المنافع السياسية والاقتصادية لإسرائيل من أزمة سد النهضة

ملف المياه من صميم الأمن القومي لجميع الأطراف المعنية بشكل مباشر أو غير مباشر بسد النهضة، ومع أن إسرائيل تحاول ألا تخسر علاقتها مع أحد الأطراف بإظهارها الحياد، غير أن إسناد إسرائيل لإثيوبيا سينذر بعودة توتر العلاقات بين مصر وإسرائيل.
رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد رفقة نتنياهو أثناء زيارته لإسرائيل مطلع سبتمبر 2019 (رويترز)

ما الدور الذي تقوم به إسرائيل في سد النهضة، وما أهمية ذلك الدور بالنسبة للأمن القومي الإسرائيلي؟ عندما نبدأ الحديث عن أزمة سد النهضة يجب أن نعود إلى حقبة ستينات القرن الماضي خلال تصاعد الصراع العربي الإسرائيلي الذي كان يقوده جمال عبد الناصر، فحجر الأساس لسد النهضة وضع سنة 1960 عندما قامت هيئة المساحة الأمريكية بتحديد موقعه، وكان ذلك بعد زيارة وفد أمريكي كبير لأديس أبابا خلال فترة الحرب الباردة، وكان ذلك ردا على تمويل الاتحاد السوفيتي بناء السد العالي(1). يعتمد أمن إسرائيل القومي على قدرتها على إبقاء جيرانها العرب ضعفاء ومقسمين ومحيدين، وهو ما يعني أن إضعاف كيان دولة مصر هو ضمن الأهداف الاستراتيجية بالنسبة للأمن القومي الإسرائيلي. كما أن تبديد قوة الدولة المصرية وأجهزتها الأمنية والعسكرية يصب في تحقيق أهداف إسرائيل: بدءا بتشتيت التمركز الرئيسي للجيش المصري المجاور لقناة السويس والمتوزع في الجيش الثاني والجيش الثالث الميداني، وانتهاء بتغيير العقيدة العسكرية للجيش عبر إدخال تعريفات جديدة لمصطلح "العدو"، مثلما أدخل مفهوم "الحرب على الإرهاب" ضمن المفاهيم المتداولة، وأصبحنا نرى تغيرات في أولويات الأمن القومي المصري، فبدلا من أن تكون إسرائيل على رأس القائمة تأتي بآخر القائمة أو ينظر لها كحليف كما يجري من تنسيق عسكري في سيناء(2).

تذهب إسرائيل إلى إضعاف كيانات الدول المجاورة لها لا النظم السياسية، بل إنها تقوم بتقوية ودعم النظم السياسية العسكرية والأمنية غير الديموقراطية، ولعل ما حدث في سوريا مثال واضح على ذلك. غير أن البنية المجتمعية لمصر تختلف تماما عن سوريا ومن الصعب تمزيق المجتمع وتقسيمه إلى طوائف كما في سوريا، ففي مصر كتلة متماسكة ثقافيا ودينيا، وهو ما يعني أن وجود ثورة أو فوضى في مصر يمثل تهديدا مباشرا لأمن إسرائيل، لذلك ذهبت إسرائيل إلى دعم النظام العسكري في مصر مع الحرص على تقويض المجتمع وسلب إرادته وإضعافه. وحتى تسود إسرائيل في المنطقة فإن أكبر عقبة أمامها هي مصر، لذلك فإن اضعاف مصر دولة ومجتمعا يدخل في صميم الأهداف الإستراتيجية لإسرائيل.

الأهداف القومية لإسرائيل من منظور عبد الوهاب المسيري

أشار عبد الوهاب المسيري في مجلده السابع بموسوعة اليهود واليهودية والصهيونية إلى الأهداف القومية لإسرائيل حيث قسمها إلى ستة أقسام رئيسية لعل أهم ما يتقاطع مع ملف سد النهضة هو تجزئة الدول العربية وبلقنة الوطن العربي، وربط الاقتصاد العربي بالاقتصاد الإسرائيلي من منطلق السيطرة ومبدأ التبعية، وكذلك تجزئة دول المنطقة غير العربية. وقال المسيري إن إسرائيل تواجه مجموعة من المخاطر لن تقف صامتة حيالها، وقسَّم العالم العربي، من المنظور الاستراتيجي الصهيوني الإسرائيلي إلى أربع دوائر:

  • الدائرة الأولى دائرة الهلال الخصيب وتتناوب كل من سوريا والعراق قيادتها،
  • والثانية دائرة وادي النيل وتمثل مصر الدولة الرائدة فيه،
  • والثالثة دائرة شبه الجزيرة العربية وتمثل السعودية الدولة القائدة فيها،
  • والرابعة دائرة المغرب العربي وعلى رأسها المغرب والجزائر.

وقال إن الأهداف الاستراتيجية الإسرائيلية فيما يخص مصر هي تحطيم فكرة أن مصر الزعيمة القوية للعالم العربي وتشجيع الصراعات بين المسلمين والأقباط وإضعاف الدولة المركزية والسعي إلى قيام عدد من الدول الضعيفة ذات قوى محلية ودون حكومة مركزية. وأما الدول المجاورة مثل السودان فمصيرها هو التقسيم، وعزل الجنوب ليشكل ذلك نقطة ضعف على مصر(3)، واليوم نرى السودان مقسمة كما أشار الكاتب.

تقاطع المصالح والرؤى الإسرائيلية وبعض القوى الإقليمية

قد يبدو غريبا أن تقاطع مصالح إسرائيل مع بعض لقوى الإقليمية، لكن الشواهد على الأرض تضع أسئلة استفهام كبيرة تحتاج إلى إجابة، ولا يخفى علينا جميعا التطور السريع غير الطبيعي للعلاقات الإسرائيلية الإماراتية، كما أن من أول من دعم الانقلاب في مصر إقليميا هي السعودية والإمارات، وتذكر بعض التقارير مساهمة السعودية والإمارات في تمويل سد النهضة وتسهيل العقبات أمامه، ولعل ثورة 25 يناير كانت بمثابة اعلان حالة طوارئ لدى العديد من الدول العربية خوفا على أنظمتها أن تتأثر من نموذج الثورة في مصر.

صدر قرار من الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين وإيطاليا والبنك الدولي بوقف تمويل السد وتجميد القروض الإثيوبية باعتباره تمويلا غير آمن بسبب عدم توافق دولتي المصب، كان ذلك في 23 أبريل/نيسان 2014 خلال فترة إدارة عدلي منصور عندما كان رئيسا مؤقتا لجمهورية مصر العربية لفترة انتقالية من 3 يوليو 2013 إلى 3 يونيو 2014 (4). وحينها كانت عضوية مصر في الاتحاد الأفريقي معلقة بسبب الانقلاب العسكري، وكانت إثيوبيا رئيسة تلك الدورة فقامت كلا من السعودية والإمارات بالضغط عليها من أجل إعادة عضوية مصر وإكساب شرعية دولية للانقلاب. وفي نفس السياق تبرع رجل الأعمال السعودي محمد العمودي ذو الأصول الإثيوبية بـ88 مليون دولار لأعمال بناء السد(5)، ولعب العمودي دورا هاما في هندسة العلاقات بين السعودية وإثيوبيا، فاستطاع إقناع الملك السابق عبد الله بن عبد العزيز بالاستثمار في إثيوبيا لزراعة الأرز ويحمل ذلك المشروع اسم "النجمة السعودية للتنمية الزراعية". وقام العمودي بتوريد الأسمنت لسد النهضة من خلال مصنعي أسمنت قام بإنشائهما بالشراكة مع شركات إثيوبية، وفور اعتقاله في الحملة التي أطلقها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أشارت وسائل الإعلام المصرية لتأثر بناء السد بسبب الاعتقال. وقد ناقش آبيي أحمد الموضوع مع السلطات السعودية وأشار إليه في حسابه على توتير عند زيارته للسعودية، وقامت السعودية لاحقا بإخلاء سبيله في يناير 2019(6)، وتساهم السعودية بــ5.2 مليار دولار في نحو 294 مشروعا إثيوبيا علاوة على وجود استثمارات من قبل 400 رجل أعمال سعودي تقدر بنحو 13.3 مليار دولار. فيما أنشأت الإمارات 37 شركة وهناك 23 شركة أخرى تحت الانشاء بواقع استثمارات تقدر بنحو 3 مليار دولار بجانب مليار دولار تبادل تجاري.

ساهمت السعودية والإمارات بدعم إثيوبيا في مشاريعها، مقابل شرعنة الانقلاب في مصر، وبعد أن بدأت إثيوبيا الاعتماد على تمويل السد بشكل ذاتي بعيدا عن القروض الخارجية أعاد توقيع السيسي لاتفاق المبادئ الأمل لأديس ابابا وأعطى الشرعية للسد وأكسبه تمويلا دوليا. في المقابل زاد نفوذ كل من السعودية والإمارات سياسيا واقتصاديا في أفريقيا على حساب تراجع مصر، وهو كذلك بالنسبة لإسرائيل التي أخذت توسع من نطاق حركتها في أفريقيا.  

خطوات إسرائيل تجاه سد النهضة

قبل الخوض في الإشارات التي تؤكد الدور الإسرائيلي في بناء السد الإثيوبي، يجب أن نشير إلى أن إيصال مياه نهر النيل إلى صحراء النقب كان ضمن بنود المفاوضات المصرية الإسرائيلية قبل توقيع اتفاقية كامب ديفيد في أمريكا(7)، فلا يُمكن تجاهل المطالب التاريخية الإسرائيلية، التي أرادت أن يكون لها نصيب من مياه نهر النيل، تلك المطالب التي قوبلت بالرفض في السبعينات، ولدت الفكرة الإسرائيلية، بضرورة أخذ دور في مياه نهر النيل، حتى أنّ اساس النقد الإسرائيلي الموجه لزيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو لإثيوبيا عام 2016 كان تحت عنوان، هذه الزيارة ستؤكد الدور الإسرائيلي في سد النهضة، ما يؤكد بشكل غير مباشر الدور الإسرائيلي في تلك المنطقة(8). ويُشير عاموس هرائيل(9)، أنه لا يُمكن إخفاء حقيقة أن إسرائيل، لها دور كبير فيما يحدث على الساحة الإثيوبية، ودورها الأكبر في قضية السد الإثيوبي، وهو تأثير لا يمكن فهمه، إلّا في إطار حقيقة أنّ إسرائيل لاعب أساسي، ليس في بناء السد فحسب، بل في استراتيجية الاستفادة منه مستقبلاً(10).

أولى الإشارات التي تؤكد الدور الإسرائيلي في سدّ النهضة، هو عدم إخفاء إسرائيل، دورها في المساعدة التكنولوجية في بناء السد، حيث تم توجيه اتهامات واضحة لــ إسرائيل بهذا الخصوص، اتهامات لم تنفها إسرائيل، ووضعتها في سياق الأمر الطبيعي، بأنها تبيع التكنولوجيا لكل العالم(11). إلى جانب ذلك، فقد شهدت فترة ما قبل بناء السد، وجود عدد كبير من المهندسين الإسرائيليين، وزيارات متكررة، أدت لاستقرار بعثة منهم، إلى جانب استحواذ الشركة الأمّ المشغلة لهم(اسم الشركة؟)، على الدور الأبرز في بناء ميناء جديد لإثيوبيا (في جيبوتي، ينقل ما يقرب من 80% من التجارة الإثيوبية)(12)، أشارت تصريحات عدد من الخبراء الإسرائيليين من بينهم (يجباني كلاوبر، محاضر سياسي بارز في جامعة تل ابيب، وشاؤول شاي خبير عسكري "إسرائيلي") إلى أنّ انطلاق مشروع السد سيكون له إضافات نوعية تُساهم في تصاعد الدور الإسرائيلي في المنطقة(13).

ساهمت إسرائيل في الإشراف على تطوير الزراعة الإثيوبية، واشترطت توفير حصة أكبر من المياه للاستمرار في تعاونها وهو الشرط الذي ساهم بتعجيل بناء سد النهضة(14)، للوقوف على الحاجات المائية وتوفير الطاقة التي يُشار إلى أنّ شركات إسرائيلية كبيرة تقف وراءها ومن بينها شركة الكهرباء الإسرائيلية الحكومية التي تستحوذ على 70% من سوق الكهرباء في إسرائيل(15). اعتبر السفير الإسرائيلي الأسبق في مصر تسابي ميزال أنّ على القاهرة عدم التعامل بأن النيل ملك لها وعليها أن تتقبل وجود السد الإثيوبي، وأن على إثيوبيا أن تعمل على عقد تفاهمات تحفظ حقوقها في مياه النيل(16).

ما يُمكن تلخيصه في هذا السياق، هو ما ورد في تقرير مطوّل لقناة لؤومنوت العبرية، يؤكد أنّ إسرائيل تدعم إثيوبيا في بناءها للسد(17). فإلى جانب تصديرها لتكنولوجيا المعلومات والطاقة إلى إثيوبيا، تستثمر إسرائيل في 187 مشروعا بواقع 58 مليون دولار، وتعتزم الاستثمار بـ 500 مليون دولار في مجال الطاقة الشمسية والرياح. وفي الوقت الذي كان حجم التبادل التجاري لا يصل سوى لبضع ملايين، قفز في 2018 إلى حدود 100 مليون دولار(18). وخلال العام 2017، قفزت صادرات إسرائيل الزراعية لإثيوبيا بنسبة 902%، بالمقارنة مع عام 2016، وقفزت الصادرات الصناعية بنسبة 162% مقارنة بعام 2016(19).

كذلك تنشط العديد من الشركات الإسرائيلية، لتلبية احتياجات بناء السد، على سبيل المثال شركة سوليل بونيه Solel Boneh للإنشاءات، وشركة أغروتوب Agrotop للزراعة، وشركة كور CORE للإلكترونيات، وشركة موتورولا الإسرائيلية Motorola Israel للكهرباء والماء، وشركة كارمل Carmel للكيماويات، وهي شركة لها علاقات مع عدد كبير من الجامعات الإثيوبية، ويرتكز الدور الإسرائيلي على إنشاء شبكات توزيع الكهرباء للدول المجاورة لإثيوبيا والتي قارب بعضها على الانتهاء مثل الشبكات مع كينيا والكونغو، فيما ستنشأ شبكات أخرى لجيبوتي والصومال وجنوب السودان نقلا عن وكالة وطن، ويعكس إنشاء تلك الخطوط السياسة التشغيلية المنتظرة للسد وإمكان توزيعها المتوقع(20). وهو ما أكده وزير الري والمياه المصري السابق محمد نصر علام الذي أشار إلى وجود خبراء مياه إسرائيليين يعملون بمبنى وزارة المياه والكهرباء الإثيوبية، ويقدمون الخبرة التفاوضية والفنية للفرق الإثيوبية(21)، وكرره مسؤولون سودانيون من ذوي العلاقة بالمؤسسات الخاصة بالري والمياه. كما أعاد ذكره نائب رئيس الأركان المصري محمد علي بلال في أيار/ مايو 2013 متحدثاً عن وجود أعداد كبيرة من الإسرائيليين العاملين في إنشاء السد(22).

وقد ذكر موقع "ديبكا" الاستخباراتي الإسرائيلي أن إسرائيل بدأت في بناء نظام الدفاع الجوي (Spyder-MR)  حول سد النهضة أوائل شهر مايو/أيار 2017 وانتهى بعد أقل من شهرين ونصف فقط، وذلك عقب قرار إثيوبيا شراء النظام الإسرائيلي المضاد للطائرات بعد تتبع أدائه خلال الاشتباكات العسكرية التي وقعت قبل خمسة أشهر بين الهند وباكستان في منطقة كشمير. وبحسب موقع ديبكا فإن نظام Spyder-MR المضاد للطائرات هو الوحيد في العالم القادر على إطلاق نوعين مختلفين من الصواريخ من قاذفة واحدة والتي يتراوح مداها ما بين 5 و50 كم(23). وسبق أن قام وفد عسكري يضم 50 ضابط إسرائيليا بزيارة إثيوبيا لمدة أسبوع في 2014 وهي زيارة كان لها علاقة بتأمين سد النهضة(24).

تعزيز منافع إسرائيل الأمنية والسياسية والاقتصادية

أنشأت إسرائيل ثلاثة سدود مائية كجزء من برنامج يستهدف بناء 26 سداً على النيل الأزرق لري 400 ألف هكتار، وإنتاج 38 مليار كيلو وات ساعة من الكهرباء، وهي مشاريع يرجح أن تحرم مصر من 5 مليار متر مكعب من المياه، كما قامت إسرائيل ببناء سد على أحد فروع النيل الأزرق الذي يمد النيل بحوالي 75% من المياه لحجز نصف مليار متر مكعب من المياه(25). وبالرغم من توقع حدوث كوارث اجتماعية واقتصادية في مصر، والسودان في 2017، وانعكاس ذلك بشكل سلبي على إسرائيل، لكن سيكون هذا مدخل لمزيد من التعاون مع مصر، وربما السودان، من نواحٍ ليست فقط اقتصادية، ولكن أيضاً أمنية، الأمر الذي سينعكس بشكل إيجابي على إسرائيل، ويزيد من قدراتها التجسسية(26).

من جانب آخر، فإنّ الحاجة الإثيوبية لإسرائيل في تفعيل السدّ والاستفادة منه تكنولوجيا في انتاج الطاقة، سيمنح إسرائيل فرصة إضافية للتأثير في دول القرن الأفريقي؛ حيث تدرك تلك الدول حاجاتها للتكنولوجيا المتطورة، وتحديداً ما يتعلق منها بالموارد الاستراتيجية كالمياه. وأقامت إسرائيل في أكتوبر/تشرين الأول 2017 مؤتمرا في توجو يضم الدول الأفريقية وعشرات الشركات الإسرائيلية من أجل اطلاعهم على التكنولوجيا المعدة خصيصاً للتغلب على مشاكل المياه والزراعة ونقص الدواء وهو بعنوان "الأمن والسلم"(27). وسبقه مؤتمر زراعي في إسرائيل في ديسمبر/كانون الأول 2016 حضره 13 دولة أفريقية(28). إلى جانب ذلك، فإنّ إسرائيل تسعى من خلال تأثيرها الاقتصادي إلى تحقيق مكاسب سياسية، كزيادة نسبة التصويت الأفريقي لصالحها في المؤسسات الدولية، وهذا ما حدث حينما امتنعت دولتان أفريقيتان في مجلس الأمن وهما نيجيريا ورواندا من التصويت لصالح إنهاء الاحتلال الإسرائيلي عام 2017.

إسرائيل ودور الوسيط

من الناحية السياسية، أعطى السد الإثيوبي لإسرائيل مزيداً من القوّة السياسية فبعد أقل من 24 ساعة على انتهاء جولة نتنياهو في عدد دول حوض النيل وتحديدا أوغندا، وكينيا، وروندا، وإثيوبيا. زار وزير الخارجية المصري تل ابيب في يونيو/حزيران 2016، تحت عنوان، طلب مصري من أن تكون إسرائيل وسيطاً ما بين القاهرة وأديس ابابا، لمنع الحرب القادمة على المياه، وكانت تلك الزيارة هي الأولى منذ قرابة عشر سنوات. ويعد هذا إقرار علني من القاهرة، للقوّة السياسية الإسرائيلية التي تتصاعد في ظل علاقات إسرائيل مع دول القرن الأفريقي تحديداً.  واستغلت إسرائيل هذه الخطوة لصالحها في ضرب القضية الفلسطينية، حيث قبلت دور الوسيط بين القاهرة وأديس أبابا وفق كلاوبر، مقابل أن تقف مصر إلى جانب إسرائيل في وأد أي مبادرة للسلام تضر بإسرائيل، وأن يكون هناك تنسيق كامل بين الطرفين، لصالح الدولة العبرية(29). فيما أشارت تقارير إلى تجدد تقديم الطلب في إبريل/نيسان 2018 بعد رفض حضور إثيوبيا للمحادثات حينها.

على أن المكاسب الإسرائيلية من بناء السد لن تقتصر على السياسية والأمنية منها فقط، بل أيضا الاقتصادية؛ حيث يرجح في ظل امتلاك تكنولوجيا متطورة في تكرير المياه، أن تبدأ بيع المياه لمصر، وفق تقرير إسرائيلي مفصل، ما سيمنحها فرصة إضافية للتأثير على القاهرة، التي يزداد ضعفها(30). وهو ما أشار له المتحدث باسم وزارة الخارجية الإثيوبية في لقاء له على قناة الجزيرة القطرية بشكل صريح قبل أن يتراجع في تصريحاته(31).

هل سنرى نهر نيل يمر في صحراء النقب قريبا؟

تشهد إسرائيل فقرا مائيا وتحاول أن تجاري ذلك من خلال سياسة خفض الاستهلاك(32)، وتوجد في تل أبيب إحدى أكبر محطات تحلية المياه في العالم وتطور مشاريع معالجة مياه الصرف الصحي التي تعتبر إسرائيل مع سنغافورة من بين أهم الدول الرائدة في هذا المجال(33). هذه الحاجة للمياه كانت وراء طلب إسرائيل إيصال مياه النيل إلى صحراء النقب خلال فترة حكم السادات الذي رفض هذا الطلب، حيث وعدت حينها بدعم مشاريع في السودان ودول المنبع لزيادة حصة مصر المائية على أن تحصل على ملياريْ متر مكعب من المياه. وكان مشروع قناة جونقلي بولاية أعالي النيل في جنوب السودان أحد تلك المشاريع، وتبلغ تقديرات حجم المياه التي كانت ستقسم بين مصر والسودان نحو 7 مليار متر مكعب في السنة، باشر حسني مبارك في تنفيذ المشروع لكنه توقف بسبب الحرب الأهلية بالسودان.

وقد أشرفت الهيئة الهندسية التابعة للقوات المسلحة المصرية ونفذت مشروع تفريعة سحارة لتمرير مياه النيل تحت قناة السويس لتصل إلى شمال سيناء، كما افتتح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي المشروع في أبريل/نيسان 2020(34). كانت بداية المشروع كان سنة 1964 وكان من أجل تعمير سيناء وبناء 200 قرية بهدف دعم الكثافة السكانية من خلال دعم التنمية الزراعية لتأمين الأمن القومي المصري أمام إسرائيل، وينقل المشروع متوسط مليون و250 ألف متر مكعب أي ما يعادل نصف مليار متر مكعب. غير أن ما يثير الشكوك هو السرعة التي قامت بها الهيئة في تنفيذ المشروع وسط التهديدات المتصاعدة من بناء سد النهضة وأثره على تقلص حصة مصر من المياه، وهو ما يعني أن مشروعات إضافية كالسحارة، والمدن الجديدة والعاصمة الإدارية الجديدة التي سيمر من خلالها نهر صناعي سيكون لها انعكاسات سلبية، بل وجهت الحكومة بإلزام المزارعين بزراعة كميات محددة من المنتجات التي تستهلك مياه كثيرة. وأحد مشروعات الري الأخرى هو مشروع ترعة السلام الذي يهدف لشق ترعة لنقل مياه النيل إلى أراضي جديدة في سيناء، وتمتد على نحو 262 كم. كما تظهر في الخريطة التالية(35). فهل ستستخدم إسرائيل نفوذها في إثيوبيا من أجل اقناعها بإيصال نهر النيل لصحراء النقب سواء بشرائه أو الوصول لاتفاق مع القاهرة؟

خاتمة

ترى إسرائيل أن التوجه نحو أفريقيا ستكون له عوائد كبيرة عليها من النواحي السياسية والاقتصادية والأمنية، وهذا ما يُفسر حركتها السريعة خلال السنوات الأخيرة، في الولوج إلى الساحة الأفريقية وتمتين العلاقات بالدول والأنظمة هناك، وهذا التوجه ستعززه إقامة سد النهضة، خاصة أنّ السد سيجعل من تل أبيب، محوراً مهمّاً في ترتيب العلاقات الأفريقية الداخلية.

ويعتبر ملف المياه قضية وجودية في صميم الأمن القومي لجميع الأطراف، وهو ما سيدفع إسرائيل إلى عدم الظهور على السطح وتفضيل التعامل بحساسية حتى لا تخسر علاقتها مع أحد الأطراف وستحرص على الحفاظ على الحياد الظاهري، ورغم عمق العلاقات بين مصر وإسرائيل حاليا فإن آثار سد النهضة ستكون كارثية على النظام في مصر، وهو ما قد ينذر بتغيره وعودة توتر العلاقات من جديد كما كانت بعد الثورة المصرية، بل سيجعل تلك العلاقات تتدخل منعطفا محددا حتى تضمن ديمومة الاستقرار للنظام المصري.

نبذة عن الكاتب

مراجع

(1)- Grand Ethiopian Renaissance Dam Project, Benishangul-Gumuz, Water Technology, April 2011 (accessed May 10, 2021):  

https://bit.ly/2RqZlfR

(2)- Kirkpatrick, David D. "Secret alliance: Israel carries out airstrikes in Egypt, with Cairo’s OK." The New York Times, Feb. 3, 2018 (accessed May 8, 2021):  

https://nyti.ms/33QKPjW

(3)- عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، المجلد السابع إسرائيل المستوطن الصهيوني، ص 262 - 276، دار الشروق، الطبعة الأولى 1999.

(4)- Daniel Berhane, Al-Arabiya Arabic| International decision not to finance Ethiopia’s dam, Horn Affairs, 24 April 2014, (accessed May 8, 2021):  

https://bit.ly/2QhwSIF

(5)- Mfonobong Nsehe, The Black Billionaires 2012, (accessed May 8, 2021):  

https://bit.ly/3wbkOZ0

(6)- السعودية تطلق سراح رجل الأعمال محمد العمودي، موقع البي بي سي، بتاريخ 28 يناير/ كانون الثاني 2019 (تم التصفح في 11 مايو 2021):

https://bbc.in/3yeAFrn

(7)- Phil Finnegan, Egyptian's dispute Sadat bid to give Nile water to Israel, the Christian Science Monitor, January 21, 1980, (accessed May 8, 2021):

https://bit.ly/33PYY1

وانظر أيضا:

William Claiborne, Sadat Offers Israel Water from the Nile, the Washington Post, September 7, 1979, (accessed May 8, 2021): https://wapo.st/3oql1oy

(8)- يسير عوكبي. (13 تموز, 2016). موريد هنهار: بيكور نتنياهو باتيوبيا عورر سعرا بشكنا بتسفون (سينزل من تدفق النهر: زيارة نتنياهو الى إثيوبيا اثارت عاصفة في الجارة الشمالية). تم الاسترداد من معاريف، (تم التصفح في 9 مايو 2021):

 https://www.maariv.co.il/news/world/Article-549150

(9)- من أبرز المحللين العسكريين في إسرائيل.

(10)- يفجني كلاوبر. (19 تموز, 2016). هساكر هاتيوبي شمحزيك ات يسرائيل عل حشبون هفلستينيم (السد الإثيوبي الذي يقوي اسرائيل على حساب الفلسطينيين). تم الاسترداد من ميدا: https://bit.ly/3b6U1lU

(11)- جيلي حسكين. (2013). هسخسوخ عل هنيلوس (الصراع على النيل). تم الاسترداد من مدريخ عولام، (تم التصفح في 9 مايو 2021):

 https://bit.ly/2Qx2h6Z

(12)- سبونسر. (18 تموز, 2017). حبرا يسرائيليت زختا ببنيات نمال باتيوبيا (شركة اسرائيلية حصلت على بناء ميناء في إثيوبيا). تم الاسترداد من سبونسر، (تم التصفح في 10 مايو 2021): https://bit.ly/2J14wvh

(13)- يحزكيلي لبيا. (15 تشرين اول, 2017). هنيلوس همار فهبترون لمايم معرري دميون (النيل المر والحل لمشاكل المياه). تم الاسترداد من دعتون، (تم التصفح في 9 مايو 2021): https://bit.ly/3bafXN2

(14)- تسابي ميزال. (4 حزيران, 2013). هام متسرايم مابيدت ات هنيلوس (هل مصر تفقد النيل). مركز القدس لدراسات الجمهور، (تم التصفح في 9 مايو 2021):

https://bit.ly/3tVnUi9

(15)- لشكات همسخار. (2013). مشلاحت يسرائيليت باتيوبيا سكوم فرشميم (بعثة اسرائيلي الى إثيوبيا نتائج وملخص). تم الاسترداد من لشكات همسخار، (تم التصفح في 9 مايو 2021):

 https://bit.ly/2UpD9QC

(16)- تسابي ميزال. (4 حزيران, 2013). هام متسرايم مابيدت ات هنيلوس، مرجع سبق ذكره.

(17)- لؤومنوت. (26 تشرين ثاني, 2017). هملحما عل مي هنيلوس (الحرب على مياه النيل). تم الاسترداد من قناة لؤومنوت، (تم التصفح في 13 مايو 2021):

 https://bit.ly/33EFThh

(18)- موشيه كاتسير. (2 أيار, 2018).(بعثة اقتصادية يتم استضافتها مع الرئيس في إثيوبيا) . تم الاسترداد من بيزنس (تم التصفح في 13 مايو 2021):

 https://bit.ly/38Zrygw.

(19)- انشيم فمخشبيم. (3 ايار, 2018). همترا - لهجديل ات مئوت اخوزيم ات هيتسو هتكنولوجي . تم الاسترداد من انشيم فمخشبيم (تم التصفح في 13 مايو 2021):

https://www.pc.co.il/featured/264889/

(20)- لشكات همسخار. (2013). مشلاحت يسرائيليت باتيوبيا سكوم فرشميم (بعثة اسرائيلي الى إثيوبيا نتائج وملخص). تم الاسترداد من لشكات همسخار (تم التصفح في 13 مايو 2021):

 https://bit.ly/2UpD9QC

وانظر أيضا:

MICHAEL BASSIN, Egypt’s water war, The Time of Israel, May 2013, (accessed May 8, 2021): https://www.timesofisrael.com/egypts-water-war/ .

(21)- وزير الري الأسبق الهدف الحقيقي لإثيوبيا من سد النهضة غير الهدف المعلن تماما، موقع اليوتيوب بتاريخ 29 فبراير 2020 (تم التصفح في 13 مايو 2021):

https://bit.ly/3hrrhLb

(22)- خبير مصري: توجيه ضربة عسكرية ضد سد "النهضة" لن يفيد، موقع قناة العربية بتاريخ 30/5/2013 (تم التصفح في 6 مايو 2021):

 https://bit.ly/2PPJeay

وانظر أيضا:

وليد عبد الحي، الاستراتيجية الاسرائيلية تجاه سد النهضة الإثيوبي، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، أغسطس 2020.

(23)- محمد جمال عبدالعال، العلاقات العسكرية.. جسرٍ من التعاون التاريخي بين إسرائيل وإثيوبيا، الجوار برس بتاريخ: 25 يوليو 2019 (تم التصفح في 6 مايو 2021):

https://bit.ly/33NvkJH

(24)- ضابط إسرائيليا يزور إثيوبيا لمدة أسبوع، قناة "سي بي سي" (تم التصفح في 13 مايو 2021):

https://www.dailymotion.com/video/x5nf1f8

(25)- مركز المعلومات الوطني الفلسطيني (وفا) تقرير بعنوان: المياه في الصراع العربي الإسرائيلي، منشور سنة 2021 (تم التصفح في 13 مايو 2021):

https://bit.ly/3ePvRRC

(26)- علينا فيشمان. (21 ايار, 2017). هاسون هسبيبتي شيزعزع ات همزراح هتيخون (الكارثة البيئية التي ستهز الشرق الاوسط). تم الاسترداد من يديعوت احرونوت (تم التصفح في 12 مايو 2021):  https://bit.ly/3abdkdO

(27)- متي توكفالد. (22 آب, 2016). مهدكيم كشريم: يسرائيل تتسيج بيتوخيم عبور افريكا بتخوم هخكلؤوت فهرفوئا (يقوون العلاقات: اسرائيل تقدم انتاجات متطورة من أجل أفريقيا في إطار الزراعة والدواء). تم الاسترداد من اسرائيل اليوم (تم التصفح في 8 مايو 2021): https://bit.ly/2U3sITY

(28)- HERB KEINON, Large delegation of African agricultural ministers visit Israel, sign of flowering ties, Jerusalem Post, DECEMBER 5, 2016 (accessed May 8, 2021): Dec 2016, https://bit.ly/3eRsWI7

(29)- يفجني كلاوبر. (19 تموز، 2016). هساكر هاتيوبي شمحزيك ات يسرائيل عل حشبون هفلستينيم (السد الإثيوبي الذي يقوي اسرائيل على حساب الفلسطينيين). تم الاسترداد من ميدا (تم التصفح في 8 مايو 2021): https://bit.ly/3b6U1lU

وانظر أيضا:

مصطفى ياقوت، إسرائيل تدفع مصر لـ"فخ الوساطة": البطة القبيحة أصبحت جميلة، موقع مصراوي بتاريخ الإثنين 11 يوليه 2016 (تم التصفح في 9 مايو 2021)، https://bit.ly/2P8kF8O

(30)- لؤومنوت. (26 تشرين ثاني, 2017). هملحما عل مي هنيلوس (الحرب على مياه النيل). تم الاسترداد من قناة لؤومنوت: https://bit.ly/33EFThh

(31)- تأكيد ثم نفي خلال دقائق.. المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية يناقض نفسه بشأن بيع مياه السد (فيديو)، موقع الجزيرة مباشر، 3 إبريل 2021 (تم التصفح في 9 مايو 2021)، https://bit.ly/3ghYQPe

(32)- Arlosoroff, Saul. "Israel—a case study of water-demand management." waterlînes (2003): 4-7.

(33)- Lalonde, Brice. "The Water Challenge" Horizons: Journal of International Relations and Sustainable Development, no. 13 (2019): 184-93. Accessed March 10, 2021. doi:10.2307/48573778.

(34)- السيد فلاح، اليوم السابع، بتاريخ، 22 أبريل 2020 (تم التصفح في 10 مايو 2021)، https://bit.ly/3sB56UA

(35)- Donia, Noha Samir. "Development of El-Salam canal automation system". Journal of Water Resource and Protection 4, no. 08 (2012): 597.