تُظهر مرحلة ما بعد حرب الـ12 يوماً بين إيران واسرائيل في حزيران 2025، أن فهم السلوك الإقليمي لإيران وخاصةً احتمال التهدئة أو التصعيد مع إسرائيل لا يكتمل دون قراءة التحولات الداخلية التي أعادت ترتيب شرعية الدولة وحدود خطابها. فبينما تتحدث تقارير عن تبادل رسائل غير مباشرة عبر موسكو بهدف خفض التصعيد الإيراني–الإسرائيلي، نعطينا مجريات الداخل الإيراني إطاراً تفسيرياً يعتبر أن ما بعد الحرب "لم يُقَرِّب المسافات بين التيارات بقدر ما سرّع"تصاعد الصراع على شكل وهوية إيران" واحتمالاته. فيما يمكن وصفه بأنه بحثٌ عن آلية واحدة مفادها كيف تُدار "كلفة الصراع" خارجياً عبر قنوات تهدئة، في الوقت الذي يُعاد فيه بناء الإجماع/الشرعية داخلياً بأدوات قومية-سيادية وبراغماتية سياسية؟
"قناة موسكو" وسياسة إدارة المخاطر
تقدم تقارير عدة روسيا بوصفها"صديقاً مشتركاً" أُعيد تفعيله لتمرير رسائل بين إيران وإسرائيل وسط مخاوف من جولة مواجهة
وظيفة هذه القناة، ليست إنتاج اتفاق سلام أو ترتيبات اعتراف بل تقليص احتمال سوء التقدير وإدارة سقف الردع المتبادل: أي تحويل التصعيد من مسار “سلسلة ضربات” إلى مسار "حدود محسوبة". وفي الخلفية، يتقاطع هذا مع موقف روسي معلن يدفع باتجاه "التهدئة والحوار"كلما تصاعدت مؤشرات الانزلاق.
أهمية القناة الروسية لا تنبع فقط من كونها وساطة، بل من طبيعة الوسيط: روسيا تمتلك شبكات تواصل ومصالح مع الطرفين، وتبحث عن تثبيت دور"مدير أزمة" في شرق أوسط باتت فيه لحظات الانفجار أسرع من قدرة القنوات الرسمية على الاستيعاب، لكن في الوقت ذاته لا تغادر حالة التوجس من الطرف الروسي العقل السياسي الإيراني، خاصة مع ماحدث في سوريا وسعي روسيا على الدوام لحماية المصالح الإسرائيلية.
يتقاطع ذلك مع الحالة الداخلية وبصورة منهجية مع واقع الخطاب السياسي في إيران إذ لايمكن النظر إليه بوصفه خطاباً إعلامياً، بل منظومة شرعية تنظّم المجال السياسي وتعيد ترتيب الفاعلين ضمن ثنائيات الانتماء والشرعية التي فرضت على إيران أن تؤكد وهي تتبادل ترد على رسائل التهدئة التي تصلها "أنها لن تعترف باسرائيل".
كان ملازما للحياة السياسية ففي إيران أن تتعاقب "دورات الخطاب"بعد الثورة (الثورة/ضد الثورة، الدفاع المقدس، إعادة البناء، الإصلاحات، الأصولية)، ثم طروحات الاعتدال كتيار لم يرقَ إلى خطاب مكتمل، لافتقاره إلى "شبكة دلالية" وحامل اجتماعي متين، ما يجعله أقرب إلى "شبه خطاب" وظيفته إدارة الأزمات. لكن الجديدبعد حرب الـ12 يوماً هو تحوّل الاعتدال من إدارة الأزمة إلى الدعوة ل"تغيير البرادايم”—بوصفه تغييراً في الإطار المرجعي، وأنماط التفكير، وآليات صنع القرار، ولغة التحالفات والمشروعية، بما يعني جزئياً "خروج الجمهورية الإسلامية من جلدها".
وهذا التحول يترافق مع تدافع نخبوي حاد: ضغوط على الرئيس بزشكيان من الاعتدال ومن تيار أصولي راديكالي، مع مراقبة الحرس لمجريات الساحة الداخلية خشية من احتمالات الانزلاق إلى تهديد للنظام ذاته.
"الفئة الرمادية" وإعادة إنتاج الشرعية
إن الظاهرة شديدة الأهمية في إيران اليوم هي اتساع “الفئة الرمادية” في المجتمع الإيراني التي لم تعد ترى نفسها ممثَّلة بأي من الخطابات السابقة، وظهور ذلك في تراجع المشاركة الانتخابية واتساع الشقة بين المجتمع ومن يمسكون بزمام الأمر. هذه الفئة هي ما يجعل شرعية ما بعد الحرب مسألة حوكمة داخلية بقدر ما هي مسألة ردع خارجي: أي أن إدارة الصراع الإقليمي تصبح أيضاً إدارة لتماسك الداخل. ولذلك فإن فشل رهان إسرائيل على تفجير احتجاج داخلي، عندما استففز الهجوم الإيرانيين على اختلاف توجهاتهم وأنتج استحضاراً لرموز وطنية حصّن الداخل الإيراني" لكنه في الوقت نفسه رتّب ديناً في عنق الدولة يقتضي تغييرات وإصلاحات سياسية-اجتماعية-اقتصادية.
القومية الدفاعية… وسقوف الاعتراض
لقد عززت الحرب القومية كاستجابة نفسية-اجتماعية للأزمة، ليست فقط نتاج تعبئة من أعلى، بل دينامية من أسفل تبحث عن معنى وكرامة وسيادة. وشكل ذلك ما يمكن تسميته ب"القومية الدفاعية"التي تقلّص مساحة الاعتراض الداخلي عندما يتواجه"الذات الوطنية" مع "الآخر المعتدي"، وتصبح القومية إطاراً أكثر قدرة على مخاطبة أجيال لا تستجيب للخطاب الأيديولوجي التقليدي. لكن الإفراط في سردية فارسية-حضارية قد يعيد توتير سؤال الأقليات والتمثيل ضمن تصور الأمة ككيان تعددي.
يرتبط ذلك بالمقاربة الأمنية لموضوع الحجاب وتراجعها بفعل مقتل مهسا أميني وما تبعها من احتجاجات، ثم تلقت "ضربة قاضية" بعد المواجهة مع إسرائيل، ويرتبط أيضا بصورة أكبر مع الاحتقان الداخلي نتيجة تدهور الاقتصاد: ضغط متعاظم، ذوبان الطبقة الوسطى، نشوء طبقة فاحشة الثراء، وتحول العقوبات إلى عامل يعيد توزيع الكلفة نحو المجتمع ويُنتج شبكات اقتصاد غير رسمي (اقتصاد الظل). فهذه الكتلة من التحولات تفسر لماذا تصبح التهدئة الخارجية، عملياً، جزءاً من سياسة حماية الداخل من انتقال الحرب إليه كأولوية معيارية في التفكير الاستراتيجي.
وعلى صعيد العلاقة مع الحلفاء قد لايعني ذلك تراجع خطاب المقاومة، بل إلى إعادة تأطيره ضمن معادلة توازن بين الالتزام والكلفة الوطنية. فالعدوان على غزة والهجوم الأميركي الإسرائيلي على إيران كشف حدود "الخطاب الأممي" داخل المجتمع الإيراني، ودفعت نحو تعظيم المصلحة القومية وتجنب الانجرار إلى مواجهة مباشرة ذات كلفة وجودية. لكن ذلك يضع إيران أمام سؤال أخلاقي يتعلق بالأسس التي قامت عليها الثورة الإسلامية رفض اختزال المقاومة إلى أداة دولة أو امتداد جيوسياسي، لأن التمييز بين"الطاقة التحررية الرمزية"وبين تحويل المقاومة إلى ورقة تفاوضية أو أداة ردع إقليمي تُفرغها من معناها التحرري.
هنا تحديدا يظهر التوتر المركزي: براغماتية الدولة تحت ضغط الداخل مقابل مطلب رمزي-أخلاقي لا يريد أن يتحول إلى مجرد وظيفة في حسابات المنفعة.
بفعل المعطيات السابقة يمكن أن نخلص إلى القول بأنأن القناة الروسية ليست تفصيلاً دبلوماسياً، بل جزء من هندسة ما بعد الحرب للأهداف التالية:
- خفض احتمالات الحرب الجديدة حتى لا تتحول أزمة الهوية/الاقتصاد إلى أزمة استقرار شامل.
- الحفاظ على سردية الردع والسيادة عبر القومية الدفاعية، دون فتح باب استنزاف عسكري يضغط على الداخل.
- إعادة تموضع السياسة الإقليمية من منطق "التصعيد كخيار" إلى منطق "إدارة الصراع" واحتوائه عبر وسطاء ومسارات مرنة.
وبهذا المعنى، فإن التهدئة عبر موسكو لا تُناقض صعود القومية الدفاعية؛ بل قد تكون شرطاً لاستمرارها دون انهيار اقتصادي/اجتماعي.
استشراف—ثلاثة مسارات محتملة خلال 2026
وعليه، يمكن وضع ثلاثة سيناريوهات قادمة لمسار التفاعلات الإيرانية–الإسرائيلية ولإدارة التوازن بين تحصين الداخل وضبط المخاطر الخارجية. تنطلق هذه السيناريوهات من فرضية أن مرحلة ما بعد الحرب أفرزت بيئة “ردع هش” قابلة للضبط عبر قنوات غير مباشرة، لكنها في الوقت نفسه محكومة بمتغيرات داخلية ضاغطة (اقتصادية واجتماعية) تعيد تشكيل حدود الشرعية وتزيد حساسية القرار تجاه الكلفة. وبناءً على ذلك، يتحدد اتجاه المرحلة المقبلة بمدى قدرة الدولة على تحويل لحظة الالتفاف الوطني إلى إصلاحات محسوبة، وبمدى نجاح ترتيبات منع الانفجار في تثبيت قواعد اشتباك تمنع الحرب الشاملة دون إلغاء احتمال الجولات المحدودة. ضمن هذا الإطار، يمكن تصور ثلاثة مسارات:
- تهدئة مُدارة مترافقة مع إصلاحات انتقائية داخلية: وهنا تستمر قنوات منع الانفجار (روسيا وغيرها)، مع استثمار لحظة "الدين في عنق الدولة" لإحداث تغييرات محسوبة (اجتماعية/اقتصادية) دون تحول جذري في الإطار المرجعي.
- تهدئة تكتيكية تتخللها جولات ردع محدودة: تُحافَظ فيها قواعد الاشتباك على منع الحرب الشاملة، لكن ضمن ضرباتعمليات محسوبة ، وتُدار المرحلة عبر قنوات الوساطة لتفادي التدهور.
- انفلات داخلي–خارجي متزامن وهو المسار الأقل احتمالا والأعلى كلفة: يرتبط هذا بتدهور اقتصادي أو احتجاج واسع مع حادث أمني/عسكري كبير يضعف هامش البراغماتية، ويحوّل صراع الهوية إلى صراع على الاستقرار.
خلاصة
مما لاشك فيه إيران ما بعد حرب الـ12 يوماً تتحرك في منطقة وسطى: تصاعد صراع الهوية داخلياً مع محاولة إعادة إنتاج شرعية جامعة عبر القومية الدفاعية، وخفض كلفة الصراع خارجياً عبر قنوات منع الانفجار—ومنها المسار الروسي—لتجنّب انتقال الحرب إلى الداخل. وفي قلب هذا كله، يبرز سؤال مركزي: هل تنجح الواقعية الجديدة في إعادة تعريف السياسة الإقليمية دون تفريغ الرموز التحررية والعناوين الكبرى من مضمونها، ودون تحويل دعوات "تغيير البرادايم"، التي تتصاعد في إيران اليوم إلى صدام صفري على شكل الدولة ومستقبلها.