ما زالت تفاصيل الاجتماع السعودي-الإيراني في بغداد، غير واضحة، لكن تزايد الأدلة على حدوثه فعلًا، يقدم مؤشرات على وجود وساطة عراقية يبدو أنها مستمرة وقد تكون تحقق تقدمًا ملموسًا للتقريب بين الدولتين الجارتين في أكثر من ملف.
كانت صحيفة فايننشيال تايمز البريطانية أول من نشر خبر الاجتماع، الذي يفترض أنه تم في التاسع من أبريل/نيسان الحالي، وكان على رأس الوفد السعودي رئيس الاستخبارات، خالد بن علي الحميدان، وذلك حسب الصحيفة التي أضافت أن الاجتماع الذي تركز على موضوع الحرب في اليمن كان (إيجابيًّا)، من دون تفاصيل.
منذ نشر هذا الخبر، لم تنفه رسميًّا أي من العواصم الثلاثة، رغم أن الصحيفة ذاتها نقلت عن (مسؤول) سعودي نفيه لحدوث الاجتماع، كما أن قناة الميادين القريبة من حزب الله اللبناني نقلت بدورها عن (مسؤولين) إيرانيين نفيهم أيضًا. لكن هذا النفي الذي لم يصدر رسميًّا، سرعان ما بدَّدته معلومات جديدة؛ حيث نقلت وكالة فرانس برس عن مسؤول حكومي عراقي تأكيده أن المحادثات جرت بالفعل بين وفد سعودي برئاسة الحميدان، ووفد إيراني برئاسة مسؤولين مفوضين من قبل الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي، علي شمخاني. كما نقلت وكالة رويترز عن مسؤول إيراني قوله: إن الاجتماع كان "على مستوى منخفض انعقد من أجل تحديد ما إذا يوجد هناك سبيل لتخفيف التوتر المستمر في المنطقة".
وقد كان أهم التأكيدات، تصريحات للسفير الإيراني في بغداد، إيرج مسجدي، قال فيها إن بلاده "تدعم وساطة بغداد للتقريب بين طهران والدول التي حدثت معها بعض الخلافات ما أدى إلى فتور في العلاقات، وتم إبلاغ السلطات العراقية بهذا الموضوع". وكان المهم في تصريحات مسجدي أنها نُشرت من خلال وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية (إيرنا)، بعد نحو 48 ساعة من نبأ الفايننشيال تايمز، ولا يمكن قراءتها إلا ضمن سياق تأكيد إيران الرسمية للاجتماع ولوساطة العراق مع السعودية.
لماذا في بغداد؟
يطرح انعقاد هذا الاجتماع تساؤلات عن سبب اختيار العراق مكانًا له في حين أن دولة إقليمية أخرى مثل عُمان، ربما تكون مناسبة أيضًا لاستضافة مثل هذه المحادثات، سواء بسبب علاقاتها القوية بكل من إيران والسعودية، أو بسبب خبراتها المتراكمة في تنظيم مفاوضات سرية وعلنية تكون إيران طرفًا رئيسيًّا فيها، وأبرزها طبعًا المفاوضات التي سبقت الاتفاق النووي بين طهران وواشنطن واستغرقت عدة سنوات، فضلًا بالطبع عن العلاقة المباشرة لعُمان بالملف اليمني، ومعرفتها التفصيلية به.
هذا التساؤل ليس شكليًّا، فهو يتصل من ناحية بموقع العراق في المنطقة، ودوره في تشكيل أزماتها، أو في معالجتها، وفرص نجاح هذه المفاوضات في التأثير على الوضع الأمني والسياسي في العراق، والأهم من كل ذلك، علاقة هذه الوساطة، بما تردد عن استخدام الأراضي العراقية لقصف العمق السعودي بطائرات مسيرة وصواريخ.
قبل وساطة الكاظمي الحالية، كان رئيس الوزراء السابق، عادل عبد المهدي، قد تقدم بمبادرة للتقريب بين الدولتين، وزار عاصمتيهما قبل عامين، ويبدو أنه نقل رسائل مكتوبة بين الطرفين، حتى إنه أعلن أمام البرلمان العراقي، مطلع العام 2020، وهو يشارك في جلسة خاصة بعد مقتل قائد فيلق القدس الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، بطائرة أميركية مسيرة، أن القائد الإيراني كان يزور بغداد لإيصال رسالة تتضمن ردَّ بلاده على رسالة سعودية سابقة نقلها عبد المهدي.
بطبيعة الحال، توقفت مساعي عبد المهدي بعد ذلك الاغتيال، وبسبب التطورات التي أعقبته، وكذلك بعدما استقال رئيس الوزراء العراقي ذاته، تحت ضغط الاحتجاجات الشعبية، ويبدو أن خليفته، الكاظمي، قد بنى على تلك الوساطة، مستفيدًا من تغير الأجواء في واشنطن، بعد فوز بايدن ورحيل ترامب.
هذه المحاولات العراقية، تقدم انطباعات عن حماسة بغداد، لتخفيف التوتر بين البلدين المجاورين، والاستفادة من ذلك، لدعم استقرار العراق، لكن الأمر لم يتعلق بالرغبة العراقية فقط، ففي مثل هذه الوساطات، ينبغي أولًا أن تتوافر إرادة لدى الأطراف المتنازعة، تقبل بمبدأ الحوار والحل السياسي، ومثل هذه النتيجة هي أول ما تؤشر إليه وساطة عبد المهدي غير المكتملة، بمعنى أن كلًّا من طهران والرياض كانتا موافقتين على مبدأ الحوار من خلال العراق، ولو بشكل غير مباشر.
اقترن توقف الجهد الدبلوماسي بعد مقتل سليماني، مع ارتفاع حدة التصعيد بقوة، ضد الوجود الأميركي في العراق على وجه الخصوص، لكن التصعيد شمل أيضًا، زيادة واسعة لعدد الصواريخ والطائرات المسيرة التي تستهدف السعودية انطلاقًا من اليمن. تُتَّهم إيران على الدوام بدعم الحوثيين وتزويدهم بالأسلحة ومنها الصواريخ، لذلك لم يكن هذا التصعيد بعيدًا عن موقف صادر من طهران.
لكن التغير المهم في مثل هذا التصعيد، كان الأنباء التي أشارت إلى انطلاق عدد من الصواريخ والطائرات المسيرة التي أصابت السعودية من داخل الأراضي العراقية، وكان أبرز هذه الحوادث، هجمات بالطائرات المسيرة تعرض لها الديوان الملكي السعودي في الرياض (قصر اليمامة)، يوم 23 يناير/كانون الثاني الماضي، وفي حينه أعلنت السعودية عن التصدي للطائرات وإسقاطها، فيما نقلت صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية عن شهود قولهم: إن بعض الطائرات المسيرة المفخخة انفجرت بالفعل. ولم يكن العاهل السعودي أو ولي عهده في القصر عند وقوع القصف، لكن الحادث تسبب بإغلاق مطار الرياض عدة ساعات.
لم يكن ذلك الحادث الأول من نوعه القادم من الشمال، وتحديدًا من العراق، ففي سبتمبر/أيلول 2019، تعرضت منشآت أرامكو في بقيق وهجرة خُرَيص شرقي المملكة إلى قصف بالصواريخ والطائرات المسيرة تسببت بإصابات مباشرة وتوقف 50% من إنتاج الشركة الأكبر في العالم، وتأثُّر إمدادات النفط العالمية، وفي حينه قال المتحدث باسم وزارة الدفاع السعودية: إن 25 من الطائرات المسيرة والصواريخ الجوَّالة استُخدمت في الهجمات التي انطلقت من الشمال السعودي، وليس من اليمن، لكنه لم يتهم العراق مباشرة، كما أن الرياض لم تُشِر إلى العراق أبدًا كمنطلق للهجوم عليها.
تدرك السعودية أن مهاجمتها من داخل الأرضي العراقية، هو احتمال قائم بشدة، بسبب ما هو معروف من وجود ميليشيات مسلحة تعتبر نفسها جزءًا من (محور المقاومة) الذي تقوده إيران ويضم أذرعها المسلحة في المنطقة، وتسيطر هذه الميليشيات التي تشكِّل عماد الحشد الشعبي على مناطق صحراوية على الحدود مع السعودية، وتمثل هذه مواقع مثالية لتخزين السلاح وتجهيز وإطلاق الصواريخ. وقد أعلنت مجموعة أطلقت على نفسها اسم (ألوية الوعد الحق-أبناء الجزيرة العربية) مسؤوليتها عن قصف قصر اليمامة. وقد وصفت وكالة مهر الإيرانية هذه الجماعة بأنها عراقية، ونقلت تأييد كتائب حزب الله لعملية القصف.
تعتبر (ألوية الوعد الحق) جزءًا من مجموعات (إعلامية) تكاثر ظهورها مؤخرًا، وهي مجرد واجهات غير موجودة فعليًّا تتبنى العمليات التي لا تريد الفصائل الرئيسية التورط بتبنيها لأسباب سياسية وقانونية، لكن هذه الفصائل يهمها أن يقتنع الجميع بمسؤوليتها الفعلية عمَّا يجري، فيكون لها إيصال رسائل قوتها وقدراتها، من دون أن تتحمل مسؤولية ذلك، أو هكذا تخطط.
لقد جاء الهجوم على قصر اليمامة، بعد ثلاثة أيام من تولي الرئيس جوزيف بايدن مقاليد الإدارة في واشنطن، ولم يكن متوقعًا من الإدارة الجديدة أن تقدم للسعودية نفس إرادة الدعم خلال فترة إدارة ترامب، وحتى إعلانات المساندة التي قدمتها اشنطن آنذاك، قد ترافقت لاحقًا مع قرار أميركي بوقف بيع الأسلحة الهجومية للسعودية، وبكشف معلومات حول ملف مقتل الصحفي السعودي، جمال خاشقجي، وكان ذلك في وقت عبَّرت فيه واشنطن عن إرادة واضحة للتقارب مع إيران والعودة للاتفاق النووي.
العمق العربي
لا يمكن ربط إرادة الحوار سواء من السعودية أو إيران بتغير الإدارة في واشنطن، فالوساطة العراقية بدأت فعليًّا خلال ولاية ترامب، ويبدو أنها لم تحقق تقدمًا يُذكر، لكنها ربما تتحول اليوم إلى حاجة لكل أطرافها، وليس لبغداد فقط، وقبول السعودية بالعراق كوسيط، هو من ناحية للبناء على نتائج وخبرات الجهود السابقة غير المكتملة، ومن ناحية أخرى، فإن أرض العراق ذاته أصبحت مصدرًا للتهديد من خلال الفصائل القريبة من إيران، وسيكون الحوار مع إيران حول اليمن غير مكتمل، ما لم يُحسم التهديد القادم من شمال المملكة، وتحديدًا من العراق.
من ناحيتها، تجد حكومة مصطفى الكاظمي نفسها بحاجة لبناء مقاربة جديدة للموقع الإقليمي للعراق، وهي لذلك تسعى إلى استعادة عمقه العربي، على أمل خلق توازن سياسي واقتصادي وأمني، في مقابل العلاقة المتشابكة بقوة مع إيران، ويشمل الأمر دول الخليج، كما يشمل أيضًا كلًّا من مصر والأردن، فضلًا عن لبنان.
خلافًا لعبد المهدي، يعمل الكاظمي في سياق مختلف، خارجيًّا وداخليًّا، فوساطته تتناسب مع أهداف إدارة الرئيس بايدن باستقرار الوضع في الشرق الأوسط، وانتهاء التهديد لحليفها السعودي، كي تلتفت لملفاتها الدولية الأهم، كما أن الرياض تجد حاجة قوية هذه المرة للوصول إلى تسوية شاملة في اليمن، وكذلك تجنب التصعيد الممكن عملياتيًّا من الأراضي العراقية، وهي تدرك أن ذلك سيكون صعبًا بدون تدخل إيران وضغطها على حلفائها، الحوثي في اليمن، والميليشيات في العراق، وهذا سيحتاج بطبيعة الحال إلى قدر من الواقعية السياسية لم تكن ضاغطة بهذا الشكل، سواء قبل مقتل سليماني، أو قبل رحيل إدارة ترامب. أما إيران، فهي على أعتاب انتخابات رئاسية مهمة في يونيو/حزيران المقبل، وتسعى حكومة روحاني الإصلاحية لتحقيق اختراقات دبلوماسية، سواء مع الولايات المتحدة أو السعودية، تمنح المرشحين الإصلاحيين أفضلية.
وداخليًّا، سعى الكاظمي إلى تقليص قوة الميليشيات ونفوذها، لكنه لم يحقق الكثير حتى الآن، وقد واجه رئيس الوزراء العراقي في الأسابيع الأولى من توليه منصبه في أبريل/نيسان من العام الماضي، مواقف محرجة عديدة اضطرته للتراجع أمام تحدي فصائل معينة جاهرت برفض قراراته، وأشهرت بوجهه رسائل تهديد مباشرة، سواء من خلال الانتشار العسكري في شوارع بغداد، أو بإعلانات وبيانات ومظاهرات تعمدت إهانته شخصيًّا.
مثل هذا التحدي يجعل الكاظمي حريصًا على توسيع العلاقات العربية للعراق، على أمل أن يخلق ذلك توازنًا يمنح الحكومة فرصًا أفضل للتخفيف من النفوذ الإيراني. وحسب ما يبدو حتى الآن، فإن الحكومة العراقية الحالية تريد تحقيق بعض الخطوات المحسوبة وصولًا إلى الانتخابات العامة المبكرة في أكتوبر/تشرين الأول المقبل، مع افتراض تغيير الواقع السياسي الداخلي بشكل يكمل هذه المحاولات. ولعل ذلك يبرر حماسة رئيس الوزراء العراقي لتلبية دعوة العاهل السعودي لزيارة المملكة، بعد نحو أسبوع من محادثة عبر الفيديو بينهما يوم 25 من مارس/آذار الماضي، ومن ثم انعقاد جلسة الحوار السعودي الإيراني في بغداد عقب تلك الزيارة بأيام، ولذلك لا يمكن فصل تلك الزيارة، عن ترتيبات عقد الجلسة الأولى من ذلك الحوار، واهتمام المملكة به.
حسابات الربح والخسارة
بالنسبة لبعض القوى داخل العراق، لاسيما المسلحة منها، فتهدئة التوتر الراهن بين إيران والسعودية، سيكون على حساب بعض أجنداتها ومصالحها. هذه القوى التي تعلن أنها جزء من (محور المقاومة)، لن يكون باستطاعتها الاستمرار والاحتفاظ بسلاحها وأيضًا بمصالحها المالية الضخمة المحمية بهذا السلاح، بدون استمرار ما تعتبره تهديدات للبلاد حسب تعريفها لذلك. وهي جعلت من السعودية (عدوًّا)، تتهمه على الدوام في بياناتها بدعم (داعش) وإرسال آلاف (الإرهابيين) للعراق.
مثل هذا الشحن الدعائي، ونشر الخوف، وعناصر التهديد، أمر مهم للقوى المسلحة التي تنافس الدولة على سلطاتها، فهي تعتبر نفسها جزءًا من الدولة من خلال غطاء الحشد الشعبي، فيما يتصل بالمنافع والامتيازات، والاحتفاظ بالسلاح والمعسكرات، لكنها تكون جزءًا من (محور المقاومة) وجزءًا من (دولة موازية)، حينما تكون هناك استحقاقات سياسية تفرضها الحكومة، ولا يناسب هذه القوى أن يُمَسَّ نفوذها ومصالحها حتى لو على المدى المتوسط.
في هذا المفترق تحديدًا، يكون الحوار السعودي-الإيراني في بغداد، تطورًا غير مرغوب فيه، بالنسبة لهذه القوى المسلحة، فذلك قد يقود إلى ترتيبات أو اتفاقات بين طهران والرياض، وهو ما سيكون غير مقبول بالنسبة لهذه القوى، وقد برز ذلك جليًّا من خلال تغريدات ومواقف لقادة في هذه المجاميع أكدوا فيها أنهم لن يكونوا جزءًا من أي اتفاق بين العاصمتين، وأنهم سيواصلون استهداف السعودية.
وقد تذهب بعض التحليلات إلى أن هذه المواقف المتطرفة، هي نوع من السقف العالي الذي وُضِع بالاتفاق مع طهران للحصول على تنازلات أكبر من السعودية، لكنْ هناك احتمال آخر، يتصل برغبة داخلية في إيران يقودها الأصوليون لإفشال الحوار، وحرمان الإصلاحيين من استثمار نتائجه في الانتخابات، وبطبيعة الحال فالقوى المسلحة في العراق، ترتبط بشكل مباشر مع الجهات التي يسيطر عليها الأصوليون تحديدًا، لاسيما في الحرس الثوري، وقد يكون تصعيدها ضد السعودية، ورفض الحوار معها، جزءًا من دورها للتأثير على الانتخابات في إيران.
وبالمقابل، قد يجد الكاظمي أن إنجاز اتفاق بين السعودية وإيران، ربما يغير التوازنات في المنطقة، ويؤثر على معدل التوتر فيه، وذلك قد يكون سببًا لامتصاص زخم القوى المسلحة، وانكشافها. وإضافة لذلك، فإن السعودية، بَنَت خلال السنوات الماضية علاقات قوية مع أطراف شيعية أساسية في العراق، أبرزها زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، وزعيم تيار الحكمة، عمار الحكيم. مثل هذه العلاقات التي يبدو أنها مستمرة، ستعطي للتيارين الشيعيين في حال الاتفاق السعودي-الإيراني أفضلية سياسية في داخل الوسط الشيعي المنقسم أصلًا، ومع المؤشرات على سعي التيار الصدري للمشاركة بقوة في الانتخابات والحصول على موقع رئاسة الوزراء، فإن القوى المسلحة تستشعر خطرًا حقيقيًّا؛ حيث يجاهر الصدر برفض ما يسميه (السلاح المنفلت) و(الميليشيات الوقحة)، والصراع بين الطرفين أكبر من أن يخفى، ورغم أنه ما زال قابلًا للتحكم، لكنه قد لا يستمر كذلك، وهو ما يمكن أن يتسبب بمعادلات جديدة في العراق، تعيد ترتيب وضعه من دون اللجوء لقتال داخلي عنيف.