دلالات ومآلات المواجهات العسكرية بشمال التشاد

يحاول هذا التعليق فهم ما يدور في شمال التشاد من مواجهات عسكرية بين المتمردين المنطلقين من معسكراتهم بليبيا والجيش التشادي، كما يتطرق لمآلات هذا المشهد العسكري المضطرب، وأبعاده المحلية والإقليمية.
18 أبريل 2021
جنود تشاديون يرابطون بحدود بلادهم (وكالة الأنباء الأوروبية)

في مساء 11 أبريل/نيسان 2021، وأثناء فرز أصوات الانتخابات الرئاسية التشادية، توغلت عدة طوابير من المركبات المدججة بالسلاح في شمال غرب التشاد منطلقة من الجنوب الليبي. أكدت حكومة إدريس ديبي، الذي يتقدم في هذا الاستحقاق الرئاسي لولايته السادسة، في بيان رسمي، يوم 12 أبريل/نيسان الماضي أن القوات الجوية التشادية قصفت المرتزقة، وأن الجيش أعاد الوضع على الحدود لسيطرته، وبات المرتزقة في حالة تدافع ومطاردة. ولعل في اختيار المهاجمين يومَ الانتخابات الرئاسية رسالة مؤداها التشويش على هذا الاستحقاق، خصوصًا أن حملة الرئيس المترشح والمنتهية ولايته، إدريس ديبي، ركزت على السلم والأمن، وقد نجح المتمردون -إعلاميًّا على الأقل- حيث أصبح الشغل الشاغل في التشاد هو الوضعَ العسكريَّ والأمنيَّ في الشمال وليس الاستحقاقَ الانتخابيَّ.

اقتصر ما قام به الجيش التشادي على القصف الجوي ولم يقع اشتباك على الأرض، فالمتمردون وعناصر الجيش في الشمال يرى بعضهم بعضًا من بعيد، وكل طرف يتجنب المواجهة المباشرة مع الآخر، فعناصر الجيش تخشى السقوط في كمين قد ينصبه لها المتمردون، والمتمردون يصعب عليهم مهاجمتها إذ أغلب المنطقة صحراء مكشوفة يصعب التحرك فيها دون غطاء جوي، وهو ما لا يملكه المتمردون.

وليست هذه المرة الأولى التي يشن فيها المتمردون هجومًا منطلقا من ليبيا؛ إذ حاولوا في فبراير/شباط 2019 التوغل في نفس الإقليم، إلا أن القصف الفرنسي، وبناءً على طلب نجامينا، قد أوقف محاولتهم.

تأثيرات الوضع الليبي

منذ إعلان الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، في مارس/آذار 2021، مقترحه الداعي لمغادرة المرتزقة التراب الليبي، ومع ضغوط المجتمع الدولي المطالبة برحيل جميع المرتزقة الأجانب، فقد غامر جزء كبير من المسلحين التشاديين بالدخول إلى الأعماق التشادية. وهذا الهجوم غير بعيد من هذه الدعوة الدولية، وقد نظمته جبهة الوفاق من أجل التغيير في التشاد، وهي فصيل عسكري/سياسي مناهض لنظام إدريس ديبي تأسس في تانوا بشمال التشاد، في أبريل/نيسان 2016، ويترأسه محمد مهدي علي، المعارض الذي عاش في منفاه الفرنسي 25 سنة قبل العودة لبلاده 2005 وتقلد وظيفة مفتش بوزارة الأشغال العامة، وما لبث أن عاد للمنفى بالسودان مناهضًا نظام ديبي. وما إن بدأت الحرب في ليبيا، سنة 2014، حتى انتقل مهدي علي بفصائله المسلحة إلى ليبيا، وأصبح أحد حلفاء اللواء المتقاعد، حليفة حفتر. وكان لمسلحي الجبهة معسكرات في مرتفعات السودة بالجنوب الليبي.

ومع أن الضغط الدولي يتجه نحو إخراج جميع المرتزقة من ليبيا، فقد يكون اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، أشار لحلفائه في جبهة الدفاع بضرورة الخروج من ليبيا حتى لا يسببوا له إحراجًا وهو يسعى لضمان موقع له في المشهد الليبي الذي بدأ يتشكل، ولا يريد مزيدًا من الأعباء والضغوط. ولا يخفى أن المسلحين التشاديين حالفوا الكثير من الأطراف الليبية في الشرق والغرب وإن كان بعضهم لم ينخرط في الاقتتال الليبي الداخلي؛ وقد يتبنى هؤلاء نفس الاستراتيجية ويلتحقون بجبهات التمرد المشتعلة في شمال التشاد. وجميع المتمردين التشاديين المتمركزين بليبيا في وضع حرج لا يسمح لهم إلا بالانصياع للضغوط الدولية المطالبة بإخلاء ليبيا من جميع المرتزقة.

المعركة البرية الوشيكة

بدأت بعض أرتال الجيش التشادي تترك مواقعها متجهة نحو الحدود الليبية، ومع أنها تتحرك ببطء إذ ربما تنتظر أن يُنهى سلاح الطيران التشادي مهماته الاستطلاعية حتى تكون الساحة مناسبة لتدخل بري. وإذا كانت منطقة تيبستي جبلية ويمكن للمتمردين التخندق في مرتفعاتها، فإن منطقة بوركو، التي أصبح المتمردون على مشارفها، صحراء مكشوفة، لا يمكن للجيش أن ينتشر فيها دون تغطية جوية مكثفة، بل بات من الضروري أن يضمن نظام إدريس ديبي مساندة فرنسية. ومعلوم أن جبهة الوفاق قد طلبت من فرنسا، في بيان نشره مكتبها بباريس، التزام الحياد وعدم التدخل في مسألة تخص التشاديين لوحدهم. وذكرت الحركة في بيانها، أن الطيران الفرنسي ينفذ طلعات جوية فوق مناطق سيطرتهم وهو ما نفته باريس.

والواقع أن المسلحين التشاديين في ليبيا واقعون في حرج وليس أمامهم الكثير من أوراق المناورة عكس المسلحين السودانيين الموجودين في ليبيا؛ حيث إن أولئك حصلوا على حل قد يمكنهم من العودة بأمان للسودان، فقد ضمن اتفاق السلام الموقع بين حركة تحرير السودان بقيادة مني أركو ميناوي وبين الحكومة السودانية، في 3 أكتوبر/تشرين الأول 2020، آلية لرجوع المسلحين إلى السودان، في حين ليس لدى المتمردين التشاديين في ليبيا إطار تفاوضي يسمح لهم بالعودة الآمنة لبلادهم.

الموقف الفرنسي: هل تعود باريس لعادتها القديمة؟

وقفت باريس إلى جانب نظام ديبي لما تعرض لهجوم مشابه في فبراير/شباط 2019، فلم تتحرك القوات الفرنسية في البداية بل تركت المتمردين يتوغلون حتى بلغوا مسافة 400 كلم في اتجاه نجامينا فقصفتهم ومنعتهم من تحقيق أهدافهم، وتذرعت باريس في بيان أصدرته حينها بأن هؤلاء المتمردين يهددون الأمن التشادي الذي تلتزم فرنسا بالدفاع عنه.

والواقع أن دوافع القصف الفرنسي للمتمردين، سنة 2019، ما زالت قائمة اليوم، فحليف باريس، الرئيس إدريس ديبي، ما زال في الحكم، ومن المؤكد أنه سيفوز بعهدة سادسة، والتشاد عضو فعال في تجمع دول الساحل الخمس الذي يرتبط بشراكة عسكرية وأمنية مع فرنسا. وقد أرسل الرئيس ديبي مؤخرًا مجموعة من القوات التشادية إلى المثلث الحدودي الواقع بين بوركينافاسو ومالي والنيجر، للمساهمة في مواجهة الحركات الجهادية، وهو أمر يُرضي باريس التي تفضل إسناد تلك العمليات العسكرية إلى الجيوش المحلية. ومع أن الرئيس ديبي كان قد أبدى امتناعًا بدايةً إلا أنه وافق في النهاية على إرسال قواته إلى المثلث المذكور، ومن غير المستبعد أن تسانده باريس وهو في مأزقه الحالي مكافأة له واعترافًا بالجميل.

وحتى الساعة، ما زالت فرنسا ملتزمة بالحياد تجاه ما يحدث في شمال التشاد، ورفضت قيادة أركان الجيش الفرنسي تأكيد ما تردد عن تدخل فرنسي لصالح الجيش التشادي، ومن المعلوم أن مقر قوة برخان الفرنسية هو نجامينا. والقرائن تدل على أن المراقبة عن كثب للوضع التي تنتهجها فرنسا قد تتحول إلى تدخل لصالح حليفها، الرئيس ديبي، وتضرب مواقع جبهة الدفاع.

خاتمة

يبدو أن الخيار العسكري هو الخيار الوحيد المتبقي أمام المعارضة التشادية المتمركزة بليبيا خصوصًا أن هناك دعوة دولية ملحَّة لإخلاء ليبيا من المرتزقة. ونظرًا إلى فاعلية هؤلاء المسلحين القتالية فإنه من غير المستحيل أن يفرضوا واقعًا عسكريًّا في شمال التشاد، خصوصًا أنهم لا يحظون باتفاقيات سلام تسمح لهم بالعودة إلى بلادهم عكس المسلحين السودانيين. ولو تدخل الجيش الفرنسي لصالح الرئيس ديبي لتحول ميزان القوة لصالحه، وهو أمر غير مستبعد، فقد ردَّت باريس مرات هجومات المتمردين التشاديين، وقد تشهد الأيام القادمة عملية عسكرية برية يقودها الجيش التشادي لا نستبعد أن تحظى بإسناد عسكري فرنسي مباشر.

نبذة عن الكاتب