الرئيس الأميركي باراك أوباما (يسار) والرئيس السابق للجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ السناتور جون كيري (الجزيرة) |
أثار تعيين السناتور جون كيري، الرئيس السابق للجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ وأحد الشخصيات الأميركية الفاعلة في حقل السياسة الخارجية طوال ولاية أوباما الأولى، تكهنات من دوائر متعددة حول ما إن كانت الولايات المتحدة بصدد انعطافة جديدة في ترتيب أولوياتها الإستراتيجية في العالم. ودارت أغلب التكهنات حول ما إن كان أوباما قد اختار كيري، الذي يتمتع بخبرة ملموسة في مجال العلاقات الأميركية مع الحلفاء الأوروبيين ودول المشرق العربي، لإيلاء اهتمام أميركي أكبر بأوروبا والشرق الأوسط، بعد الإهمال الملموس لكليهما خلال ولاية أوباما الأولى.
هذه محاولة لاستطلاع التوجهات المبكرة لإدارة أوباما الثانية على الصعيد العالمي، وللإجابة على سؤال ما إن كان أوباما بصدد إحداث تغيير في السياسة الأميركية في الشرق الأوسط وفي أولويات بلاده الإستراتيجية العالمية.
إستراتيجية إدارة أوباما الأولى
في يناير/كانون الثاني 2012، نشرت إدارة الرئيس أوباما الأولى (يناير/كانون الثاني 2009–يناير/كانون الثاني2013)، وثيقة تضم تصورها لإستراتيجية الولايات المتحدة العالمية. أثارت الوثيقة حينها جدلاً كبيرًا في أوروبا والصين، على وجه الخصوص، بدون أن تلفت انتباه كثيرين في العالم العربي. الحقيقة، أن الوثيقة لم تحمل جديدًا للسياسة الأميركية الخارجية (بما في ذلك السياسة الدفاعية) خلال السنوات الثلاث السابقة من ولاية أوباما الأولى؛ كل ما فعلته أنها أكدت هذه السياسة، وأوضحتها بصورة تفصيلية، وقدمت ما تتطلبه من مسوغات.
ما أكده إعلان أوباما، باختصار، كان انتقال الأولوية الأميركية من أوروبا والشرق الأوسط إلى حوض الباسيفيك، على خلفية من تراجع المخاطر التي تهدد المصالح الأميركية في كلا الدائرتين، أو حتى تراجع الأهمية النسبية لكليهما؛ ومن أن الصين باتت تمثل التهديد الأكبر لموقع أميركا ودورها في الساحة الدولية. أوروبا، بالطبع، كانت الأولوية الأميركية طوال سنوات الحرب الباردة الطويلة، ولكن الإستراتيجية الأميركية مرّت بمرحلة انتقالية، غير واضحة المعالم، خلال عقد التسعينيات. منذ 2001، جعلت إدارة بوش الابن الشرق الأوسط (الكبير، بتعريف برنارد لويس)، أولويتها الإستراتيجية، بدون أن تهمل تعزيز وضع حلف شمال الأطلسي، وتوسيع نطاق عضويته، في وسط وشرق أوروبا.
أعلنت إدارة أوباما، منذ الشهور الأولى لتوليه مقاليد الرئاسة الأميركية، عزمها الانسحاب الكامل من العراق، وخطة لانسحاب عسكري كبير من أفغانستان خلال سنوات قليلة، وخفض مستوى التواجد العسكري التقليدي في القواعد الأميركية في أوروبا الغربية. وفي الوقت نفسه، كانت السياسة الأميركية تنجح في الانفتاح على ميانمار (بورما)، وتعمل على توثيق العلاقات مع الهند وباكستان في الآن نفسه؛ وتوقع سلسلة من الاتفاقيات التي سمحت بإقامة قواعد عسكرية أميركية، أو الحصول على تسهيلات عسكرية، في أستراليا وعدد من الدول الآسيوية المحيطة بالصين.
وبخلاف إدارة بوش، التي تعهدت سياسة تدخل نشطة في الشرق الأوسط (إلى جانب الحروب)، بدا أن إدارة أوباما تنتهج سياسة المصالحة مع شعوب المنطقة والحد الأدنى من التدخل، أو اللاتدخل. باستثناء المسألة الفلسطينية، حيث تجنبت إدارة أوباما أي استفزاز للدولة العبرية، لم تحاول الإدارة تقديم مساندة تُذكر لحلفائها في تونس ومصر واليمن، عندما اندلعت الثورات الشعبية ضدهم. وكما أبدت واشنطن أوباما تعاطفها مع الشعبين الليبي والسوري، جاء التدخل الأميركي في ليبيا بطيئًا ومترددًا، وبدا أن ما دفع الأميركيين للتدخل في النهاية كان عجز حلفاء الناتو الأوروبيين، أكثر منه الرغبة الأصيلة في التدخل. في سورية، لم تعارض إدارة أوباما دعم حلفائها العرب للثوار السوريين، ولكنها في الوقت نفسه أحجمت عن مد يد المساعدة الملموسة. وبصورة عامة، اقتصر دور إدارة أوباما الأولى في الأزمة السورية على سياسة العقوبات ضد النظام والجهود غير الحاسمة في الأمم المتحدة. وهنا أيضًا، لم تُظهر واشنطن استعدادًا يُذكر لعقد صفقة ما مع موسكو أو طهران، مقابل تخليهما عن نظام الأسد، أو لأي هدف آخر.
ثمة عدد من الأسباب التي وقفت خلف صعود حوض الباسيفيك إلى مقدمة أولويات الولايات المتحدة الإستراتيجية في العالم، وتراجع موقع (وليس الانسحاب من) الشرق الأوسط وأوروبا:
-
أن الولايات المتحدة، والكتلة الأطلسية ككل، تعاني من أزمة مالية-اقتصادية عميقة وطويلة منذ 2008؛ مما يتطلب إعادة النظر في أولويات الإنفاق في أنحاء العالم المختلفة.
-
أن الولايات المتحدة تحرز تقدمًا حثيثًا في جهود الاكتفاء الذاتي من مصادر الطاقة، التي أعطت للشرق الأوسط أهمية مضاعفة خلال العقود القليلة الماضية.
-
أن الصعود الاقتصادي للصين، بالرغم من التباطؤ النسبي بعد 2008، سيتيح لها في النهاية التحول إلى قوة دفاعية منافسة، وليس اقتصادية–مالية وحسب.
-
أن ليس ثمة مخاطر آنية على مصالح الولايات المتحدة تمثلها التحولات الجارية في الشرق الأوسط؛ كما أن روسيا أضعف من أن تشكّل تهديدًا لأوروبا. ويمكن، من خلال شبكة تحالفات إقليمية، تحقيق الأهداف السياسية الأميركية الملحة في كل من أوروبا والشرق الأوسط، بدون أن تتحمل الولايات المتحدة أعباء كبيرة.
هذه، بصورة موجزة، كانت الملامح الرئيسة للنهج الإستراتيجي الذي اختطته إدارة أوباما الأولى. ولكن تولي جون كيري وزارة الخارجية الأميركية، وبرنامج رحلته الرئيسية الأولى خارج الولايات المتحدة، أثار تكهنات حول ما إن كانت إدارة أوباما الثانية بصدد مراجعة التوجه الإستراتيجي العالمي الذي اعتمدته في السنوات الأربع الماضية.
هل ثمة ما هو أكثر من التكهنات؟
قام كيري، مباشرة بعد توليه وزارة الخارجية الأميركية، بزيارة تقليدية لكندا، يقوم بها كل وزير خارجية أميركي جديد، ولا تُعتبر بالتالي خروجًا عن المألوف. ولكن وزير الخارجية الأميركي الجديد، وبخلاف سلفه، الوزيرة هيلاري كلينتون، التي شملت جولتها الأولى في الخارج: اليابان، إندونيسيا، كوريا الجنوبية، والصين، افتتح جدول أعماله برحلة من عدة محطات، شملت: لندن، برلين، باريس، روما، أنقرة، القاهرة، الرياض، أبوظبي، الدوحة، واستمرت أحد عشر يومًا. رحلة المحطات المتعددة هذه، في أوروبا والشرق الأوسط، كانت مصدر التكهنات الأول والرئيس.
لم تُثر جولة كلينتون الأولى في جنوب وشرق آسيا، قبل أربع سنوات، اهتمامًا كبيرًا في دوائر مراقبي السياسة الخارجية الأميركية حينها؛ فلا الرئيس أوباما ولا وزيرة خارجيته كان قد صرّح بعد بما يشير إلى تغيير في جدول الأولويات الأميركية من الشرق الأوسط إلى الباسفيك. بل إن كثيرين توقعوا عندها، في ضوء خطابي أوباما للعرب والمسلمين في تركيا ومصر، أن الإدارة الجديدة ستبذل جهودًا كبيرة لبناء نمط علاقات جديدة مع دول الشرق الأوسط وإيجاد حل للمسألة الفلسطينية والصراع العربي–الإسرائيلي، الذي أثقل كاهل الشرق وشعوبه طوال عقود. ولكن رحلة كلينتون أصبحت أكثر دلالة خلال العامين التاليين، بعد أن اتضح حجم التحول في السياسة الأميركية نحو حوض الباسيفيك، والتراجع الملموس للدور الأميركي في الشرق الأوسط وأوروبا. ولذا، لم يكن مستغربًا أن تثير جولة كيري الواسعة في أوروبا والشرق الأوسط تكهنات بانعطافة إستراتيجية أميركية جديدة.
كان المؤتمر الصحافي الذي عقده كيري في لندن مع نظيره البريطاني، وليام هيغ، 25 فبراير/شباط، في نهاية الحلقة الأولى من جولته، المصدر الثاني لهذه التكهنات. ما أثار اهتمام مجتمع لندن الصحافي في المؤتمر، كان المساحة الكبيرة التي احتلتها ملفات الشرق الأوسط في تصريحات الوزيرين، سيما المسألة السورية. تحدث كيري بلغة حاسمة حول فقدان الثقة في الرئيس السوري، ودان قصفه لشعبه بصواريخ سكود. وبالرغم من توكيده على أن سياسة بلاده لم تزل إعطاء الأولوية للحل السياسي، أضاف "إننا مصممون على أن لا تُترك المعارضة السورية معلقة في الريح، تتساءل: أين الدعم؟ أو ما إن كان هناك دعم؟".
أوحت تصريحات كيري في لندن، وهو يقف إلى جانب هيغ، المعروف بتأييده لقيام الدول الغربية بتقديم دعم عسكري للمعارضة السورية، أن الإدارة الأميركية أنهت مراجعتها لسياستها في سورية، وأنها بصدد القيام بدور أكثر فعالية لترجيح ميزان القوى لصالح المعارضة. وعزز هذا التوقع قول كيري: إن مواقف أكثر إيجابية ستُعلن خلال الأيام المقبلة، وصولاً إلى مؤتمر أصدقاء سورية في روما.
كانت مصادر بريطانية أشارت (الغارديان، 26 فبراير/شباط)، أيضًا، إلى أن الوزيرين: البريطاني والأميركي، بحثا ملفات شرق أوسطية أخرى، سيما مسألة السلام في الشرق الأوسط (المصطلح الغربي للصراع العربي-الإسرائيلي)، والملف النووي الإيراني. وفي رد على سؤال حول مسألة السلام، قال هيغ: إنها المسألة الأكثر أولوية في 2013. ولكن كيري شخصيًا لم يعلق. كانت الحصيلة، هنا أيضًا، أن ثارت توقعات بأن إدارة أوباما الثانية ستبذل جهدًا أكبر لإحياء عملية السلام، وأنها بصدد الإعلان عن مبادرة جديدة بهذا الشأن.
في مؤتمر أصدقاء سورية (28 فبراير/شباط)، لم تتطور السياسة الأميركية تجاه الأزمة السورية إلا قليلاً. أعلن كيري أن واشنطن ستقدم، مباشرة للائتلاف الوطني السوري، 60 مليون دولار من المساعدات، لا تشمل أسلحة مميتة. وبالرغم من أن تصريحات كيري بعد ذلك في أنقرة، والقاهرة، والرياض، وأبو ظبي، والدوحة، لم توفر أية إشارات إضافية إلى متغيرات ملموسة في الموقف من سورية، فقد ذكرت الغارديان البريطانية (8 مارس/آذار) أن خبراء غربيين، بما في ذلك أميركيون وبريطانيون وفرنسيون، يشرفون في الأردن على تدريب وتنظيم سوريين محسوبين على "المجموعات المعتدلة" من الثوار، لضمان سيطرة المعتدلين على الأوضاع في مرحلة ما بعد الأسد. إن صح هذا التقرير، وليس هناك ما يستبعده، فلابد أن إدارة أوباما، وحلفاءها الأوروبيين، باتت تشعر بقلق بالغ من صعود قوة ونفوذ المجموعات الإسلامية الراديكالية في صفوف الثوار السوريين، سيما جبهة النصرة.
في تطور آخر، أعلن وزير الخارجية البريطاني، مباشرة بعد نهاية مؤتمر أصدقاء سورية، أن بلاده ستوفر سيارات مصفحة ووسائل اتصال للائتلاف الوطني السوري. مثل هذه الخطوة، لابد أن تكون قد بُحثت بين بريطانيا والولايات المتحدة، قبل الإعلان عنها.
هذا، إذن، هو مجمل التطور في الموقف الأميركي من الأزمة السورية؛ وهو ليس تطورًا نوعيًا بأية صورة من الصور، ولا يوحي بوجود استعدادات أميركية لتدخل مباشر، ولا حتى لتوفير مساعدات عسكرية نوعية للمعارضة، مثل تلك التي قدمتها واشنطن للمجاهدين الأفغان في ثمانينيات القرن الماضي. على الصعيد الفلسطيني، سرعان ما تكشّف أن ليس هناك مبادرة أميركية جديدة، ولا حتى تحرك نشط لاستئناف المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين. أما على صعيد الموقف من دول الثورات العربية وعملية الانتقال في هذه الدول، فقد كانت زيارة كيري للقاهرة مؤشرًا واضحًا على هذا الموقف. تجنّب كيري في القاهرة التدخل في الخلاف بين الرئيس مرسي ومعارضيه، مؤكدًا على احترام واشنطن للشرعية، وناصحًا الطرفين بالتوافق. كما أعلن كيري، الذي لم ينس إعادة النص على أهمية مصر واستقرارها، عن تقديم منحة مالية متواضعة، 190 مليون دولار، لمساعدة مصر على الخروج من أزمتها المالية والاقتصادية.
لا جديد
بخلاف الإيحاءات الرمزية لرحلة كيري الأولى لأوروبا والشرق الأوسط، التي قد لا تكون أكثر من مصادفة فرضها جدول أعمال دولي، ليس ثمة ما يشير إلى تغيير ملموس في السياسة الأميركية في سورية، التي ترقّب كثيرون أن تكون مركز العودة الأميركية للشرق الأوسط. المقاربة الأميركية للأزمة السورية باقية على ما هي عليها، وإن بتعديل طفيف، يجب ألا يُعتبر مؤشرًا على تدخل نشط. الحقيقة، أن الولايات المتحدة راوحت، منذ بروزها كقوة رئيسة في الساحة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، بين تحقيق أهدافها في مناطق التوتر والنزاع في العالم بالتدخل المباشر لحسم الموقف، أو انتظار توازنات القوى لتأخذ مجراها، مع مد يد مساعدة متفاوتة الحجم وغير مباشرة لمعسكر حلفائها في الصراع. والواضح أن واشنطن ذهبت للخيار الثاني في سورية، منذ تحول الثورة السورية إلى أزمة إقليمية ودولية في نهاية 2011. ولا يبدو أن كيري يبشر بما هو جديد في هذه الأزمة.
وبانتظار زيارة أوباما للدولة العبرية، المشروطة بنجاح نتانياهو السريع في تشكيل حكومته الموعودة، يجب عدم انتظار تغيير في الموقف الأميركي من الصراع العربي-الإسرائيلي. والأرجح أن الزيارة نفسها، لن تضيف شيئًا. ملف عملية السلام، من وجهة نظر واشنطن، يجب أن يُترك لقرار واستعدادات الطرفين: الإسرائيلي والفلسطيني، قبل أن تحاول واشنطن مساعدتهما على التقدم به.
وبالرغم من التصريحات الإيرانية المتضاربة حول مباحثات إيران مع المجموعة الدولية (5+1) في كازاخستان، فلا يبدو أن إيران قدمت تنازلاً جوهريًا في المباحثات، ولا أن القوى الغربية تراجعت عن مطالبها السابقة. العقوبات الغربية باقية، وربما ستصبح أكثر صرامة؛ والخيار العسكري على الطاولة، ولكنه ليس وشيكًا بأي حال من الأحوال.
من جهة أخرى، سيما ما يتعلق بدول الثورات العربية التي شهدت صعودًا لقوى التيار الإسلام العام، كما في تونس ومصر، ليس ثمة من مؤشر على أن إدارة أوباما ستعمل على تقويض حكم الإسلاميين ولا على تعزيز سلطاتهم. وستقترب واشنطن أوباما من الأنظمة الجديدة بمقدار ما تمليه أهمية الدولة، وحرص أنظمتها الجديدة على تعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة، وما تحققه هذه الأنظمة على صعيد الانتقال نحو حكم ديمقراطي مستقر ومدعوم من الأغلبية الشعبية.
بكلمة أخرى، وحتى إشعار آخر، ليس ثمة من تغيير في السياسة الأميركية في الشرق الأوسط،؛ وما لم يفاجأ العالم بحدث تحولي، فإن جدول الأولويات الإستراتيجية الأميركية خلال ولاية أوباما الثانية باق على ما كان عليه في الأولى.