الأوبئة وتحديات الأمن الوطني في الدولة الحديثة: كوفيد-19 نموذجًا

تبحث الدراسة العلاقة بين الصحة والأمن في ضوء أزمة انتشار جائحة كوفيد-19، باستعراض شتى الجوانب الأمنية التي لامستها هذه الجائحة ومثَّلت تهديدًا لها، ومن ذلك بشكل أساسي الأمن القومي والأمن البشري والأمن الصحي والأمن السيبراني، حيث تقدم الدراسة معالجة شاملة لاستجابات الأفراد والدول والمؤسسات الدولية للمُهدِّدات التي فرضها انتشار فيروس كوفيد-19.
فرضت جائحة كوفيد-19 الاهتمام الاستراتيجي بالصحة والأمن العالميين في المستقبل بحيث يصبحان محور السياسات الخارجية والأمنية والعسكرية (رويترز)

يشهد العالم اليوم حالة من الصراع مع خصم غير ملموس، لا يستثني دولة ولا جماعة ولا يتوقف عند أي حدود. بالنسبة لكثير من الدول، يبدو هذا الصراع كأنه مشهد حرب، فأعداد "الضحايا" في تنامٍ مستمر(1)، والعواقب الاقتصادية والاجتماعية والنفسية باتت واضحة بشكل متزايد، وارتفعت حالة عدم اليقين بين الأفراد، ولكن أيضًا تعزَّز تماسُك المجتمعات لمواجهة هذا الخصم. ففي ديسمبر/كانون الأول 2019، سُجِّلت أول حالة إصابة بفيروس كوفيد-19 في مدينة ووهان بالصين، وفي 21 فبراير/شباط 2020، أعلنت منظمة الصحة العالمية أن احتواء تفشِّي الفيروس بات صعبًا، لتصنفه يوم 11 مارس/آذار 2020، وباء عالميًّا "جائحة"(2).

وبينما ارتكز الاهتمام في ظل الجائحة على المجالات الطبية والاجتماعية والقانونية والاقتصادية والسياسية والثقافية في ضوء الطبيعة الوجودية للتهديد، تبيَّن أنها مسألة وقت فقط قبل أن تُصبح هذه الأزمة أيضًا محور السياسة الأمنية. فلما تجاوز أثر الفيروس حدود الدولة منذ بدء انتشاره خارج الصين باتجاه مختلف دول العالم، ولما كان تأثيره على الإنسان في المجتمع، ثم على المجتمع في الدولة، ثم على الدولة في العالم، فإن الاستجابات لهذا الفيروس قد تراوحت في شدتها بين مختلف الدول، إلا أنها جميعها تعاملت معه منذ ظهوره بما يمكن أن يُسمَّى نهج "الأَمْنَنَة"(3)، أي أنه عومِل كمُهدِّد ينبغي مجابهته أمنيًّا. ومن هذا المنطلق، يستدعي تناول استجابة الدول لأزمة كورونا، الإلمام بالمقاربات الأمنية التي يمكن أن تُفسِّر طبيعة التعامل مع الجائحة، وبالتالي محاولة استشراف التحوُّلات التي يُحتمل أن تُقبِل عليها الدول في مرحلة ما بعد انقضاء الجائحة، بالإضافة إلى وضع سُبُل لمعالجة المعضلات المتعلقة بالتهديدات الوارد ظهورها أمام الأمن القومي للدول. وهنا، يدور السؤال البحثي لهذه الدراسة حول العلاقة بين انتشار فيروس كوفيد-19 والأمن، وكيفية التعامل مع هذه الأمراض عبر مختلف قطاعات الدولة ومؤسساتها، بالإضافة إلى تأثير الجائحة على موقع الدولة الجيوسياسي من زاوية أمنية، والأدوات التقنية والسؤال الأمني، وذلك بالإجابة عن سؤال رئيسي هو: ما تأثير فيروس كوفيد-19 على مختلف جوانب الأمن في الدولة؟

تتعرض الدراسة أولًا إلى شبكة المفاهيم المرتبطة بالعلاقة بين الأمن والصحة، مثل: الأمن القومي، والأمن العالمي، والأمن البشري، والأمن الشامل، والأمن الصحي، وما تُمثِّله هذه المفاهيم بالنسبة لاختبار قوة الدولة وعلاقتها باستقرار المجتمع والفرد في ظل المهددات عامة، وانتشار الأوبئة خاصة، والتطرق لتأثيرات كوفيد-19 على الأمن، والحاجة إلى إعادة تناول العلاقة بين الأمن والصحة من منظور أهمية ثنائية الأمن القومي والبشري. ثم تنتقل الدراسة لمناقشة المعيار الجيوسياسي والتأثر العالمي بانتشار كوفيد-19، فتتطرق إلى استجابة المؤسسات الدولية، واستجابة الأفراد لهذه الاستجابة، وبحث ما إذا كان التعاون أم العزلة مكلفا في ظل هذه الأزمة، لتنتقل الدراسة بعد ذلك إلى استعراض تجارب عملية تختبر من خلالها جهوزية الدولة ومعيار قوتها، وتبيان دور الأجهزة الأمنية وتعاونها مع مختلف المؤسسات في الدولة لمجابهة الفيروس.

أخيرًا، تُناقش الدراسة ما تمكَّنت الدول من تطويره من بنى تحتية تقنية لمجابهة انتشار فيروس كوفيد-19، مع استحضار تطبيقات وأمثلة والتطرق إلى الأمن السيبراني وحماية الخصوصية وأهمية الحيازة على ثقة السكان، لتخلص إلى محاولة بحث سُبُل معالجة المعضلات والتهديدات المتعلقة بانتشار الجائحة.

1. الأمن والصحة والدولة والفرد: أيُّ علاقة؟

ماذا يحدث عندما تكون الصحة مسألة ملحة على كل من العلاقات الدولية والأمن؟ ما المعضلات التي لم تَعُد الدول قادرة على إيجاد حل لها فتحوَّلت إلى تهديد؟ وهل يؤدي تشديد الأمن على الحدود إلى تحسين الأمن الدولي أيضًا؟

تاريخيًّا، كان يُنظر إلى تحقيق الأمن على أنه مسؤولية الدول الوطنية، إلا أن تطوُّر التهديدات غيَّر هذا الفهم إلى حدٍّ كبير. فمنذ نهاية الحرب الباردة ومع تنامي ظاهرة العولمة، أصبح الوضع الدولي أكثر تعقيدًا، وباتت حياة الملايين مُهدَّدة بالصراعات. وقدَّمت هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 على الولايات المتحدة بُعدًا جديدًا لانعدام الأمن، يتحدّى نهجه التقليدي، فحركة الأشخاص والأموال والسلع والأفكار والمعلومات تحدثُ بسرعة وعبر الحدود وداخلها. وعليه، شهدت العقود الأخيرة ظهور مجموعة واسعة من التهديدات الأمنية الجديدة على المستويين الوطني والعالمي، بما فيها التهديدات المتعلقة بالصراعات العرقية والإثنية والحروب الأهلية والتطرف وتغيُّر المناخ، والتجارة غير المشروعة والجريمة المنظمة والتهديدات البيئية وزيادة الأمراض الوبائية، وعدم الاستقرار الناجم عن النزوح والهجرة الجماعيين للسكان وانتشار أسلحة الدمار الشامل. وأدى هذا الكم الهائل من التهديدات المتشابكة والسريعة التحوُّل، إلى العديد من التغيُّرات في الخطابات الوطنية والدولية وفي طريقة صُنع السياسات فيما يتعلق بالتدخلات في الصراعات. ولم يعُد يمكن لأي دولة وحدها حماية مواطنيها فقط بتعزيز آلياتها الرقابية، حيث تعتمد الدول والمجتمعات الآن -أكثر من أي وقت مضى- على إجراءات الدول والمجتمعات الأخرى من أجل أمنها، وفي بعض الأحيان حتى من أجل بقائها(4).

هُنا يبرز التداخل بين مفهومين أساسيين، هما: الأمن القومي (National Security)، والأمن العالمي (Global Security). ويُعرَّف الأمن القومي بأنه "قدرة الدولة على توفير الحماية والدفاع لمواطنيها"، أما الأمن العالمي فقد جاء من الضرورة التي ألقتها الطبيعة والعديد من التحوُّلات الأخرى، وخاصة العولمة، على عاتق الدول، وهي تحوُّلات لا يملك أي جهاز للأمن القومي القدرة على التعامل معها بمفرده، وبالتالي تبرز الحاجة إلى تعاون الدول، فالترابط العالمي والاعتماد المتبادل بين الدول الذي اختبره العالم ولا يزال يختبره منذ نهاية الحرب الباردة، يجعل من الضروري للدول أن تتعاون أكثر وتعمل معًا(5).

وقد أسهمت خلال تسعينيات القرن الماضي كلٌّ من الحرب الباردة والفهم الأكبر للتنمية الاقتصادية-السياسية، بالإضافة إلى العولمة، في ظهور مفهوم جديد يتناول هذه التعقيدات(6)، وهو مفهوم الأمن البشري (Human Security) الذي جاء كنموذج جديد يمكن أن يعالج الضعف الذي يشوب مفهوم الأمن القومي، حيث يستند إلى فرضية أن المفهوم التقليدي للأمن القومي قاصر عن معالجة الأبعاد المختلفة للأمن في حياة الفرد، فالفقر وتشريد السكان والجوع والمرض والتدهور البيئي والاستبعاد الاجتماعي على سبيل المثال، جميعها تؤثر بشكل مباشر على الإنسان وبالتالي على الأمن العالمي، وأن هذه الصعوبات تقتل أكثر بكثير مما تفعل الحروب والإبادة الجماعية والإرهاب مجتمعة. ولذلك فإن الأمن البشري يتضمن الاعتراف بأن التنمية والسلام والأمن وحقوق الإنسان مترابطة ويُعزِّز كل منها الآخر(7)، هذا مع أهمية العلم بأن الأمن القومي يظل أشمل وأوسع من الأمن البشري والصحي. وتعتبر الجمعية العامة للأمم المتحدة في القرار رقم 66/290 أن الأمن البشري نهج يُساعد الدول في تحديد ومعالجة التحديات الشاملة والواسعة النطاق التي تواجه أفراد شعوبها وبقاءهم وسُبُل عيشهم وكرامتهم. وبناء على ذلك، يشتمل مفهوم الأمن البشري على ما يلي:

حق جميع الأفراد، ولاسيما الضعفاء، في العيش بحرية وكرامة، مُتحرِّرين من الفقر واليأس والخوف والحاجة، مع إتاحة فرصة متساوية للتمتع بجميع حقوقهم وتطوير إمكاناتهم البشرية.
تكثيف استجابة البشر الشاملة والمحددة السياق والموجهة نحو الوقاية والتي تُعزِّز حماية وتمكين جميع أفراد المجتمع.  

الإقرار بأوجه الترابط بين السلام والتنمية وحقوق الإنسان، والأخذ في الاعتبار الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية على حدٍّ سواء.
يعتمد الأمن البشري على مفهوم الوطنية بحكم أن الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية تختلف اختلافًا كبيرًا عبر البلدان وداخلها، وفي فترات زمنية مختلفة، وبالتالي فإن الأمن البشري يُعزِّز الحلول الوطنية التي تتوافق مع الواقع المحلي.

احتفاظ الحكومات بالدور والمسؤولية الأساسيين لضمان بقاء مواطنيها وسُبُل عيشهم وكرامتهم. ويتمثَّل دور المجتمع الدولي في استكمال وتقديم الدعم اللازم للحكومات بناء على طلبها، من أجل تعزيز قدرتها على الاستجابة للتهديدات الحالية والناشئة. ويتطلب الأمن البشري مزيدًا من التعاون والشراكة بين الحكومات والمنظمات الدولية والإقليمية والمجتمع المدني.
تنفيذ الأمن البشري مع الاحترام الكامل لسيادة الدول وسلامتها الإقليمية، وعدم التدخل في الأمور التي هي من اختصاص القضاء المحلي للدول. ولا يترتب على الأمن البشري التزامات قانونية إضافية من جانب الدول.

يختلف مفهوم الأمن البشري عن المسؤولية عن الحماية وتنفيذها.

لا ينطوي الأمن البشري على التهديد أو استخدام القوة أو التدابير القسرية، كما لا يحلُّ محلَّ أمن الدولة(8).

وبالتالي فإن الأمن البشري يرى أن المرجع الأنسب للأمن يجب أن يكون الفرد وليس الدولة فقط، وهي زاوية مهمة لضمان الاستقرار الوطني والإقليمي والعالمي. ولما باتت مفاهيم السلام والأمن والعدالة والتنمية المستدامة ترتبط ارتباطًا وثيقًا ببعضها البعض، فإنها بالتالي تتطلب اتباع نهج شامل لتعزيزها. وقد أدى ذلك إلى مفهوم "النهج الشامل" للتدخلات التي تهدف إلى معالجة مختلف التحديات الأمنية والحوكمة والتحديات الاجتماعية والاقتصادية بطريقة متماسكة من قِبَل الجهات الفاعلة المعنية(9). وتبرز هنا أهمية مفهوم الأمن الشامل (Comprehensive Security)، وهو "الشكل النهائي لسياسة الدولة الأمنية التي تتحقَّق من خلال التطبيق المنسَّق لعدد من المكونات والأدوات الحكومية وغير الحكومية المشاركة في التطوير والحفاظ على بيئة مستقرة وسليمة تسمح بالاشتغال الفعال للمؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعود بالنفع العام على المواطنين"(10).

ولا يشتمل الأمن الشامل فقط على الدفاع العسكري، فهو مجرد جزء واحد من جوانب أمنية أخرى متعددة، فالهدف من الأمن الشامل هو تأمين الوظائف الحيوية للمجتمع في جهد مشترك، حيث تتعاون السلطات الحكومية والبلديات وقطاعات الأعمال والمنظمات غير الحكومية المختلفة مع بعضها البعض لإنتاج أعلى مستوى ممكن من الأمن، ففلسفة الأمن الشامل تصبح موضع التنفيذ من خلال تفاعل مختلف الجهات المعنية بالأمن والدفاع، مثل الوكالات الحكومية والقطاع العام والمنظمات غير الحكومية ومؤسسات القطاع الخاص والمجتمعات المحلية. وعليه، فالتعاون يُعد مفهومًا حاسمًا في إنفاذ نهج واسع للأمن والدفاع، على الرغم من أن هذا ليس الشكل الوحيد الممكن للتفاعل(11).

ولما أدت العولمة إلى زيادة انتشار الأمراض الوبائية، ناقشت كثير من الدراسات العلاقة بين الأمراض والأمن على خطر انتشار الأوبئة عبر الحدود، وأُعطِيَ الاهتمام بشكل متزايد لمسألة أكثر اتساعًا، وهي تأثير الأمراض الوبائية على مفاهيم الأمن الأخرى(12). وهنا، يبرز مفهوم جوهري آخر يتعلق بشكل كبير بالأمن البشري، وهو الأمن الصحي. ولا تُحصر الصحة هنا في غياب المرض، ولكنها كذلك "حالة من الرفاه الجسدي والعقلي والاجتماعي الكامل"، فالصحة الجيدة ضرورية وفاعلة على حدٍّ سواء لتحقيق الأمن البشري، لأن جوهر الأمن هو حماية أرواح البشر. والأمن الصحي هو جوهر الأمن البشري، فالمرض والعجز والوفاة تهديدات خطيرة وواسعة الانتشار للأمن البشري. ولما كانت الصحة مهمة على المستوى الفردي، فهي أساسية كذلك على المستوى الجماعي لكونها شرطا مسبقا للاستقرار الاجتماعي، حيث يمكن أن يؤدي الانتشار المفاجئ لمرضٍ مُعدٍ أو أزمة صحية إلى زعزعة استقرار المجتمع بأكمله. إذًا، الصحة والأمن البشري مرتبطان ارتباطًا وثيقًا، ومع ذلك لا ينبغي اختزال الصحة الجيدة كرديفٍ للأمن، كما أن الأمن لا يشمل جميع جوانب صحة الإنسان. من جانب آخر، أدى احتمال استخدام أسلحة الدمار الشامل البيولوجية إلى زيادة الاهتمام ووضع الأمور الصحية على الأجندات الأمنية(13).

وعلى الرغم من توفُّر كتابات واسعة حول الأمن البشري والأمن الصحي وأمن الصحة العامة العالمي، فإنه لا يوجد تعريف متفق عليه عالميًّا، حيث أدى الاستخدام الواسع النطاق، ولكن غير المتّسِق للمصطلح في مجال الصحة العامة على مستوى العالم، وما رافقه من تصورات وأولويات وجداول أعمال متباينة، إلى حدوث ارتباك وانعدام ثقة إلى حدٍّ كبير(14)، وذلك رغم إقرار صانعي القرار -بشكل متزايد- بالترابط المنهجي بين صحة الإنسان وصحة الحيوان والبيئة. بالإضافة إلى ذلك، فإن وتيرة العولمة والتوسع الحضري والحركة المتزايدة للأشخاص والحيوانات، تؤدي إلى تفاقُم نقاط الضعف الموجودة في العلاقة بين البشر والحيوانات والنظام الغذائي والبيئة الطبيعية(15).

وعلى مدار الأعوام الثلاثين الماضية، أصبح مفهوم الأمن الصحي العالمي محلَّ اهتمام، خاصة أنه في جوهره يشمل أهمية تجنُّب الإرهاب البيولوجي، واحتواء مخاطر الأمراض المعدية والإقرار بأن العمل الجماعي مطلوب للتصدي لها. ومع ذلك، لم يواكب مجال الأمن الصحي العالمي اتساع نطاق التهديدات للأمن والمخاطر العالميين. لقد تم تصوُّر الأمن الصحي العالمي إلى حدٍّ كبير على أنه شكل من أشكال الدفاع ضد التهديدات الوبائية (أكثر من الأمن في حدِّ ذاته) على سبيل المثال، من خلال تخزين العلاجات. ويُشير الدفاع عادة إلى عدوٍّ معروف وإلى الإجراءات التي يمكن لها أن تُحدِّد نهجًا للتعامل مع قضايا محددة في حالة معينة. أما الأمن فهو مصطلح أكثر غموضًا ويتطلب إنفاذه حالة استعداد مستمرة. في هذا الصدد، يصعب تأطير الأمن بعبارات مطلقة لأنه -على عكس الدفاع- يضع إطارًا زمنيًّا طويل الأجل، ويستلزم مجموعة مستمرة من المشاريع دون هدف واضح. وعلى الرغم من أن المصطلحين متشابكان عمليًّا، فإن الدفاع يفترض هدفًا، على سبيل المثال، مُسبِّبات الأمراض المعروفة، بينما يركز الأمن على نظام، وبالتالي فهو مجهز لمواجهة احتمال ظهور أمراض جديدة. وبالتالي، يُشكِّل الأمن العمود الفقري لإطارِ الأمن الصحي، خاصة العالمي، نظرًا للمخاطر الكامنة والترابط والتعقيدات التي نواجهها في هذا المجال(16).

وبينما ركزت كثير من الدراسات على العلاقة بين النمو الاقتصادي وصحة الإنسان، خاصة أن بريطانيا وفرنسا أثرت فيهما الثورة الصناعية سلبًا على صحة السكان، مما حفَّز ظهور حقل الدراسات الوبائية، كما أدى إلى قيام حركة الصحة الوقائية العامة، تناولت دراسات أخرى العلاقة بين الأمراض الوبائية والأمن، وركزت على تأثير الصحة على النجاح العسكري(17)، حيث يرتبط الأمن الصحي والأمن العسكري ارتباطًا مباشرًا. فتاريخيًّا، اعتمدت شرعية الحكام على مدى قدرتهم على حماية صحة شعوبهم من خلال الوسائل العسكرية وغيرها، أما في العقود الأخيرة، لاسيما خلال الحرب الباردة، اتجهت مجالات الصحة والأمن العسكري إلى طرق منفصلة، حيث طوَّر كل منهما جوانبه الفنية المميزة ودوائره السياسية وشبكاته المؤسسية(18). وعزت بعض الدراسات انتشار الأمراض إلى عدم أخذ الدول بالمبادئ التوجيهية واللوائح المنصوص عليها بشأن الإبلاغ عن الأمراض الوبائية، وذلك لأن هذه المبادئ واللوائح لا تأخذ بعين الاعتبار ما قد تُعاني منه الدولة من عواقب اجتماعية واقتصادية ثقيلة بسبب إبلاغها، وهو ما يمنع الدول من الإبلاغ(19).

وشككت بعض الدراسات في قدرة الأمراض الوبائية على تهديد أمن الدول بشكل مباشر وكبير، إلا أنها جادلت بوجود عناصر وعواقب أمنية أخرى حاسمة للأمراض الوبائية. لكن في الوقت نفسه، جادلت هذه الدراسات أنه غالبًا ما تكون هذه التداعيات الأمنية محدودة، مقارنة بالعواقب الأخرى للأمراض الوبائية(20). وقد تناولت كثير من الدراسات مسألة الاستقرار في ظل وجود أمراض وبائية، وكيف يتحوَّل الوباء إلى مسألة تُهدِّد استقرار الحكومات والمؤسسات والتنمية في الدولة(21). وكذلك، ناقشت بعض الدراسات كيف يمكن أن تؤدي الآثار السياسية والاقتصادية التي تُخلِّفها الأمراض الوبائية إلى صراع عنيف، فالمرض قد يُضاعف من الحرمان النسبي والمطلق ويُسرِّع من تآكل قدرة الدولة في المجتمعات المتأثِّرة بشكل خطير. وبالتالي، فإن الأمراض الوبائية قد تُسهم في زعزعة الاستقرار المجتمعي والعنف داخل الدول، وفي الحالات القصوى قد تُسرِّع من فشل الدولة(22).

وعليه، يتضح أن المرض الوبائي يمكن أن يُسهم في اندلاع الصراعات، لاسيما من خلال التسبُّب في عدم الاستقرار المحلي، وبهذه الطريقة يمكن أن يُهدِّد الأمن القومي للدول. ومن جانب آخر، فاقم ظهور ما يُعرف بالحرب البيولوجية من أهمية العلاقة بين الأمن والصحة بسبب مقدرتها على نشر العوامل الوبائية والفتاكة(23). وتتضمن الأسلحة البيولوجية كائنات حية، وهي في الغالب كائنات دقيقة ذاتية التكاثر -بما فيها البكتيريا والفيروسات والفطريات والريكتسيا- تُنشَر عمدًا لتُسبِّب المرض أو الموت للإنسان أو الحيوان. وقد تشمل أيضًا عوامل غير حية وغير ذاتية التكاثر تُفرزها الكائنات الحية أو تُنتَج صناعيًّا لتكون مشابهة للعوامل التي تُفرزها الكائنات الحية(24). هنا تبرز كذلك أهمية تطوير قدرة الدول على مواجهة حروب غير تقليدية في المستقبل.

وضعت لجنة الأمن البشري التابعة للأمم المتحدة أربعة معايير تؤثِّر في قوة العلاقة بين الصحة والأمن البشري، تتمثَّل في: حجم عبء المرض الآني والمستقبلي، والحاجة الملحة إلى الاستجابة، وعمق ومدى التأثير على المجتمع، والاعتماد المتبادل أو العوامل الخارجية التي يمكن أن تُحدِثَ آثارًا مضاعفة تتجاوز أمراضًا أو أشخاصًا أو مواقع محددة. وعند تطبيق هذه المعايير، تبرز ثلاثة تحديات صحية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالأمن البشري، وهي: الأمراض الوبائية، والتهديدات المرتبطة بالفقر، والعنف والأزمات(25).

تتطلب التحوُّلات التي فرضها انتشار فيروس كوفيد-19 أن تعترف الدول بالأخطار المحدقة بالطبيعة المتعددة للأمن القومي وترابطه وتداخله مع الأمن الدولي، حيث يجب معالجة كليهما بشكل كُلِّي، وألا يطرح أي حل نفسه بمعزل عن الآخر. ولا يعني ذلك أن الدول لم تكن تُدرك طبيعة الأمن القومي وما يشمله من أبعاد ترتبط ارتباطًا وثيقًا بعناصر القوة الوطنية، مثل: الأبعاد الاقتصادية والمادية والبيئية والغذائية والحدودية وغيرها، إلا أن ما أحدثه انتشار فيروس كوفيد-19 هو الكشف عن العديد من الثغرات في أنظمة الأمن والبنى التحتية الحيوية في جميع أنحاء العالم، وهشاشة الميكانيزمات المتبعة لاحتواء الأخطار المحيطة والمُهدِّدة لهذه الأبعاد. في الوقت نفسه، سلط الضوء على الأهمية المتزايدة لقدرات الإنترنت والأمن السيبراني، إلى جانب أهمية الذكاء الاصطناعي. تُضاف هذه التحديات والالتزامات الموجودة سلفًا أمام الدول لتحقيق التوازن بين مطالب أمن الدولة والصحة العامة والاقتصاد، دون تفاقم التهديدات الحالية أمام الحريات وحقوق الإنسان، كما يجب ألا تُغفَل النظم الصحية في تخطيط أو استراتيجية الأمن القومي. وبالمثل، فإن جائحة كوفيد-19 قد بدَّدت فكرة أننا لا نعيش في مجتمع عالمي.

لذلك، يجب النظر إلى الأمن القومي على أنه متعدد الأوجه؛ والأمن الدولي كجزء لا يتجزأ من المجتمع العالمي. لكن النقلة النوعية التي أحدثتها أزمة كوفيد-19 تكشف أيضًا عن فجوات معرفية حول العواقب المحتملة للأوبئة على الأمن القومي والطرق التي يمكن للدول من خلالها تعزيز استعدادها للتعامل مع مثل هذه التحديات(26)، كما تُبرِز سؤالًا حول عدم جهوزية الدولة الصحية من حيث إن إجراءاتها الصحية أثناء الأزمة كانت في الغالب "ردة فعل"، بدلًا من احتكامها إلى خطط استراتيجية موضوعة سلفًا لمواجهة حالات الطوارئ الصحية.

ومع أن العالم لم يسلم بعد من جائحة كوفيد-19 وآثارها، فإن الكتابات حول العلاقة بين الأمن بمختلف أنواعه وبين الأوبئة باتت محلَّ اهتمام لدى كثير من الباحثين، فقد أحدثت الجائحة أثرًا على التطورات المعرفية في حقل الدراسات الأمنية لها علاقة بجهوزية القطاعات الأمنية والعسكرية وتسليحها لمواجهة الأوبئة، خاصة أن الجائحة وما أحدثته من أعطال تشغيلية، كشفت عن بعض نقاط الضعف في القوات المسلحة للدول، خاصة الكبرى منها. وقد تبيَّن وجود فجوة كبيرة في الدراسات المتعلقة بالأمن الصحي والفاعلية العسكرية، والتي اختُزِلَت في مفهوم الحرب البيولوجية(27)، أو حتى في دراسة الحروب وأثرها في تفشي الأوبئة والأمراض(28)، والتي نبعت من حقل التاريخ العسكري وحقل الطب العسكري بشكل أساسي، بدلًا من حقلي الدراسات الأمنية والاستراتيجية، وذلك على الرغم من صعود بعض الدراسات المعنية بمصطلح الأمن الصحي خلال فترة التسعينيات(29).

لذلك، فإن إعادة صياغة الأولويات فيما يتعلق بأولوية الأمن البشري والصحي على الأمن القومي، لا يمكن اعتبارها إدانة كاملة للأمن المرتكز على الدولة وحمايتها، ولكنها تُمثِّل تماسكًا أكبر لمسؤولية الدولة عن حماية وتعزيز حقوق الأفراد(30). إن التضاد بين الأمنين القومي والبشري، من حيث ارتكاز الأول على الدولة وحماية حدودها، وارتكاز الثاني على الفرد وحماية رفاهه وصحته، لا ينبغي أن ينعكس أثناء التعامل مع أزمة كانتشار جائحة كوفيد-19، فقد أثبتت الجائحة الحاجة إلى إيلاء اهتمام "مزدوج" لهذين المفهومين للأمن لما بيَّناه من ترابط كبير انعكس على مختلف أركان الدولة وأفرادها. كما أثبتت الحاجة إلى البحث عن حلول وسُبُل معالجة أكثر شمولية تأخذ بعين الاعتبار تداخل العالم وترابطه، بالإضافة إلى أولوية حماية الأفراد كمحرك أساسي للدولة. فالجائحة تضرب أهم عنصر من عناصر التنمية، وهو الفرد، وبالتالي تضرب القطاعات المبنية على هذا الفرد، وهو ما يفتح الباب أمام نقاشات تتمحور حول أهمية أن تكون الدول جاهزة من خلال القوانين والتجهيزات إزاء أي مُهدِّد لصحة الإنسان.

2. المعيار الجيوسياسي: الانكفاء أم التفاعل بين الدول؟

إن انتشار الفيروس على هذا النطاق العالمي يُمهِّد لنقاشات مستقبلية تتعلق بما إذا كان هذا الفيروس عاملًا نحو الوحدة والتكامل أم نحو التفكُّك والتفرُّق، وما إذا كانت الدول ستُعيد حساباتها فيما يتعلق بتحالفاتها. الجزم في الإجابة على هذا السؤال ما زال صعبًا، إلا أنه يمكن القول باحتمالية انفراط عقد التشكيلات الدولية والإقليمية، وبتغيُّرات في التوازنات العالمية، وربما بحركة مضادة للعولمة، استنادًا إلى عوامل يُمثِّل الأمن الصحي والأمن البشري المحددات الأولى لها.

على المستوى الجيوسياسي، لن تؤدي أزمة فيروس كوفيد-19 إلى بروز قوة عظمى رائدة في اتباع سياسة أمنية جيدة، ويبدو أنه لن تخرج أي من الدول معافاة بشكل مطلق من هذا المأزق العالمي. على المدى القصير على الأقل، ظهر انكفاء اللاعبين الدوليين على أنفسهم، وأصبحت السياسات الانعزالية أكثر رواجًا، فقد كشفت الأزمة نقاط ضعف العولمة، كما أنها ستؤدي إلى إعادة التفكير في بعض أبرز سماتها، مثل: انتشار الطيران والكثافة الحضرية، والاعتماد على المعونات والإمدادات الدولية، والانتشار غير المنضبط للمعلومات الخاطئة(31). ويُمكن لأزمة كوفيد-19 أن تُعزِّز موقف أولئك الذين يرون في البلدان المتقدمة، والعولمة الاقتصادية، وتحرير التجارة والاستثمار، تهديدات غير مقبولة لسيادة دولتهم. وسرعان ما امتدت صدمة كوفيد-19 إلى الاقتصاد العالمي، مما أدى إلى انخفاضٍ كبير في النشاط الاقتصادي، بسبب ممارسات التباعد الاجتماعي وعمليات الإغلاق التي تفرضها الحكومة والقيود الأخرى على التنقل والحركة(32)، فمثلًا، شهد العالم انخفاضًا في حركة التجارة في البضائع، لاسيما في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، كما يبيِّنه الشكل رقم (1).

الشكل (1): انخفاض حركة التجارة في البضائع بدول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية خلال أزمة كوفيد-19(33)

11

وكذلك عرفت قيمة الاستثمار الأجنبي المباشر انخفاضًا في دول المنظمة نفسها، كما يوضح الشكل رقم (2).

الشكل (2): انخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية(34)

22

وعلى الصعيد الدولي، تواجه المؤسسات والمنظمات الدولية صعوبات جمة في إثبات فعاليتها أمام موجة من الانتقادات اللاذعة التي طالتها، بعدما تبيَّن أنها باتت تقل أهمية بشكل متزايد أمام جائحة كوفيد-19؛ فقد استجاب مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بطريقة غير فعالة، بينما أصبحت منظمة الصحة العالمية مادة للسخرية، فألقى الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، باللوم عليها نظرًا "لسوء إدارة انتشار فيروس كورونا"(35) ، وحذَّر من أن الولايات المتحدة ستُنهي مساهمتها السنوية للمنظمة وتنسحب منها، وهو ما فعله(36)، كما طُعِنَ بشدة في مصداقية المنظمة وتبعيتها(37).

وهنا، يُطرح سؤال أمام أولويات الدول والحكومات في التعامل مع المؤسسات الدولية، فبينما يُلحَظ التناقض بين استجابة النخب النشطة لبعض الاضطرابات السياسية، مثل الاستجابات السريعة لمؤسسات النقد العالمية، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي في بعض الدول التي تُعاني من مشكلات اقتصادية، كما حدث بشكل جلي مع اليونان(38) وغيرها من الدول، فإن هذه النخب والمؤسسات والدول أذعنت بشكلٍ متزايد للتفاوتات الاجتماعية والأضرار البيئية مثلما حدث مع انسحاب رؤساء الولايات المتحدة من بروتوكولات بيئية عالمية، وهو ما فعله الرئيس جورج بوش مع بروتوكول "كيوتو" بشأن تغيُّر المناخ، والرئيس دونالد ترامب مع اتفاقية باريس للمناخ(39).

ورغم اختلاف حدة ردود الفعل تجاه المؤسسات والمنظمات الدولية، فالمؤكد أن الجائحة أثرت سلبًا على العلاقات الإقليمية والدولية، ومثَّلت جرس تذكير للدول بعمق ترابطها واحتياجاتها المتبادلة، وهو ما قد يؤدي مستقبلًا إلى ردِّ فعل عكسي وميل نحو تعزيز الجهود الأحادية. وقد صدرت عدة تصريحات عن مسؤولي الدول، خاصة من الدول الأوروبية التي عانت بشدة تداعيات الجائحة. فعلى سبيل المثال، نفى الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش وجود تضامن أوروبي، معتبرا إياه "قصة خيالية"(40). من جانب آخر، حذَّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من انهيار الاتحاد الأوروبي "كمشروع سياسي" ما لم يدعم الاقتصادات المدمرة ويساعدها على التعافي من الجائحة(41). في النمسا، نُقِلَ عن المستشار سيباستيان كورتز قوله: "بعد أن تنتهي الأزمة، ستكون هناك قرارات صعبة داخل الاتحاد الأوروبي"(42). وبذلك، فإن الاتحاد منقسم ومُخيِّب للآمال، ودوله الأعضاء لم تكن قادرة على تقديم المساعدة لجيرانها الذين يتشاركون معهم قيمًا كثيرة، كما فشل قادته في توظيف معرفتهم وخبراتهم في إعداد خطط لمكافحة الجائحة.

جدير بالذكر هنا أن دراسة تجربة انتشار فيروس إيبولا في غرب إفريقيا خلال العام 2014 مفيدة في هذا المجال، حيث كان أحد العوامل التي أسهمت في نجاح احتواء تفشيه هو تماسك العلاقات الدولية والدبلوماسية، جنبًا إلى جنب مع الدعم العسكري. إلا أن هذا ليس هو الحال مع كوفيد-19، فمن الواضح أن للجيش دورًا لوجيستيًّا، ولكن غالبًا ما تكون القوة الناعمة والعلاقات الدولية فعالة بقدر فعالية القوة الصلبة عندما يتعلق الأمر بالأمن الصحي، أو عندما تُقدَّم المساعدات العسكرية والدبلوماسية الإنسانية كشكل من أشكال القوة الذكية(43). فكانت إحدى المفارقات خلال أزمة كوفيد-19 أن دولا أوروبية، مثل هولندا وسلوفاكيا وإسبانيا والتشيك وإيطاليا، استغاثت بالصين لمساعدتها على مواجهة تفشي المرض، بعدما خذلتهم دول الاتحاد الأوروبي الأخرى(44). إن حقيقة أنه كان عليهم أن يطلبوا المساعدة من دولة مثل الصين، خصمهم في الأمن والسياسة، بل وأنهم تلقوا المساعدة التي طلبوها على الفور، يعكس مدى اليأس الذي وصلوا إليه. أما الصين فقد تعاملت مع الموجة الأولى من الجائحة بنجاح، مما مكَّنها -وسيُمكِّنها مستقبلا- من استخدام هذه التجربة لصالحها.

لقد اتخذت الصين المركز الأول فيما يتعلق بإعادة إنعاش الاقتصاد، وهي تقود الأبحاث الطبية ذات الصلة بالأزمة. وقد استخدمت بالفعل هذه الميزة للدعاية خارجيًّا بطريقة ذكية لتعزيز مكانتها السياسية. ويمكن للصين الاستفادة من الضعف الاقتصادي والمالي للدول المتضررة لخلق تبعيات، ليس فقط في إفريقيا ولكن أيضًا في أوروبا، عبر مساعداتها الإنسانية ودعمها للبنية التحتية الاستراتيجية(45)، خاصة مع زيادة الطلب على مواردها. وفي ظل عدم وجود معلومات، يبدو أن الصين تتعامل مع الأزمة بشكل فعال، بعد إعلانها عن انتشار المرض متأخرًا والصمت حيال ذلك. ويبدو أن أساليب المراقبة والقمع قد أظهرت فعاليتها، على الرغم من أنها كانت مكلفة للاقتصاد. وبذلك، قد يكون النموذج الصيني "للرأسمالية الأوتوقراطية/ المستبدة" جذابًا لبعض الدول الأخرى، ولكن قد يكون من الصعب جدًّا تنفيذه. ولكن، حتى من دون اتباع النموذج الصيني، فقد اختُبِرَ حلُّ مراقبة المواطنين والحدِّ من حريتهم في التنقل(46).

وبينما يقلص الغرب مشاركته التنموية على مستوى العالم، قد تستطيع الصين أن تملأ هذه الفجوة السياسية والاقتصادية. وهناك ما يُشير إلى وجود جانب آخر من العمل لمكافحة الفيروس يتعلق بالسياسة الأمنية، فخلال أزمة الفيروس التاجي، بدأت فنزويلا وكولومبيا استكشاف إمكانيات التعاون في مكافحة الوباء من خلال منظمة الصحة للبلدان الأميركية. وفي ليبيا، شرع الفاعلون الدوليون في مفاوضات للتوصل إلى وقف إطلاق النار بسبب كوفيد-19، كما شهدنا دعم كل من الإمارات وقطر والكويت لإيران بالمساعدات الطبية. أما في الفلبين، فقد أمر الرئيس رودريغو دوتيرتي بوقف إطلاق النار لمدة شهر واحد في القتال ضد المتمردين الشيوعيين، للسماح للقوات المسلحة بالتركيز على محاربة الفيروس. وحتى الولايات المتحدة، ورغم سنوات من الصراع مع روسيا، فإنها أرسلت المساعدات الإنسانية إلى منطقة أبخازيا(47).

لقد أثبتت أزمة كوفيد-19 أن عزلة الدولة غير ممكنة، بل ومكلفة، فالاضطرابات ذات الصلة بالتجارة، مثل إغلاق الموانئ والمطارات، قد تمنع أيضًا الإمدادات الحيوية من الوصول إلى الأماكن التي تحتاج إلى المساعدة. ومن ثم، فإن مثل هذه الحلول قد تؤدي إلى عواقب اقتصادية خطيرة على المستوى العالمي، وكذلك بالنسبة للبلدان التي تعتمد على التجارة أو تعتمد بشكل كبير على السياحة كمصدر للدخل القومي، على الرغم من أن الفوائد البيئية قد تكون أكبر من الفوائد للدول(48).

ومن جانب آخر، ربما يصبح مدى جهوزية الدولة واستعدادها صحيًّا معيارًا لمدى قوتها وموقعها على الساحة الدولية، ومحددًا لدرجة أمنها وأمن شعبها. وبينما قد تصحّ مفارقة أن جائحة كوفيد-19 تُمثِّل أزمة عالمية لا تعترف بالحدود الوطنية، قد تُسهم أيضا في تعزيز السيادة الوطنية وتُجبر الدول على الاكتفاء ذاتيًّا، فالتأثير المتباين لكوفيد-19 على المجتمعات والمناطق والبلدان ألهم نقاشًا أوسع حول كيفية زيادة المرونة وكيفية الاستعداد بشكل أفضل للصدمات الصحية(49)، بينما اتخذت كثير من الدول، منها أعضاء في منظمة التجارة العالمية، قرارًا بإغلاق الحدود وفرض قيود على السفر لاحتواء انتشار الجائحة. ولم يكن هذا الإغلاق مدفوعًا باعتبارات تجارية، ولكن لأسباب تتعلق بالصحة العامة. ومع ذلك، فقد كان له تأثير كبير على قطاعات التجارة والسياحة والتعليم(50)، وهو ما يتطلب من الدول مستقبلًا قوة للحد من هذه التأثيرات واتباع إجراءات محلية بديلة تُعزِّز اكتفاءها ذاتيًّا.

3. في أولوية الصحة: من يوفر الأمن؟

إن العلاقة بين الأمن والصحة ليست نتاج مصادفة، بل إنها تعكس تحوّلات سياقية بدأت منذ التسعينيات وتمتد حتى اليوم. وهناك بعض الأسباب التي يمكن أن تُبيِّن حجم الارتباط بين الصحة والأمن البشري:

أولًا: تعكس الحروب الجديدة والأمراض الوبائية والنتائج الصحية للفقر؛ إما الهشاشة في ظل العولمة، أو الاعتراف بالأوجه اليومية لانعدام الأمن التي تواجهها الشعوب المهمشة. فقد تحدَّت التحوّلاتُ السياقية الطرائقَ والآليات التقليدية للاستجابة للعديد من حالات انعدام الأمن، وبرز الأمن البشري والصحي مدفوعًا بهذه التحولات الجديدة.

ثانيًا: يبدأ الأمن البشري من منظور يتمحور حول الفرد والناس، ويولِّد مجموعة من الأولويات المختلفة عن تلك التي لدى الأمن القومي المتمحور حول الدولة. كما لا يمكن تلبية الاحتياجات الأمنية للنازحين داخليًّا أو للفقراء أو المعرضين لخطر كبير للإصابة بالأمراض الوبائية من خلال الفهم التقليدي للأمن والتنمية، ولا يمكن للحماية العسكرية للحدود الوطنية أن تفعل الكثير لحماية الناس من العديد من التهديدات الصحية الجديدة. ويمكن لنموذج جديد محوره الأفراد، بما له من تداعيات على السياسات، أن يُكمِّل ويُعزِّز أمن الدولة لحماية الناس في عالم مترابط وغير مستقر.

ثالثًا: يساعد الأمن البشري في التعرُّف على عمق الأزمات الصحية وتأثيرها الممتد، فعمقها يتمثَّل في أن الصراعات والأوبئة والأمراض تولِّد اضطرابات اقتصادية واجتماعية وسياسية عميقة، بينما تكون المؤسسات الاجتماعية، بما فيها الحكومات والخدمات الصحية، مُعطِّلة بشدة. علاوة على ذلك، يجب أن تتعامل السياسات والإجراءات الصحية مع حالات الطوارئ ومع الأزمات الممتدة. وفي كثير من الأحيان، تؤكد الروابط بين الصحة وانعدام الأمن البشري ضعفَ قطاع الصحة العامة والخدمات العلاجية في معظم البلدان، الغنية منها والفقيرة على حدٍّ سواء.

أخيرًا، يُجسد الأمن البشري الشمولية التي يجب أن يواجه بها قطاع الصحة العديد من التحديات الناشئة، فلم يعُد بإمكان الفاعلين في مجال الصحة التصرف بمفردهم دون التنسيق مع العديد من الجهات الفاعلة الأخرى المعنية. كما أن السيطرة على الأوبئة باتت غير ممكنة بدون المراقبة والسيطرة والاستجابة للتجارة الدولية والهجرة والتحركات العالمية. وعليه، يجب أن يكون مفهوم الأمن البشري شاملًا، وغير مقتصر على قطاع صغير أو مجال ضيق أو أفراد بأعينهم(51).

إذًا، تُشكِّل الأمراض الوبائية تهديدًا لأمن الإنسان لكونها تمتلك القدرة على التأثير في الأفراد وقدرتهم على متابعة العيش بحرية وسعادة. وبالتالي، هناك علاقة بين الأمراض الوبائية والأمن المحلي، حيث يمكن أن تؤثر الأمراض على الأفراد وتُضعف ثقتهم بقدرة الحكومة على الاستجابة. كما أن لها تأثيرًا اقتصاديًّا حادًّا، وتُقوِّض النظام الاجتماعي للدولة، وتُحفِّز على عدم الاستقرار على المستوى الإقليمي، وتُشكِّل تهديدًا استراتيجيًّا من خلال احتمال تطوُّرها إلى حرب بيولوجية(52). لذا، من المهم الاستفادة من تجارب التعامل مع أزمة كوفيد-19 على المستوى الوطني للاستفادة مستقبلًا في وضع استراتيجيات وخطط أكثر كفاءة في التعامل مع الأوبئة، حيث أثبتت الجائحة أن الانطلاق من التجربة أساسي في تمكين الدول والأفراد من مجابهة التهديدات الصحية، وأن التنظير لم يعد ممكنًا في ضوء عدم الاكتراث بالصحة كأولوية من أولويات الأمن.

وقد كشفت أزمة كوفيد-19 وسُبُل التعاطي معها نهجًا جديدًا في التعامل مع الأمراض والأوبئة بشكل غير مسبوق وإلى حدٍّ جلي، وهو نهج "الأمننة" الذي اعتبر الجائحة مُهدِّدًا ينبغي مجابهته أمنيًّا وتغليب الفكر الأمني على التعاطي معه، وهي ممارسة استطرادية يتم عبرها تفسير القضايا اجتماعيًّا وسياسيًّا على أنها تهديدات من خلال "أمننتها" والتفاوض مع الجمهور على اعتماد تدابير استثنائية. وكذلك، يُؤمِّن إضفاء الطابع الأمني على قضايا صحية محددة تسلسلًا هرميًّا للأمراض لا يعتمد على الوفيات والأمراض المرتبطة بها، بل على مستوى الخوف تجاهه، مما يتسبب في بعض التناقض بين السياسات المعمول بها والتهديد الحقيقي(53).

لقد تعاملت دول كثيرة مع فيروس كوفيد-19، خاصة في بداية الانتشار وأوقات الذروة، كحالة أمنية تستدعي تدخلًا من السلطات العامة للحد من آثاره وعواقبه، فسنَّت له العديد من الدول قوانين، واتخذت إجراءات لوضع حدٍّ لانتشاره، من بينها العزل الصحي وحظر التجوال والإغلاقات العامة، وهي إجراءات قلما تُتَّخذ للتعامل مع أزمات غير أمنية. كما رفعت الدولة جهوزية مختلف قطاعاتها، بما فيها على وجه التحديد، القطاعات الأمنية، فشددت الرقابة على الأفراد المخالفين للقوانين المسنونة بشأن الجائحة، وعومِلت الدول التي عرفت انتشارًا كبيرًا للفيروس على أنها خطيرة وقد تجلب التهديد للدولة، فحُظِرَ السفر منها وإليها، فبدا الفيروس كأنه ظاهرة تُهدِّد جميع المكونات البشرية والفردية والقومية، مثل المخدّرات أو الإرهاب.

وقد أشادت منظمة الصحة العالمية في تقرير أصدرته في يوليو/تموز 2020 بطريقة استجابة دولة تايلند إزاء جائحة كوفيد-19، وبمدى فعاليتها ونجاحها في الوقاية والسيطرة عليها، وذلك في العديد من الركائز الأساسية، بما في ذلك الكشف في الوقت المناسب عن الحالات والإبلاغ عنها، وتشكيل هيئة حكومية متكاملة وكاملة النهج، وإشراك المجتمع، بما في ذلك القطاع الخاص، ومراقبة المسافرين في مرافق الحجر الصحي، وتمكين البنية التحتية للصحة العامة، وتوفير المتطوعين الصحيين وأكثر من ألف فرد في فريق للتحقيق في الجائحة، بالإضافة إلى التواصل الفعال، ووضع مجموعة متنوعة من قنوات الاتصال لتشجيع وقياس الامتثال للإجراءات، فضلًا عن زيادة قدرات وإمدادات مرافق الرعاية الصحية(54). وقد فُعِّلَت آليات إدارة طوارئ الصحة العامة في تايلند من خلال إشراك مختلف الوزارات الحكومية المعنية والقطاع الخاص لتوفير إدارة متأهبة ومستعدة لمواجهة الفيروس، واستُخدِم نهج إشراك المجتمع بأكمله. وقد جاءت هذه الخبرة من تعاملها مع فيروسي إنفلونزا الطيور والخنازير. وساعد المستوى غير المسبوق من التعاون بين القطاعين العام والخاص، خاصة مع المشافي الخاصة، في تمكين استجابة قوية ومتعددة القطاعات، فقد قدَّم القطاع الخاص موارد للحكومة، وكان تطبيق الهاتف المحمول "MorChana" أحد الأمثلة على هذا التعاون الناجح بين القطاعين العام والخاص. وقامت تايلند بإدارة السفر وحركة التنقل، فكثفت أنشطة المراقبة والاتصال، وقدَّمت فحوص الدخول والخروج، وتثقيف المسافرين، والعزل والحجر الصحي، كما اهتمت بالوقاية على متن وسائل النقل(55).

ويمكن الالتفات إلى تجربة دولة قطر في التعامل مع الأزمة، فعلى الرغم من ارتفاع عدد الإصابات مقارنة بتعداد السكان، فإنها أبقت على عدد وفيات منخفض، إلى جانب إجراءات صحية مشددة حوَّطت الفيروس. لقد وضعت دولة قطر خطة استجابة لفيروس كوفيد-19 حددت فيها مجموعة واضحة من الإجراءات المطلوبة لضمان حماية صحة ورفاهية وازدهار شعبها من خلال اتخاذ إجراءات للتحضير والمراقبة والاستجابة والتعافي. ووفرت هذه الخطة استراتيجية للتعاون والقيادة العابرة للحكومة، بحيث تكون كل إدارة حكومية مسؤولة عن الاستجابة للقطاع الذي تخدمه، مسترشدة بمجموعة الإرشادات والموارد التي طورتها وزارة الصحة العامة. وبالإضافة إلى ذلك، هناك عدد من الإجراءات ذات الأولوية التي تتحملها جميع هذه الإدارات الحكومية، وهي تقديم الدعم للقطاع الصحي في تنفيذ إجراءات الاستجابة، والحفاظ على توفير الخدمات الأساسية، وإشراك السكان ورفع وعيهم وفقًا لإجراءات الاستجابة، والحفاظ على ثقة السكان في الحكومة. فمثلًا، أُوكِلَت إلى وزارتي الداخلية والدفاع مسؤوليات إدارة الحدود وتوفير السلامة العامة والأمن وتنظيم مسائل دخول المواطنين والوافدين وحماية المرافق العامة والمهمة في الدولة. أما وزارة الخارجية فقد اضطلعت بمسؤوليات الاعتناء بالمواطنين الذين يعيشون في الخارج وإدارة العلاقات الدولية ومساعدة البلدان التي تُعاني من الأزمة وفقًا للأولويات. كما اتخذت كل من وزارة البلدية والبيئة ووزارة التنمية الإدارية والعمل والشؤون الاجتماعية وكذلك "أشغال" مسؤولية التنسيق مع جميع الجهات الحكومية لتخصيص المباني المناسبة للحجر الصحي. إلى جانب ذلك، اضطلعت وزارة البلدية والبيئة ومؤسسة حمد الطبية بمسؤولية الحفاظ على النظافة العامة ونظافة المباني ومواقف السيارات والحدائق، وما إلى ذلك(56). وفي قطر، عُمِل بقوانين الأمراض الوبائية والتدابير الوقائية، منها مثلًا القانون رقم 17 لسنة 1990، والذي بموجبه يواجه الأشخاص الذين لا يرتدون أقنعة خارج منازلهم عقوبات تصل إلى السجن ثلاث سنوات و/أو غرامة تبلغ قيمتها 200 ألف ريال قطري، وقد أحالت الشرطة عددًا من الأشخاص المخالفين إلى النيابة العامة(57). كما حظرت دولة قطر في بداية الأزمة جميع أشكال التجمعات بموجب القانون(58).

وفي المقابل، يمكن أن تعكس حالة إيران إلى حدٍّ كبير أبعادًا مختلفة لتحوُّلات النظام الأمني في ظل انتشار الجائحة، حيث تشهد البلاد أزمة اقتصادية حادة نظرًا إلى تنامي العقوبات الأميركية واتباع إدارة الرئيس دونالد ترامب سياسة الضغوطات القصوى تجاهها، مما جعل الثقة في النظام منخفضة للغاية، فاقمه النفي الرسمي لحجم الأزمة مع المعالجة غير الكفؤة من قِبَل النظام. يأتي ذلك على خلفية أزمة الوقود وإسقاط الطائرة الأوكرانية والتفجيرات التي شهدتها إيران منتصف العام 2020. ومع ذلك، فإن الخوف من العدوى يحدُّ من احتمالات اندلاع الاحتجاجات، ويوفر للنظام درعًا مؤقتًا على الأقل ضد المظاهرات الجماهيرية(59).

في العموم، مثَّلت جائحة كوفيد-19 أزمة كبيرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فقدرة البلدان على التعامل معها محط تساؤل. فبينما أغلقت العديد من البلدان في هذه المنطقة المدارس والجامعات والمحال والمطاعم، وعلقت مباريات كرة القدم، وألغت الفعاليات الثقافية العالمية، وعلقت جميع الرحلات الجوية التجارية حتى إشعار آخر، فرضت حظرًا على سفر المواطنين إلى دول معينة لوقف انتشار الفيروس، وألغت الصلوات في المساجد والمناسبات والأماكن الدينية، وبشكل أساسي الحرم المكي ومناسك الحج والعمرة(60)، إلا أنها غير مستعدة للتعامل مع الفيروس في ظل تفشيه كارثيًّا وسط ملايين الأشخاص المتضررين من الحروب واللجوء في أماكن مثل: سوريا واليمن وليبيا والعراق؛ إذ إن أنظمة الرعاية الصحية في هذه البلدان في حالة من الفوضى، ولن تتمكَّن أي بنية تحتية للرعاية الصحية وموظفيها الطبيين من التعامل مع جائحة واسعة النطاق. ومن غير الواضح أيضا كيف سيتم التعامل معها في مخيمات اللاجئين المكتظة، مثل مخيم الزعتري في الأردن، الذي يضم حوالي 80 ألف شخص(61).

من الناحية السياسية، تتصاعد التوترات الدولية إذا ألقت الدول اللوم على بعضها البعض بسبب انتشار الجائحة. وبالمثل، يمكن للقادة السياسيين الذين يصابون بالعدوى تعطيل عملية صنع القرار السياسي، مع زيادة عدم اليقين بشأن قدرات القادة داخل بلادهم، مثلما جرى مع القيادة الإيرانية. وبنفس الطريقة، يمكن للأفراد العسكريين المصابين أن يُثيروا الشك في مدى استعداد القوات والفعالية القتالية. مثلًا، أدى ظهور الجائحة على متن حاملة الطائرات الأميركية "ثيودور روزفلت" إلى شلِّ قدرتها التشغيلية، حيث ثبتت إصابة 840 من أفراد الطاقم البالغ عددهم 5 آلاف فرد. على المستوى المحلي، يمكن أن يؤدي عدم قدرة الدول القومية على الحد من الجائحة بشكل فعال؛ إلى التصور بأن النظام الحاكم غير فعال أو غير قادر على مواجهة التحديات، وهذا ما جرى في الأزمة الصحية جراء تفشي فيروس إيبولا في غرب إفريقيا، حيث أدت القدرة المحدودة للحكومات الثلاث في غينيا وسيراليون وليبيريا على احتواء الجائحة إلى أعمال عنف واحتجاجات، مما تطلب في النهاية تدخلًا خارجيًّا للمساعدة في احتواء عدم الاستقرار المتصاعد في البلدان الثلاثة(62).

من جانب آخر، برز دور اللاعبين غير الحكوميين (None State Actors) في مكافحة فيروس كوفيد-19 في بعض الدول، ففي بعض الأماكن التي كانت فيها شرعية الحكومة ضعيفة، أدى هؤلاء اللاعبون، مثل الجماعات المسلحة المتمردة والجماعات الإرهابية وكارتلات المخدرات والعصابات، دورًا رئيسيًّا في توزيع حزم المساعدات الاقتصادية، ورفع مستوى التثقيف الصحي وعزل الناس. مثلًا، ذكرت صحيفة "واشنطن بوست" أن "حركة طالبان في أفغانستان أرسلت مواد الرعاية الصحية إلى الولايات النائية لمواجهة فيروس كورونا. وفي المكسيك، قدَّمت عصابات المخدرات حزم مساعدات لأولئك الذين تأثروا اقتصاديًّا. أما في البرازيل والسلفادور، فإن العصابات تفرض حظر التجوُّل لمنع انتشار الفيروس". وفي سوريا، "استخدمت هيئة تحرير الشام الفيروس لتلميع نفسها كهيئة تمتلك الشرعية للحكم، وأصدرت أوامر بتقييد التجمعات وتوزيع المعلومات الصحية على العامة". ووصفت الصحيفة أنشطة هذه المجموعات بأنها "عالم سفلي موازٍ لسياسة الصحة العامة"(63).

كذلك في المملكة المتحدة، تضافرت جهود مجموعات المساعدة المتبادلة المحلية والحركات التقدمية، وهي مجموعات صغيرة تُساعد عمال الخطوط الأمامية والأشخاص المستضعفين، على تقديم المساعدة إلى أولئك الذين لم تستطع الحكومة أن تساعدهم(64). وبالتالي فإن هؤلاء الفاعلين أمَّنوا -بشكل أو بآخر- ما لم تستطع الدولة تأمينه أو الحصول عليه من الخارج. وفي دول أخرى، أثبتت الأزمة أن المشافي العامة كانت أكثر قدرة على مكافحة كوفيد-19 من المشافي الخاصة، فقد ناشدت قطاعات مختلفة الحكومات اتخاذ إجراءات جماعية لمكافحة كوفيد-19، وهو ما قد يؤدي إلى إعادة تنشيط دور الدولة القومية.

ولا تتساوى مختلف قطاعات الدولة في تحمُّل عواقب تفشي الأمراض والأوبئة في جميع مجالات الاقتصاد، فقد تستفيد بعض القطاعات ماليًّا، بينما يُعاني البعض الآخر بشكل غير متناسب. ولعل شركات الأدوية التي تُنتج اللقاحات أو المضادات الحيوية أو غيرها من المنتجات اللازمة للاستجابة هي الأكثر استفادة، بينما من المرجح أن تتحمَّل شركات التأمين الصحي والتأمين على الحياة تكاليف باهظة، على الأقل على المدى القصير. ومن المرجح أن يُعاني السكان الضعفاء، ولاسيما الفقراء منهم، بشكل غير متناسب، إذ قد يمتلكون وصولًا أقل إلى الرعاية الصحية، ومدخرات أقل للحماية من الكوارث المالية(65). وبالتالي، فإنه إلى جانب التكاليف البشرية للجائحة، سيكون تأثيرها على الدولة، وفي منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بشكلٍ خاص، محسوسًا أولًا وقبل كل شيء في المجال الاقتصادي، حيث تتعثر أسواق رؤوس المال، وتنتفي السياحة وسط حظر الرحلات الجوية وانكماش أسعار النفط(66).

وقد أبرزت تجارب التعامل مع الفيروس أنه يجب أن لا تُعالج حالة الطوارئ في ظل أزمة كوفيد-19 من خلال مقاربة مركزية، أي "من أعلى إلى أسفل" من خلال الحكومة ووزارتي المالية والصحة فقط، حيث برزت الحاجة إلى مزيد من القيادة اللامركزية التي تستلزم تشارُك الوزارات الحكومية بشكل أكبر في إدارة حالة الطوارئ وفي عمليات صنع القرار الوطني(67). لقد أبرزت التحديات الحاجة إلى تعاون مختلف مؤسسات الدولة لمواجهة الجائحة، وظهر جليًّا دور الجيش ببعض الدول في فرض النظام الأمني، وبالتالي برزت الحاجة إلى الحفاظ على جاهزية الجنود وصحتهم، بحيث يتمكَّنون من مواجهة التحديات الأمنية ودعم النظام المدني الذي يُفترَض أنه سيحتاج إلى المساعدة مع استمرار الأزمة. وبالرغم من أن المطالبة بضرورة مشاركة أدوات النظام الأمني ​​في الجهود المدنية ضد تفشي كوفيد-19 ضروري، فإن المدة غير المعروفة للجائحة، والمرجح أن تكون طويلة نسبيًّا، قد تُحوِّل المؤسسات عن مهامها الأساسية، بما يتطلب موازنة معقدة تأخذ في الاعتبار أيضًا حاجة المؤسسات الأمنية إلى الحفاظ على لياقتها طوال فترة الجائحة(68).

ومن ذلك، يظهر جليًّا أن التشاركية والتعاون بين مختلف مؤسسات الدولة وقطاعاتها أمر أساسي في مكافحة الفيروس، فلا يكتمل دور المؤسسات الأمنية التي زادت أعباؤها والأخطار المحدقة بها إلا مع جهوزية المؤسسات الأخرى واستعدادها للتعاون وأداء المهمات ودعم القطاع الأمني في الحد من انتشار الجائحة. كما يظهر أن اتباع نهج رأسي بات أمرًا عسيرًا في ظل الأزمة، وهو ما يُحتِّم اللجوء إلى نهج أُفُقي تُوزَّع من خلاله المهام على مختلف القطاعات حتى لا تتحمَّل القوى الأمنية المسؤولية الكاملة، وهو ما قد يُعرِّضها مستقبلًا إلى اتهامات بتجاوز حدود سلطتها، وبالتالي فإن تعاون المؤسسات والأفراد أثبت محوريته في التعامل مع أزمة كوفيد-19.

4. التقنيات في مواجهة الجائحة: تجارب عملية

على مدى العقد الماضي، انتقلت البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل نحو نُظُم المعلومات الرقمية واستخدام تقنيات جديدة لجمع البيانات، وهو ما أتاح استيعاب المزيد من التقنيات الرقمية لدعم الأمن الصحي العالمي للبلدان ومنع تفشي الأمراض. وقد استدعت سياسات الوصول إلى البيانات والأمن أن تُحدد اتفاقيات مشاركة البيانات شروطها، مع الحفاظ على السيادة وضمان حماية الخصوصية المتناسبة مع هياكل الحوكمة في مختلف البلدان. وتطرح هذه النُظُم الصحية الجديدة تحديات أمام الأمن الصحي، مثل: الحاجة إلى الحد من إساءة استخدام البيانات من خلال تدابير الأمن السيبراني، والتصدي للهجمات الإلكترونية أو حملات المعلومات المضللة(69).

وقد وضعت منظمة الصحة العالمية استراتيجية عالمية للصحة الرقمية عام 2019، وعرَّفت الصحة الرقمية على أنها "مجال المعرفة والممارسة المرتبط بأي جانب من جوانب اعتماد التقنيات الرقمية لتحسين الصحة، منذ البدء وحتى العمل بها"(70)، وهو تعريف يتجاوز المعنى البسيط لاستخدام التقنيات الرقمية في الصحة، حيث تصبح الصحة الرقمية أكثر شمولية وقدرة على تعزيز التنوُّع المطلوب لفهم الفئات المتعددة ووظائفها واحتياجاتها من حيث السياسات التي يجب اتباعها، وبالتالي فإنه يتلاقى مع مفاهيم الأمن التي من شأنها أن تضمن السلامة أمام انتشار الأوبئة.

قدَّم انتشار فيروس كوفيد-19 مفاهيم جديدة للاتصال في عالم اليوم، ففُتِحت قنوات خدماتية جديدة، وقدَّمت آفاقًا مستحدثة في قطاعات ومجالات متعددة، وأُدخِلت تقنيات جديدة في العمل والتعليم والصحة والجمارك وغيرها. فإلى جانب فرض إجراءات الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي، والاتجاه نحو العمل عن بُعد، اتجهت العديد من الدول إلى الحلول التقنية للسيطرة على جائحة كوفيد-19 والحد من آثارها، ومنها تطبيقات تتبُّع الاتصال، والروبوتات، والطائرات المسيّرة، والأقمار الصناعية، وكذلك كاميرات التصوير الحراري لقياس درجة حرارة الأشخاص في مناطق حركة السير عالية الكثافة، مثل المطارات ومراكز التسوق(71).

ربما تُمثِّل الصين أنموذجًا لكيفية توظيف التكنولوجيا ومساهمتها في مكافحة جائحة كوفيد-19 باستخدام تقنيات تكنولوجية متعددة. لقد شكَّلت الروبوتات في الصين جبهة الدفاع الأولى لمنع انتشار الفيروس، فقد استُخدمت في إعداد وجبات الطعام في المشافي، ونُدُلًا في المطاعم، وفي رش المطهرات وتوزيع معقمات اليد. كما قامت الروبوتات في العديد من المشافي بالتشخيص وإجراء التصوير الحراري، حتى إن هناك مستشفى في مدينة ووهان اعتمد بالكامل على الروبوتات، وخصص روبوتًا صغيرًا يسمى "Little Peanut" لتوصيل الطعام إلى مسافرين خضعوا للحجر الصحي في الفندق. واعتمدت شركة التجارة الإلكترونية الصينية العملاقة (JD) على الروبوتات لتوزيع المعدات الطبية في المشافي النائية بمدينة ووهان. كما استخدمت قوات الشرطة في منطقة رويتشانغ بمقاطعة جيانغشي، طائرات مسيّرة لمراقبة المناطق العامة المزدحمة، وجرت مراقبة بناء عشرات المشافي باستخدام كاميرات أقمار صناعية عالية الدقة لمراقبة الأرض، وبالاستفادة منها جمعت جامعة ووهان وحلَّلت مصادر بيانات متعددة وحددت المواقع الأنسب لبناء المشافي(72).

لقد وظفت الصين كل سلاح ممكن في ترسانتها التكنولوجية لمكافحة الجائحة، واستفادت في ذلك من شركات الاتصالات التي دعت إلى إرسال معلومات الأشخاص المخالطين لمصابين أو زاروا مناطق موبوءة. كما اعتمدت على تطبيقات تتبُّع الاتصال، حيث أُجبرَ مستخدمو مترو الأنفاق والقطارات على إظهار تطبيق مُثبت على الهاتف للتأكد من عدم مخالطة الراكب لشخص يُشتبه في إصابته. كما أطلقت شركة تملكها الدولة منصة تكشف الاتصال الوثيق وتُدعى "Close Contact Detector"، والتي تُغذِّيها الحكومة بمعلومات حركة المرور والسكك الحديدية والطيران، ومن خلالها تتمكَّن من تحديد موقع أي راكب وجد في مسافة أقل من 3 صفوف مع شخص مصاب أو مشتبه في إصابته(73).

واعتمدت كوريا الجنوبية على تطبيق للتأكد من الالتزام بالحجر الصحي الذاتي، حيث يسمح التطبيق للمسؤولين الحكوميين بتتبُّع موقع كل مريض يخضع للحجر، ويُنبِّههم في حالة حدوث أي خرق. واستخدمت سنغافورة تطبيق "TraceTogether" لتقدير المسافات بين المستخدمين ومدة لقائهم، بحيث يُطلب من الشخص الذي يُصاب بالعدوى، مشاركة سجل الاتصال الخاص به مع الهيئة الصحية، لضمان عزل المشتبه في إصابتهم(74). كما اعتمدت إيرلندا تطبيق "NearForm"، وأسكتلندا تطبيق "Protect-Scot". وأنشأت تايلند العديد من منصات التواصل بشأن مخاطر كوفيد-19 تحت اسم "Thai Roo Soo COVID"، وذلك عبر تطبيقات فيسبوك وتويتر وإنستغرام ولاين ويوتيوب وتيك توك، وهو ما سمح بمزيد من المحتوى التثقيفي الإبداعي والتفاعل مع السكان(75).

وفي قطر، ألزم مجلس الوزراء المواطنين والمقيمين في أبريل/نيسان 2020 بتثبيت تطبيق "احتراز" (EHTERAZ) على هواتفهم الذكية عند الخروج من المنزل لأي سبب كان، وأقرَّ عقوبة على غير الملتزمين بهذا القرار وفق القانون رقم (17) لسنة 1990 بشأن الوقاية من الأمراض المعدية، قد تصل إلى الحبس لمدة لا تتجاوز ثلاث سنوات وغرامة لا تزيد على 200 ألف ريال. و"احتراز" هو تطبيق تتبُّع اتصال يهدف إلى مراقبة انتشار فيروس كوفيد-19، ويُنبِّه المستخدمين في حال مخالطتهم لحالة مصابة به(76).

وثمة 45 دولة الآن، تمتلك أو تُخطط لابتكار تطبيقات بقصد الحد من جائحة كوفيد-19. ويُظهر الجدول رقم (1) عدد التطبيقات الخاصة بالجائحة حتى تاريخ 11 يونيو/حزيران 2020.

الجدول (1): تطبيقات خاصة بجائحة كوفيد-19(77)

م

نوع التطبيق

القطاع المالك
حكومي خاص مختلط
1 تتبُّع 30 18 6
2 تنبيه 1 0 0
3 تشخيص 10 2 1
4 حجر إجباري 10 1 0
5 معلومات 3 1 1
6 تقرير صحي 4 2 0

لقد منحت الحكومات صلاحيات استثنائية لتطبيقات تتبُّع الاتصال، سواء كانت حكومية أم خاصة، فمثلًا مكَّنتها الصين وكوريا الجنوبية وتايوان من الوصول إلى تفاصيل حساسة عن الأشخاص المصابين، بما في ذلك لقطات الدوائر التلفزيونية المغلقة ومعاملات بطاقات الائتمان وبيانات تحديد الموقع من شركات الاتصالات(78)، الأمر الذي يُثير أسئلة حول مدى ضمان خصوصية المستخدمين وضمان أمنهم السيبراني.

ورغم مساهمة تطبيقات تتبُّع الاتصال في الحد من آثار الجائحة في دول مثل الصين وكوريا الجنوبية، فإن منتقديها يرون أن ذلك جاء على حساب خصوصية المواطنين(79). كما أُثيرت شكوك كثيرة حول مدى فاعلية تطبيقات تتبُّع الاتصال للحد من تفشي الجائحة، بسبب تقدُّمها البطيء، وعدم ثقة المواطنين في شركات التكنولوجيا، وشحِّ الترويج اللازم لها(80). وأشارت بعض الأبحاث إلى أنه لا يمكن لهذه التطبيقات الإبطاء من انتشار جائحة كوفيد-19 إلا إذا استخدمها عدد كاف من السكان(81). وقد تفاءل البعض بتطبيقات تتبُّع الاتصال، وفي ذلك بنى باحثون في جامعة أكسفورد نموذجًا حاسوبيًّا يقترح أنه إذا استخدم 56% من مواطني المملكة المتحدة تطبيقات تتبُّع الاتصال، إلى جانب الإجراءات الأخرى، يمكن القضاء على الجائحة في البلاد(82). وحدد آخرون النسبة في 60% من السكان، الأمر الذي يُثير سؤالا مفاده: هل يجب أن يكون تثبيت تطبيقات تتبُّع الاتصال إلزاميًّا أم اختياريا؟ والإجابة بطبيعة الحال متروكة لكل مجتمع وفقًا لقيمه(83)، فمثلًا، أبدى 50-70% من المواطنين الألمان استعدادهم لتثبيت تطبيق تتبُّع جهة الاتصال إذا ضمنوا حماية خصوصيتهم(84). وفي هذا النقاش، نفت إحدى الدراسات وجود تعارض بين الدفاع عن الخصوصية ومجابهة جائحة كوفيد-19، ورأت أن هذه الإشكالية تُحلُّ بجعل تثبيت هذه التطبيقات طواعية، ولضمان ذلك، يجب كسب ثقة المواطنين بأن خصوصيتهم ليست على المحك(85).

وقد صنفت منظمة العفو الدولية بعض تطبيقات تتبُّع الاتصال على أنها تُمثِّل تهديدًا خطيرًا على حقوق الإنسان وخصوصية المستخدمين، من بينها تطبيق "BeAware Bahrain" في البحرين، و"Shlonik" في الكويت، و"Smittestopp" في النرويج، مقابل تطبيقات أخرى تراعي خصوصية المستخدمين كتلك المعتمدة في دول مثل فرنسا وآيسلندا، حيث تُحمَّل معلومات الاتصال بين المستخدمين فقط عندما يُقرِّرون ذلك طوعًا(86). وإلى جانب إشكالية الخصوصية، رُصِدَت العديد من الحالات التي فشلت فيها تطبيقات تتبُّع الاتصال في إخطار المستخدمين بمخالطتهم مصابين بفيروس كوفيد-19، أو إعطائهم إنذارات خاطئة(87)، فإشارة البلوتوث يمكن أن تُعطي نتائج إيجابية أو سلبية زائفة في الأماكن المغلقة، حيث يمكن أن يكون المرء على بُعد أمتارٍ قليلة من شخص مصاب ولا يكون مُعرَّضًا للخطر(88).

واقترحت منظمة الصحة العالمية لحلِّ إشكالية ثقة الجمهور في ضمان خصوصيتهم من قِبَل تطبيقات تتبُّع الاتصال الرقمية، إشراك الحكومات لجهات إشراف مناسبة على إدارتها، وفي ذلك أشركت سويسرا مثلًا المفوض الفيدرالي لحماية البيانات والمعلومات ولجنة الأخلاقيات الفيدرالية، وطلبت الحكومة الفرنسية المشورة من ثماني هيئات خبراء وطنية رفيعة المستوى(89). وفي الحالة الأوروبية، اقترح بعض المراقبين لحماية خصوصية مواطني الاتحاد الأوروبي، ضرورة التزام تطبيقات تتبُّع الاتصال بالقواعد والمبادئ الأساسية لقانون الاتحاد، لاسيما تلك المضمنة في اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR)، وكذلك الانتباه إلى عدم استخدام تطبيقات تتبُّع الاتصال لزرع بذور ثقافة مستقبلية للمراقبة المفرطة في مكان العمل(90). كما أوصت منظمة العفو الدولية بضرورة جعل تطبيقات تتبُّع الاتصال طوعية تمامًا، مع ضمان الحكومات مراعاتها لحقوق الإنسان.

ولعله من المبكر القول إن كان وضع الدول التي اتبعت أداة تقنية كإحدى وسائل مكافحة كوفيد-19 أفضل من الدول التي لم تتبع ذات الأداة أو أداة شبيهة، إلا أن نظرة سريعة على أداء الدول عامة تُفيد بأن تلك التي اتبعت هذه التقنيات وامتلكت بنية تحتية تقنية ومعلوماتية متماسكة، كانت الأقل تعرُّضًا لنتائج مأساوية بسبب تبعات الجائحة مقارنة بالدول الأخرى.

خاتمة

لقد أثبتت جائحة كورونا بروز المعضلة الأمنية كمسألة لا يمكن تجاوز إمكاناتها لمواجهة التحديات التي فرضتها التحوُّلات الجارية منذ تسعينيات القرن الماضي، فلا ينبغي أن تُطمَس أبعاد السياسة الأمنية عند تحليل التطوُّرات المحلية والإقليمية والدولية للجائحة. وبالتالي فإن الحديث عن المرحلة الراهنة أو المقبلة تستدعي تضمين المحور الأمني، إذ يُفترض أن تفتح جائحة كوفيد-19 فرصًا أمام السياسة الأمنية حيث يُعمل الآن بالإجراءات التي كانت تُعتبر سابقًا غير قابلة للتصوُّر، أو استثنائية، وهو ما يتطلَّب التعلُّم من الأزمة عبر إيلاء المزيد من الاهتمام الاستراتيجي للصحة والأمن العالميين في المستقبل بحيث يصبحان محور السياسات الخارجية والأمنية والعسكرية. وهُنا، تبرز أهمية الخبرة العلمية في الأزمات، حيث يجب التحقيق في أسباب ومظاهر تداعيات انتشار كوفيد-19 بدقة بكل الأساليب العلمية المتوفرة، كما يجب أن تُسخَّر الجامعات والمعاهد العلمية، وأن ينضم الخبراء والعلماء في مجال الصحة إلى الخبراء الأمنيين وصناع القرار.

وتشير النزاعات الناشئة في إطار الصحة والاقتصاد والسلامة والأمن إلى أنه يجب العثور على إجابات أخلاقية جديدة لهذه النزاعات. وكذلك، سيكون مفيدًا توعية الأفراد وتزويدهم بالمعلومات حول الجائحة وانتشارها، ومحاولة تجنب أمننتها على المستوى المحلي. ويتطلب إدراك الأزمة كذلك تبني استراتيجية متكاملة مُصمَّمة للحفاظ على مستوى معقول من الاستمرارية الوظيفية على المستويين المدني والوطني، والهدف ليس فقط الحفاظ على الحد الأدنى من نسيج الحياة، ولكن لاحقًا، بعد زوال التهديد، تسهيل عودة النظام وتعافيه بأسرع ما يمكن. وفقط عند صياغة وتنفيذ مثل هذه الاستراتيجية المتكاملة لتعزيز المرونة الوطنية، ستضمن الدولة حماية أفرادها وحماية حدودها من المهددات.

في النهاية، تُعد جائحة كوفيد-19 تحديًا عالميًّا يتطلب إجراءات عالمية وشاملة، حيث عبرت الجائحة مختلف مناحي الحياة ومختلف قطاعات الدولة ومؤسساتها وشتى قنوات التعاون الدولي، كما فتحت آفاقًا جديدة في مجالات الصحة والأمن والسياسة، وأجرت تحوُّلات شاملة على مستوى الاقتصاد والمجتمع، بالإضافة إلى إظهارها حقولًا جديدةً ينبغي التركيز على مدى إسهاماتها مستقبلًا، مثل الأمن السيبراني ودور الأدوات التقنية في مواجهة الأوبئة.

وبالتالي يجب على الدول أن تُبدي ما إذا كانت مستعدة وقادرة على التفكير والتصرُّف بطريقة شاملة. والأهم أنه يجب عدم الاستخفاف بالأزمات الصحية على قلَّتها، وعدم ارتكاب الخطأ نفسه مرة أخرى. ومهما كانت الحلول، فمن المرجح أن نهجًا ما كان ليكون أكثر فعالية في الماضي من النهج المتبع حاليًّا لاحتواء الجائحة. ومن المفارقات أنه من خلال العلاقات الدولية والاتصال والشفافية فقط يمكن تعزيز الصحة والأمن، حتى لو تطلبت هذه الدبلوماسية مناقشة غير محبذة للتدابير التي تزيد من عزل البلدان عن بعضها البعض لصالح الصحة العامة، وأحيانًا تُعزِّز الأمن والاستقرار الدوليين.

نشرت هذه الدراسة في العدد الحادي عشر من مجلة لباب، للاطلاع على العدد كاملًا (اضغط هنا)

نبذة عن الكاتب

مراجع

(1) لمتابعة مُباشِرة لعدد الإصابات والوفيات وحالات التعافي من فيروس كوفيد-19، انظر:

“COVID-19 Coronavirus Pandemic,” Worldometer, “accessed November 24, 2020”. https://bit.ly/3m4o9nT.

(2) “WHO declares Covid-19 outbreak a pandemic,” Pharmaceutical Technology, March 12, 2020, “accessed November 24, 2020”. https://bit.ly/370e3OC.

(3) Mahjoob Zweiri, “COVID-19 and the Future of the Global System: Shifting-Sands or Earthquake,” Center for Strategic Research & Antalya Diplomacy Forum, (2020): 162.

(4) François Fouinat, “A Comprehensive Framework for Human Security,” Conflict, Security & Development, Vol. 4, no. 3 (2004): 289.

(5) Segun Osisanya, “National Security versus Global Security,” United Nations, “accessed November 23, 2020”. https://bit.ly/3m1IASC.

(6) Lincoln Chen & Vasant Narasimhan, “Human Security and Global Health,” Journal of Human Development: A Multi-Disciplinary Journal for People-Centered Development, Vol. 4, no. 2 (2003): 182.

(7) Cristina Churruca Muguruza, “Human Security as a policy framework: Critics and Challenges,” Deusto Journal of Human Rights, Vol. 4 (2007): 15-16.

(8) “Resolution adopted by the General Assembly on 10 September 2012,” UN General Assembly, October 25, 2012, “accessed November 23, 2020”. https://bit.ly/36ZQohp.

(9) Evelien Weller, “Comprehensive Approach to Human Security,” Knowledge Platform Security and Rule of Law, (November 2014): 4.

(10) Ann Fitz-Gerald & Don Macnamara, Comprehensive Security Requires Comprehensive Structures: How Comprehensive Can We Get? (Ottawa: Canadian Defence & Foreign Affairs Institute and Canadian International Council, 2012), 4.

(11) Tomas Jermalavičius et al., Comprehensive Security and Integrated Defence: Challenges of implementing whole-of government and whole-of-society approaches (Tallinn: International Centre for Defence Studies, 2014), 5-10.

(12) Gary Cecchine & Melinda Moore, “Addressing a New Paradigm: Infectious Disease and National Security,” in Infectious Disease and National Security (RAND Corporation, 2006), 16.

(13) Human Security Now (New York: Commission on Human Security, 2003), 96-97.

(14) William Aldis, “Health Security as a Public Health Concept: A Critical Analysis,” Health Policy and Planning, Vol. 23 (2008): 370.

(15) Steve Hinchliffe & Nick Bingham, “People, Animals and Biosecurity in and Through Cities,” in S. Harris Ali & Roger Keil (eds.), Networked Disease: Emerging Infections in the Global City (Oxford: Blackwell Publishing Ltd., 2008), 214-228.

(16) Kathryn E. Bouskill & Elta Smith, “Global Health and Security: Threats and Opportunities,” Perspectives (December 2019): 3-8.

(17) للتوسع انظر:

Simon Szreter, “The Population Health Approach in Historical Perspective,” American Journal of Public Health, Vol. 93, no. 3 (March 2003): 429.

(18) للمزيد انظر:

Emma Rothschild, “What Is Security?,” Daedalus, Vol. 124, no. 3 (Summer 1995).

(19) انظر:

Richard A. Cash & Vasant Narasimhan, “Impediments to Global Surveillance of Infectious Diseases: Consequences of Open Reporting in a Global Economy,” Bulletin of the World Health Organization, Vol. 78, no. 11 (2000): 1358.

(20) Susan Peterson, “Epidemic Disease and National Security,” Security Studies, Vol. 12, no. 2 (December 2002): 45.

(21) للتوسع انظر:

Desmond Cohen, “The HIV Epidemic and Sustainable Human Development,” Issues Paper no. 29 (UNDP HIV and Development Programme, 1998); Channing Arndt & Jeffrey D. Lewis, “The Macro Implications of HIV/AIDS in South Africa,” Africa Region Working Paper Series, no. 9 (World Bank, Africa Region Public Expenditures Effectiveness Project, November 2000); “Modeling the Macroeconomic Effects of AIDS, with an Application to Tanzania,” The World Bank Economic Review, Vol. 7, no. 2 (1993).

(22) Andrew T. Price-Smith, The Health of Nations: Infectious Disease, Environmental Change, and Their Effects on National Security and Development (Cambridge: MIT Press, 2002).

(23) Jonathan B. Tucker, “The Biological Weapons Threat,” Current History, Vol. 96, no. 609 (April 1997): 167.

(24) Malcolm Dando, The New Biological Weapons: Threat, Proliferation, and Control (Boulder: Lynne Rienner, 2001).

(25) Human Security Now, 97-98.

(26) Muhanad Seloom, “National Security during the Covid-19 Pandemic,” Arab Center for Research & Policy Studies, (2020): 3-5.

(27) Brian Balmer, “Biological Warfare: The Threat in Historical Perspective,” Medicine, Conflict, and Survival, Vol. 18, no. 2 (2002): 120-137; Roger Roffey, Andres Tegnell & Fredrik Elgh, “Biological Warfare in a Historical Perspective,” Clinical Microbiology and Infection, Vol. 8, no. 8 (2002): 450-454.

(28) Clara E. Councell, “War and Infectious Disease,” Public Health Reports, Vol. 56, no. 12 (1941): 547-573; Mark Osborne Humphries, “Paths of Infection: The First World War and the Origins of the 1948 Influenza Pandemic,” War in History, Vol. 21, no. 1 (2013): 55-81.

(29) سيد أحمد قوجيلي، "جيوش وجراثيم: الأوبئة وأثرها في الفاعلية العسكرية"، 17 مارس/آذار 2021، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، (تاريخ الدخول: 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2021)، https://bit.ly/34rtNJq.

(30) Angela Ndinga-Muvumba & Robyn Pharaoh, “HIV/AIDS and Human Security in South Africa,” Centre for Conflict Resolution, (2006): 14.

(31) Itai Brun & Yael Gat, “The Corona Crisis and Israel’s National Security,” Institute for National Security Studies Insight, no. 1274 (2020): 2.

(32) Pol Antràs, “De-Globalisation? Global Value Chains in the Post-COVID-19 Age,” Harvard University, (November 11, 2020): 1, “accessed May 23, 2021”. https://bit.ly/3fesQe1.

(33) “Trade in goods,” OECD, “accessed May 23, 2021”. https://bit.ly/2RE9Ts5.

(34) “FDI flows,” OECD, “accessed May 23, 2021”. https://bit.ly/3fGDzgg.

(35) “Trump said the WHO played a role in 'covering up the spread of the coronavirus.' Here's what really happened,” Business Insider, April 17, 2020, “accessed November 23, 2020”. https://bit.ly/3nSrRBM.

(36) “Coronavirus: Trump moves to pull US out of World Health Organization,” BBC News, July 7, 2020, “accessed November 23, 2020”. https://bbc.in/33bLKvx.

(37) “Coronavirus: Trump accuses WHO of being a 'puppet of China',” BBC News, May 19, 2020, “accessed November 24, 2020” https://bbc.in/3ftHE6I.

(38) انظر:

Ronald Janssen, Greece and the IMF: Who Exactly is Being Saved? (Washington, D.C.: Center for Economic and Policy Research, 2009).

(39) Paris climate agreement, “The last time a US president dumped a global climate deal,” abcNews, June 1, 2017, “accessed January 24, 2020”. https://abcn.ws/3l0cTrh.

(40) “Serbian President Labels European Solidarity ‘Fairy Tale’, Says Only China Can Assist in Coronavirus Response,” National Review, March 16, 2020, “accessed November 23, 2020”. https://bit.ly/378j5ZE.

(41) “Macron warns of EU unravelling unless it embraces financial solidarity,” Financial Times, April 16, 2020, “accessed November 23, 2020”. https://on.ft.com/3pOr0nc.

(42) “Coronavirus crisis puts EU credibility on the line, says France,” Reuters, March 29, 2020, “accessed November 24, 2020”. https://bit.ly/35WnJdv.

(43) Sebastian Kevany et al., “The Nexus between the COVID-19 Pandemic, International Relations, and International Security,” Asia-Pacific Center for Security Studies (2020): 5-6.

(44) “Why China’s support to coronavirus-hit Europe stirs controversy,” Al Jazeera.com, April 6, 2020, “accessed November 24, 2020”. https://bit.ly/2V4BArX.

(45) Matthias Rogg, “COVID-19: The Pandemic and its Impact on Security Policy,” Prism, Vol. 8, no. 4 (2020): 59-60.

(46) Brun & Gat, “The Corona Crisis and Israel’s National Security,”: 3.

(47) Rogg, “COVID-19: The Pandemic and its Impact on Security Policy,”: 59-60.

(48) Kevany et al., “The Nexus between the COVID-19 Pandemic,”: 3.

(49) “The territorial impact of COVID-19: Managing the crisis across levels of government,” OECD, November 10, 2020, “accessed May 23, 2021”. https://bit.ly/3bPAIjR.

(50) “Cross-Border Mobility, COVID-19 and Global Trade,” World Trade Organization, August 25, 2020, “accessed May 23, 2021”. https://bit.ly/348woYL.

(51) Chen & Narasimhan, “Human Security and Global Health,”: 188-190.

(52) Cecchine & Moore, “Addressing a New Paradigm: Infectious Disease and National Security,”: 17.

(53) Salma Daoudi, “The War on COVID-19: The 9/11 of Health Security?,” Policy Center for the New South (April 2020), “accessed November 24, 2020”. https://bit.ly/34a1Gi4.

(54) “Joint Intra-Action Review of the Public Health Response to COVID-19 in Thailand,” World Health Organisations, (20-24 July 2020): 2.

(55) Ibid, 14-15-22.

(56) “COVID-19: Qatar National Response Action Plan,” Ministry of Public Health (March 2020), “accessed November 25, 2020”. https://bit.ly/33kcZE6.

(57) “Police press ahead with crackdown as COVID-19 rule violations continue in Qatar,” Qatar Tribune, November 15, 2020, “accessed on November 25, 2020”. https://bit.ly/39hwt02.

(58) “Coronavirus: Qatar bans all forms of gathering by law, confirmed cases at 481,” Al-Arabiya, March 21, 2020, “accessed November 25, 2020”. https://bit.ly/33j06dE.

(59) Brun & Gat, “The Corona Crisis and Israel’s National Security,”: 4.

(60) “The Middle East is already wracked by war. Now it must confront the coronavirus, too,” Washington Post, March 17, 2020, “accessed November 24, 2020”. https://wapo.st/3pYU4Z9.

(61) Saltanat Berdikeeva, “Impact of the Coronavirus on the Middle East and North Africa,” Inside Arabia, March 2, 2020, “accessed November 24, 2020”. https://bit.ly/372saTv.

(62) Kevany et al., “The Nexus between the COVID-19 Pandemic,”: 8.

(63) “Now joining the fight against coronavirus: The world’s armed rebels, drug cartels and gangs,” Washington Post, April 14, 2020, “accessed November 24, 2020”. https://wapo.st/33b563I.

(64) “Community aid groups set up across UK amid coronavirus crisis,” The Guardian, March 16, 2020, “accessed November 24, 2020”. https://bit.ly/3fvS31R.

(65) David E. Bloom, Daniel Cadarette & JP Sevilla, “Epidemics and Economics,” Finance and Development, Vol. 55, no. 2 (June 2018): 46-47.

(66) Mordechai Chaziza, “Coronavirus, China, and the Middle East,” in Efraim Karsh, The COVID-19 Crisis: Impact and Implications (Begin-Sadat Center for Strategic Studies, 2020), 196.

(67) Carmit Padan et al., “The Corona Epidemic: Systemic Challenges for Israel,” Institute for National Security Studies Insight, no. 1277 (2020): 3.

(68) Brun & Gat, “The Corona Crisis and Israel’s National Security,”: 5-6

(69) “Can Digital Health Help Stop the Next Epidemic?,” Center for Strategic and International Studies (October 2019): 1-4.

(70) “Global Strategy on Digital Health 2020-2024,” World Health Organisation (Draft, 26 March 2019), p. 2.

(71) Roderick Thomas & Hamish Laing, “Thermal cameras aren’t perfect, but they can help control the coronavirus pandemic,” The Conversation, July 31, 2020, “accessed November 25, 2020”. https://bit.ly/39gzpKg.

(72) Aditya Chaturvedi, “The China way: Use of technology to combat Covid-19,” Geospatial World, November 5, 2020, “accessed November 25, 2020”. https://bit.ly/362oKRw

(73) June Ko, “The Chinese government used technology to get a grip on coronavirus – and take control of its people,” Independent, April 14, 2020, “accessed November 25, 2020”. https://bit.ly/3q33tPp.

(74) Aída Ponce Del Castillo, “Covid-19 contact-tracing apps: how to prevent privacy from becoming the next victim,” ETUI Policy Brief, European Trade Union Institute no. 5 (2020): 2-3.

(75) “Joint Intra-Action Review of the Public Health Response to COVID-19 in Thailand,”: 17.

(76) "ما هو تطبيق احتراز (EHTERAZ)"، هيئة الرقابة الإدارية والشفافية، (ب.ت) (تاريخ الدخول: 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2020)، https://bit.ly/2JhlGYA.

(77) “Covid-19 Apps – Extended,” Public Tableau, June 11, 2020, “accessed November 25, 2020”. https://tabsoft.co/2J7b8M8.

(78) Mark Zastrow, “Coronavirus contact-tracing apps: can they slow the spread of COVID-19?,” Nature, May 19, 2020, “accessed November 25, 2020”. https://go.nature.com/39gkIXJ.

(79) Ryan Browne, “Why coronavirus contact-tracing apps aren’t yet the ‘game changer’ authorities hoped they’d be,” CNBC, June 3, 2020, “accessed November 25, 2020”. https://cnb.cx/3fzQAHP.

(80) Alejandro de la Garza, “Contact Tracing Apps Were Big Tech's Best Idea for Fighting COVID-19. Why Haven't They Helped?,” Time, November 10, 2020, “accessed November 24, 2020”. https://bit.ly/3q4eQqk.

(81) Zastrow, “Coronavirus contact-tracing apps,” op, cit.

(82) “Digital contact tracing can slow or even stop coronavirus transmission and ease us out of lockdown,” University of Oxford, April 16, 2020, “accessed November 24, 2020”. https://bit.ly/3nXTXLG.

(83) Cornelia Wels-Maug, “The struggle to create COVID-19 contact-tracing apps,” Healthcare in Europe, July 13, 2020, accessed November 24, 2020”. https://bit.ly/2V3rnME.

(84) Merle M Böhmer et al., “Investigation of a COVID-19 outbreak in Germany resulting from a single travel-associated primary case: a case series,” The Lancet, Vol. 20, no. 8 (2020): 920-928.

(85) Del Castillo, “Covid-19 contact-tracing apps,”, op, cit.

(86) “Bahrain, Kuwait and Norway contact tracing apps among most dangerous for privacy,” Amnesty International, July 16, 2020, “accessed November 24, 2020”. https://bit.ly/2V1Z415.

(87) Mary Beth Griggs, “A COVID tracing app misses the mark,” The Verge, November 7, 2020, “accessed November 24, 2020”. https://bit.ly/3nTMtta.

(88) Del Castillo, “Covid-19 contact-tracing apps,”, op, cit.

(89) Alessandro Blasimme & Effy Vayena, “What's next for COVID-19 apps? Governance and oversight,” Science, Vol. 370, no. 6518 (2020): 760-762.

(90) Del Castillo, “Covid-19 contact-tracing apps,”, op, cit.