الأردن: الصراع على قواعد اللعبة السياسية

لم تعد قواعد اللعبة السياسية في الأردن جاذبة لقوى رئيسية، فلقد أعلنت حركة الإخوان المسلمين وجبهة الإصلاح وبعض التيارات الأخرى مقاطعة الانتخابات البرلمانية القادمة في يناير/كانون الثاني 2013، وهذا يشير إلى أن هذه القوى الفاعلة لم تعد تقبل بالمشاركة في لعبة لم تكن طرفًا في تشكيل قواعدها.
2012114105458283580_20.jpg

 

القوى الفاعلة في الأردن لم تعد تقبل بالمشاركة في لعبة لم تكن طرفا في تشكيل قواعدها، لكن ذلك لا يعني أن النظام السياسي
في "وضع حرج" بل لا يزال الحفاظ على بنيته الرئيسية محل توافق عام داخلي وخارجي. 

لم تعد قواعد اللعبة السياسية في الأردن جاذبة لقوى رئيسية، فلقد أعلنت حركة الإخوان المسلمين وجبهة الإصلاح (بقيادة رئيس الوزراء السابق ومدير المخابرات السابق أحمد عبيدات) وبعض التيارات الأخرى مقاطعة الانتخابات البرلمانية القادمة في يناير/كانون الثاني القادم 2013، وهذا يشير إلى أن هذه القوى الفاعلة لم تعد تقبل بالمشاركة في لعبة لم تكن طرفًا في تشكيل قواعدها، لكن ذلك لا يعني أن النظام السياسي في "وضع حرج" بل لا يزال الحفاظ على بنيته الرئيسية محل توافق عام داخلي وخارجي.

البقاء أولاً

لكل دولة بيئات ثلاث تتفاعل معها وتحدد نمط سلوكها، البيئة الأولى وهي البيئة الداخلية والتي تتمثل بشكل مركزي في النظام السياسي من ناحية والمجتمع من ناحية أخرى، وتعتمد حالة الاستقرار الداخلي على درجة التناغم بين أولويات النظام السياسي مع أولويات المجتمع.

أما البيئة الثانية فهي البيئة الإقليمية، والتي تمثل الجوار المحاذي (حيث التشارك في الحدود)، والجوار القريب حيث الإقليم الذي تفاعلت معه الدولة تاريخيًّا، وتتمثل الأولويات في هذا المستوى في توظيف شبكة التفاعلات مع البيئة المحاذية والمجاورة لضمان تحقيق أولويات النظام السياسي والمجتمع في البيئة الأولى.
أما البيئة الثالثة والمتمثلة في البيئة الدولية، فهي التي تتمثل في الدول الأخرى والمنظمات الدولية والقانون الدولي، وتصبح الأولوية هنا متقاطعة مع أولويات المستوى الثاني لخدمة أولويات البيئة الأولى.
ذلك يعني أن أولويات المستوى الأول (النظام السياسي والمجتمع) هي العامل الحاسم في تحليل سلوك الدولة؛ فالنظام السياسي له في كل الدول أولويتان: الأولى: صياغة رؤية استراتيجية، والثانية تتمثل في السعي نحو البقاء، بينما تتمحور أولويات المجتمع في التنمية بكافة دلالاتها.

وعند تحليل ملابسات السلوك السياسي الأردني تبدو أولوية البقاء للنظام تعلو على كل الأولويات الأخرى الخاصة بالمجتمع أو بالدولة، مثلما نلاحظه في الآتي:

  1. تمثل المؤسسات الخشنة (الجيش والأجهزة الأمنية المختلفة) بؤرة ميكانيزمات البقاء للنظام، الأمر الذي يعني ضرورة ضمان ولاء هذه المؤسسات من خلال توزيع غير متوازن للمنافع عند مقارنة ما تحصل عليه المؤسسات الخشنة بما يحصل عليه المجتمع، وتكفي الإشارة في هذا الجانب إلى أنه في الوقت الذي أنهى الأردن حالة الحرب مع إسرائيل، وتخلى عن الضفة الغربية بقرار فك الاشتباك، فإن نسبة الإنفاق الدفاعي إلى إجمالي الناتج المحلي تضع الأردن ضمن الدول الخمس الأعلى في العالم( )، ففي الوقت الذي يبلغ معدل الإنفاق الدفاعي على المستوى العالمي حوالي 2,2% من إجمالي الناتج المحلي فإنه يصل إلى 6,2% في الأردن، وقد ارتفعت قيمة النفقات الدفاعية من 210 ملايين عام 1995 إلى أكثر من مليار عام 2009 (أي خمسة أضعاف)، بينما ارتفع إجمالي الناتج المحلي خلال نفس الفترة من 6 مليار دولار إلى 25 مليار (أي بنسبة أقل من نسبة الزيادة في النفقات الدفاعية)، وتشكل النفقات الدفاعية ما يساوي حوالي 19,95% من إجمالي الإنفاق الحكومي.
    وإذا قارنّا بين نصيب المؤسسات الخشنة وبين تنامي المديونية، نكتشف أولوية البقاء للنظام على أولويات المجتمع، فثمة تقارير عن ارتفاع المديونية إلى أكثر من 22 مليار دولار، وهو ما يعني أن نسبة الدَّيْن بدأت تتجاوز 70% من إجمالي الناتج.

    تكشف الأرقام السابقة عن معضلة تتمثل في أن أولوية بقاء النظام علت على أولوية تنمية للمجتمع، وهو ما بدأ ينعكس على التماسك المألوف والتقليدي بين النظام والمجتمع نظرًا للتباين في الأولويات والذي لم يكن بهذه الحدة سابقًا.

  2. الحراك الوظيفي في المناصب العليا: يعد الأردن من بين أكثر دول العالم في قصر عمر حكوماتها؛ إذ يبلغ المعدل أقل من عشرة شهور للحكومة، فإذا أضفنا لذلك التغير في المناصب العليا في الديوان الملكي وفي المحافظين ورؤساء الجامعات وغيرها، تظهر لنا صورة نخبة سياسية أنهكتها لعبة الكراسي الموسيقية، وأصبح الولاء يعلو على الكفاءة والنزاهة، فالأول يساهم في بقاء النظام بينما الثاني قد يدفع نحو إصلاحه إصلاحًا جديًّا.

    وترتبط بهذه المسألة قضية النظم الانتخابية التي كثيرًا ما تمحور النقاش السياسي حولها؛ ففي حين يرفع النظام السياسي شعار الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي وتطوير المجتمع المدني، فإنه يضع نظمًا انتخابية تضمن تغليب الولاءات الفرعية (الشركس والشيشان، المسيحيين، البدو، المرأة..)، وتقسيم الدوائر لتكون الجغرافيا لا الديموغرافيا هي المعيار في توزيع المقاعد على الدوائر، وكل ذلك بهدف مركزي هو ضمان وصول القوى التي يراها النظام الأقرب لتدعيم البقاء من غيرها؛ لذا فإنه يتفادى النظم الانتخابية التي تقود لإضعاف الولاءات الفرعية، مما يفتح المجال لاحتقان جديد.
    غير أن التوجهات العامة الداخلية تشير إلى إدراك مشترك بين المعارضة والموالاة على حدٍّ سواء بأن "النظام الملكي" هو الخيار الأقل مخاطرة في الظروف الراهنة، وأن أية محاولة للانتقال بالحراك من مستوى الإصلاح إلى مستوى التغيير ينطوي على مغامرة سياسية. ورغم أن النظام مدرك لهذا التوافق، إلا أنه لا يطمئن إلا بمقدار ما يتعزز هذا الإدراك بمساندة ميكانيزمات البقاء لاسيما ميكانيزم القوة الخشنة.

مخاطر الجوار

ثلاثة عوامل إقليمية تلعب دورًا في تشكيل الاحتقان النسبي في البيئة الأردنية، هواجس الوطن البديل، وتصاعد الأزمة السورية وانعكاساتها على الحدود بين البلدين، وأخيرًا انتعاش الحركات الإسلامية المسلحة من جديد لاسيما التيارات السلفية الأقل استعدادًا للتكيف مع ضرورات الواقع.

ومن الملاحظ أن العوامل في البيئة المحاذية والإقليمية تشكِّل مخاطر على الكيان السياسي أو على النظام أو على كليهما، ويبدو أن النظام السياسي يحاول التكيف مع هذه العوامل رغم الحدود الدنيا لإمكانياته السياسية والاقتصادية، ورغم الخلخلة التي أصابت جدران المجتمع. فيبدو أن الخناق الاقتصادي يجعل خيارات النظام السياسي محدودة للغاية، وهو ما يجعله في حالة ارتباك؛ إذ يبدو أن بعض دول الخليج يريده أن يساهم في الانخراط العضوي في سوريا مقابل الدعم المالي، بينما يبدو النظام متوجسًا من تداعيات الأزمة السورية على ساحته الداخلية، لاسيما بعد انتشار التنظيمات السلفية التي تعلن بين حين وآخر عن "شهداء" أردنيين لها في الساحة السورية، ويبدو أن الطريق التركي لالتحاق هؤلاء السلفيين بميدان المعركة يمثل الخيار الأنسب لأنه يقلص التورط الأردني من ناحية ويبعد عناصر هذه التنظيمات عن الساحة الأردنية من ناحية ثانية.

أما هاجس الوطن البديل، فيبدو أنه أقرب للنقاش النظري -على الأقل- حتى الآن منه لواقع حي متحرك، رغم أن التعبير عن المخاوف من هذا الهاجس  يطل بين الحين والآخر من خلال البيانات لبعض المؤسسات شبه الرسمية (المتقاعدين العسكريين) أو بعض أدبيات النخب الثقافية الأردنية التي تحفر في التاريخ لترسيخ الوجود التاريخي للكيان السياسي الأردني كتعبير عمّا يطويه العقل الباطن الجمعي من مخاوف على مصير البلد.

هاجس التآكل

قد يكون من الضروري العودة لتاريخ الأردن في سياق مشروع الثورة العربية الكبرى منذ 1916 لاكتشاف دور العامل الدولي في تحديد بقاء الكيان والنظام، فقد بدأت الثورة العربية الكبرى على أساس تكوين دولة عربية واحدة تضم آسيا العربية كلها، لكن تطور مكانة ودور آل سعود في الجزيرة العربية انعكس على مكانة الهاشميين بخسارتهم لوجودهم في الجزيرة العربية في أواخر العشرية الثانية من القرن الماضي، وكان الفعل الدولي الأميركي له دور في هذا التطور، فانحسر مشروع الدولة العربية إلى منطقة الهلال الخصيب والعراق، لكن التغلغل الفرنسي اقتطع من ذلك المشروع كلاًّ من سوريا ولبنان، فانحسر المشروع مرة ثانية إلى فلسطين والأردن والعراق، وهنا نهض المشروع الصهيوني بمساندة دولية لاستكمال حلقات تآكل مشروع الدولة العربية الكبرى للمرة الثالثة، فاقتطعت مساحة تصل إلى قرابة 78% من فلسطين عام 1948، ثم جاءت الحلقة الرابعة في مسلسل التآكل بالانقلاب العراقي على الهاشميين عام 1958، فلم يبق من المشروع إلا الأردن والضفة الغربية التي سقطت تحت الاحتلال الصهيوني عام 1967 ضمن حلقة التآكل الخامسة، فبقي الكيان الأردني الحالي كآخر حلقات مشروع الدولة العربية الكبرى، وهنا تتشكّل سيكولوجية "هاجس البقاء" للنظام والكيان؛ إذ إن الاتجاه التاريخي غرس في اللاشعور إحساسًا عميقًا بأن النموذج التاريخي قد يعيد نفسه ولكن بطريقة المأساة لا الملهاة.

إن السلوك الأميركي مع  حسني مبارك وزين العابدين وعلي عبدالله صالح وقبلهم شاه إيران يوحي بأن "البراغماتية الأميركية" قد تذهب إلى أبعد مما يعتقده الأصدقاء، فجون ديوي الأميركي، فيلسوف البراغماتية، يقول: "إذا كانت فكرة الله مفيدة فالله موجود، وإذا كانت فكرته غير مفيدة فالله غير موجود".

واقي الصدمات

لا يبدو أن الربيع العربي له فرصة كبيرة في الأردن نظرًا للعروة الوثقى بين النظام ومؤسسات القوة الخشنة، ونظرًا "لحيرة" المكون الفلسطيني بخصوص الخيار الأنسب له، ونظرًا لنخبوية حراك المكون الأردني وتشرذمه، ونظرًا للبراغماتية الحذرة جدًّا للإخوان المسلمين.
لكن كعب أخيل في الخريطة الأردنية هو الاختناق الاقتصادي الذي قد تنعكس آثاره على الخريطة السياسية الداخلية، علاوة على الفساد المزمن طبقًا لمؤشرات منظمة الشفافية الدولية، ولذلك كانت أغلب شعارات الحراك ذات مضمون اجتماعي (الفساد والبطالة).

ويبدو أن تجربة الحكومات الأربع الأخيرة (معروف البخيت، وعون الخصاونة، وفايز الطراونة، وعبدالله النسور) تشير إلى محدودية صلاحيات السلطات جميعًا خارج نطاق القصر، بل إن تصريحات عون الخصاونة لمجلة الإكونوميست بعد استقالته تشير إلى دوائر صنع القرار الحقيقية في المملكة( )، مما يعني أن أي تحليل للأزمات الأردنية استنادًا إلى أدوار مفترضة للسلطة التنفيذية أو التشريعية لن يقود إلا إلى مزيد من الحيرة، فالحكومات طبقًا لوصف دبلوماسي غربي هي "العازل ومتلقي الصدمات" بين الشعب والقصر.

ويبدو أن "واقي الصدمات" بين الشعب والقصر بدأ يتآكل تدريجيًّا، ولعل لغة الهتاف والشعار بل وحتى التطاول غير المسبوق تشير إلى بداية مرحلة سياسية جديدة ستحتاج لبعض الوقت لتتبلور في شكل تنظيمي، لاسيما إذا تكاتفت مع شخصيات "تحلّلت" تدريجيًّا من "أوزار" النظام السياسي الذي ترعرعت في مهاده.

إن مقاطعة الإخوان المسلمين وجبهة الإصلاح (بقيادة رئيس الوزراء السابق ومدير المخابرات السابق أحمد عبيدات) وبعض التيارات الأخرى للانتخابات القادمة في يناير/كانون الثاني القادم يوحي بأن الشكل التنظيمي قد بدأ يتبلور رغم إعلان الهيئة الموكل لها تنظيم الانتخابات بأن نسبة التسجيل بلغت 70%، لكن ذلك لا يعني أن النظام السياسي في "وضع حرج" بل هو في وضع "العودة للعبة الكراسي الموسيقية من ناحية ليليها بعد ذلك "تركيب واقي الصدمات" مرة أخرى من ناحية ثانية.

والحاصل أن موازين القوى تميل في اللحظة الراهنة للنظام الأردني لأنه يمتلك من جهة موارد القوة الخشنة مع التوافق الداخلي على شرعيته، ومن جهة أخرى ليست المعارضة موحدة أو متفقة على استراتيجية تهدد بقاءه، علاوة على أن المخاطر الخارجية لا تهدد بقاءه بل إن القوى الدولية الرئيسية لا تجد مصلحتها حاليًا في زواله.
ولذلك فإن استراتيجية البقاء ستظل تعلو استراتيجية الدولة والمجتمع في المدى المنظور، وإن خالطها بعض التذبذبات التي تعلو فيها أولويات المجتمع والدولة على بقاء النظام.