تاريخيًّا، استخدمت الدولة المغربية أساليب مختلفة للتحكم في الانتخابات، بدءًا بالاحتيال الانتخابي الذي ينطوي على التزوير، وهو شكل فني قديم قدم الانتخابات، يقوم على إدخال التحيز في إدارة الانتخابات. وقبل دستور 2011، كانت الدولة قادرة على فرض إجراءات للحدِّ من صعود الإسلاميين إلى السلطة؛ حيث لم تكتفِ بتفصيل الدوائر الانتخابية على مقاس مرشحين من أحزاب منافسة خاصة من حزب الأصالة والمعاصرة الذي راهنت الدولة على تأسيسه ليواجه طموح حزب العدالة والتنمية لبلوغ مربع الحكومة، بل فرضت على هذا الأخير العدول عن تغطية ترشيحاته لجميع الدوائر الانتخابية.
حاليًّا، وبعد أن تمكن الحزب الإسلامي من الفوز بالانتخابات البرلمانية منذ 2011 وقيادة الحكومة لولايتين متتاليتين، ومع ورود احتمال أن يظفر بفوز ثالث في الانتخابات المقبلة، ليس لأهمية حصيلة تدبيره للشأن، ولكن للوهن الشديد الذي تتخبط فيه أحزاب المعارضة، فإن مثل هذا السيناريو سيجعل حزب العدالة والتنمية يتوصل لأن يأخذ بناءً على هيمنته الانتخابية في أن يتطابق مع المرحلة الراهنة من تاريخ البلاد، وهو ما سينذر فيما يلي ببوادر تغيير معالم النظام الحزبي التعددي إلى نظام الحزب المسيطر.
لذلك، وأمام عدم اليقين، ولأنه لم تعد الاستراتيجيات الهابطة في سلم التلاعب الانتخابي قابلة للتطبيق، أضحى لزامًا إيجاد طرق جديدة للحد من عدم اليقين بشأن انتخابات شفافة، ولا تُفقدها في نفس الآن السيطرة على نتيجة الفائز في الانتخابات واختيار قيادة الحكومة. وفي هذا السياق، صار الهاجس يتمحور حول كيفية "احترام شفافية العملية الانتخابية مع الحد من عدم اليقين في نتائجها للحكم مع أحزاب ورئيس حكومة يمكن الوثوق به. بمعنى آخر، كيف يمكن منع فوز إسلاميين كحزب العدالة والتنمية في الانتخابات مع احترام نص الدستور؟"(1)، ولعل هذا ما قاد في نهاية المطاف إلى الاستثمار في الرياضيات الانتخابية، بابتداع فكرة تضخيم القاسم الانتخابي الذي على أساسه تُوزَّع المقاعد البرلمانية، والذي صار يتم احتسابه بناء على عدد الناخبين المسجلين في اللوائح الانتخابية بدل عدد المصوِّتين منهم فعلًا، وذلك للوصول إلى الخصم من رصيد المقاعد التي اعتاد حزب العدالة والتنمية تحصيلها خاصة في الدوائر متعددة المقاعد، وقد تولى التحالف المناهض له من أحزاب المعارضة وحتى من الأحزاب المتحالفة معه في الحكومة اشتراع هذا الإجراء بالوكالة لفائدة الطرف العميق في اللعبة الانتخابية.
إذن، وخلافًا للمقاربات القانونية التي بحثت في مدى توافق هذا القاسم مع الدستور، ومن منطلق أن معضلته سياسية قبل أن تكون قانونية دستورية، كيف يمكن تكييفه من الناحية السياسية؟
الوجه الأليف للسلطوية الانتخابية في السياق المغربي الراهن
بدلًا من حظر العملية الانتخابية أو جعلها غير منظمة لدى الأنظمة الاستبدادية، تسعى الأنظمة السلطوية، بدرجة أقل سوءًا، إلى جعلها عديمة الفائدة من خلال نزعة لا تمكينية "ففي حين أن الانتخابات الديمقراطية هي طريق للوصول إلى السلطة، يمكن تصميم الانتخابات السلطوية كطريق إلى العجز. يمكن للأنظمة استباق التهديدات المحتملة المنبثقة عن الانتخابات الشعبية من خلال تقييد نطاق المناصب الانتخابية من خلال استخدام المناصب المحجوزة"(2).
وتشير السلطوية الانتخابية إلى تلك النظم التي تتيح تعددية حزبية على كل من المستويين المحلي والقومي في حين أنها تجرد الانتخابات من أي فاعلية ويفرز ذلك نظامًا انتخابيًّا سلطويًّا حتى وإن تعددت الانتخابات المقامة(3). فتلك النظم باتت بُعدًا من أبعاد السلطوية التي تنهض على بناء مؤسسي يلتزم من حيث الشكل بالإجراءات الديمقراطية لكن مع الإبقاء على الطابع السلطوي في بنيته. فبالرغم من خلو الانتخابات في ظل تلك النظم من التدخل المباشر إلا أنها تجري في ظروف غير عادلة؛ حيث يمكن أن تسير الضمانات الانتخابية جنبًا إلى جنبِ النهوج الإقصائية. وهكذا تكشف السلطوية الانتخابية عن مزيج غريب من انتخابات تنافسية بشكل ملحوظ وتحكم مدروس بعمق.
فهذه السمة هي ما ينقذ بعض الأنظمة من نعت الاستبدادية؛ حيث عدالة المنافسة تظل مثالية بعيدة المنال في كل مكان، ولذلك لا مفر من الفجوة بين المُثل الديمقراطية وواقع ممارسة الديمقراطية، فليس عادلًا كذلك وصف أي نظام بأنه استبدادي لأنه ينتهك المثل الديمقراطية إلى حدٍّ ما؛ حيث لا يوجد أحد مثالي إذ الجميع أكثر أو أقل ديمقراطية.
ولهذا، تسعد الأنظمة السلطوية بتبني هذا المنظور ووصف انتهاكاتها المعيارية بأنها "عيوب ديمقراطية"، فنحن نرتكب المغالطة المعاكسة للكمالية إذا رفضنا وصف أي نظام بأنه ديمقراطي لأنه لا أحد يجسِّد المثل الديمقراطية دون عيوب(4)، وأن الانخفاض في دعم الديمقراطية لا يعني دعم السلطوية(5).
لكنه لا محالة يعني تراجع الديمقراطية وفق المقترب الذي طرحه صمويل هنتنغتون (Samuel Huntington)، بل إنه جعل الارتداد الديمقراطي، على أساس تقويض القواعد الديمقراطية دون محو المؤسسات الديمقراطية الرئيسية، في حكم الموجة الثالثة للسلطوية.
تستهدف السلطوية الانتخابية تقويض المعارضة لكنها في السياق المغربي الراهن تستهدف تقويض حزب في موقع الحكم (من الحكومة)، وهو ما كشف عنه إصلاح القوانين الانتخابية خاصة الإصلاح الجزئي للنظام الانتخابي؛ حيث تم ابتكار تكنولوجيا جديدة للتلاعب الانتخابي تقوم على طريقة غير مسبوقة ولا مشهودة لاحتساب القاسم الانتخابي، يراد منها إعادة التوزيع الانتخابي وتغيير القواعد الانتخابية لصالح الأحزاب الأخرى المنافسة لحزب العدالة والتنمية، حتى لو كان ذلك خطوة نحو التراجع الديمقراطي.
نظريًّا، هناك نهجان لإصلاح الأنظمة الانتخابية: أحدهما إصلاح في سياق التفاعل بين النخب والشعب كجزء من حزم الإصلاح في برامجهم الانتخابية والحكومية؛ حيث يكون هَمُّ الإصلاحيين في هذه الحالة هو الاعتقاد بأن الإصلاح يمكن أن يؤدي إلى تحسين عمل السياسة والنظام السياسي. وثانيهما: إصلاح تفرضه الأغلبية النخبوية كتجسيد للانفصال بين السياسيين والناخبين؛ حيث يكون هذان النهجان الإصلاحان الرئيسان مدفوعيْن بالرغبة في زيادة سلطة الأنظمة الخاصة. لكن في الوقت الذي ينبغي أن يسعى الناخبون "للدفاع عن القيم العامة للحكم الديمقراطي الجيد التي يرون أنها مهددة في ظل النظام السائد"(6). يظهر الجمهور ليس فقط غير مهتم بالضغط من أجل الإصلاح، ولكن أيضًا غير راغب أو غير قادر على معاقبة التلاعب بالنظام الانتخابي من قبل من هم في السلطة. في هذا الظرف، تكون قيود الشرعية منخفضة. ويحدث هذا على الأرجح لأن المواطنين اعتادوا التلاعب بالنظام الانتخابي من خلال السوابق التاريخية(7) .
ويشار بموازاة ذلك إلى أن هناك ثلاثة متغيرات أساسية للنظر فيها في وقت اختيار نظام انتخابي معين:
- أداء القواعد الحالية وتوقعات اللاعبين المتغيرة لنتائج الانتخابات في ظلها.
- توافر أو اختراع قواعد وصيغ انتخابية بديلة ذات تأثيرات متوقعة مختلفة.
- القدرات النسبية للجهات الفاعلة في صنع القرار المؤسسي(8).
مغربيًّا، جاء الإصلاح مرادفًا للنهج الثاني؛ حيث ظهرت الانتخابات كاستراتيجية لإدارة الصراع السياسي وعملية مساومة بين النخب؛ إذ من جانب أول، فحزب العدالة والتنمية الذي يفوز في ظل النظام الانتخابي الحالي ظل يفضِّله ويرغب بالتالي في الاحتفاظ به؛ حيث "تؤكد 'تفسيرات القوة' التي تقدمها بعض مناهج تبعية المسار على أن أولئك الذين يمارسون السلطة المكتسبة من خلال النظام الانتخابي الحالي ليس لديهم حافز يُذكر لتغييرها"(9).
وفي الجهة المقابلة، سعى تكتل الأحزاب المناهضة له إلى إعادة توزيع المنافسة الانتخابية وممارسة فن متطور لـ"هندسة الانتخابات" من خلال قاعدة للتمثيلية على أساس قاسم انتخابي جديد يخدم مصالحها الشخصية لمنع ترجمة خسائر التصويت إلى خسائر في المقاعد البرلمانية.
فهذا القاسم الانتخابي يحفظ المصلحة المشتركة للأحزاب الكبيرة المنافسة لحزب العدالة والتنمية والأحزاب الصغيرة بما يُضعف الحزب المستقوي انتخابيًّا ويعزل خيارات تحالفاته الحكومية. حيث إنه تحت الزعم بالحرص على توسيع تمثيلية الأحزاب، يدعم هذا القاسم الانتخابي الأحزاب الصغيرة للظفر بمقعد في الدوائر الكبيرة متعددة المقاعد، في مقابل استبعادها من التنافس على الدوائر الصغيرة أي ذات مقعد أحادي وذلك لصالح الأحزاب الكبيرة. ذلك أن "اختيار النظام الانتخابي يتبع ما يمكن أن يسمى 'قاعدة الميكرو-ميغا'، والتي بموجبها يفضل الأكبر الأصغر والصغير الأكبر: حيث تميل بعض الأحزاب الكبيرة إلى تفضيل حجم الدوائر الصغيرة والقواعد القائمة على حصص صغيرة من الأصوات لتخصيص المقاعد، بينما تميل العديد من الأحزاب الصغيرة إلى تفضيل التجمعات الكبيرة، وحجم الدوائر الكبيرة، والحصص الكبيرة "(10).
إن العلاقة بين مصلحة معينة وخيار نظام انتخابي واضحة إلى حدٍّ ما بالنسبة للطرفين، فكلاهما يعطي الأولوية للترجمة العادلة لأصوات الناخبين إلى مقاعد في البرلمان. والمثير في القاسم الانتخابي المستجد أنه جاء كإجراء ليس لينظم عملية انتقال السلطة بين الأحزاب في ضوء نتائج الانتخابات، وإنما للإبعاد عن السلطة لضمان التداول على السلطة.
ولهذا، فهو من منظور حزب العدالة والتنمية يقوم على الانحياز الحزبي ضده، على اعتبار أنه يغيِّب العدالة في المنافسة والحرية في الانتخاب ونزاهة النتائج، لكن في المقابل تقدمه الكتلة الحزبية المضادة كقاعدة لتوسيع التمثيلية سيما لفائدة الأحزاب الصغيرة، لكن لفلترة الأغلبية المرشحة لقيادة الحكومة. فحتى مع فوز حزب العدالة والتنمية من جديد في الانتخابات المقبلة سيقود النظام الانتخابي على أساس القاسم الجديد بشكل منهجي إلى حكومة ائتلافية تقلِّل من نفوذ الحزب الإسلامي بعد تقليص عدد المقاعد التي يمكن أن يحظى بها.
لقد برزت سياسة اختيار القاسم الانتخابي كمسألة نضالية لكلا الطرفين وتعني أساسًا الاختيار بين الاحتواء أو المنافسة، لكنهما في الواقع يسعيان معًا إلى هندسة الهيمنة الانتخابية بالإشارة إلى الضمانة الانتخابية المناسبة، إما للتمسك بالسلطة أو لتقليل المخاطر. طبعًا مثل هذا الصراع لا يمتُّ للنضال الديمقراطي بصلة؛ ذلك أن "الدمقرطة، بدلًا من أن تكون مظهرًا من مظاهر المثل الديمقراطية، تصبح عملية تحديد أي من هذه المُثل ستسود. إنه بالفعل صراع حول من وماذا سيعتبر ديمقراطيًّا، أي ما هي الأفكار والقوى التي سيُسمح لها بالتنافس على السلطة في النظام الديمقراطي الجديد. إن هذا النضال بالذات هو الذي يجعل 'انتخابات حرة ونزيهة' ممكنة. وبدلًا من أن تكون انتصارًا لا لبس فيه للديمقراطيين على غير الديمقراطيين، تصبح الديمقراطية مزيجًا معقدًا من لحظات ديمقراطية واستبدادية تتعايش في دولة لا معنى لها إلا بالإشارة إلى النضال السياسي الذي أنتجها"(11).
اشتراع إجراء في مواجهة القيم الديمقراطية
نظرًا لأهمية نتائج النظام الانتخابي، لاسيما على عدد الأحزاب السياسية والتكوين السياسي للمجالس البرلمانية والحكومات، فإن اختيار النظام مهم. غير أن التحدي المهم هو حساب ترجيح بعض أنواع التلاعب الانتخابي على أنواع أخرى، لكن الأهم هو كيفية إضفاء المشروعية القانونية على التلاعب في انتخابات يمكن التنبؤ بها.
ولذلك، فالقاسم الانتخابي المستجد هو إجراء يقوم على التصويت القانوني وليس على التصويت الواقعي، وقد جرى الاتكاء على القانون لتمريره وشرعنة عدم عدالته، فهذا الإجراء القانوني لا يعكس فحسب التنظيمَ المصلحي للقانون، وإنما تناسُب وظيفته كقانون مع وظيفة القوة التي يراد بها تحقيق الفائدة منه، وهي معضلة أخرى أفدح من خلفياته نفسها؛ إذ تترجم إشكالية انحراف القانون نحو غاية مناقضة وتوظيفه كسلاح لكل أنواع الجشع والتنافس غير الشريف وذلك طبقًا لما عبَّر عنه فريديريك باستيا (Frédéric Bastiat) بقوله: "القانون حين ينحرف! القانون حين تنحرف معه قوات الوطن الجماعية. لا أقول: القانون حين يحول عن غايته فحسب، بل القانون المدفوع إلى النقيض من ذلك تمامًا! القانون حين يغدو مهمازًا للأطماع! بدل أن يكون كابحًا لجماحها، القانون حين يرتكب الظلم الذي أنيط به عقابه(12).
قد يكون التلاعب بالانتخابات استراتيجية مفيدة على المدى القصير ولكنه مكلِّف على المدى الطويل. فالقاسم الانتخابي الذي ينظر إلى النظام الانتخابي نظرة حسابية بحتة دون أن تتوافق فيه أصوات الناخبين مع المقاعد البرلمانية، لا يقوض العملية الانتخابية فحسب وإنما قد يؤثر في مشروعية البرلمان القادم.
فأهم ما ينتظره هو الفشل، وبشكل سيء، في اختبار التمثيل العادل، أمام "الخلافات بين النسبة المئوية للأصوات في صالح حزب ما، والنسبة المئوية للمقاعد التي يفوز بها"(13)، وهو بذلك يفرِّغ جوهر نظام التمثيل النسبي "الذي صُمِّم خصيصًا ليعطي توافقًا قريبًا بين نسبة مجموع الأصوات المعطاة للحزب في الانتخاب ونسبة المقاعد التي يحصل عليها الحزب في المجلس التشريعي"(14). فضلًا عن أن تبريره بتوسيع التمثيلية "يشجِّع على مضاعفة عدد الأحزاب وبالتالي على عدم الاستقرار البرلماني"(15) و"يخضع تكوين الأغلبية الحكومية لمساومات تجري بين قادة الأحزاب غداة الاقتراع، أكثر مما يخضع مباشرة للنتائج نفسها"(16).
مجمل القول: إنه إجراء لا يواجه حزب العدالة والتنمية المقصود به ولكنه يواجه القيم الديمقراطية نفسها، وبالتالي، ما الذي يمكن أن تسفر عنه انتخابات تتأسس على هذا الصدع القيمي الكبير؟
فمن جهة أولى، ينظر القاسم الانتخابي الجديد إلى حزب العدالة والتنمية ليس كمجرد تهديد انتخابي وإنما كتهديد وجودي أيضًا؛ حيث الأحزاب التي فرضته على الحزب الإسلامي لم تكن مدفوعة فقط بمصالح حزبية في تعظيم المقاعد البرلمانية وإنما كذلك بمصلحة حماية النظام الاجتماعي القائم. فحتى إذا لم يتمكن القاسم الانتخابي من إيقاف صعود الحزب، إلا أنه سيقلِّل من تمثيليته في البرلمان ويجعل بالتالي من الصعب عليه تحقيق الأغلبية التي سيحتاجها لسَنِّ تغييرات اجتماعية واسعة؛ إذ إنه ينبني على المفاصلة بين نظام التصويت واختيارات الناخبين على أساس أن "نظام التصويت يجب أن ينتج ترتيب تفضيل مجتمعي انتقالي، في حين أن وظيفة الاختيار تمنحنا فائزًا"(17)؛ حيث "طريقة التصويت هي آلية تأخذ التصنيفات المختارة للمرشحين المقدمة من مجموعة من الناخبين وتنتج مرشحًا فائزًا يسمى الخيار الاجتماعي"(18)، فالانتخاب إذن هو لعبة الحركة المتزامنة للاستراتيجية البحتة التي يكون فيها الناخبون هم اللاعبون والاستراتيجيات هي التصنيفات التي قدمها الناخبون للمرشحين. ونتيجة الانتخابات هي الاختيار الاجتماعي الناتج عن طريقة التصويت(19).
غير أنه من جهة أخرى، خطيئة ما بعدها خطيئة أن يتم تمرير مثل هذا القاسم الانتخابي باسم سحق حزب العدالة والتنمية بينما هو في الواقع يدوس المسلسل الديمقراطي برمته، فمثل "هذا الإصلاح ومسألة نطاقه يشير إلى النقاشات حول تهجين الأنظمة السياسية السلطوية، فقد دفع هذا الإصلاح نحو ابتكار فكرة معينة تسمى "الديمقراطية الأصيلة"، تفي بالمعايير الدولية للحكم الصالح النيوليبرالي". لكن من الناحية العملية، فإن هذه الصيغة تتعارض مع إخفاء أن إعادة تنظيم السياسة الانتخابية، بعيدًا عن تعميق عملية الدمقرطة، تعزز في الواقع نسخة جديدة للممارسة السلطوية(20)، كما هو شأن دول عملت على التكيف استراتيجيًّا مع التحول في التوقعات الدولية، وقامت ببناء واجهة ديمقراطية لصرف الانتباه عن الممارسات غير الديمقراطية بشكل واضح. تُسمى أحيانًا أنظمة "هجينة" أو "شبه ديمقراطية"؛ حيث تتمتع هذه الدول بأوراق اعتماد ديمقراطية: يُسمح بأحزاب المعارضة، ويتم شغل المناصب السياسية من خلال انتخابات تعددية. ولكن في الواقع العملي، يتم انتهاك قواعد المنافسة السياسية الحرة والعادلة بشكل منتظم ومنهجي(21).
إن مثل هذا الإصلاح يقيِّد إمكانيات السياسة الديمقراطية للبلاد حتى قبل عملية التصويت أو احتساب نتائج الاقتراع، وبهذا يجعل العملية الانتخابية برمتها أداء مسرحيًّا والديمقراطية في نهاية المطاف محاكاة للخداع؛ حيث ستثور الشكوك حول كون الديمقراطية المغربية هي ديمقراطية للشعب ومن أجله ما دامت الانتخابات المقبلة لن تعبِّر بشكل صحيح عن الإرادة الشعبية.
ومن المحاذير المثارة في هذا السياق أن "تصبح عملية التحول نحو السلطوية عملية تدريجية تحت واجهة قانونية"(22) هي قوانين الانتخابات؛ حيث السلطوية الانتخابية حينما لا تكتفي بوصول الحزب المرغوب فيه ليس من قبل الشعب وإنما من قبل السلطة، يمكن أن تتحول إلى سلطوية تقليدية تنقلب على مسار الترسيخ الديمقراطي.
كما أن تمرير القاسم الانتخابي سيجعل احتمالات النضال الشعبي من أجل الديمقراطية ضئيلة رغم الحركة الديمقراطية التي تعكسها الإصلاحات السياسية المؤسساتية الجارية؛ إذ في ظل ضعف نسب المشاركة الانتخابية المتوقع، لا يمكن أن تكون الانتخابات قناة يمكن من خلالها التعبير عن تحدٍّ شعبي؛ "ففي حين أنه من الممكن الكشف عن القيم غير المباشرة للانتخابات في النقاشات الدستورية بين النخبة السياسية المغربية، فإن نظرة للمؤسسات المنتخبة من الأسفل توضح أنه بدون وجود حشد مهيمن محتمل لصالح هذه القيم والمؤسسات المنتخبة، فإنه سيكون كذلك من الصعب تحويل هذه القيم إلى مؤسسات ديمقراطية ليبرالية(23)؛ حيث تستحيل المؤسسات إلى محض أدوات لتقاسم السلطة وليس لتقاسم القيم الديمقراطية.
لعل أخطر ما يواجه الديمقراطية أن الكثيرين ممن ينادون بها غير مقتنعين بها بما فيه الكفاية، أو أنهم إذا اقتنعوا بها نظريًّا فإنهم لا يمارسونها، أو يمارسونها بشكل خاطئ، كما أنهم مستعدون للتساهل كثيرًا بمفهومها وحدودها حين تعني الآخرين(24)، وهذا هو حال أحزاب تواطأت على اشتراع إجراء سلطوي بالقانون وبآلية الأغلبية التصويتية في البرلمان، وذلك لتحقيق مصلحتها في مواجهة حزب لا تعرف إلى هزيمته بالوسائل النظيفة سبيلًا، حتى لو كان ذلك يعني أن تغدو العملية الديمقراطية هشة في نهاية المطاف.
إنَّ تغوّلَ المشترعين هذا لم يستطع وقفه حتى حراس الدستور؛ حيث تبين أن التفاؤل المبكر الجامح، الذي رافق إحالة القانون التنظيمي لمجلس النواب على المحكمة الدستورية قصد فحص دستوريته، كان في غير محله، وذلك حينما أصدرت حكمها الموسوم بأن الفقرة الثانية من المادة 84 من القانون المنظور فيه والمتعلقة بتحديد طريقة احتساب القاسم الانتخابي ليس فيها ما يخالف الدستور، بدعوى أن ذلك يدخل في السلطة التقديرية للمشرِّع التي ليست من صلاحيات المحكمة التعقيب عليها. فهذا الحكم شكَّل لغزًا عميقًا ليس لأنه لم يستند على وجود نوع من الدليل المتماسك، بل لأنه مارس سلطة الأمر الواقع، أو أكثر من ذلك حينما ذهب بشكل قصير النظر إلى حدِّ عصمة المشرِّع.
ذلك أنه رغم أن حكم المحكمة جاء مفرطًا في المعيارية الدستورية ومثقلًا بالحجج القانونية، إلا أن توجهها لم يسلم من منزلق التسييس ولم تكن بمعزل عن التداعيات السياسية لقرارها؛ حيث ظهر نشاطها في هذه الواقعة سياسيًّا أكثر منه قانونيًّا؛ حيث "إن علماء السياسة يفهمون بأغلبية ساحقة الحكم الدستوري على أنه سياسة في لباس قانوني،... فمن الواضح أن المحاكم الدستورية تلعب دورًا سياسيًّا مهمًّا عندما تقرر مدى صلاحية الإجراءات السياسية"(25). ثم إن قضاة المحاكم الدستورية يُنظر إليهم على أنهم فاعلون استراتيجيون، يسترشدون بالمصلحة المؤسسية، أو التفضيلات السياسية. وبعد اتخاذ قرار على هذا الأساس، يحاولون تقديمه على النحو الذي تمليه أحكام الدستور(26).
وعلى العموم، قد تكون المحكمة الدستورية حسمت معركة طعن حزب العدالة والتنمية دستوريًّا في مقتضى القاسم الانتخابي، غير أن ذلك ليس كفيلًا بنأي قانون الانتخابات الذي هو دعامة أساسية في التحول الديمقراطي عن أية مطاعن سياسية إضافية يمكن أن تلاحق نتائج الانتخابات خاصة في حالة خسارة حزب العدالة والتنمية هذه النتائج.
خاتمة
يتضح بجلاء أن الانتخابات كلعبة حسابية ليس مهمًّا أن تكون مشوقة أو عادلة، بل أهم ما فيها هو نتيجتها من مكافآت ومكاسب عددية، ومع تعديل القاسم الانتخابي الذي اشترعه العقل السياسي المغربي لتصميم الانتخابات، ستؤول العملية الانتخابية إلى إنتاج النتيجة بمجرد اعتماد طريقة احتساب هذا القاسم، ولهذا فعدم استبعاده القدرة على توقع النتائج ينسف أطروحة ربطه بتوسيع التمثيلية، بل إنه سيؤول إلى تغييب السياسة في الانتخابات؛ حيث لن تكون هناك طروحات سياسية متنافسة، وبالتالي لن تعكس الانتخابات حالة سياسية فعالة وثرية.
إن انعدام اليقين في نتائج التصويت هو شرط لديمقراطية العملية الانتخابية، لكن مع القاسم الانتخابي الجديد بوصفه أداة للمواءمة السياسية فعملية الانتخابات جارية قبل مرحلة التصويت الرسمية، وصار التنبؤ بالنتائج ممكنًا على الأقل في الدوائر متعددة المقاعد؛ حيث سيصير من المستحيل أن يحصل حزب ما، على أكثر من مقعد برلماني بهذه الدوائر، وهكذا فهذا الانتقال من قاعدة الفائزين المتعددين للحزب الواحد إلى قاعدة الفائز الواحد للحزب الواحد سيشكِّل تحويرًا للنظام الانتخابي النسبي من نظام القائمة أو اللائحة إلى نظام فردي مقنَّع.
يبدو أن حزب العدالة والتنمية هو المستهدفُ من هذا التوجه، والأكيد أنه سيتضرر من هذا القاسم الانتخابي، فقد اعتاد الفوز بأكثر من مقعد لا سيما بالدوائر الانتخابية للمدن الكبرى وهو ما جعله حزبًا ذا طبيعة حضرية، ولهذا فالخيار المتبقي أمامه على المدى القصير هو الرهان على الجغرافيا الانتخابية بمحاولة تقوية حظوظه في الدوائر أحادية أو ثنائية المقعد سيما بالأقاليم ذات الطبيعة القروية التي يستند فيها التصويت على اعتبارات غير حزبية (شخصانية وقبلية...). أما على المدى المتوسط والطويل، "فعندما يصبح أحد النظم أمرًا لا مفرَّ منه يكون من الصواب قبوله مع السعي في تعديله"(27)، فلا توجد عمليات انتخاب وإجراءات كاملة كما أن الانتخابات هي عملية تعلُّم مستمر، ولهذا سيتعين على الحزب النضال من أجل ترسيخ النظام الانتخابي دستوريًّا بحيث لا يمكن تغييره إلا عن طريق الاستفتاء؛ حيث "توفر الأحزاب السياسية هياكل لتعبئة ليس فقط التحديات الانتخابية ولكن أيضًا الاحتجاجات الجماهيرية وغيرها من الأنشطة المناهضة للنظام. قد تكون الانتخابات نفسها بمنزلة نقاط محورية للعمل الجماعي، مما يوفر حوافز أكبر للأفراد لتحدي النظام الحالي بشكل علني"(28).
(1)- Thierry Desrues, "Authoritarian Resilience and Democratic Representation in Morocco: Royal Interference and Political Parties’ leaderships since the 2016 elections", MEDITERRANEAN POLITICS, Issue 25, no .2 (2020), p. 2.
(2)- ANDREAS SCHEDLER, The Politics of Uncertainty: Sustaining and Subverting Electoral Authoritarianism, (Oxford: Oxford University Press, 2013), p. 87
(3) منتدى البدائل العربي، السلطوية الانتخابية: المفهوم والحالة المصرية، سلسلة الأوراق النظرية رقم 1، ص-ص 4-5:
http://www.afalebanon.org/ar/publication/4918/
(4- ANDREAS SCHEDLER, p. 103.
(5) دينا أسامة مصطفى، "التراجع الديمقراطي في دول الموجة الثالثة للديمقراطية"، مجلة الديمقراطية، العدد 76 (أكتوبر/تشرين الأول 2019)، ص 17.
(6)- Thierry Desrues, p. 2.
(7)- ALAN RENWICK, THE POLITICS OF ELECTORAL REFORM: Changing the Rules of Democracy, (Cambridge: Cambridge University Press, 2010), p. 240.
(8)- Josep M. Colomer and Bernard Grofman, Handbook of Electoral System Choice, 1st published, (New York: PALGRAVE MACMILLAN, 2004), p. 4.
(9)- Sarah Birch and others, Embodying Democracy Electoral System Design in Post-Communist Europe, 1st First published, (New York: PALGRAVE MACMILLAN, 2002), p. 21.
(10)- Josep M. Colomer and Bernard Grofman, p. 3.
(11)- Amel Ahmed, Democracy and the Politics of Electoral System Choice: Engineering Electoral Dominance, (Cambridge: Cambridge University Press, 2013), p. 194.
(12) فريديريك باستيا، القانون، ترجمة منبر الحرية، الطبعة العربية الأولى، (الأردن: الأهلية للنشر والتوزيع، 2012)، ص 11.
(13) روبرت دال، عن الديمقراطية، ترجمة أحمد أمين الجمل، الطبعة العربية الأولى، (القاهرة: الجمعية المصرية لنشر المعرفة والثقافة العالمية، 2000)، ص 123.
(14) نفس الإحالة السابقة، ص 122.
(15) فيليب برو، علم الاجتماع السياسي، ترجمة محمد عرب صاصيلا، الطبعة الأولى، (لبنان: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1998)، ص 308.
(16) نفس الإحالة السابقة، ص 313.
(17)- Jonathan K. Hodge and Richard E. Klima, The Mathematics of Voting and Elections: A Hands-On Approach, 2nd Edition, (USA: The American Mathematical Society, 2018), p. 96.
(18)- Samuel Bruce Smith, Chance Strategy and Choice: An Introduction to the Mathematics of Games and Elections, (Cambridge: Cambridge university Press, 2015), p. 16.
(19)- Samuel Bruce Smith, p.17.
(20)- Thierry Desrues, p. 8.
(21)- DANIELA DONNO, Defending Democratic Norms International Actors and the Politics of Electoral Misconduct, (New York: Oxford University Press, 2013), p. 1.
(22) دينا أسامة مصطفى، ص 20.
(23)- James N. Sater Source, "Parliamentary Elections and Authoritarian Rule in Morocco", Middle East Journal, Vol. 63, Issue. 3 (Summer, 2009), p. 396.
(24) عبد الرحمان منيف، الديمقراطية أولًا الديمقراطية دائمًا، المؤسسة للدراسات والنشر، ص 24.
(25)- DIETER GRIMM, "What Exactly Is Political about Constitutional Adjudication?", in: CHRISTINE LANDFRIED, (ed.), JUDICIAL POWER: How Constitutional Courts Affect Political Transformations, 1st Published, (Cambridge: Cambridge University Press, 2019), p. 307.
(26)- DIETER GRIMM, p. 311.
(27) غوستاف لوبون، روح السياسة، ترجمة عادل زعيتر، (القاهرة: كلمات عربية للترجمة والنشر، 2013)، ص 124.
(28)- Ryan Shirah, "Electoral Authoritarianism and Political Unrest", International Political Science Review, Volume. 37, Issue. 4 (September, 2016), p. 472.