إيران وانتخابات الرئاسة: أحداث ومنعطفات

تُجرى في إيران يوم الجمعة انتخابات الرئاسة الإيرانية في دروتها الثالثة عشرة، وقد شهدت إيران إلى اليوم 12 عملية انتخابية لرئاسة الجمهورية، واكبها ونتج عنها أحداث ومنعطفات، شكَّلت المشهد السياسي الذي نراه في إيران اليوم.
15 يونيو 2021
امرأة إيرانية تحمل صورة المرشح الرئاسي إبراهيم رئيسي في طهران(الأناضول)

"كل من ينادي بالجمهورية هو عدو لنا، كل من يردف "الديمقراطية" بعد الجمهورية الإسلامية عدو لنا، كل من يقول: "الجمهورية الديمقراطية" هو عدو لنا، لأنهم لا يريدون الإسلام ونحن نريده.. وهذه الدماء سالت من أجل تحقق الإسلام. لم يكن النفط هدفنا... ولا نريد حرية واستقلالًا لا ينضويان على الإسلام. إنني أرى أن شقاء الشعب الإيراني سيكون على يد هؤلاء الذين يصرخون بالحرية.. شقاء أمتنا سيكون في اللحظة التي ننفصل فيها عن القرآن.. أينما يأتون على ذكر الجمهورية الديمقراطية فاعلموا أن هناك مؤامرة. يريدون أن يقيموا لكم مملكة غربية.. "رجل الدين" يعني الإسلام، وكل من ينادي بإسلام من دون رجال الدين فاعلموا أنه معارض للإسلام"(1).

جاءت مقولة: "الجمهورية الإسلامية" نتاجًا للنقاش الفكري بين صفوف منظِّري الثورة، لكنها لم تكن المقولة الوحيدة وأسهمت ظروف معينة بجعلها المقولة الغالبة. لقد شهدت الساحة السياسية الإيرانية مقولات متعددة تصارعت فيما بينها. ولعل هذه الأرضية ذاتها هي المسؤولة عن إدخال إيران في دورات متتالية تراوحت بين الصراع والتنافس السياسي وسعي أصحاب كل خطاب إلى نقد السابق والزعم بالقدرة على حل المشكلات(2).

قامت الأفكار التي طرحها مؤسس الجمهورية الإسلامية، آية الله الخميني، ودافع عنها، بتشكيل جوهر الخطاب المهيمن في إيران عقب الثورة، وأسست لعدد من نقاط الخلاف المركزية التي لم تفلح أربعة عقود من عمر الجمهورية الإسلامية في طي صفحتها، كما لم يتوقف الصراع بشأنها إلى اليوم(3).

يوم الجمعة، 18 يونيو/حزيران 2021، تُجري إيران انتخابات الرئاسة الـ13 وسط نقاش وانتقادات لسياسات مجلس صيانة الدستور في المصادقة على أسماء المرشحين. ومع كل عملية انتخابية تشهدها إيران، تتضح ملامح الصراع بصورة أكبر، أما المجتمع الإيراني فلم يتوقف عن التجريب مقرِّبًا ومقصيًا لها واحدًا تلو الآخر.

المسار الانتخابي (1980–2021)

جرت في إيران إلى اليوم 12 عملية انتخابية لرئاسة الجمهورية، واكبها ونتج عنها أحداث ومنعطفات، شكَّلت المشهد السياسي الذي نراه في إيران اليوم، جاءت الأرقام فيها وفق الجداول التالية(4):

الانتخابات الرئاسية 1980  

تاريخ إجراء الانتخابات

 25 يناير/كانون الثاني 1980

عدد المسموح لهم بالاقتراع

20,993,643

عدد المقترعين فعليًّا

14,152,887

النسبة المئوية للاقتراع

67,42%

عدد الذين تقدموا للترشح

124

عدد المرشحين الذين سُمح لهم بالترشح

96

نسبة من سمح لهم بالترشح

77.41%

الفائز في الانتخابات

أبو الحسن بني صدر

عدد ونسبة الأصوات التي فاز بها

 10,709,330 (75.6%)

ما لبث أبو الحسن بني صدر، أول رئيس للجمهورية، أن بدأ مواجهة وحربًا، بعد دعوته إلى وقف هيمنة رجال الدين على السياسة الإيرانية.

وفي سنة 1981، أجبر مجلس الشورى الذي يسيطر عليه حزب "جمهورى اسلامى"، بني صدر على الهرب، وبدأت موجة من الاعتقالات، وأُلقي القبض على آلاف من الناشطين من الجماعات القومية واليسارية، وكثير منهم حوكم وأُعدم في وقت لاحق في محاكمات ترأَّسها آية الله صادق خلخالي(5)

الانتخابات الرئاسية 1981 

تاريخ إجراء الانتخابات

 24 يوليو/تموز 1981

عدد المسموح لهم بالاقتراع

22,687,017

عدد المقترعين فعليًّا

14,573,803

النسبة المئوية للاقتراع

64,24%

عدد الذين تقدموا للترشح

71

عدد المرشحين الذين سُمح لهم بالترشح

4

نسبة من سمح لهم بالترشح

5.63%

الفائز في الانتخابات

محمد علي رجائي

عدد ونسبة الأصوات التي فاز بها

 12,779,050 (90%)

الانتخابات الرئاسية (للمرة الثانية) عام 1981

شهدت تلك الفترة بداية الخلاف الدامي بين منظمة "مجاهدي خلق" والنظام الناشئ حديثًا؛ ففي 12 يونيو/حزيران 1981، فجَّرت المنظمة مقرَّ حزب الجمهورية الإسلامية متسببين بمقتل أكثر من 82 شخصًا من رجال الدين والوزراء والنواب بينهم رئيس مجلس القضاء الأعلى، آية الله بهشتي، ثم فجَّرت مقر رئاسة الجمهورية، في 30 أغسطس/آب 1981، عندما كان مجلس الدفاع الأعلى يعقد اجتماعًا طارئًا لتدارس أوضاع الجبهات فقُتل الرئيس المنتخب للتوِّ، محمد علي رجائي، ورئيس وزرائه، محمد جواد باهنر. لتدخل إيران انتخابات جديدة في أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام(6) ليُنتخب قائد الثورة الحالي، آية الله علي خامنئي، رئيسًا للجمهورية، ويستمر لدورتين. 

تاريخ إجراء الانتخابات

 12 أكتوبر/تشرين أول 1981

عدد المسموح لهم بالاقتراع

22,687,017

عدد المقترعين فعليًّا

16,847,717

النسبة المئوية للاقتراع

74,26%

عدد الذين تقدموا للترشح

46

عدد المرشحين الذين سُمح لهم بالترشح

4

نسبة من سمح لهم بالترشح

8.69%

الفائز في الانتخابات

علي خامنئي

عدد ونسبة الأصوات التي فاز بها

 16,008,579 (95%)

 

الانتخابات الرئاسية عام 1985 

تاريخ إجراء الانتخابات

 16 أغسطس/آب 1985

عدد المسموح لهم بالاقتراع

25,993,802

عدد المقترعين فعليًّا

14,238,587

النسبة المئوية للاقتراع

54,78%

عدد الذين تقدموا للترشح

50

عدد المرشحين الذين سُمح لهم بالترشح

3

نسبة من سمح لهم بالترشح

6.0%

الفائز في الانتخابات

علي خامنئي

عدد ونسبة الأصوات التي فاز بها

 12,205,012 (85%)

كان آية الله الخميني رافضًا بصورة كبيرة لترشيح رجال الدين لمنصب رئيس الجمهورية، ولذلك لم يترشح أي منهم حتى الدورة الثالثة، عندما قدَّم حزب الجمهورية الإسلامية، اقتراحًا إلى الإمام الخميني يتضمن ترشيح واحد من رجال الدين للمنصب، فوافق على ذلك وأيَّد انتخاب آية الله خامنئي الذي تزعَّم الحزب بعد مقتل الدكتور بهشتي. وفاز خامنئي بالأغلبية. وبعد مشاورات عديدة بشأن رئاسة الحكومة، قدَّم خامنئي مير حسين موسوي لشغل المنصب، فحاز تأييد مجلس الشورى. وكما استطاع الحزب إحراز منصب رئاسة الجمهورية حاز أيضًا منصب رئاسة الحكومة(7).

في الفترة التي حكم فيها خامنئي رئيسًا، ساد الخطاب الذي سُمي بـ"خطاب الدفاع المقدس"، وهو الخطاب الذي ساد العقد الأول من عمر الجمهورية الإسلامية وجاء مواكبًا لظروف الحرب، ويقوم على أن صدام حسين شنَّ حربًا ظالمة ضد الجمهورية الإسلامية الفتية، بتحريض ودعم من قوى الاستكبار العالمي، وجاء توقيت الحرب في مرحلة استثنائية من عمر الجمهورية الإسلامية التي كانت في طور البناء‌. وقد قدَّمت إيران في هذه الحرب 300.000 قتيل وجريح حرب، ووقعت عشر محافظات و85 مدينة وقرية ضحية لضربات هذه الحرب(8)، وأدى القصف إلى خسائر مادية قُدِّرت بـ 100,000 مليار دولار(9).

قاد هذا الوضع إلى جعل خطاب "الدفاع" هو الخطاب السائد في المجتمع الإيراني. وفي ضوء هذا الخطاب، سادت ثقافة التدين، وطلب الآخرة، وتعظيم الجوانب الرُّوحية، وثقافة عاشوراء، وهجر الدنيا، وتقديم المصلحة الجماعية على المصالح الفردية، والولاء والبراء، وأصبحت هذه المفردات والمعاني بمنزلة قواعد يطبِّقها الإيرانيون(10). ونجح الخطاب في توظيف الأيديولوجيا التي أوجدتها الثورة، للوصول إلى نتائج عملية مؤثِّرة من خلال إثارة مشاعر الشعب(11)

الانتخابات الرئاسية عام 1989

يُطلَق على الفترة التي حكم فيها هاشمي رفسنجاني رئيسًا لإيران، فترة "إعادة البناء"؛ فبعد قبول الجمهورية الإسلامية قرار وقف الحرب، ورحيل الإمام الخميني، برزت، على رأس أولويات إيران، "ضرورة إعادة البناء"، ونجحت عمليات إزالة الدمار الناجم عن الحرب، وإعادة بناء البنية التحتية، والخروج بالبلد من الاعتماد الشديد على الاقتصاد المرتكز على النفط، وتوسيع مساحة الدبلوماسية في جعل "خطاب البناء" فكرًا وأيديولوجيا إنقاذ للثورة في عقدها الثاني. وفي ضوء هذا الخطاب، شهدت إيران تحسينات واسعة؛ إذ أُعيدت البِنى التحتية، وجرى تنظيم دورة الواردات، وأُعيد بناء الجزء الأكبر مما دمرته الحرب. وأخذ التكنوقراط على عاتقهم جزءًا كبيرًا من إدارة البلد، وذلك في إطار حزب "كوادر البناء". لقد أراد هاشمي رفسنجاني تغيير مسار السياسة التي حكمت إيران طوال فترة الحرب، وهي الفترة التي سيطر فيها اليسار الإيراني على مقاليد السلطة واستطاع أن يوصل النمو الاقتصادي إلى رقم من خانتين لأول مرة بعد الثورة، وسعى بصورة معلنة وواضحة لوضع سياسات مير حسين موسوي جانبًا بهدف إحداث تعديلات اقتصادية، وأصبح الملف الاقتصادي بيد الوزير نوربخش الذي كان قد تلقَّى تعليمه في أميركا، ولم يكن يقبل باقتصاد الدولة. لقد جاء خطاب هاشمي مختلفًا، مقارنة بخطاب موسوي؛ الأمر الذي عبَّر عن نفسه في الميادين السياسية والاقتصادية. 

تاريخ إجراء الانتخابات

 28 يوليو/تموز 1989

عدد المسموح لهم بالاقتراع

30,139,589

عدد المقترعين فعليًّا

16,452,677

النسبة المئوية للاقتراع

54,59%

عدد الذين تقدموا للترشح

79

عدد المرشحين الذين سُمح لهم بالترشح

2

نسبة من سمح لهم بالترشح

2.53%

الفائز في الانتخابات

أكبر هاشمي رفسنجاني

عدد ونسبة الأصوات التي فاز بها

 15,550,528 (94%)

ويرى منتقدو هذا الخطاب وخصومه أنه قدم تعريفًا غير أيديولوجي للدين، ودفع به إلى زوايا خاصة ومحدودة، مهمشًا دوره وحضوره في الحياة العامة.

ويصبُّ هذا الخطاب جُلَّ اهتمامه على التنمية الاقتصادية بشكلها الرأسمالي. وكان رفسنجاني يركز على وجه ليبرالي وتنموي للثورة، وكان يعتقد أن المسألة المهمة لإيران لا تتمثل في القضايا الثقافية، وإنما في العبور من التخلف، والانتقال إلى مرحلة جديدة، وكان هاجسه هو تحديث إيران(12)

الانتخابات الرئاسية عام 1993 

تاريخ إجراء الانتخابات

 11 يوليو/تموز 1993

عدد المسموح لهم بالاقتراع

33,156,055

عدد المقترعين فعليًّا

16,796,787

النسبة المئوية للاقتراع

50,66%

عدد الذين تقدموا للترشح

128

عدد المرشحين الذين سُمح لهم بالترشح

4

نسبة من سمح لهم بالترشح

3.12%

الفائز في الانتخابات

أكبر هاشمي رفسنجاني

عدد ونسبة الأصوات التي فاز بها

 10,566,499 (63 %)

تضمَّن خطاب البناء إشكالًا رئيسيًّا تلخَّص بصرف الاهتمام إلى التنمية الاقتصادية، وتجاهل "العدالة والجوانب الرُّوحية"، وتقديم تصور جديد لـ "الثقافة والحرية" خارج الإطار الذي عرفته الثورة، وقام الشعار الرئيسي للتكنوقراط على أساس التعمير والتنمية من دون الاهتمام بالعوامل المؤثِّرة في ذلك. ولم يَحُلْ الاعتراض الكبير والانتقادات التي طالت هذا التوجه حتى من طرف مرشد الثورة الإسلامية، دون استمرار هذا الخطاب الذي لم يؤتِ في النتيجة ثماره التي أعلن السعي لتحقيقها، وأظهر المجتمع الإيراني موقفًا رافضًا لاستمرار هذا الخطاب، وعبَّر هذا الموقف عن نفسه في مختلف الانتخابات، لكن الأمر استغرق ثمانية أعوام ليعلن الناس رأيهم القاطع في عقم هذا الخطاب وفشله(13).

الانتخابات الرئاسية عام 1997

في الثاني من خرداد عام 1376 ش (وفق السنة الفارسية) (سنة 1997) عاد زمام تشكيل الخطاب في إيران إلى يد الحكومة من جديد، ويمكن القول: إن العقد الثالث من عمر الثورة هو عقد خطاب الإصلاح على أساس "التنمية السياسية"، كما يمكن القول: إن الحرية والمشاركة العامة، والانتخابات والانفتاح في السياسة الخارجية، والتوسع في المؤسسات الديمقراطية، هي عدد من الميزات الرئيسية لهذا الخطاب. لقد جاء الخطاب الإصلاحي خلال الفترة التي امتدت ثماني سنوات (1997-2005)، واستطاع أن يمسك بزمام السلطة التنفيذية وغيرها من مراكز القوة في البلد. وفي الواقع، جاء هذا الخطاب في إثر التجاهل الذي أبداه خطاب (إعادة البناء) لموضوعات التنمية الثقافية والاجتماعية والسياسية. 

تاريخ إجراء الانتخابات

 23 مايو/أيار1997

عدد المسموح لهم بالاقتراع

36,466,745

عدد المقترعين فعليًّا

29,145,745

النسبة المئوية للاقتراع

79,92%

عدد الذين تقدموا للترشح

238

عدد المرشحين الذين سُمح لهم بالترشح

4

نسبة من سمح لهم بالترشح

1.68%

الفائز في الانتخابات

محمد خاتمي

عدد ونسبة الأصوات التي فاز بها

 20,138,784 (69,1%)

لقد كانت المشاركة الشعبية الواسعة في الانتخابات، والتي وصلت إلى 30 مليون ناخب، نقطة انطلاق الخطاب الإصلاحي الذي امتد على مساحة زمنية وصلت إلى ثماني سنوات (1997-2005). وهذه المشاركة المليونية كانت في حقيقتها دليلًا على الفضاء الاجتماعي والثقافي الذي كان سائدًا في إيران في مطلع تلك الفترة، والذي حمل مطالبات شعبية بتعزيز سلطة الشعب، وجاء مصحوبًا بعدد من المتغيرات المهمة التي من الممكن ربطها بالتنمية والرغبة في التغيير، ومن أهمها(14):

  • التغيير الذي طال التركيبة السكانية وما رافقها من زيادة لقطاع الشباب.
  • حياة المدن والتحضر وانتشار النزوع نحو الهجرة إلى المدن وما تبع ذلك من نزعة تَحْمِل توقعات أكبر وتطالب برفاهية أكبر في مستوى المعيشة.
  • التطور الكمِّي والنوعي الذي طال المؤسسات التعليمية والثقافية وتطور الجامعات وزيادة عدد الطلاب بصورة غير مسبوقة، والتغييرات التي أصابت هيكلية نظام الطبقات الاجتماعية والاقتصادية وما رافق ذلك من شيوع الثقافة الاستهلاكية.
  • حدوث تغييرات جذرية في نظام القيم والمعايير الاجتماعية، وتقديم نظم قيمية جديدة.
  • ظهور تغييرات كبيرة في السياسة العالمية.
  • ثورة الاتصالات وانتهاء عصر الاحتكار الإعلامي.
  • ظهور جيل جديد من النخب السياسية وزيادة الوعي السياسي.
  • زيادة النشاط الدبلوماسي وسياسة فضِّ النزاع في السياسة الخارجية(15)
الانتخابات الرئاسية عام 2001 

تاريخ إجراء الانتخابات

 8 يونيو/حزيران 2001

عدد المسموح لهم بالاقتراع

42,170,230

عدد المقترعين فعليًّا

28,155,819

النسبة المئوية للاقتراع

66,77%

عدد الذين تقدموا للترشح

814

عدد المرشحين الذين سُمح لهم بالترشح

10

نسبة من سمح لهم بالترشح

1.23%

الفائز في الانتخابات

محمد خاتمي

عدد ونسبة الأصوات التي فاز بها

 21,659,053 (77%)

عقب فوز خاتمي، سعت شخصيات إصلاحية، معظمها تولَّى مناصب مهمة، لتعريف حركتها على أنها ثورة، أو شبه ثورة، كما سعت لإعطاء حركتها صبغة خاصة واتجاهًا خاصًّا. ويُلاحَظ على أفراد كثيرين منهم أنهم توجهوا، على الرغم من تخصصاتهم الفنية، إلى دراسة العلوم الإنسانية، وانصرفوا إلى الاهتمام بموضوعات ناشئة عن تيار المثقفين الجدد، وبأُخرى متعلقة بجدل الفكر الديني، وقامت، في معظمها، على شخصيات محورية، مثل عبد الكريم سروش الذي وجد في التيار رافعة لإعادة إنتاج أفكاره على الصعيد الاجتماعي والفكري. وفي البداية، كانت الحلقة الفكرية التي سُميت حلقة "كيان"، وبعدها مركز الدراسات الاستراتيجية التابع لرئاسة الجمهورية، وغيرهما من المؤسسات التي شكَّلت بؤر التنظير الأساسية للفكر الإصلاحي(16). وقام الخطاب الإصلاحي بصورة محورية على "الشعب"، كما كان متضمِّنًا بصورة أساسية، محاور "التنمية السياسية" و"المجتمع المدني" و"تنظيم القانون"(17).

لكن، على الرغم من عدد لا يُستهان به من إنجازات هذا الخطاب الإيجابية، فإنه لاقى كثيرًا من النقد، ومنه أن "الدِّين والقيم الرُّوحية" تعرَّضا للتهميش بسبب هيمنة النظرة العلمانية. وانصرف همُّ المسؤولين إلى السعي لـ"وضع الديمقراطية على طاولة الشعب"، لكن ذلك رافقه إخفاق اقتصادي، ومعدلات تضخم مرتفعة، وإغلاق المصانع بسبب التضخم، وركود عمليات الإنتاج، وارتفاع معدلات البطالة، وتجاهل إعادة إعمار البلد وتطويره، وغيرها من النواقص التي قيل: إن هذا الخطاب مسؤول عنها(18). ومع ذلك، حاول بعض واضعي هذا الخطاب، مثلما حاول واضعو خطاب البناء، جعْل الإصلاحات مصبوغة بصبغة محلية، وتبرئتها من التبعية للغرب، لكن أزمة التعريف ظلت تلاحق الإصلاحات، فحتى اليوم لا يوجد تعريف واحد لهذا الخطاب، ويرى كثيرون أن طيفًا راديكاليًّا داخل صفوف الإصلاحيين جعل من هذا الخطاب نسخة مقلدة للنموذج الغربي؛ الأمر الذي أدى إلى إدبار الناس عنه بعد ثمانية أعوام، ليقرر الناس فشله رسميًّا في الانتخابات الرئاسية لسنة (2005). 

الانتخابات الرئاسية عام 2005 (الجولة الأولى)

أسَّست هذه الانتخابات لما يمكن أن نطلق عليه: إقصاء رفسنجاني، وتقييد دوره في الحياة السياسية الإيرانية، وأوجدت هذه الانتخابات منافسة سياسية تحولت إلى مواجهة سياسية بين محمود أحمدي نجاد الذي انتُخب على خلاف التوقعات وبين شخصية من أكثر الشخصيات السياسية الإيرانية تأثيرًا هي الراحل أكبر هاشمي رفسنجاني، رئيس مجلس الخبراء السابق ورئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام. فقد استطاع نجاد صاحب الخطاب الشعبي والأصولي أن يتفوق على صاحب خطاب البناء، بصورة فتحت صفحة مواجهة سياسية أخذت أوجها في عام 2009 ولم تنته حتى بعد رحيل هاشمي رفسنجاني.

في تلك الانتخابات لم يحصل رفسنجاني على نسبة مئوية تمكنه من حسم المنافسة فانتقلت الانتخابات إلى الدور الثاني ليفوز محمود أحمدي نجاد. ونظر العديد من الناشطين والخبراء والمحللين السياسيين إلى انتخابات 2005 باعتبارها حدثًا مهمًّا في التاريخ السياسي للثورة الإسلامية، ولإثبات وجهة النظر هذه قدموا دليلين: أولهما: نتائج الانتخابات ذاتها؛ حين تمكَّن مرشح، ومن دون دعم من أي طرف أو مجموعة أو حزب، وبلا استخدام وسائل الإعلام، من أن يضع قدمه في ساحة المنافسة، مركِّزًا على مناقشة وعرض مطالب الناس التي نسيها أو تجاهلها منافسوه، ومن التقدم على المرشحين الآخرين، على الرغم من أن كلًّا منهم دخل المنافسة بفريق إعلامي كامل وحملة انتخابية باهظة التكاليف. 

تاريخ إجراء الانتخابات (الجولة الأولى)

 17 يونيو/حزيران 2005

عدد المسموح لهم بالاقتراع

46,786,418

عدد المقترعين فعليًّا

27,985,931 لا يشمل العدد الإيرانيين في الخارج

النسبة المئوية للاقتراع

62,84%

عدد الذين تقدموا للترشح

1014

عدد المرشحين الذين سُمح لهم بالترشح

8

نسبة من سمح لهم بالترشح

0.79%

تقدم في الانتخابات دون نسبة تمكنه من حسم المنافسة

هاشمي رفسنجاني

عدد ونسبة الأصوات التي فاز بها

 6,211,937 (21,13%)

 

الانتخابات الرئاسية عام 2005 (الجولة الثانية) 

تاريخ إجراء الانتخابات (الجولة الثانية)

 24 يونيو/حزيران 2005

عدد المسموح لهم بالاقتراع

46,786,418

عدد المقترعين فعليًّا

27,985,931 لا يشمل العدد الإيرانيين في الخارج

النسبة المئوية للاقتراع

59,76%

عدد الذين تقدموا للترشح

2

عدد المرشحين الذين سُمح لهم بالترشح

2

نسبة من سمح لهم بالترشح

100%

الفائز في الانتخابات

محمود أحمدي نجاد

عدد ونسبة الأصوات التي فاز بها

 17,248,782 (61,69%)

واعتبر هاشمي رفسنجاني عدم فوزه في الانتخابات منذ الدور الأول أنه كان "أمرًا مبرمجًا بالكامل" وجاء في إطار "مدبَّر ومنظَّم"، ولم يُرجع خسارته إلى موقف الناس من أدائه السياسي وإنما جرَّاء حملة من "التخريب والتشويه المنظَّم"(19)

الانتخابات الرئاسية عام 2009 

تاريخ إجراء الانتخابات

12يونيو/حزيران 2009

عدد المسموح لهم بالاقتراع

46,199,997

عدد المقترعين فعليًّا

39,371,214

النسبة المئوية للاقتراع

85.21%

عدد الذين تقدموا للترشح

475

عدد المرشحين الذين سُمح لهم بالترشح

4

نسبة من سمح لهم بالترشح

0,84%

الفائز في الانتخابات

محمود أحمدي نجاد

عدد ونسبة الأصوات التي فاز بها

24,592,793 (63.1%)

مع هذه الانتخابات، دخلت إيران أزمة سياسية مع إعادة انتخاب أحمدي نجاد، وهي النتائج التي شكَّك بها خصومه ومنافسوه، وقادت حالة عدم الرضى هذه إلى اندلاع مظاهرات ومواجهات، رفع المتظاهرون فيها شعار: "أين صوتي؟"، فيما وصفها النظام بـ"الفتنة". وما زالت تبعات تلك المرحلة ماثلة إلى اليوم على شكل احتقان سياسي، يعبِّر عنه وضع زعماء المعارضة (مير حسين موسوي ومهدي كروبي) قيد الإقامة الجبرية.

في فترته الرئاسية الثانية، لم يحظَ أحمدي نجاد بتأييد الحرس ورجال الدِّين على غرار دورته الأولى، وحدث نوع من الصدام بشأن النشاط الاقتصادي للحرس، وواجه خلافًا مع القائد الأعلى في إيران على خلفية عدَّة قضايا. مرات ثلاثة سعى الرئيس الإيراني، محمود أحمدي نجاد، فيها ليخلق لنفسه مسار قرار مستقل عن القائد الأعلى. وجاءت المرات الثلاثة في قضايا حساسة، أولها: عندما عيَّن أحمدي نجاد صهره وصديقه، رحيم مشائي، نائبًا له، رغم النقد الشديد ولم يتراجع عنه إلا بعد أمره من خامنئي صراحة بتنحيته(20).

تكررت محاولة خلق المسار المستقل عندما أقال أحمدي نجاد بصورة مهينة وزير خارجيته، منوشهر متكي، بعد خلافات بشأن السياسة الخارجية وبعد أن أدخل نجاد مسارًا دبلوماسيًّا موازيًا إلى جانب وزارة الخارجية، رغم معارضة خامنئي لذلك. جاءت المحاولة الثالثة لتدفع الأمور إلى المواجهة، عندما أقدم أحمدي نجاد على إقالة وزير الاستخبارات الإيرانية، حُجَّة الإسلام حيدر مصلحي، رغم معارضة القائد الأعلى. ومع طروحاته بشأن "المدرسة الإيرانية" وغيرها من القضايا، بدأ يوصف تياره من قبل رجال الدين بـ"تيار الانحراف"، ورفع مصباح يزدي دعمه عنه، وخرج أحمدي نجاد من الرئاسة بمستوى أعلى من الجدل والخلاف الذي دخل به. 

الانتخابات الرئاسية عام 2013

فاز حسن روحاني، الذي يتبنى طروحات هي الأقرب لطروحات رفسنجاني، بعد أن هُزم التيار الأصولي في هذه الانتخابات، وتلقَّى "لا" قاسية من الناس، فقد رأى كثير منهم أن رفض التيار الأصولي أصبح أمرًا واجبًا "أكثر من قوتهم اليومي"(21). وسيقت أسباب كثيرة لفشل التيار، ومنها: تقديم مرشح غير معروف بصورة كبيرة داخل المجتمع الإيراني، هو إبراهيم رئيسي، واستخدام محمد باقر قاليباف لخطاب شعبوي في حملته الانتخابية مقلدًا أحمدي نجاد، وهو ما جعل مكانته تتراجع داخل الطبقة المتوسطة التي لا يرضيها نموذج أحمدي نجاد. وحتى في الدورة التي سبقت فقد كان واضحًا أن المرشحين في الأغلب وإن كانوا أصوليين إلا أنهم لا يقدمون خطابًا أصوليًّا ينسجم مع المبادئ العامة للفكر الأصولي، وانطبق هذا على محسن رضائي وقاليباف، اللذين قلَّص ترشحهما من فرص سعيد جليلي وكان الوحيد الذي قدم خطابًا أصوليًّا واضح الملامح.

تاريخ إجراء الانتخابات

14 يوينو/حزيران 2013

عدد المسموح لهم بالاقتراع

48.288.799

عدد المقترعين فعليًّا

36.821.538

النسبة المئوية للاقتراع

76.25%

عدد الذين تقدموا للترشح

686

عدد المرشحين الذين سُمح لهم بالترشح

8

نسبة من سمح لهم بالترشح

1,1%

الفائز في الانتخابات

حسن روحاني

عدد ونسبة الأصوات التي فاز بها

18,692,500 (50%)

وعد روحاني بأن حكومته "التدبير والأمل" ستجد مخارج مشرفة لقضايا حساسة، مثل: المواجهة مع الغرب بخصوص الملف النووي، وتردي علاقات إيران دوليًّا، وعزلة طهران عن المجتمع الدولي. وكرَّر روحاني توجهات رفسنجاني على صعيد العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة التي قطعت علاقاتها مع إيران في أعقاب اقتحام الطلبة للسفارة الأميركية في طهران، عام 1979، ورأى أن القطيعة يجب ألا تستمر(22). نجح روحاني في إنجاز اتفاق نووي، ونزع فتيل التوتر مع الغرب، لكن إنجازاته الاقتصادية بقيت متواضعة على الرغم من نجاحه في خفض معدل التضخم في ذلك الوقت

الانتخابات الرئاسية 2017

تاريخ إجراء الانتخابات

19 مايو/أيار 2017

عدد المسموح لهم بالاقتراع

56.410.234

عدد المقترعين فعليًّا

41220131

النسبة المئوية للاقتراع

73%

عدد الذين تقدموا للترشح

1636

عدد المرشحين الذين سُمح لهم بالترشح

6

نسبة من سمح لهم بالترشح

0,37%

الفائز في الانتخابات

حسن روحاني

عدد ونسبة الأصوات التي فاز بها

23549616 (57%)

في هذه الانتخابات، فاز الرئيس الإيراني، حسن روحاني، بفترة ولاية ثانية بعد تفوقه على منافسه الأبرز، إبراهيم رئيسي. وكشفت نتائج الانتخابات عن حقيقة مفادها أن الساحة السياسية الإيرانية منقسمة ومفتوحة على عدد من التيارات والطروحات الفكرية والسياسية، بعضها وضع قدمه منذ عقود، وبعضها حديث العهد وبعضها قَيْد التشكُّل. لقد كانت العقبة الأساسية التي واجهت روحاني تَتَمَثَّل في الإدارة الأميركية وما أضافته من تصعيد ضد إيران أعاق تطبيق الاتفاق النووي، وهو ما وضعه في معرض سهام خصومه ومعارضيه. ومع نهاية العام الذي أعيد فيه انتخاب روحاني كانت الاحتجاجات ذات البعد الاقتصادي تندلع في أكثر من مدينة إيرانية، بعد أن انطلقت في مشهد. بدأت الاحتجاجات المناهضة للحكومة، تأخذ امتدادا أفقيًّا في عدد من المدن الإيرانية، مع شعارات تعارض السياسات العامة للجمهورية الإسلامية؛ ففي يومي الجمعة والسبت، 29 و30 ديسمبر/كانون الأول، شهدت كرمانشاه وساري والأهواز وقزوين وكرج وأصفهان وقم وزاهدان، وكذلك بعض مناطق طهران، عدة تظاهرات، وجرت الدعوة لهذه التظاهرات من خلال شبكات التواصل الاجتماعي. أظهرت الشعارات مطالب اقتصادية واضحة، وطال بعضها السياسات الخارجية لإيران(23).

عندما بدأ حسن روحاني حملة الانتخابية الأولى، عام 2013، كان "المفتاح" هو رمز حملته، وفي واحدة من مناظراته الانتخابية أخرج مفتاحًا، وقال: لديَّ حلول لمشكلات إيران. ركَّزت شعارات روحاني على المشكلات الاقتصادية، وقدَّم وعودًا بتجاوز الصعوبات التي تواجهها إيران، ورأى أن ذلك يتحقق من خلال رفع العقوبات(24). لكن الأحداث التي أعقبت العام 2015 وخاصة مع مجيء دونالد ترامب إلى الرئاسة وانسحابه من الاتفاق النووي، عام 2018، كانت سببًا في إفشال وعود روحاني.  

على أي وقع تأتي انتخابات 2021؟

رغم توقيع إيران لاتفاق نووي في عام 2015 وتعهدات برفع العقوبات المفروضة على البرنامج النووي ظل الانكماش الاقتصادي في إيران قائمًا، وأعاده البعض إلى استمرار العقوبات الأميركية من جانب واحد، وفي العام 2018، تفاقمت الحالة الاقتصادية عندما انسحبت الولايات المتحدة الأميركية من الاتفاق النووي وأعادت فرض العقوبات على إيران، فيما فشلت الأطراف الأوروبية في تفعيل تطبيق الاتفاق، وهو ما عرقل مشاركة الدول الأوروبية على نطاق واسع في الاقتصاد الإيراني فضلًا عن دور خصومه ومنتقديه في كبح تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية التي رأى أنها  ضرورية لتحقيق وعوده الاقتصادية(25)، ومن ذلك المصادقة على الاتفاق مع مجموعة العمل المالي وهو الاتفاق الذي أعاقه مجلس صيانة الدستور وأحيل إلى مجمع تشخيص مصلحة النظام حيث تأجل البتُّ فيه. ومع العقوبات التي شلَّت قطاع النفط الإيراني كانت وعود روحاني الاقتصادية تتلاشي، فضلًا عن إخفاقات اجتماعية أخرى. وعامًا بعد عام كان حدة التوتر تتصاعد بين طهران وواشنطن ووصل إلى مستوى غير مسبوق في مطلع العام 2020 عندما قام الجيش الأميركي باغتيال قائد فيلق القدس، قاسم سليماني، في مطار بغداد. 

ومع اقتراب انتهاء فترته الرئاسية يخرج تيار الاعتدال من السلطة ضعيفًا. ولم تفلح كل الجهود التي بذلها روحاني وفريقه في حفظ إرثه التفاوضي المتمثل في الاتفاق النووي. ولعل فشل هذه الوعود، وفشل الرهان على تحسن العلاقات الإيرانية-الأميركية هو ما أعاد التيار الأصولي إلى الواجهة. وتشير التوقعات إلى أن الرئيس القادم سيكون أصولي التوجه لا ينظر إلى العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية من نفس الزاوية التي كان ينظر إليها روحاني.

وإن كان الإصلاحيون والأصوليون يُمثِّلون إشكاليات وتحولات اليمين واليسار في إيران والتي نشأت وتصاعدت منذ انتصار الثورة وحتى اليوم، فإن تيار الاعتدال يقوم بعملية تلفيق، يسعى من خلالها للجمع ما بين طروحات اليمين (الأصوليين)، وطروحات اليسار (الإصلاحيين)، دون أن ينجح في تجاوز تبعات تحولات وتناقضات الأب الروحي له، وهو آية الله هاشمي رفسنجاني، وقد ورث روحاني فيما ورث عن رفسنجاني خطابًا، متعدِّد الأوجه، كان لفترة من الزمن من نقاط قوته قبل أن يصبح أهم نقاط ضعفه.

أما التيار الإصلاحي الذي عبَّر في أكثر من مرة عن خيبة أمله من حسن روحاني، ووصفه بعضهم بأنه "رئيس مستأجر"، فقد تكررت أزمتهم مع مجلس صيانة الدستور، وباءت جهودهم بالدفع بمرشح يعزز من المشاركة الشعبية بالفشل. ولم يكن النجاح السياسي الذي حققه الإصلاحيون بمجيء محمد خاتمي إلى السلطة ليتحقق بدون دعم قطاع واسع من الشباب الإيراني، لكن التيار الإصلاحي خيَّب أمل الشباب في تحقيق أهداف كانوا يأملونها مقابل التأييد الذي قدموه، وهو ما قاد إلى تراجع القاعدة الاجتماعية للإصلاحيين(26). ورافق ذلك إقصاء سياسي ممنهج من قبل النظام جعل وصول الإصلاحيين إلى مجلس الشورى ورئاسة الجمهورية عملية بالغة الصعوبة؛ حيث انتهج مجلس صيانة الدستور سياسة عدم تأييد صلاحية عدد كبير من الشخصيات الإصلاحية خلال العمليات الانتخابية المتتالية، وأصبح دور التيار مقتصرًا على دعم مرشح وترجيح كفته، حتى وإن لم يكن هذا المرشح من حملة الفكر الإصلاحي، كما حدث مع روحاني في انتخابات 2013 و2017، وكذلك الحال في انتخابات مجلس الشورى؛ إذ لا يمكن وصف الكتلة التي وصلت لمجلس الشورى بـ"الإصلاحية".

أما على صعيد التنظير، فقد بدأ الأفول يتسارع مع العام 2000 حيث غاب عن التيار الزخم التنظيري الذي رافق سنواته الأولى، وربما يعود ذلك إلى التحولات الفكرية لبعض منظِّريه من أمثال عبد الكريم سروش، والخروج القسري لمفكرين آخرين من أمثال محسن كديور، وسجن آخرين والتضييق عليهم، والهجمة القضائية التي طالت صحف ومطبوعات الحركة وأدت إلى إغلاقها واحدة تلو الأخرى، وهي الأدوات التي برع منافسوهم في استخدامها. لقد قادت عوامل عدة إلى انقطاع تنظيري، وغياب النسق والاستمرارية، ولعل ما يعمِّق أزمة التيار على هذا الصعيد أن المراجعات التي جرت كانت سياسية، ولم تكن فكرية سياسية، وهو ما أوجد حالة من الاضطراب في التوجهات والأهداف. وبقيت القيادة السياسية للحركة الإصلاحية تتحرك ضمن حدود الدستور والقانون، وهو ما جعلها أسيرة للفقه السياسي المسيطر، ولم تُبد من جانبها رغبة في كسر احتكار هذا الفقه للساحة السياسية. لعب الانحياز إلى هذا الخيار دورًا كبيرًا في الحيلولة دون تطوير المقولات المتعلقة بالمجتمع المدني، والتنمية السياسية والديمقراطية. ومع فشل التيار سياسيًّا كان من الواضح أنه عاجز عن تقديم نظرية اقتصادية واجتماعية منسجمة. لقد صرف التيار الكثير من الجهد والوقت ملاحقًا مقولة: "تعزيز المشاركة السياسية" في وقت كان فيه المجتمع الإيراني يتحدث عن أولويات أخرى، تضع الأمن والاقتصاد والرفاه والحريات الاجتماعية في مرتبة متقدمة على المشاركة(27). أوجدت سياسة خاتمي، فكرة تقول بضعف رئيس الجمهورية، وأنه -وفق تعبير خاتمي نفسه- بمستوى منسق(28). وفي كتاب نقد الذات نجد نقدًا لاذعًا من قبل آية الله منتظري لخاتمي حيث وصفه بأنه أحرق الفرص وأصاب الناس باليأس(29).

يدخل التيار الأصولي الانتخابات بعدد من المرشحين لكن رهانه الأكبر ينصب على إبراهيم رئيسي. لقد كان واضحًا حجم التغيير في صورة رئيس السلطة القضائية وهو يدخل انتخابات 2021 مقارنة بالعام 2017. ففي السنوات التي تلت الانتخابات، جرى بناء صورة مؤثِّرة ومختلفة لحجة الإسلام رئيسي، من خلال منصبه كرئيس للسلطة القضائية، وتقديمه كرجل يضرب بيد من حديد في مجال مكافحة الفساد، ويقود عملية تطهير للجسم القضائي، في مؤشر على قرار بجعل ما خسره رئيسي في الانتخابات الرئاسية على صعيد مكانته السياسية والشعبية يستعيده مضاعفًا من خلال السلطة القضائية وعناوين مثل مكافحة الفساد، وهي المعضلة التي تضرب أركان إيران. لم ينجح التيار الأصولي في إيصال مرشحه إبراهيم رئيسي إلى كرسي الرئاسة في 2017، لكن تلك الانتخابات كشفت عن قاعدة اجتماعية كبيرة ومتجانسة، وصلت أصواتها إلى ما يقارب 16 مليون صوت، وهذا التجانس، فضلًا عن وضوح الطرح الفكري يُعَدُّ من نقاط قوة التيار، وإن كان في الوقت ذاته يعكس عجزًا عن استيعاب وجذب المخالفين له.

خلاصة

تمثل الانتخابات الرئاسية التي ستجري يوم الجمعة، 18 يونيو/حزيران 2021، أبرز ملامح التدافع السياسي على الساحة الإيرانية، وهذا التدافع ليس وليد هذه المرحلة فقط، بل هو نتاج لحالة الصراع التي رافقت نشأة الجمهورية الإسلامية منذ عقدها الأول. قد تُحسم الانتخابات من الجولة الأولى وقد تنتقل إلى جولة ثانية تبعًا لحجم المشاركة الشعبية. ومع ذلك، فإن مخرجات هذا التدافع ستكون بسيطرة تيار من توجه فكري واحد على دفة الأمور، وهو يعني أن حالة الاقصاء لن تقف عند التيار الإصلاحي أو تيار الاعتدال بل تضم فيما تضم تيار أحمدي نجاد. وقد يشكِّل من جرى إقصاؤهم جبهة مضادة داخل الجمهورية الإسلامية، وقد يعزز ذلك من الحالة الاحتجاجية داخل إيران. وإذا ما نجح الأصوليون في الوصول إلى الرئاسة هذه المرة مع ملاحظة أن الفرصة مهيأة، فذلك يعني تشكيل صف منسجم من القيادة، من أعلى الهرم إلى الرئاسة إلى مجلس الشورى. وهو صف ممن يؤمنون بالأبعاد الثورية للجمهورية الإسلامية ويعتقدون بوجاهة حضورها ودورها الإقليمي، وبما ينسجم مع التصعيد الذي تشهده العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية، وهي تركيبة منسجمة مع حرس الثورة. وهذا السيناريو لا يقف عند حدود الرئاسة بل هو تهيئة الأرضية القادمة لمن سيخلف خامنئي.

نبذة عن الكاتب

مراجع

1-  خمينى، روح الله، صحيفه امام، (تهران: مؤسسه تنظيم ونشر آثار امام خمينى، 1389)، المجلد السابع، ط 5، ص 455-465.

2- فاطمة الصمادي، التيارات السياسية في إيران، المركز العربي للدراسات وأبحاث السياسات (بيروت، 2019)، ط 2، ص 12.

3- المصدر السابق.

4- مصدر الأرقام الواردة في هذه الجداول هي: وزارة الداخلية الإيرانية، وبعض الصحف الإيرانية، وبعض المواقع الإخبارية، (تاريخ الدخول: 13 يونيو/حزيران 2021):

https://bit.ly/3cBr4BM

https://bit.ly/3ghrL5u

https://bit.ly/3zgMttI

https://bbc.in/3woNNJo

5- الصمادي، فاطمة، التيارات السياسية في إيران، المركز العربي للدراسات وأبحاث السياسات، 2012، ط 1، ص31.

6- الصمادي، مرجع سبق ذكره، ص 40.

7- رسول بابائي، "ظهور وافول گفتمانهاى سياسى در ايران" ("ظهور وأفول الخطاب السياسي في إيران")، صحيفة "ابتكار"، الحلقة الأولى (13 سبتمبر/أيلول 2010)، ويمكن إيجادها أيضًا على الموقع الرسمي لداود فيرحي (تاريخ الدخول: 11 يونيو/حزيران 2021):  https://bit.ly/3cDCRPX

8-مرکز مطالعات وتحقيقات جنگ، "سيري در جنگ ايران وعراق؛ از خونين شهر تا خرمشهر"، ("استعراض الحرب العراقية الإيرانية، من مدينة خونين حتى خرمشهر")، (تهران: سپاه پاسداران انقلاب اسلامي، چاپ دوم، 1373).

9- علي دارابي، "کارگزاران سازندگي از فراز تا فرود"، ("كوادر البناء من الارتفاع إلى الهبوط")، (تهران: نشر سياست، 1381)، ص 74.

10- صحيفه "نور"، ج20، ص 195.

11- حسين بشيريه، "انقلاب وبسيج سياسي"، ("الثورة والتعبئة الاجتماعية")، (تهران: دانشگاه تهران، چاپ اول، 1372)، ص 82.

12- الصمادي، مرجع سبق ذكره، ص 54.

13- الصمادي، مرجع سبق ذكره، ص 54.

14- بهرام اخوان كاظمي، "آسيب ‌شناسى گفتمان اصلاح ‌طلبي" "علم مشكلات الخطاب الإصلاحي"، دورية زمانه ، العدد 81 ، خرداد 1388 ، ص 63-72.

15- المصدر نفسه.

16- يرد هذا الجانب بصورة مفصلة في كتاب: سلمان علوي نيك، "آسيب ‌شناسى حزب مشاركت ايران اسلامى"،("مشكلات حزب المشاركة")، (تهران: مركز اسناد انقلاب اسلامى. وقد نُشر الكتاب على حلقات في الموقع الإلكتروني لوكالة "فارس للأنباء" في 10/8/1388، (تاريخ الدخول: 11 يونيو/حزيران 2021): https://bit.ly/3pLcRYs

17- إخوان كاظمي، مصدر سبق ذكره، ص 63.

18- علي دارابي، "انتخابات هشتم: تحليلي بر هشتمين دوره ى انتخابات رياست جمهوري" ("الانتخابات الثامنة: تحليل للدورة الثامنة لانتخابات رئاسة الجمهورية")، (تهران: نشر سياست، 1381)، ص 50-57.

19- "هاشمي انتخابات را آلوده به دخالتهاي سازمان يافته دانست" ("هاشمي يصف الانتخابات بأنها ملوثة بالتدخل المنظم)، الموقع الإلكتروني "بي. بي. سي." بالفارسية، 19 يونيو/حزيران 2005، (تاريخ الدخول: 11 يونيو/حزيران 2021):  https://bbc.in/3cFkABT

20- فاطمة الصمادي، مرجع سبق ذكره، صص 247- 334.

21- تابناک: رأي‌دهندگان به جريان اصولگرايي "نه" گفتند (تابناك: الناخبون قالوا: لا للأصوليين)، 25 خرداد 1392، (تاريخ الدخول: 13 يونيو/حزيران 2021):  https://bit.ly/3iD51yD

22- دولت تدبير واميد (حكومة التدبير والأمل)، البرنامج الانتخابي لحسن روحاني، خرداد ماه 1392، طهران ص 102-105.

23- فاطمة الصمادي، احتجاجات إيران: هل بدأت انتفاضة الخبز الإيرانية؟، مركز الجزيرة للدراسات، 31 ديسمبر/كانون الأول 2017، (تاريخ الدخول: 16 يونيو/حزيران 2021): https://bit.ly/3cCNwKV

24- البرنامج الانتخابي لحسن روحاني، مرجع سابق، ص 38-43.

25- علي فتح‌الله نژاد، آموزه‌ي نوليبرال دولت روحاني ايران را به کجا مي‌برد؟ (تعاليم حكومة روحاني الليبرالية الجديدة: إلى أين تأخذ إيران؟)، نقد سياسي اقتصادي، آبان ماه 1396 ش، (تاريخ الدخول: 13 يونيو/حزيران 2021):  https://bit.ly/2ROHPCj

26- محمد علي حسيني زاده، اسلام سياسى در ايران ("الإسلام السياسي في إيران")، (تهران، انتشارات دانشگاه مفید، 1386) ط 1، ص308.

27- المرجع السابق، ص 308.

28- علي سر زعيم، پوپولیسم ایرانی (تحلیل کیفیت حکمرانی محمود احمدی نژاد از منظر اقتصاد وارتباطات سیاسی) ("الشعوبية الإيرانية (تحليل جودة حكم محمود أحمدي نجاد من حيث الاقتصاد والعلاقات السياسية")، (تهران: نشر کرگدن، 1396 ش)، ط2، ص 308.

29- سعيد منتظري، نقد الذات، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (بيروت، 2020)، ط 1،  ص 146.