يزور جاريد كوشنر، صهر الرئيس ترامب وكبير مستشاريه، مع ثلاثة من كبار معاونيه، السعودية وقطر، خلال الأسبوع الجاري، لتسوية الأزمة الخليجية قبل رحيل الإدارة الأميركية الحالية، في 20 يناير/كانون الثاني المقبل. وتراهن إدارة ترامب على نجاح هذه المهمة كي تحصِّن سياسة "الضغوط القصوى" على إيران، وتعقِّد مهمة عودة إدارة الرئيس المنتخب، جو بايدن، إلى الاتفاق النووي، وتقوِّي حظوظ فوزه (أي ترامب) في الانتخابات الرئاسية، عام 2024، إذا اعتزم خوضها. لكن حسابات البيت الأبيض قد لا تكون متوافقة مع حسابات القيادات السعودية والإماراتية والقطرية التي قد لا تجد فائدة في التمسك بسياسة عرَّضتهم للخطر، وتتصادم مع سياسة الإدارة الأميركية الجديدة.
دبلوماسية ربع الساعة الأخير
يولي البيت الأبيض أهمية بالغة لهذه المهمة، فلقد خصَّها دون غيرها من الملفات بأيامه المتبقية في البيت الأبيض لتكون تتويجًا يختتم به الرئيس ترامب سنوات حكمه الأربعة، وكلَّف بها أفضل دبلوماسييه وأكثرهم ثقة في ملف الشرق الأوسط، كوشنر، مهندس صفقة القرن، وآفي بيركوفيتش، العقل المنفِّذ لتطبيع إسرائيل علاقاتها مع الإمارات والبحرين والسودان، وبرايان هوك، مهندس سياسة الضغط الأقصى المطبقة على إيران.
ويدل حرص الرئيس ترامب الظاهر على تحقيق المصالحة بين السعودية وقطر على أنه سيحقق مكاسب لا يمكنه تحقيقها في ملفات أخرى، تخدم ميراثه ومستقبله. أما المكاسب التي تخص ميراثه فثلاث: لا يريد ترك الفوضى التي أحدثها بين دول الخليج الحليفة وراءه ليتولى غريمه، الرئيس بايدن، إصلاحها، فتتضرر صورة المفاوض البارع في إبرام الصفقات، التي شكَّلت رأس ماله في عالم الأعمال والسياسة. ثانيًا، قد يتطلع ترامب إلى أن يرعى حفل المصالحة بين دول الحصار وقطر في البيت الأبيض ليخطف الأضواء من حفل تنصيب بايدن، ويسلِّطها على نفسه، فيرحل متوَّجًا بإنجاز دبلوماسي جديد.
أما الهدف الاستراتيجي الأكبر من الهدفين السابقين، فهو ترميم الصدع الذي أحدثه الحصار في البناء الخليجي واستفادت منه إيران، كي تتوحد أغلبية دول الخليج على رفض مسعى إدارة بايدن إلى العودة للاتفاق النووي مجددًا.
أما الأهداف المستقبلية المتوخاة، فقد يحسب ترامب أن المصالحة الخليجية ستُبقي على عزلة إيران، فتذكر له القاعدة الانتخابية الناقمة على إيران هذا الإنجاز، وتصوِّت له إذا ترشح مجددًا في 2024. ولم يعد احتمال ترشحه هذا مجرد تخمين بل وردت أنباء عن بحث ترامب له مع مستشاريه، ومناقشة سبل دعم القيادات الجمهورية له إذا قرر خوض السباق الرئاسي مجددًا، ولعل أحد السبل هو التشدد مع إيران وتشكيل جبهة خليجية تمانع رفع العقوبات عنها.
يود ترامب أن تصب المصالحة الخليجية المرجوة في رصيد صهره السياسي، لعله يستثمره مستقبلًا في خوض التنافس الانتخابي إما على مستوى الولايات أو على المستوى الوطني.
ساعة بايدن
لا تتفق حسابات القيادة السعودية مع إدارة الرئيس ترامب، فلقد أصيبت بخيبة أمل من تخلي الرئيس ترامب عنها لما تعرضت منشآتها النفطية لهجوم صاروخي، قالت الإدارة الأميركية: إنه إيراني، وقررت من حينها البحث عن خفض التصعيد مع إيران، فطلبت من رئيس وزراء باكستان، عمران خان، ورئيس الوزراء العراقي، عادل عبد المهدي، نقل رسائل تهدئة إلى طهران. وستكون دوافعها للتصعيد أقل خلال حكم الإدارة الأميركية الجديدة، لأن بايدن يعتزم التخلص من سياسة "الضغط الأقصى" والعودة إلى سياسة دمج إيران في النظام الإقليمي التي تبناها الرئيس باراك أوباما، وستعزل السعودية نفسها إذا عارضت هذا التوجه.
قد يرى ابن سلمان أيضًا أن إنجاز المصلحة مع قطر خلال الأيام المتبقية لترامب، لن يغنيه شيئًا في تحسين علاقاته مع الرئيس الجديد، بايدن، الذي توعَّده بدفع ثمن اغتيال خاشقجي وبوقف الدعم الأميركي له في حرب اليمن. وقد يحسب ابن سلمان أن الأنفع له عقد المصالحة مع قطر خلال حقبة الإدارة الأميركية الجديدة، حتى يُنسب الفضل في إتمامها للرئيس بايدن، فيرد له الجميل بالتخلي عن العقاب الذي توعده به.
يدل تجاهل كوشنر المرور بأبوظبي خلال مهمته، أن إدارة ترامب ترى أبو ظبي عقبة في طريق المصالحة الخليجية وأنها أيضًا ليست الطرف المهم فيها. وقد جدَّد سفير الإمارات بالولايات المتحدة، يوسف العتيبة، رفض بلاده للمصالحة في الوقت الراهن؛ فقال: "إنها ليست على أجندة أحدٍ حاليًّا"، وإن كان تقرير للفايننشيال تايمز، يذكر أن الإمارات أيضًا توظِّف المصالحة مع قطر في مدِّ جسور الود مع الرئيس الجديد، بايدن، لأنها تخشى ألا يوفر لها الحصانة على سياساتها في ليبيا واليمن، كما كان يفعل الرئيس ترامب. ويذكر تقرير للوول ستريت جورنال، أن الإمارات تشترط أيضًا تنازل قطر عن المطالبة بخمسة مليارات دولار تعويضات عن الخسائر التي لحقت بخطوطها الجوية من رفض دول الحصار السماح لها باستعمال مجالها الجوي.
تضررت الإمارات أيضًا من سياسة الضغط الأقصى، فلقد تعرضت موانئها لهجمات تخريبية، اكتفت الإدارة الأميركية بتحميل إيران المسؤولية عنها، لكنها لم تقتصَّ لحليفتها. استخلصت الإمارات الدرس وقررت التقرب من إيران، وسيترسخ هذا التوجه أكثر مع تبني بايدن سياسة الاتفاق على حوار مشترك بين دول الخليج وإيران.
يُلاحَظ أيضًا أن حدوث المصالحة بين السعودية وقطر سيوسِّع الخلاف بين السعودية والإمارات، وهو خلاف حادث أصلًا في اليمن، فالبلدان يرعيان فيه طرفين لا يتوقفان عن التقاتل، وقررت الإمارات أيضًا الانسحاب من حرب اليمن تاركة السعودية غارقة في مستنقعها، ولم تلتزم الإمارات بالتوجيهات السعودية في أوبك، وقد تستنتج السعودية أن مصلحتها أيضًا في التحرك بمفردها في التصالح مع قطر، وسترضخ الإمارات في النهاية للأمر الواقع.
قد لا تتعجل قطر في عقد المصالحة حاليًّا، وتنتظر إلى أن يستلم بايدن الحكم، فيضغط على السعودية في ملفي اليمن وخاشقجي وحقوق الإنسان، وعلى الإمارات في ملف ليبيا والتقارب مع النظام السوري والتعاون مع روسيا في تمويل مرتزقة فاغنر في ليبيا، فتكون الدوحة حينها في وضع تفاوضي أفضل منهما، يمكِّنها من تحقيق مكاسب لا تستطيع الحصول عليها حاليًّا.
لا تتفق سياسة "الضغط الأقصى" على إيران التي يحرص ترامب على استمرارها بعد رحيله، مع دعوة قطر إلى اشتراك كل دول منطقة الخليج في نظام أمني شبيه بالنظام الذي أقامته دول الآسيان. تتشارك دوله في إجراءات بناء الثقة، وتتوفر على آليات رقابة متبادلة، وهيئات جماعية لتسوية الخلافات البينية.
ومن منظور أوسع، أخفقت محاولات ترامب العديدة السابقة في تسوية الحصار المفروض على قطر، رغم أنه كان وقتها يمتلك من أسباب القوة ما لا يمتلكه الآن، وسيكون إخفاقه هذه المرة أرجح، لأن هناك عوائق جديدة تمنع الأطراف المعنية بالحصار من القبول بتسوية قد ترى مصلحتها في تأجيلها إلى عهد الإدارة الأميركية الجديدة.
قد لا يكون مستبعدًا، رغم ذلك، أن يحصل على إنجاز جزئي، مثل قبول الرياض بفتح مجالها الجوي للخطوط الجوية القطرية، لكن التضارب الحاصل بين تقديرات إدارة ترامب وتقديرات أطراف الحصار، يشير إلى أن مقومات المصالحة الخليجية لم تتوافر بعد، وستكون حظوظها أفضل خلال الإدارة الأميركية الجديدة.