
في ظل تَوحُّش الإبادة التي يتعرَّض لها الفلسطينيون، تحوَّل قطاع غزة إلى مقبرة جماعية؛ حيث تَسْتَخدِم إسرائيل جميع أنواع الأسلحة الفتاكة لتدمير مصادر الحياة الإنسانية، بما في ذلك سلاح التجويع الذي وثَّقته المنظمات الإنسانية والحقوقية الدولية وكاميرات المراسلين وشهادات الصحفيين الفلسطينيين على الهواء مباشرة. وما يُثير الانتباه أن هذا التوثيق كان مُسْنَدًا ومُثْبَتًا بمعاناة المراسلين والصحفيين أنفسهم من وطأة المجاعة الشاملة التي بات يعيشها سكان القطاع، ويواجهون "مصائد الموت" في مراكز توزيع المساعدات التابعة لما يُسمَّى "مؤسسة غزة الإنسانية". وقد رصد هؤلاء الصحفيون آثار المجاعة، منذ الشهور الأولى لتغطية الحرب، لاسيما في شمال القطاع، وحذَّروا عبر شاشات القنوات الفضائية والشبكات الدولية من سياسة التجويع التي يتِّبعها الاحتلال الإسرائيلي، ولم يجد الصحفيون سوى نبتة "الخُبَّيزَة" (بَقْلَة من فصيلة الخُبَّازِيَّات) طعامًا يوميًّا لا بديل عنه للبقاء على قيد الحياة. وكانوا يبدون نقدًا شديدًا لهذا الوضع الذي عجزت فيه المؤسسات والمنظمات الحقوقية المعنية عن مساندتهم وتوفير الإمكانيات والسُّبُل التي تُعزِّز صمودهم في الميدان، وتدفع إلى محاسبة الاحتلال الإسرائيلي وإنهاء الإفلات المستمر من العقاب. ووجد الصحفيون -كما ذَكَر بعضهم في مقابلات أجراها الباحث مع عينة موسعة من المبحوثين خلال أبريل/نيسان ويونيو/حزيران الماضيين- أن "الخُبَّيزَة وقفت بجانب الصحفيين أكثر من أي منظمة أو مؤسسة تُعْنَى بحقوق الصحافيين وحمايتهم" من انتهاكات الجيش الإسرائيلي، والقتل الممنهج لإبادة الجماعة الصحفية الفلسطينية. ويُشير ذلك إلى تفاقم مشكلات الحياة اليومية والإنسانية التي يعيشها الصحفي في غزة منذ فترة مبكرة من الحرب؛ إذ تُرِكَت هذه الفئة المجتمعية مثل غيرها من الفئات الأخرى تُواجه مصيرها المحتوم مع كارثة المجاعة الشاملة.
لجأ الصحفيون هذه المرة إلى شبكات التواصل الاجتماعي عسى أن يصل صوتهم إلى أصقاع العالم، وكذلك إلى جميع الأفراد والجماعات والكيانات في العقد الشبكية، ولمن لا يزال يُنْكِر المجاعة و"لا يعتقد بوجودها في القطاع"، ويرى أن "الأمر يتعلق بسوء تغذية" فقط. ويبدو هذا الوضع (آثار المجاعة) الذي يعيشه الصحفيون الفلسطينيون في غزة استثنائيًّا، وغير مسبوق في تغطية الصراعات والنزاعات، في التاريخ المعاصر، مثلما أن الحرب نفسها والإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني غير مسبوقة. وهنا، يَبْرُز سؤال مركَّب: لماذا أصبح الصحفيون شخصية محورية في تغطية المجاعة عبر حساباتهم على الشبكات الاجتماعية، وهم الذين كانوا بالأمس ينقلون، من خلال شاشات الفضائيات الدولية، المعاناة اليومية للفلسطينيين بحثًا عن رغيف الخبز في ظل الإبادة الجماعية؟ وما الذي يعنيه خروج الصحفي معلنًا معاناته من المجاعة الشاملة في غزة؟
الواقع المعزز
تواترت التقارير كاشفةً آثار المجاعة التي تُهدِّد حياة الصحفيين في غزة، وتُبيِّن الظروف والتحديات المهنية التي يواجهها هؤلاء خلال الحرب، بدءًا بالمخاطر الأمنية أثناء العمل الميداني، والقتل الذي يترصَّدهم، وحَرْق الخيام التي اتَّخذها الصحفيون مكاتب للعمل والإقامة، ومعاناة المجاعة (الهزال، الإرهاق، الدوار، النسيان، حالات الإغماء، التشوش الذهني، الاكتئاب...) حتى أصبح الصحفي خبرًا في العناوين الرئيسية للنشرات الإخبارية، ومحور التقارير الدولية التي تُوَثِّق تجويع الصحفيين. ويترافق ذلك مع سياسة الإبادة الإعلامية للجماعة الصحفية الفلسطينية؛ إذ تجاوز عدد الصحفيين الذين اغتالهم الجيش الإسرائيلي 230 صحفيًّا منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
في ظل هذه الظروف المأساوية التي يحاول فيها جيش الاحتلال الإسرائيلي إسكات صوت الصحفي الفلسطيني في غزة، وإضعافه من خلال المجاعة، يكسر هذا الصحفي (المراسل الحربي) الدور التقليدي للعمل الصحفي وقواعد تغطية الحروب والنزاعات. فهو لم يَعُد "صوت الناس الذين لا صوت لهم" كما يقول الباحث بليز ليمبين (Blaise Lempen)، مُؤَلِّف كتاب: "مذابح بدون شهود" (Massacres Sans Témoins)، ولا ناقلًا للخبر، ولا "مُدَوِّنًا للمسودات الأولى للتاريخ" مثلما يرى المراسل الحربي السابق لـ"بي بي سي"، مارك براين (Mark Brayne)؛ إذ يقوم الصحفي بترسيخ هذا التاريخ قبل أن يُوجِّه المنتصرون تأويلهم الأيديولوجي للأحداث. فقد أصبحت التغطية الميدانية نوعًا من الواقع المُعَزَّز ليس بالمعنى التقني الذي تُسْتَخْدَم فيه عناصر رقمية عبر وسيط تكنولوجي، وإنما بالمعنى الإنساني، أي واقعٌ مُعَزَّز بالمشاعر الذاتية والخطر الحقيقي الذي يتهدَّد الذات الصحفية نفسها من الكوارث والأزمات التي خلقتها الحرب، وهو أيضًا واقعٌ مُعَزَّز بمعاناة الصحفي من المجاعة وتداعيتها (المرض والإرهاق والهزال والإغماء...) كما ذُكِر آنفًا. وهنا، لا يكتفي الصحفي الفلسطيني في غزة بدور الناقل لأخبار المجاعة، و"المُؤَرِّخ" الأولي لمظاهرها وآثارها بين الناس، بل يُضفي على هذا الواقع أبعادًا إنسانية ووجدانية انطلاقًا من حالته وتجربته الشخصية التي تُعَزِّز فَهْم المتلقي لما يجري في القطاع، وتُعمِّق تفاعله مع الكارثة الإنسانية التي يُواجهها أهالي غزة. ولذلك يُفْسِح الصحفي في المجال لصوته الداخلي، ويُضيف أبعادًا شخصية وذاتية فوق الواقع اليومي، فيُعَزِّز أبعاد المعاناة والحرمان ويُكثِّف الصور والدلالات عن تجربته ودوافع اختياراته ومواقفه في ظل كارثة المجاعة، مثلما يُضيف الواقع المُعَزَّز طبقة من المعلومات فوق الصور الحقيقية.
وهنا، تَبْرُز حالات كثيرة للصحفيين الذين خرجوا عبر شبكات التواصل الاجتماعي لِتَمْثِيل هذا الواقع المُعَزَّز، حيث يَنْغَمِس الصحفي في التغطية وينخرط في الأحداث وسياقاتها وتداعياتها من خلال إشراك الجمهور في تجربته الواقعية، ويصبح "الصحفي هو القصة"، مثل حالة الصحفي الفلسطيني، بشير أبو الشعر، الذي دفعته المجاعة إلى عرض كاميراته لمقايضتها بكيس طحين. فقد كتب في صفحته على فيسبوك: "قررت استبدال كاميراتي كانون D80 (مال حلال الحمد لله) بكيس دقيق حتى أسد جوع أطفالي. فما عادت هناك طاقة لنتحمَّل ضيق العيش، وقهر المجاعة، ولن انتظر موت أطفالي أمام ناظري بسبب الجوع". وليست حالة أبو الشعر وحدها التي تكشف هذا الواقع المُعَزَّز بمعاناة الصحفيين من المجاعة، بل هناك عشرات الصحفيين الذين خرجوا أيضًا عبر حساباتهم لإعلان صرخاتهم ضد سياسة الموت البطيء التي ينهجها الاحتلال الإسرائيلي لإسكات صوت الصحفي الفلسطيني وإضعاف حضوره على الشاشة آملًا في إفنائه وتمديره، أو حتى يظل على الأقل مُنْشَغِلًا بالبحث عن كيس الطحين والحليب لأطفاله وليس بالبحث عن الخبر والمعلومة وسط ركام الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني. وتُمثِّل حالة الصحفي محمد عامر العولقي نموذجًا آخر غير مسبوق في تاريخ معاناة الصحفيين من المجاعة؛ إذ كتب عبر صفحته على فيسبوك -في عنوان يحمل دلالة سيميائية لافتة "الصحفي الذي أكله الجوع"- أن ظروف الحرب والمجاعة اضطرته إلى بيع هاتفه الذي كان يستخدمه في تغطية الأحداث، "والآن أقوم ببيع دراجتي التي اتنقل بها للوصول إلى الخبر... بعت كل شيء جمعته في سنين التعب حتى أشتري خبزًا... وهنا أنا أعرض دراجتي بعد بيع هاتفي، وأقول لكم من يريد أن يستبدلها لأحصل على الطحين".
كان الصحفيون في تاريخ تغطية الحروب والنزاعات يواجهون تحديات مختلفة؛ إذ يتعرَّضون لمخاطر أمنية تُهدِّد حياتهم، إما بالقتل، أو الاختطاف والتعذيب، أو السجن، أو الأمراض المعدية والحرمان من العلاج، أو مواجهة خطر الألغام... لكن في حرب الإبادة الجماعية التي تَشنُّها إسرائيل على غزة يواجه الصحفيون جميع هذه المخاطر وقد أُضِيف إليها سلاح المجاعة الشاملة التي لم يسبق لتاريخ العمل الصحفي أن عرف نظيره، سواء في الحروب العالمية أو غيرها من الأزمات والنزاعات الدولية، حتى يضطر الصحفي إلى استبدال كيس من الطحين بكاميراته أو وسيلة تنقله. لكن هذا لا يعني استسلامًا لسياسة التجويع، أو انهيارًا وانكسارًا أمام آلة البطش الإسرائيلية التي تستخدم جميع الأسلحة الفتاكة لاجتثاث الجماعة الصحفية الفلسطينية؛ إذ لا يزال الصحفي الفلسطيني حتى اليوم يواصل أداء رسالته الإعلامية في غزة مُتَحَدِّيًا هذه الآلة الباطشة بكل مصادر الحياة في غزة، ويُبْدِي صمودًا غير مسبوق أيضًا حتى لا تتحوَّل المجاعة إلى أداة لإضعاف صوته والسيطرة على الرواية الفلسطينية وطمسها.
مادة إعلامية للبحث العلمي
يكشف هذا الواقع اليومي من المعاناة، في ظل كارثة المجاعة الشاملة بالقطاع، أن جميع المدنيين -بما في ذلك الجماعة الصحفية- أصبحوا يُواجهون أخطارًا صحية تُهدِّد حياتهم مع استمرار الحرب، ولا يوجد هناك أي اعتبار قانوني، أو أخلاقي، أو حتى إنساني، لحماية الصحفي من المجاعة والكوارث المتعددة التي يعيشها الإنسان في غزة. ويَنْسِف هذا الواقع المُعَزَّز بمعاناة الصحفيين الفلسطينيين من المجاعة ما تراه إسرائيل "حملة من الأكاذيب العمياء حول وجود مجاعة في غزة"؛ إذ يقول رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو: "ما هذه إلا أكاذيب. لا توجد مجاعة في غزة، ولا توجد سياسة تجويع نتبعها". بينما يرى العالم عبر شاشات الفضائيات وشبكات التواصل الاجتماعي صور الهياكل العظمية لأطفال ونساء وشيوخ، وحتى الصحفيين الذين "أكلهم الجوع" كما قال العولقي.
يُسْهِم هذا الواقع المُعَزَّز بمعاناة الصحفيين من المجاعة في توثيق أحداث المجاعة الشاملة التي يُواجهها سكان القطاع، وسيكون هذا السرد الذاتي، الذي يجعل الصحفي شخصية محورية وقصة ذاتية للتغطية عبر شبكات التواصل الاجتماعي، مادة رقمية ذات قيمة تأريخية في تتبُّع مسارات الحرب التي تَشنُّها إسرائيل على قطاع غزة، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ودراسة الكوارث والأزمات التي عاشها أهالي غزة في سياق الإبادة الجماعية للفلسطينيين. ويُمثِّل هذا السرد الذاتي أيضًا مجالًا حيويًّا للدراسات الأنثروبولوجية في حقل الإعلام (أنثروبولوجيا الإعلام)؛ إذ يُتِيح الواقع المُعَزَّز بمعاناة الصحفيين من المجاعة والكوارث الإنسانية الأخرى (تدمير مساكن الصحفيين، استهداف عائلات الصحفيين، حَرْق خيام الصحفيين، استخدام الطائرات المسيرة لاغتيال الصحفيين...) مناقشة أسئلة جوهرية خلال الحرب: كيف عاش الصحفيون الفلسطينيون في غزة حرب الإبادة الجماعية؟ ولماذا تعرض الصحفيون للإبادة؟ كيف عاش أفراد الجماعة الصحفية التهجير القسري والنزوح؟ وما التغييرات التي حصلت في العمل الصحفي المهني وأدوار الصحفيين في تغطية الحرب؟ وهل كان الصحفي يقوم بدور الناقل للأخبار والأحداث فحسب؟ ما الذي جعل الصحفي الفلسطيني في غزة يكون هو القصة الخبرية ومُعَزِّزًا للواقع الذي يقوم بتغطية أحداثه؟ إلى أي حد أسهمت هذه التجارب في تعزيز "صحافة الانغماس" التي تجعل الذات الصحفية محورًا للقصة؟ وما تأثيرات الحرب النفسية والاجتماعية والثقافية على الصحفيين الفلسطينيين في غزة؟ كيف ينظر المجتمع الفلسطيني للصحفي بعد أن أصبح هدفًا للاحتلال الإسرائيلي؟ وما رؤية الصحفيين للكوارث الإنسانية الناجمة عن الإبادة الجماعية بما في ذلك المجاعة؟
يبدو واضحًا من خلال مسارات الحرب الإسرائيلية على غزة، والمخاطر الأمنية والصحية التي تعرَّض لها الصحفيون الفلسطينيون، أن طمس الرواية الفلسطينية بشأن تطورات الأحداث، ومحاولة السيطرة على الخطاب العام، كان جزءًا من أهداف الإبادة الجماعية. لذلك لجأت إسرائيل إلى جميع الأسلحة منذ اليوم الأول من الحرب لتدمير الجماعة الصحفية الفلسطينية بدءًا بنسف مقار المؤسسات الإعلامية، وتدمير أدوات العمل المهني، مرورًا بالتهديد بالقتل، ثم الاغتيال الواسع الممنهج بالطائرات المسيرة، وتدمير البيوت فوق رؤوس الصحفيين وأهاليهم، وانتهاء بالمجاعة الشاملة. ويُشير ذلك إلى تحوُّل في السلوك العدواني لجيش الاحتلال الإسرائيلي تجاه الجماعة الصحفية الفلسطينية؛ إذ لم يَعُد مهتمًّا بقتل الرموز الصحفية في فلسطين (نموذج شرين أبو عاقلة)، أو التضييق على عمل الصحفيين وحريتهم في التنقل لتغطية انتهاكات الاحتلال، بل إن التوحُّش الإسرائيلي الذي كشفت عنه الحرب امتدَّ إلى الحقل الإعلامي ليأخذ طابع الفعل الإبادي، وهو ما أسماه الباحث في دراسة سابقة بـ"الإبادة الإعلامية" للجماعة الصحفية الفلسطينية. وتستمر إسرائيل في هذا السلوك العدواني متجاهلة نداءات المؤسسات الإعلامية والمنظمات الحقوقية لإنقاذ الصحفيين والسماح لهم بالخروج من غزة والدخول إليها بحرية. وتستفيد في شَرْعَنَة هذا السلوك من الدعم السياسي والدبلوماسي في المحافل الدولية والعسكري والمالي الذي تُقدِّمه لها بعض القوى الغربية لاستمرار آلتها الحربية وإفلاتها من العقاب.