قانون ضرائب يُغضب رجال الأعمال والطبقات الغنية؛ وهكذا تتهاوى آمال تحقيق فوائض حقيقية في الموازنات، اللهم إلا بالإفراط في الضرائب غير المباشرة بأشكالها المختلفة، بما لها من آثار اقتصادية واجتماعية أسوأ من نظيرتها المباشرة، ويقع معظم عبئها على الطبقات الوسطى والفقيرة، التي تعاني تمييزًا ضريبيًّا فعليًّا، كما تمثل الممول الأساسي للاستهلاك المحلي رافعة النمو الاقتصادي الأساسية في مصر.

رابعًا: مما يؤكد عدم جدية الحكومة فيما يتعلق بادعاءات زيادة مخصصات الدعم والأجور والخدمات من صحة وتعليم، هو أن معدلات نموها المذكورة جميعًا أقل من معدل التضخم، سواءً حسبناه على أساس "مُخلَّفات" صدمة التعويم وتغير العلاقة بين الجنيه والدولار أو على أساس أرقام الحكومة الرسمية "المُحسنة"، كما نعلم جميعًا؛ ما يعني أنها قد انخفضت كقيمة حقيقية، ومن المعيب الادعاء ببقائها على حالها، ناهيك عن الادعاء بزيادتها.

خامسًا: تناقض أخير بين رغبة الحكومة في زيادة الإيرادات الضريبية وغلق المناخ السياسي العام، في ظل وضعية ركود وبطالة مُتفاقمة؛ ما يهدد بتوترات سياسية بدأت تظهر بوادرها بالفعل، ففرض ضرائب جديدة يعني ضمنًا ضرورة المزيد من المشاركة الشعبية في الحكم وفقًا لمبدأ "لا ضرائب بدون تمثيل"؛ وهكذا لا يمكن الجمع طويلًا بين الفشل الاقتصادي وحلب المجتمع ضريبيًّا باستخدام القمع السياسي؛ ما يعني عدم واقعية تقديرات الإيرادات والمصروفات ومن ثم العجز المالي في الأجل المتوسط على الأقل، في ضوء تعاظم حالة عدم الاستقرار الذي ستعززها سياسات وأوضاع عدائية وغير متوازنة كهذه!

وعود غير مُحققة: كيف أثَّرت الجبائية على النمو والعدالة؟

من وجهة عملية بحتة، تتطلب سياسات التقشف والجباية وعودًا وتأكيدات بطبيعتها المؤقتة لكسب القبول الشعبي بالتخفيضات السريعة في الخدمات العامة ومستويات المعيشة، سواء بالضرائب والرسوم المتصاعدة، أو بالتقليصات المتتالية لبقايا الدعم، وبطبيعتها تلك لا يمكن لتلك السياسة الاستمرار للأبد، فـ"الأحد الذي لا يأتي"(5) هنا، يضطر مع التكرار لمخالفة طبيعته، وإعطاء مواعيد مثل "عامين فقط" و"ستة أشهر أخرى"، وغيرها من مواعيد قدمها المسؤولون، وعلى رأسهم الرئيس نفسه!

أما لماذا لم تتحقق تلك الوعود؟ فنجد تفسيره في التناقضات المذكورة آنفًا، التي أنذرت بنتائج تلك السياسات من البداية، ولم تترك ضرورة للانتظار لتوقع نتائجها، كما تفسر حالة الغضب المُتصاعدة تحت الرماد، والتي بدأت تظهر بعض تباشيرها مؤخرًا مع وصول الضغط الجبائي لمستويات غير منطقية، بإكراه الناس على دفع مخالفاتهم الاضطرارية تحت ضغط الفساد الموروث لمؤسسات الدولة نفسها!

وقد أدى ذلك الأفق المحاسبي لتلك السياسات المالية، المعني بالدفاتر أكثر من الوقائع، لتحسن المؤشرات الرقمية الصورية التي ينشغل بها الخطاب النيوليبرالي، ولو على حساب التطور الاقتصادي النوعي ومستوى المعيشة الحقيقي، ما يظهر في تحسن ظاهري بسيط في معدلات النمو الكلية والموازنة العامة رقميًّا، مع تدهور في المحتوى الحقيقي لهما، مترادفًا مع تدهور معتبر في المؤشرات الاجتماعية الحياتية.

وهكذا، ارتفع معدل النمو من 2.18% إلى 5.55% بين عامي 2013 و2019، والذي يبدو جيدًا بالمقارنة بالأداء العالمي الذي انخفض من 1.46% إلى 1.38% لنفس الفترة، بنقطة ذروة بلغت 2.09% عام 2017(6). لكن نجد من المؤشرات الدالة، التفارق السلبي بين مُجمل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بأسعار السوق، ومُجمل نمو نصيب الفرد من ذلك الناتج مُثبتًا بأسعار 2016/2017، عن كامل الفترة، فبينما بلغ الأول 30.2% بين عامي 2015-2019، لم يتجاوز الثاني 8.4% لنفس الفترة، بشكل يعكس الفارق بين النمو الاسمي والحقيقي(7)؛ (وذلك دون خصم معدل النمو السكاني الذي يجعله سلبيًّا)، ما لا يبتعد كثيرًا عن متوسط معدل التضخم، أو مُكمش الناتج المحلي الإجمالي، وفقًا لتقديرات البنك الدولي، البالغ 15.75% خلال الفترة 2016-2019م، بنقطة ذروة 22.93% عام 2017م اللاحق على صدمة التعويم (8).   

كذا، بتحليل التركيب القطاعي والمحتوى الإنتاجي لذلك النمو، يتبين أولًا طابعه الريعي بسيطرة قطاعات البناء والتشييد والاستخراج والتجارة الداخلية، فيما استمرت المساهمة النسبية للقطاعات الإنتاجية من زراعة وصناعة تحويلية على حالها تقريبًا أو انخفضت(9)؛ حيث ارتفعت المساهمة القطاعية لقطاع التعدين في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 27.5% خلال الفترة 2015-2019، والبناء والتشييد بنسبة 14.8% خلال نفس الفترة، فيما انخفضت مساهمة الزراعة والصناعة التحويلية بنسب 5.9 و5.3% على التوالي لنفس الفترة، كما يتضح ثانيًا الدور الكبير للإنفاق الحكومي المباشر في ذلك النمو، بما لا يعكس تحسنًا في الأداء الاقتصادي الذاتي، ومن ثم المُستدام، للاقتصاد؛ حيث يتوقف على استمرار ذلك الإنفاق، كما يتكلف بتكلفته التمويلية والاجتماعية الواضحة في ارتفاع موارد الضرائب والرسوم وفاتورة المديونية والفوائد في الموازنة العامة؛ بما يجعله "نمو مديونية" سريع الانتكاس، على غرار نمو السبعينات الانفتاحي الذي انعكس لنمو حقيقي بالسالب أوائل الثمانينات. وقد ظهر دور ذلك الإنفاق الحكومي بجلاء في تحول الأنصبة الاستثمارية للقطاعين العام والخاص، بارتفاعها للأول بنسبة 13.4%، مقابل انخفاضها للثاني بنسبة 11.5% خلال الفترة 2015-2019(10)، مترادفًا معه تراجع في صافي الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 14.9% خلال نفس الفترة(11)، وهو المؤشر السلبي لا الإيجابي في ضوء معرفتنا بغلبة الاستثمار في البنية التحتية، لا الإنتاجية المباشرة، على استثمارات ذلك القطاع العام، ما يتصل بنمو المساهمة القطاعية لقطاعي البناء والتشييد والتعدين، وتراجع الخاصة بالزراعة والصناعة التحويلية، الأهم إنتاجيًّا وتشغيليًّا بخاصة في الظرف المصري، على ما سبق ذكره.

وحتى ما أوردته بعض الدراسات(12) من آثار إيجابية مُحتملة لسياسة التقشف التوسعي على التشغيل، لم تكن آثارًا أحادية الاتجاه، بل متناقضة النتائج بحسب نوع الأداة المالية والاتجاهات النوعية للإنفاق والإيراد، فتراوحت ما بين عدم فاعلية سياسة التقشف من جهة وجهها المتعلق بالإنفاق الحكومي بذاته، وفاعليتها عند توظيف الضرائب في تمويل إنفاق حكومي يُوجَّه تحديدًا لاستثمارات بنية أساسية تستخدم مزيدًا من العمالة؛ ما يعيدنا لاعتبارات عدم مزاحمة الإنفاق العام للإنفاق الخاص، ومعامل توظيف القطاعات المُوجه لها ذلك الإنفاق العام.

لذا، لا تتوافق هذه الاتجاهات مع فكرة الانخفاض الجوهري البالغ 40% في معدل البطالة خلال الفترة 2015-2019، على ما تقول البيانات الرسمية، بانخفاضه من 12.5% إلى 7.5% خلال الفترة(13)، الأمر الذي لا يفسره سوى انخفاض نسبة المشاركة في القوة العاملة بنسبة 2.2% للذكور و26% للإناث، خلال نفس الفترة(14)، أي انخفاض الكتلة العاملة التي يُقاس على أساسها معدل البطالة أساسًا؛ ما يعني كونه بالأساس انخفاضًا رقميًّا صوريًّا، لا يعكس تحسنًا جوهريًّا في أوضاع التشغيل والدخل الحقيقية، فضلًا عن استدعائه فحصًا وتقصيًا بحثيًّا بحدِّ ذاته!

أما عن اتجاهات الفقر والتوزيع، فتتسق مع التوقعات البديهية للاتجاهات والسياسات فضلًا عن الشعور العام السائد تجاه المرحلة، سواء من جهة تراجع التشغيل والأجور الحقيقية، أو من جهة عدم العدالة الاقتصادية عمومًا والمالية خصوصًا.

فقد شهدت الفترة تراجعًا في قيم الأجور الحقيقية بنسب بلغت 28.7% لعمال القطاع العام و12.4% لعمال القطاع الخاص عن فترة التحليل المذكورة، وذلك بالتوازي مع ارتفاع الأرقام القياسية لأسعار المستهلكين والمنتجين بنسب بلغت 86.7% و102.7% على التوالي(15)، ما يشير لتدهور مباشر في مستويات معيشة أكثر الفئات العاملة أمنًا في القطاع الاقتصادي الرسمي، فضلًا عن تراجع هوامش أرباح المنتجين ومن ثم ضعف قدرتهم على التوسع والتشغيل والحفاظ على دورة رأسمالهم العامل عند ذات مستوياتها؛ ما ينعكس كله بشكل مباشر وغير مباشر على التوظيف والأجور.

ويأتي هذا التراجع العام ليعزز حالة تاريخية أعمَّ من الفقر وسوء التوزيع، وبينما تشير الأرقام "الرسمية" لبلوغ (معامل جيني) لتوزيع الدخل في مصر 31.8 عام 2015(16)، يعيش ما يقرب من ثلث المصريين تحت خط الفقر، بزيادة بنسبة 5% تقريبًا من 27.8% في العام نفسه(17)، فيما يرفع البنك الدولي تقديراته لما يقارب نسبة 60% من السكان ما بين فقراء أو مُعرضين للفقر(18)، وهو ما يعارض منطقيًّا ذلك التقدير المتفائل لمؤشر جيني، وتدعمه تقديرات تقرير الثروة العالمي، عام 2015، لبنك كريدي سويس السويسري لمعامل جيني لتوزيع الثروة بحوالي 80، بوسيط ثروة للفرد بلغ 1664 دولارًا ومتوسط 6983 دولارًا، بما يعكسه الفارق الكبير بينهما من تفاوت شديد لتوزيع الثروة وضعف حجم الطبقة المتوسطة، يؤكده عدم تجاوز متوسط الثروة الفردية لحوالي 91.7% من أفراد الشعب المصري مبلغ الـ 10 آلاف دولار لا غير(19)؛ ما جعل مصر ثامن أسوأ دول العالم توزيعًا للثروة(20)، ولا عجب فيما نجده من تحفظات واسعة وتعديلات مختلفة على تلك التقديرات الرسمية، كان من أهمها دراسة ويد وزملائه(21)، الصادرة عن البنك الدولي التي انتهت إلى رفع معامل جيني الرسمي المعتدل نسبيًّا البالغ 36.4 عام 2009(22)، إلى 47 دفعةً واحدة، فقط بأخذ مؤشر واحد من مؤشرات الدخول العليا التي لا توجد تقديرات دقيقة لها ضمن حسابه الرسمي ضعيف المصداقية(23) بالاعتبار، وهو مؤشر أسعار المساكن، ولعل هذا مما يفسر الفجوة الكبيرة بين الأرقام الرسمية المعتدلة لتفاوت الدخل والشعور العام الغالب بفجاجته(24)، مما تدعمه تقديرات المنظمات الدولية والمؤسسات الإعلامية الليبرالية نفسها بعدم دعم نمط النمو الحالي للفقراء، وعدم تحسينه لتوزيع الدخل، مهما كانت ارتفاعاته الرقمية(25).

ومع كل ذلك، فشل مالي!

المُفارقة أنه بعد كل هذه التكاليف الاجتماعية والخسائر السياسية، لم تحقق الدولة نجاحًا مُكافئًا لها كميًّا أو كيفيًّا على المستوى المالي، فقد أتى معظم الانخفاض في العجز الكلي بالموازنة العامة، من 32.9% إلى 26.1% بنسبة 21.18% بين عامي 2013 و2019، من الانخفاض في الإنفاق العام من 12% إلى 8.1% بنسبة 32.5% خلال نفس الفترة، وليس من الإيرادات العامة التي لم تزد، بل انخفضت نسبيًّا من 21.4% إلى 17.9% بنسبة 16.35% خلال الفترة(26)، ما يعني في ضوء تزايد أحجام الموازنات، وضمنها الإنفاق العام، تجاوز معدل نمو النفقات معدل نمو الإيرادات، رغم كل الخفض في مكونات الإنفاق الاجتماعي والدعم العام، والزيادات المتلاحقة في الضرائب والرسوم؛ ما يعكس الارتفاع غير الرشيد في الإنفاق على البنية التحتية ويفسر الإفراط في الاقتراض والاتجاه "الغالب" لتزايد الدَّيْن العام.

فإذا أضفنا لما سبق، ما نجده على جبهة الإيرادات، من زيادة الاعتماد على الضرائب غير المباشرة والرسوم المتزايدة على الخدمات العامة، التي تتحملها الطبقات الوسطى والفقيرة بدرجة نسبية أكبر بكثير، فضلًا عن عدم معالجة التعديلات الأخيرة لمشكلات قانون الضرائب على الدخل بشكل جوهري، من ضعف شديد أقرب للعدم في مبدأ التصاعدية والانخفاض غير الواقعي لمستويات الإعفاء الضريبي والمزايا الممنوحة للأشخاص الاعتبارية مقابل الطبيعية(27)؛ فإننا نكون أمام حالة كاملة ليس من عدم العدالة الضريبية فحسب، بل عدم العدالة والكفاءة المالية عمومًا.

خاتمة: نيوليبرالية بلا عدالة ولا قانون!

بالطبع، لا تعطي هذه الورقة شديدة التكثيف صورة كاملة عن اختلالات الوضع التي تقود لتغذية الغضب الشعبي، فأوضاع الفشل التنموي وعدم العدالة الاجتماعية المتأصلة في نمط النمو الاقتصادي المصري، والمُعززة بانحيازات السياسة العامة للدولة، أوسع بكثير من مجرد إشكالات سياساتية ومالية، بل إنها طباع متأصلة في الدولة الساداتية الموروثة عن مرحلة الانفتاح الاقتصادي خصوصًا، فضلًا عن جذورها الأعمق منذ تأسيسها الحديث على أيدي محمد علي وأبناؤه، بتعديلاتها اللاحقة فترة الاحتلال البريطاني، مما تناولناه سابقًا في ورقة "اللفياثان المريض"، لكن تظل سياسات الفترة الأخيرة الأكثر سرعة وجرأة في القضاء على بقايا "العقد الاجتماعي" الذي أرسته ثورة يوليو/تموز من بعض الاحترام للحقوق الاجتماعية الأساسية، وضمان بعض أوليات المعيشة مما كان يحترمه حتى الراحل حسني مبارك ولا يفتأت عليه بالعجلة والتهور اللذين يتصرف بهما عبد الفتاح السيسي، الذي اتخذت معه النيوليبرالية في مصر منحىً أكثر توحشًا وشراسة، دون حتى مزاياها المزعومة من انفتاح سياسي ومنافسة سوقية وحكم قانون مما تدهور جميعه لمستويات غير مسبوقة عبر أربعة عقود على الأقل!

وتظل النتيجة الأهم، أنه مهما بلغت قوة السلطة السياسية وتهور رؤوسها، تظل هناك قيود موضوعية، تقنية واجتماعية معًا وعلى السواء، تضع حدودًا لسياسات تلك السلطة، وليست سياسات الجبائية باستثناء من ذلك، فسواء بقيود الاقتصاد، أو بغضب الشارع، لابد أن تتوقف تلك السياسات عند حدٍّ ما، وإلا ستكون النتائج وخيمة على الجميع!

نبذة عن الكاتب

مراجع

(1) لمزيد من التفاصيل، انظر:

-  الببلاوي، حازم، دليل الرجل العادي إلى تاريخ الفكر الاقتصادي، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى 1995، ص ٢٤-٣١.

-  ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، مقدمة ابن خلدون، دار العقيدة، الاسكندرية، 2008.

(2) Laffer, Arthur B., "The Laffer Curve: Past, Present, and Future", Executive Summary Backgrounder, No. 1765, June 1, 2004, Thomas A. Roe Institute for Economic Policy Studies & The Heritage Foundation, Washington, DC, 2004.

(3) فريدن، جيفري، "الاقتصاد السياسي للسياسة الاقتصادية.. نظر أقرب على التفاعلات بين السياسة والاقتصاد ومجالات أخرى"، مجلة التمويل والتنمية، صندوق النقد الدولي، المجلد (57)، العدد (2)، يونيو/حزيران 2020، ص 4-9.

(4) عبد الهادي، مجدي، "اللفياثان المريض.. ثنائية الطغيان السياسي والعجز التنموي للدولة المصرية"، مجلة لُباب للدراسات الاستراتيجية والإعلامية، مركز الجزيرة للدراسات، (العدد صفر، نوفمبر/تشرين الثاني 2018، الدوحة)، ص 280-284.

(5) "الأحد الذي لا يأتي" مقولة شهيرة عن قصة تراثية تحكي عن مدين يعد دائنه دومًا بالسداد يوم "الأحد القادم" دون تحديد لأي أحد بالضبط؛ فسارت مثلًا على الوعود غير المُحددة بنية مُسبقة بعدم الوفاء.

(6) قاعدة بيانات البنك الدولي:

https://data.worldbank.org/indicator/NY.GDP.MKTP.KD.ZG?end=2019&locations=EG&start=2012.

(7) كتيب الإحصاءات الاقتصادية لجمهورية مصر العربية، المركز المصري للدراسات الاقتصادية، إصدار 2020م، القاهرة، 2020، ص 22.

(8) قاعدة بيانات البنك الدولي:

https://data.worldbank.org/indicator/NY.GDP.DEFL.KD.ZG?end=2019&locatio… .

(9) الاقتصاد المصري..السياسات والتحديات، سلسلة "التقرير الاستراتيجي المصري"، العدد الخامس، مارس/آذار 2020، المعهد المصري للدراسات، إسطنبول، ص 13-16.

(10) كتيب الإحصاءات الاقتصادية لجمهورية مصر العربية، ص 22.

(11) المصدر نفسه، ص 29.

(12) مندور أحمد فؤاد، وآخرون، "أثر سياسة التقشف التوسعي على البطالة والتضخم.. حالة مصر"، مجلة الدراسات المالية والمحاسبية والإدارية، جامعة العربيب ابن مهيدي أم البواقي، المجلد (6)، العدد (4)، ديسمبر/كانون الأول 2019، ص 191.

(13) كتيب الإحصاءات الاقتصادية لجمهورية مصر العربية، ص 22.

(14) المصدر نفسه، ص 25.

(15) المصدر نفسه، ص 25.

(16) قاعدة بيانات البنك الدولي:   https://data.worldbank.org/indicator/SI.POV.GINI?locations=EG&type=poin…

(17) قابيل، مي، "قراءة في بيانات بحث الدخل والإنفاق 2017/2018م"، مجلة الديموقراطية، مؤسسة الأهرام، مجلد (19)، عدد (76)، أكتوبر/تشرين الأول 2019، القاهرة، ص 126.

(18) "معدل الفقر في مصر يرتفع إلى 32.5 في المئة من عدد السكان"، بي بي سي نيوز، 30 يوليو/تموز 2019، (تاريخ الدخول: 16 أكتوبر/تشرين الأول 2020): https://www.bbc.com/arabic/business-49167506.

(19) Credit Suisse, Global wealth report 2015, October 2015, p 102.

(20) "تقرير الثروة العالمي لكريدي سويس: مصر ثامن أسوأ دول العالم في توزيع الثروة"، أصوات مصرية، 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2014، (تاريخ الدخول: 16 أكتوبر/تشرين الأول 2020): http://www.aswatmasriya.com/news/details/46547 .

(21) Weide, Van Der, et al., Is inequality underestimated in Egypt? evidence from house prices, Policy Research working paper no. WPS 7727, Washington, D.C. : World Bank Group, 2016, p 24-25 .

(22) لا شك أن فوارق التقديرات المُعتبرة والمتناقضة هذه بين الجهات المختلفة، والمتقلبة بشكل كبير من عام لآخر، كما يظهر حتى بقاعدة بيانات البنك الدولي، إنما تعكس فضلًا عن مشكلة البيانات المزمنة في مصر من الوجهة التقنية، مشكلة حساسيتها من الوجهتين، السياسية والاجتماعية!

(23) جاد، محمد، "بيكيتي: عدم نشر بيانات الثروة لم يمكنني من التوسع في دراسة مصر"، أصوات مصرية، 2 يونيو/حزيران 2016، (تاريخ الدخول: 16 أكتوبر/تشرين الأول 2020): http://www.aswatmasriya.com/news/details/63334 .

(24) فيرمي، باولو، "الحقائق مقابل التصورات: محاولة لفهم انعدام المساواة في مصر"، مدونات البنك الدولي، 25 يناير/كانون الثاني 2013، (تاريخ الدخول: 16 أكتوبر/تشرين الأول 2020):

http://blogs.worldbank.org/arabvoices/ar/facts-vs-perceptions-understan… .

(25) Poor on the Nile.. Egypt is reforming its economy, but poverty is rising, Fast growth is not raising the incomes of the poor, The Economist, Aug 8th 2019, (Viewed in 13/10/2020):

https://www.economist.com/middle-east-and-africa/2019/08/08/egypt-is-re….

(26) كتيب الإحصاءات الاقتصادية لجمهورية مصر العربية، ص 13.

(27) إسماعيل، أميمة، "هل تحقق تعديلات ضريبة الدخل الأخيرة العدالة؟"، مدى مصر، 10 مايو/أيار 2020:

https://www.madamasr.com/ar/2020/05/10/feature/اقتصاد/هل-تحقق-تعديلات-ض…