قررت الجزائر قطع العلاقات مع المغرب، يوم الثلاثاء، 24 أغسطس/آب 2021، كما جاء في إعلان وزير الخارجية الجزائري، رمطان العمامرة. ومن الواضح أن إعلان العمامرة جاء تنفيذًا للبيان الصادر منذ أسبوع عن اجتماع المجلس الأعلى للأمن الجزائري الذي ترأَّسه الرئيس عبد المجيد تبون الذي طالب بإعادة النظر في العلاقات مع الرباط.
يبدو أن الجزائر تحتفظ لجارتها الغربية بكثير من الاستياء والانزعاج المتراكم الذي يعبِّر عنه بيان الخارجية الجزائرية بالعداء الموثَّق مذكِّرًا بحرب الرمال التي وقعت بين الجيشين المغربي والجزائري، في أكتوبر/تشرين الأول 1963، وهي أزمة، وإن كانت قديمة في تاريخها إلا أنها حاضرة ومؤثرة في الوجدان الجزائري الرسمي وصارت مع الزمن المخزون النفسي والتاريخي المؤسِّس للتقلبات والاضطرابات التي تعرفها العلاقة بين البلدين. وقد ذكَّر البيان الجزائري كذلك بالملف الصحراوي الذي ظل طيلة ما يناهز خمسة عقود بؤرة توتر حساسة تشعل فتيل الخلاف الثابت والمتجدد بين الرباط والجزائر.
التطورات الأخيرة: أسباب التأزيم ومظاهر الاختلاف
حدثت مؤخرًا تطورات مهمة وتَّرت العلاقة بين البلدين. على رأس هذه التطورات دعوة سفير المغرب الدائم لدى الأمم المتحدة، عمر هلال، منتصف يوليو/تموز 2021، خلال اجتماع دول عدم الانحياز إلى حق تقرير المصير لشعب القبائل في الدولة الجزائرية. وقد عمَّقت هذه الدعوة الهوَّة التي ما فتئت تفصل بين الدولتين، وكأن الرباط تقول على لسان سفيرها: إذا كنتم في الجزائر تطالبون بتقرير مصير الصحراويين الذين تعتبرهم الرباط مغاربة وترى أن أرض الصحراء الغربية جزءًا من الكيان المغربي فنحن في المقابل ندعو إلى فصل جزء من الجزائر عن دولته تحت ما يسمى عالميًّا بمبدأ حق تقرير المصير. في المقابل، ترفض الجزائر هذه المقارنة، وتدافع بأن حق الصحراويين في تقرير مصيرهم معترف به في الأمم المتحدة، وقد أنشأت له البعثة الأممية للاستفتاء في الصحراء الغربية، واعترف المغرب بها، وأجرى جولات تفاوضية مع البوليساريو التي تطالب باستقلال إقليم الصحراء الغربية، حسب التعريف الأممي.
وفي هذا السياق، ألقت الجزائر باللوم على المغرب واتهمته بدعم حركة استقلال منطقة القبائل التي تُعرف اختصارًا باسم "ماك" والمتأسسة بباريس، سنة 2001. وهذه حركة يقودها الجزائري فرحات مهنا ذو الحضور الملاحظ في المنصات الإعلامية المغربية، وقد صنَّفتها الجزائر مؤخرًا ضمن قائمة المنظمات الإرهابية. وتتهم الجزائر المغرب أيضًا بالتعاون مع حركة المعارضة (رشاد) التي تصفها السلطة بالمنظمة الإرهابية. وجاءت حرائق الغابات التي اندلعت، أوائل أغسطس/آب 2021، في الجزائر لتزيد الطين بلَّة؛ إذ تقول السلطات الجزائرية، إن حركة "ماك" كانت وراءها بل لمَّحت باتهام المغرب وإسرائيل بالوقوف وراء الحركة في تنفيذ هذه الحرائق.
من جهة ثانية، ظلَّت قراءة الجزائر لعملية التطبيع بين المغرب وإسرائيل في غاية الريبة، بل رأت فيها الجزائر استهدافًا خاصًّا لها، ففضلًا عن اتهام الجزائر للمغرب وإسرائيل بتشجيعهما معًا لحركة "ماك" فإن ملف التجسس المعروف إعلاميًّا ببرنامج بيغاسوس الإسرائيلي عمَّق الأزمة بين البلدين؛ حيث ترى الجزائر أن عمليات تجسس كثيفة تعرض لها مواطنون ومسؤولون جزائريون من قبل الأجهزة الاستخباراتية المغربية، وقد استعملت الرباط في ذلك، حسب تحقيق مجمع من وسائل الإعلام الدولية الكبرى، هذه التكنولوجيا الإسرائيلية، وهو ما نفته الحكومة المغربية واعتبرته ترويجًا للأكاذيب ومحاولة للنَّيْل من سمعة المغرب. وقد تضاعفت الحساسية الجزائرية من التقارب المغربي-الإسرائيلي حين اتهمت الجزائر، في 18 أغسطس/آب 2021، وزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة، بالرغبة في جرِّ إسرائيل إلى مغامرة خطيرة موجهة ضد الجزائر، وذلك بعد أن أعرب وزير الخارجية الإسرائيلي، يائير لابيد، وهو في زيارة للمغرب، عن قلق إسرائيل مما سماه دور الجزائر في المنطقة وتقاربها الكبير مع إيران. وهو ما ترى فيه الجزائر سابقة من نوعها؛ حيث وجَّه -لأول مرة منذ 1948- مسؤول إسرائيلي رسائل عدوانية من أراضي دولة عربية ضد دولة عربية أخرى مجاورة.
ومن جهة ثالثة، تنظر الجزائر بحساسية إلى مناورات "الأسد الإفريقي 2021"، التي نُظِّمت في المغرب، في يونيو/حزيران 2021، وشمل انتشارها منطقة المحبس بالصحراء الغربية ومناطق مغربية أخرى، وشاركت فيها تسع دول من بينها الولايات المتحدة التي اعترفت، في 10 ديسمبر/كانون الأول 2020، بسيادة المغرب على الإقليم الصحراوي، بل أعلن ترامب عن عزمه فتح قنصلية أميركية به.
وقد ظلت الجزائر تتهم الرباط بأنها تسعى إلى إجهاض الجهود الدولية تحت رعاية الأمم المتحدة وما قد ينبثق عنها من حلول متعلقة بالصراع في الصحراء الغربية.
كل هذه المحددات تسهم في فهم التطورات الأخيرة والتي على أساسها جرى قطع الجزائر علاقاتها مع المغرب، لكن للمغرب هو الآخر رؤيته الخاصة والتي تختلف كثيرًا في منطلقاتها عمَّا تراه الجارة الشرقية.
المغرب رؤية جديدة لسياقات قديمة
يسيطر المغرب على 80% من أراضي الصحراء الغربية، ويعرف هذا الجزء إعلاميًّا بـ"الصحراء المفيدة"؛ حيث توجد فيه المناجم الغنية للفوسفات والحديد وغيرهما، كما أنه يطل على المحيط الأطلسي عبر شاطئ من أغنى شواطئ العالم بالثروة السمكية. ويرى المغرب أن الصحراء جزء لا يتجزأ من أراضيه ولا يمانع في حصول الإقليم على حكم ذاتي على أن يظل تحت السيادة المغربية. ويعتبر المغرب أن وقوف الجزائر إلى جانب جبهة البوليساريو واستضافتها على أراضيه ونصرته لها في المحافل الدولية ليس سوى دعم لحركة انفصالية. لذلك، قد يكون الترويج الدبلوماسي والإعلامي لحركة "ماك" الجزائرية، ذات الوجه الانفصالي، نوع من المعاملة بالمثل، ومن هذا المنظور فإن كل طرف يشجع انفصاليي الطرف الآخر.
في بداية يونيو/حزيران 2021، أدلى الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، لمجلة "لوبوان" الفرنسية، بتصريحات أثارت حفيظة الرباط، خصوصًا أن تبون حذَّر من قيام المملكة بـ"الاعتداء على" جارتها. وقد رأى الإعلام المغربي المتناغم مع التوجهات الحكومية أن هدف تصريحات الرئيس تبون تجاه المغرب ليس سوى تشتيت الانتباه عمَّا يحدث داخل الجزائر.
ويُفهم من بعض المواقف الدبلوماسية والسياسية المغربية أن الرباط ترى أن الكثير من السياقات القديمة التي كانت تحكم علاقاتها بجارتها الشرقية قد جرى تجاوزها، فالمغرب دشَّن انطلاقة قوية داخل إفريقيا وحقق اختراقات اقتصادية قائمة على تشجيع التجارة البينية وتصدير المنتجات الزراعية المغربية إلى بعض دول إفريقيا الغربية عبر معبر الكركرات على الحدود الموريتانية، فضلًا عن تغطية الخطوط المغربية للكثير من الرحلات عبر إفريقيا. هذا، زيادة على تنامي النشاط المصرفي المغربي المتمثل في فروع مصرف التجاري بنك النشطة في إفريقيا والتي يسندها تطور ملحوظ لشركة اتصالات المغرب في العديد من البلدان الإفريقية. وترى الرباط أن كل هذا التطور قد أعطى دفعًا قويًّا للاقتصاد المغربي وعزَّز تجارته الخارجية، وفي نفس الوقت انكمش الدور الجزائري في إفريقيا وغيرها نتيجة فترة حكم الرئيس الراحل، عبد العزيز بوتفليقة، التي شهدت الجزائر في نهايتها أزمات سياسية داخلية وتوسعًا للحراك الشعبي ونشاطًا مطردًا لجُمُعات الاحتجاج الشعبي القوية.
ولعل هذا ما يجعلنا نفهم الكثير من التجاهل الرسمي المغربي للعديد من الاحتجاجات الجزائرية، فقد لزمت الرباط الصمت تجاه مطالبة الجزائر المغرب بإعطاء تفسير لتصريح الممثل الدائم للمغرب لدى الأمم المتحدة، السفير عمر هلال، حول منطقة القبائل، فتجاهُل الرباط الرسمي لتساؤلات الجزائر يُفهم منه أن المغرب لا ينظر إلى الأمر من الزاوية التي تنظر منها الجزائر إليه.
كما يرى المغرب أن الصراع في الصحراء الغربية لم يعد كما كان، فالرباط، وبعد نجاحها النسبي بخصوص دبلوماسية القنصليات، وبعد قرار الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، القاضي بالاعتراف بمغربية الصحراء وإمكانية فتح قنصلية أميركية في العيون، ترى أن واقعًا جديدًا أصبح هو السائد ويجب أخذه بعين الاعتبار، وأنه واقع ساعد دبلوماسيًّا على تحجيم الموقف الجزائري بل وعلى تجاوز العديد من السياقات التي كانت تحكم ملف الصحراء الغربية في نظر المغرب. وفي المقابل، فإن دعم "حق تقرير مصير منطقة القبائل"، كما تريده حركة "ماك"، هو نوع من المعاملة بالمثل وهو الذي سيحدد طبيعة الصراع المستقبلي في الصحراء الغربية.
بين استعادة الثقة والتصعيد
قطع الجزائر علاقاتها بين البلدين يدل على تناقص دور الدبلوماسية في تسوية الخلافات بين البلدين، وتزايد احتمال دور الإجراءات التصعيدية لزيادة تكاليف المواقف المناوئة التي يتخذها البلدان تجاه بعضهما بعضًا، وإن كان سقف هذه الإجراءات التصعيدية محكومًا هو أيضًا بقدرة البلدين وأولوياتهما.
في هذا الإطار، تبرز ثلاثة سيناريوهات تتراوح بين التطبيع مجددًا إلى الصدام.
السيناريو الأول: هو إعادة بناء الثقة بين البلدين وتطبيع علاقاتهما، وإنشاء ميكانيزمات لتفادي حدوث مثل هذه الأزمات مستقبلًا، وقد يكون مستوحى من تجربة التوافق بين الرئيس الجزائري، الشاذلي بين جديد، والملك الراحل، الحسن الثاني، في نهاية الثمانينات، ويقضي بأن يُخرج الجانبان ملف الصحراء الغربية من علاقاتهما الثنائية ويوكلانه للأمم المتحدة، باعتباره ملفًّا أمميًّا لا يعني الجزائر وحدها، ويتعاون البلدان في تنمية علاقاتهما الاقتصادية وترسيخ روابطهما الاجتماعية.
ما يدفع نحو هذا السيناريو هو حاجة البلدين لإعطاء الأولوية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية؛ لأنهما شهدا احتجاجات واسعة في السنوات الأخيرة، وستزداد الضغوط الداخلية عليهما نتيجة التزايد في عدد السكان وتناقص الموارد، إضافة إلى رغبة القوى الأوروبية والولايات المتحدة في حفظ استقرار منطقة المغرب العربي الموجودة في الضفة الجنوبية للمتوسط.
السيناريو الثاني: هو الحفاظ على وضع التجميد القائم، فتواصل الجزائر قطع علاقاتها مع المغرب لكن البلدين يحافظان على بقية العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، ويمتنعان عن اتخاذ إجراءات تصعيدية.
يستند هذا السيناريو على رغبة البلدين في تقليل تكلفة خلافاتهما لكن مع بقائهما يتحركان بشكل منفصل وبأقل مستويات التعاون، وهو شبيه إلى حدٍّ كبير بالوضع الذي ساد العلاقات بين البلدين خلال حكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة.
توجد عدة عوائق أمام استقرار هذا السيناريو، وعلى رأسها التغير الذي وقع في تصور البلدين لأدوارهما ومكانتهما، فالمغرب يرى أن هناك تطورات تفرض مقاربة جديدة للصحراء الغربية باعتبارها شأنًا وطنيًّا. وقد برز هذا الموقف الجديد في ردِّه الصارم على ألمانيا وإسبانيا بهذا الخصوص، أما الجزائر فلا تزال تتمسك بأن هذه التغيرات لا تأثير لها على تسوية قضية الصحراء الغربية في الإطار الأممي.
السيناريو الثالث: وهو الصدام، وقد يحدث نتيجة دخول البلدين في دائرة من الردود الانتقامية، تواصل الجزائر دعم البوليساريو فيرد المغرب بدعم الماك، وقد يصعِّد بتسليحه وتدريبه، فتضاعف الجزائر دعمها للبوليساريو ليغلقوا منفذ الكركرات الذي تعتبره المغرب منفذًا حيويًّا إلى إفريقيا، فتوسع المغرب عملياتها العسكرية داخل الأقاليم التي يسيطر عليها البوليساريو. قد يتوقف التصعيد عن حدِّ المواجهة غير المباشرة أو قد يتطور إلى مواجهة مباشرة.
تقف عدة عقبات أمام تحقق هذا السيناريو بالكامل، منها رغبة البلدين في تفادي استنزاف قدراتهما، ورغبتهما في أن يسود الاستقرار؛ لأنه بالنسبة للمغرب ضروري لتكملة مشاريعه الاقتصادية الموجهة نحو إفريقيا، وأما بالنسبة للجزائر فلأنها لا تريد أزمة جديدة تضاف للأزمات التي تحيط بها من الشرق في ليبيا ومن الجنوب في مالي. ومن المرجح أيضًا أن تسارع القوى الغربية، خاصة فرنسا وأميركا، لوقف التصعيد بين البلدين لأن تداعياته ستمتد بلا شك إلى المناطق الجنوبية في جنوب الصحراء والساحل، المهزوزة أصلًا.
هذا لا يُقصي نهائيًّا احتمالية أن يكون التصعيد بين البلدين منخفض الشدة ومتزامنًا مع محاولات للتحكم فيه أو لمنعه من الانفلات.