الحرب الإسرائيلية الجديدة على غزة هي الرابعة من نوعها منذ عام 2008، وقد شهدت خلال الأيام الأولى منها، مظاهر عسكرية شبيهة بمجريات ما حدث خلال حربي عام 2012 و2014، بشكل خاص، لكن في حال استمرت الجولة الحالية من النزاع العسكري فترة أطول، فقد تبرز عناوين جديدة، سواء على مستوى الأسلحة المستخدمة، أو التكتيكات العسكرية، وكذلك الأهداف النهائية.
أولى سمات المواجهة العسكرية الجديدة، تتمثل بزمام المبادرة، ففي الحروب الثلاثة السابقة، كانت إسرائيل هي من خطَّط وبدأ الحرب، فيما بدأ النزاع الجديد، أو (سيف القدس)، حسب التسمية الفلسطينية، بقرار من فصائل المقاومة في غزة، في سياق الدعم للشعب الفلسطيني في القدس، ولتحقيق هدف سياسي ومعنوي جوهري يتمثل بإفشال محاولات إسرائيل عزل قطاع غزة، عن سائر أنحاء فلسطين، ولاسيما القدس المحتلة.
اعتبرت قيادة حركة حماس، كما جاء على لسان رئيس مكتبها السياسي، إسماهيل هنية، أن ما قامت به غزة "هو رسالة للاحتلال الإسرائيلي أن كفى عبثًا في القدس"، وأن معادلة ربط غزة بالقدس تعني معادلة المقاومة مع الهوية، موضحًا أن غزة والقدس والضفة الغربية وفلسطينيي 1948 "كلهم يتحركون معًا في لوحة متماسكة ومتكاملة من أجل مواجهة الاحتلال".
يلخِّص ذلك رؤية القيادة في غزة للهدف الأساسي من الجولة الجديدة من الصراع، وهو هدف استراتيجي، تبدَّى بشكل مباشر في انتفاضة للسكان الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، لاسيما في مدن اللد وعكا، فضلًا عن القدس بطبيعة الحال. وكل ذلك يمثل متغيرًا جديدًا في الصراع بشكل عام، ما زال قيد الاختبار، وقد يتطور إلى انتفاضة شاملة في الضفة الغربية وعموم فلسطين المحتلة 1948، أو يجري قمعه بالقوة كما هددت إسرائيل بشكل واضح.
هذا النمط الجديد من المواجهة، جعل الجانب العسكري من الصراع جزءًا من المشهد، رغم طغيانه الواضح، بعدما كان في الحروب الثلاثة السابقة يمثل المشهد بكامله. لكن هذه المعادلة ستظل مرهونة بالقدرة على تصاعد نشاط الشارع الفلسطيني سواء في الضفة الغربية أو في المدن ذات الوجود الفلسطيني في إسرائيل.
القدرات الفلسطينية في مواجهة إسرائيل
لا تمكن المقارنة بطبيعة الحال بين القدرات العسكرية للمقاومة وما تمتلكه إسرائيل؛ فالمقارنة الفنية الصرف ستكون غير منطقية مع التفوق العسكري الكبير لإسرائيل سواء على المستوى الاقليمي أو حتى الدولي، لكن المقاومة كانت قد ابتدعت أساليب وقدرات مكَّنتها من مجاراة القوة الإسرائيلية، وتشكيل تهديد دائم على المستوى العسكري، على أساس استراتيجية استنزاف صبورة وبعيدة المدى.
في سياق هذه الاستراتيجية، استخدمت فصائل المقاومة ما يُعرف بالنمط (الهجين) من العقيدة العسكرية، وهو الذي يجمع بين تنظيم القوات النظامية من حيث التشكيلات والضبط العسكري والهرمية القيادية، وأساليب حرب العصابات التي دأبت عليها حركات المقاومة في العالم في مواجهة الجيوش النظامية، خلال القرن العشرين بشكل خاص.
منحت هذه العقيدة العسكرية مرونة عالية لفصائل المقاومة في مواجهة إسرائيل، وقد تبدَّى ذلك بشكل خاص خلال حرب عام 2014؛ حيث واجهت القوات الإسرائيلية مقاومة شرسة ومؤثِّرة، حينما قامت بهجوم بري داخل قطاع غزة، وخسرت إسرائيل في حينه العشرات من جنودها، وسقط اثنان من جنود لواء جولاني، هما: شاؤول آرون وهادار جولدن، في أسر المقاومة وما زالا بحوزتها حتى اللحظة.
خلال الحروب الثلاثة الماضية، اعتمدت المقاومة تكتيكات عسكرية اعتمدت بشكل أساسي على القدرات الصاروخية، أو قذائف غراد والهاون، ومثل هذه القدرات لها أهداف نفسية وسياسية تفوق ما تُحدثه من أضرار ودمار، وهي أهداف مناسبة تمامًا للتباين الشاسع في القدرات العسكرية بين طرفي الصراع.
عمدت المقاومة إلى استخدام الصواريخ منذ وقت مبكر، وتحديدًا منذ الانتفاضة الثانية عام 2000، واستخدمتها بشكل فعال ضد المستوطنات الإسرائيلية في غزة، ووصل عددها إلى 400 صاروخ عام 2005، وقد كان ذلك النشاط العسكري وتكاليفه العالية على إسرائيل أحد أسباب انسحاب القوات الإسرائيلية من قطاع غزة في ذلك العام.
تطورت صواريخ المقاومة كسلاح استراتيجي وجرى استخدامها في جميع حروب غزة الثلاثة، لكن حرب عام 2012 شهدت تطورات جوهرية في قدرات هذه الصورايخ ومدياتها وأعدادها، وفي تلك الحرب تعرضت تل أبيب لأولى الضربات الصاروخية منذ استهدافها بالصواريخ العراقية عام 1991، ومثَّل ذلك بطبيعة الحال تطورًا في سياق الردع المتبادل بين إسرائيل والمقاومة، لاسيما مع إطلاق عدد يتراوح بين نحو 1500–1700 صاروخ على مختلف المناطق الإسرائيلية، ومن أبرزها: القدس وبئر السبع خلال ثلاثة أسابيع من المعارك.
وفي حرب عام 2014، ارتفع الاستخدام الصاروخي بشكل كبير، كمًّا ونوعًا، وتعرضت إسرائيل في تلك الحرب التي استمرت أكثر من 50 يومًا، إلى عدد يتراوح بين نحو 4500-8000 صاروخ وقذيفة، وقد شملت هذه المرة مدنًا إسرائيلية رئيسية جديدة مثل: حيفا وهرتسيليا والخضيرة. وفي تلك الحرب، استخدمت المقاومة لأول مرة صاروخ (R160) ذا المدى 160 كيلومترًا و(M302) ذا المدى 150 كيلومترًا. كان ذلك طبعًا إلى جانب الاستمرار باستخدام صواريخ أقرب مدى، مثل: (J-80)، و(براق 70)، و(M-75 (، و(فجر-3)، و(سجيل-55) فضلًا عن مجموعة صواريخ القسام التي اتسع مداها وزادت أنواعها منذ بدء تصنيعها واستخدامها عام 2001، فضلًا عن أعداد غير محددة من قذائف المورتر والكاتيوشا، وجميعها يمكن أن تصيب مستوطنات ومدنًا إسرائيلية في حزام غزة.
خلال الجولة الراهنة من المعارك في حرب غزة الرابعة، واصلت المقاومة الاعتماد على السلاح الصاروخي، كمصدر استراتيجي للزخم القتالي وقدرة الردع، وكذلك لفرض الشروط السياسية، وأطلقت خلال الأيام الثلاثة الأولى أكثر من 1500 صاروخ، على مدن إسرائيلية مختلفة أبرزها القدس وتل أبيب ومطارها (بن غوريون) وبئر السبع وعسقلان، فضلًا عن أهداف عسكرية مثل قاعدة نفاتيم الجوية في بئر السبع، وأهداف اقتصادية مثل خط أنابيب النفط بين عسقلان واللد، ومنصة استخراج الغاز الطبيعي قبالة غزة؛ مما تسبب بإيقاف العمل بها.
وأعلنت فصائل المقاومة عن قصف تل أبيب بصاروخ جديد أطلقت عليه (120A)، وهو يستخدم لأول مرة، ويبلغ مداه 120 كيلومترًا، لكن مع زيادة كبيرة في القدرة التدميرية عن أقرانه من الصواريخ.
وأبرز فصائل المقاومة التي تمتلك ترسانة صاروخية هي كل من "كتائب القسام"، الجناح العسكري لحركة حماس، و"سرايا القدس"، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، ويمتلكان آلاف الصواريخ مختلفة المديات، وتقع معظم المدن الرئيسية في إسرائيل في مدى صواريخ المقاومة وأكثرها بُعدًا مدينة حيفا باتجاه الشمال (150 كيلومترًا شمالًا) مرورًا بكل من تل أبيب ويافا وعسقلان، والمسافات ستكون أقصر من ناحية الشرق (جنوبًا وشمالًا)، وأبرز مدنه: سديروت وبئر السبع وصولًا للقدس (80 كيلومترًا شرقًا). ومن الجنوب، تقل كثيرًا المدن الرئيسية المكتظة كما في بقية المناطق، وكان الاعتقاد أن مدينة إيلات في أقصى الجنوب (220 كيلومترًا عن غزة) هي خارج المدى المتوقع للصواريخ الفلسطينية، لكن إعلان حالة الاستنفار في المدينة مساء الأربعاء، أعطى الانطباع بأن إسرائيل باتت تتوقع أن المقاومة الفسطينية قد تكون تمتلك صواريخ تصل إلى هذا المدى.
وحسب مجريات الأيام الأولى للحرب الرابعة على غزة، فإن مديات الصواريخ الإسرائيلية باتت تهدد جميع المدن الإسرائيلية في دائرة نصف قطرها يصل إلى 150 كيلومترًا، وتشمل عددًا من السكان قد يصل إلى 6 ملايين نسمة، يمثلون معظم سكان إسرائيل. كما تشمل أيضًا أهدافًا اقتصادية وعسكرية واستراتيجية حساسة ضمن هذه الدائرة، ومن أبرزها ترسانة إسرائيل النووية في مفاعل ديمونا الذي يقع على مسافة 72 كيلومترًا جنوب شرق غزة.
واقترن تطوير الصناعة الصاروخية الفلسطينية، ببناء تكتيكات لاستخدام هذه الصواريخ بشكل يستجيب لدواعي الصراع مع قوات متفوقة عسكريًّا بشكل كبير؛ ويشمل ذلك استعمال الأنفاق كمواقع لمنصات الإطلاق، مما يقلِّل بشكل كبير من قدرة الطائرات الإسرائيلية على اكتشافها وقصفها. كذلك اعتمدت المقاومة في هذه الحرب على الرشقات الصاروخية الكثيفة والمتتالية في مناورة لتفادي منظومات التصدي الصاروخي، وأبرزها القبة الحديدية، أو تقليل قدرتها على التصدي لجميع الصواريخ الفلسطينية. وفي ضربة صاروخية واحدة، فجر اليوم الثالث من الحرب (12 مايو/أيار 2021)، جرى إطلاق دفعة تتجاوز 300 صاروخ دفعة واحدة، منها أكثر من 100 صاروخ استهدفت تل أبيب. وقد أثبت هذا التكتيك فعاليته في التقليل من قدرات القبة الحديدية الإسرائيلية، لكن استمرار هذه القدرة قد يكون مرتبطًا بمخزون المقاومة من الصواريخ، والفترة المتوقعة لاستمرار الحرب.
التكتيكات الإسرائيلية في الحرب الرابعة
لا يبدو أن إسرائيل في جولة الصراع الحالية ستغيِّر كثيرًا من تكتيكاتها المستخدمة في الحروب السابقة، ويتجلى ذلك خصوصًا في مجموعة عناصر أساسية:
- استخدام القوة القصوى لإحداث أكبر قدر من التدمير للبنية التحتية والأهداف الاقتصادية والصناعية في القطاع، وكذلك الأبراج السكنية الكبيرة والمعالم الرئيسية، وغرضها الأساس، جعل الحياة أكثر صعوبة في غزة، وتقليل قدرة الناس على الصمود، ثم الاستفادة من هذا التدمير لاحقًا في ابتزاز حكومة غزة، وفصائل المقاومة، في أية مفاوضات متوقعة لوقف إطلاق النار أو للتهدئة، لاسيما مع قدرة إسرائيل على حصار غزة. وفي حرب عام 2014، كان القصف الإسرائيلي قد تسبب بتدمير كلي أو جزئي لنحو 115 ألف وحدة سكنية، ونزوح نحو 500 ألف شخص داخل القطاع وهو ما يعادل نحو 28% من السكان. وقد استخدمت إسرائيل حاجة القطاع لمواد البناء وسواها من مستلزمات إعادة الإعمار بعد انتهاء الحرب، لأغراض التوظيف السياسي، والابتزاز، والضغط.
- تدمير ما أمكن من القدرات العسكرية لفصائل المقاومة، وفي المقدمة منها كتائب القسام وسرايا القدس، ويتم ذلك من خلال ما يسمى إسرائيليًّا باستراتيجية (جزِّ العشب)، وتقوم على أساس افتعال حرب مع غزة كل فترة من الزمن لغرض تدمير ما تمكنت المقاومة من بنائه من قدرات وبنى تحتية دفاعية، منذ الحرب السابقة، وكذلك اغتيال أكبر عدد من القادة الميدانيين والسياسيين خلال القصف. وقد تعتمد إسرائيل في ذلك على معلومات استخبارية مسبقة، وشبكة من العملاء داخل غزة. وخلال الأيام الأولى من الحرب الحالية، استشهد بالقصف الإسرائيلي عدد من القادة الميدانيين في كل من الكتائب والسرايا، ضمن سياق هذا الهدف الإسرائيلي المسبق.
- استنزاف القدرات الصاروخية للفصائل في غزة؛ حيث يقوم الاعتقاد الإسرائيلي على أن عدد هذه الصواريخ يبقى محدودًا وغير قابل للتعويض الفوري. وبذلك، فإن إطالة أمد الصراع، ستعني الخفض التدريجي لقدرة الفصائل على استخدام القدرات الصاروخية، لاسيما من الصواريخ بعيدة المدى. وتقول صحيفة (جيروزاليم بوست): إن تقديرات المخابرات الإسرائيلية تشير إلى امتلاك حركة حماس (عشرات) فقط من الصواريخ التي يتراوح مداها بين 100 إلى 160 كيلومترًا، والتي تهدد معظم مناطق إسرائيل وصولًا إلى حيفا ومدن الشمال. وحسب هذه التقديرات أيضًا، فإن الجهاد الإسلامي لديها عدد (قليل جدًّا) من صواريخ (البراق-100) التي يبلغ مداها 100 كيلومتر. وحسب هذا التقدير الإسرائيلي، فإن استمرار الحرب لفترة طويلة نسبيًّا، سيستنزف بسرعة الصواريخ الفلسطينية ذات المديات الكبيرة، وسيعني تقليل قدرة الفصائل على تهديد المدن البعيدة، وتركيزها فقط على المدن الواقعة بحدود 40-55 كيلومترًا من حدود غزة نحو مختلف الاتجاهات، وتقدر المخابرات الإسرائيلية ترسانة حماس من هذه الصواريخ بنحو 5000–6000 صاروخ، فضلًا عن قذائف الهاون وصواريخ غراد ذات المديات الأقل. وبطبيعة الحال، فإن هذه المراهنة الإسرائيلية ستعتمد على دقة هذه التقديرات، وتوافر قدرات عسكرية غير مستخدمة بعد للفصائل الفلسطينية.
- في سياق مراهنتها على الزمن، وإطالة أمد الحرب، لتحقيق أهدافها، تحاول إسرائيل امتصاص زخم القصف الفلسطيني، ومحاولة تهدئة جبهتها الداخلية، ولا يُعرف بعد، كيف ستعالج إسرائيل، امتداد الاحتجاجات الفلسطينية إلى مدن إسرائيل ذاتها، والمواجهات العنيفة بين العرب واليهود في المدن، وأبرزها مدينة اللد، حيث أُعلنت حالة الطوارئ.