مؤتمر بغداد وإشكاليات الحالة العراقية المعقدة

مؤتمر بغداد لاقى ردود فعل متفاوتة من الشارع السياسي والرأي العام العراقي (الفرنسية)

لم يحمل البيان الختامي لمؤتمر "بغداد للتعاون والشراكة" أفكارًا أو اتفاقات يمكن أن تُحدث تغييرات على أي مستوى في المعادلة الإقليمية في الشرق الأوسط، وهو بذلك، لم يتجاوز ما كان متوقعًا منه، فالمؤتمر لم يكن له بالأصل سقف عال من الطموحات السياسية، وقد كان منظِّموه، وكذلك المشاركون فيه، متفقين على أن ملفات المنطقة أكثر تعقيدًا من أن يتناولها مؤتمر اليوم الواحد، وهو ما ينطبق أيضًا على الوضع الداخلي العراقي الصعب والهش في آن.

أعاد البيان الختامي بعض الديباجات الخطابية التوفيقية المألوفة في مؤتمرات من هذا النوع، حيث تجتمع دولٌ بين بعضها من أسباب الخلاف أكثر من نقاط الاتفاق، بما في ذلك الاختلاف حول القضية التي تمثل محور المؤتمر ذاته، وهي قضية العراق، فضلًا عن أن وجود فرنسا من خلال رئيسها أضاف بُعدًا دوليًّا للمؤتمر، لكنه لم يكن فعالًا في تحقيق جدوى مباشرة ومؤثِّرة للمؤتمر، وربما مثَّل عند بعض قادة الدول المشاركة سببًا لعدم حضورهم الشخصي إلى بغداد.

ولم يكن ممكنا إغفال مستوى التمثيل الملفت على المستوى القيادي لمعظم الدول المشاركة، وهو ما يقدم تصورا حول أهمية العراق، والرغبة بعودته كعنصر للتوازن الإقليمي، وهو ما رأى فيه بعض العراقيين في المؤتمر دليلًا على عودة العراق لممارسة دوره التقليدي الذي افتقدوه طويلًا، لكن بعضًا آخر منهم لم يأبه لمشاهد الزعماء في بغداد، ما دامت البلاد مستمرة في مواجهة مشكلاتها الداخلية العميقة والمعقدة، فيما سعى طرف ثالث يمثل جزءًا من القوى السياسية والميليشيات المسلحة إلى التشكيك بالمؤتمر ونتائجه وأهميته.

ما حققه مؤتمر بغداد

أقصى ما بدا أنه تحقق في مؤتمر بغداد، أنه أوحى بعودة العراق كدولة مركزية في المنطقة، قادرة على أن تجمع أبرز دول الإقليم وبمشاركة إحدى الدول الكبرى، واعتُبر ذلك عند سياسيين عراقيين نجاحًا كافيًا، بعد عقود من الغياب العراقي عن تأدية دوره الطبيعي، بل وتحوله إلى دولة مولِّدة للأزمات وساحة للصراعات الخارجية.

وكثيرًا ما تحدث رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، عن أن جهوده الخارجية تهدف بالأساس إلى تجنيب العراق خطر الصراعات الخارجية، التي غالبًا ما تجري على أرضه، سواء كانت سياسية أم عسكرية، من خلال وكلاء محليين، أو حتى غير عراقيين على هيئة تنظيمات متطرفة، وهي إحدى المشكلات الجوهرية التي يعانيها العراق منذ الغزو الأميركي، عام 2003.

وقد سعى الكاظمي خلال العام والنيف التي قضاها في منصبه حتى الآن إلى إعادة بناء توازن العلاقات الخارجية للعراق، على الصعيدين السياسي والاقتصادي، فقام بتفعيل الشراكة مع كل من مصر والأردن، التي كانت قد بدأت أصلًا في ولاية رئيس الوزراء الأسبق، حيدر العبادي، وطرح مبادرة ما يُعرف بالشام الجديد وعقد قمتين جَمَعَتَاه بكل من الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وملك الأردن، عبد الله الثاني، ثم بادر إلى مؤتمر بغداد الأخير الذي شارك فيه الزعيمان إلى جانب قادة وممثلي سبع دول أخرى لاستكمال دائرة التوازن الذي يرغب به في العلاقات الخارجية للعراق، والخروج من ثنائية الولايات المتحدة-إيران التي هيمنت على السياسة الخارجية والداخلية وتسببت بإرهاق كل منهما بشكل كبير.

وربما يكون الكاظمي قد نجح فعلًا في جمع عدد مهم من دول الإقليم، فضلًا عن فرنسا، ومستوى عال من التمثيل لمعظم الدول، وكان في ذلك رسالة واضحة قدمها الكاظمي للداخل العراقي، حول مكانته الخارجية، وقدرة العراق -تحت إدارته- على جمع المتخاصمين قبل الانتخابات العامة في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول المقبل.، لاسيما أنه كان زار واشنطن في 26 يوليو/تموز الماضي وحظي هناك بحفاوة ملحوظة، وقد كانت تلك الزيارة جزءًا من جهد نشط قام به الكاظمي خلال فترة ولايته؛ حيث زار أيضًا العديد من الدول الإقليمية والغربية أبرزها: إيران، والأردن، وفرنسا، وألمانيا، والمملكة المتحدة، وتركيا، والسعودية، والإمارات، فضلًا عن إرساله مبعوثين لدول أخرى، واستقبل في بغداد وفودًا أجنبية عدة.

لم يُعرف على وجه التحديد أثر هذا النشاط الخارجي في تعديل الأوضاع المتردية في العراق، أو معالجة أزماته العديدة، تمامًا كما كان من غير الملموس أثر مؤتمر بغداد الأخير للتعاون والشراكة في تغيير أي من المعادلات المهيمنة على الساحة العراقية الداخلية، أو النجاح فعليًّا في تحقيق هدف منع التدخل الخارجي في العراق أو تحجيمه، أو على الأقل خلق توازن يسمح بتحقيق ذلك في نهاية المطاف.

التأثير على الوضع الداخلي

لم يظهر الكثير من النتائج الواضحة أو المتوقعة من مؤتمر بغداد، فبرغم أن حضور هذا العدد من الدول بقياداتها أو ممثليها إلى العراق، يمثل نجاحًا في جعل بغداد مركزًا للاستقطاب الإقليمي والاحترام الدولي، لاسيما مع حجم الاختلاف والصراع بين بعض الدول المشاركة، إلا أن المؤتمر لم يسفر عن أية نتائج عملية، أو اتفاقات اقتصادية أو سياسية، يمكن أن تسهم في حل مشكلات أساسية في العراق، على الصعيد الخدماتي في أقل تقدير.

ويمكن تلمُّس مواقف العراقيين بشكل عام وتقريبي من مضامين البيانات والتصريحات التي أطلقها سياسيون من جهات شتى، وكذلك من التعليقات على المؤتمر في وسائل التواصل الاجتماعي، فجزء منهم رأى في المؤتمر تكريسًا لدور العراق المتصاعد ولسمعته الدولية، وهو ما سيسهم في إعادته إلى صورة الاهتمام الدولي، ويعيد ثقة شعبه بمكانته التي يمكن أن يتلمسوها مستقبلًا. وجزء آخر رأى على العكس أن المؤتمر ليس بذي أهمية ما دام لم يسفر عن أية نتائج يمكن أن تؤثر بشكل إيجابي في تطوير واقعهم الداخلي، وهو عند هؤلاء مجرد فعالية بروتوكولية استهلكت جزءًا من موارد البلاد دون طائل حقيقي. ومضت طائفة ثالثة، إلى أبعد من ذلك حينما وجدت في المؤتمر وما صاحبه من دعاية ومظاهر احتفالية، نوعًا من التضليل عن حقيقة ما يعانيه العراق من أزمات جوهرية تتجاوز موضوع الخدمات، لم يُشر إليها أحد، وأبرز ما في ذلك تردي أوضاع حقوق الإنسان، وهيمنة القوى المسلحة على القرار الحكومي، وانهيار منظومات الدولة، وتفشي الفساد والعنف والتمييز.

وربما كانت مواقف بعض القوى السياسية والقوى المسلحة أكثر وضوحًا في رفض المؤتمر وانتقاده منذ الإعلان عن عقده، وحسب هذه الأطراف المعترضة، فإن "مؤتمر بغداد لم يشتمل على تقديم الدعم الحقيقي... وبعض الدول المشاركة بالمؤتمر التي تحدثت عن دعم العراق هي السبب بالإرهاب الذي ضرب البلاد". على حدِّ وصف مسؤول المكتب السياسي لحركة (عصائب أهل الحق)، وهي إحدى الفصائل المسلحة الأساسية في ما يسمى (محور المقاومة) الذي يرتبط بشكل مباشر مع إيران، وقد اعتبر هذا المسؤول أن بعض الدول المشاركة بمؤتمر بغداد ليس من مصلحتها أن ينهض العراق من جديد، فيما أثنى على موقف إيران لأنها -حسب رأيه- طرحت موضوع إخراج القوات الأجنبية من العراق. وقد دأبت القنوات الفضائية والمنصات المرتبطة بالفصائل المسلحة على التقليل من أهمية المؤتمر وانتقاده.

كل هذا التفاوت في التعامل مع مؤتمر بغداد، كان متوقعًا في سياق انقسام سياسي داخلي حاد في العراق، ولم يكن هذا المؤتمر معنيًّا أصلًا بمعالجة هذا الانقسام، ولا قادرًا عليه، وربما أوجد سببًا آخر له، وقد يكون من أول مظاهر ذلك، احتمال إصرار بعض القوى السياسية على منع الكاظمي من تولي رئاسة الحكومة بعد الانتخابات المقبلة، فالحضور الإقليمي والدولي لأية شخصية سياسية، قد يكون عند بعض القوى السياسية والمسلحة، سببًا للخشية وبالتالي الرفض، لاسيما حينما يكون الحضور الدولي، مقترنًا بالكثير من الدعم والثناء الغربيين، وهو ما حصل عليه الكاظمي، وما يمكن أن يجعله (غير مناسب) وفق أقل الأوصاف بالنسبة للمؤيدين للعلاقة مع إيران، و(محور المقاومة) بأفرعه السياسية والمسلحة، بسبب الخشية من أن يتحول إلى عقبة بوجه هذا التيار، لاسيما مع التطورات المحتملة في النهج الإيراني تجاه العراق في ظل حكومة رئيسي الأصولية.

وحتى لو كان هذا الاحتمال غير مؤكد في الوقت الحاضر، فإن ما بات يُعتبر نجاحًا للكاظمي في تعزيز رصيده الإقليمي والدولي، يصطدم بحقيقة أن ولايته الرسمية في منصبه ستنتهي خلال أسابيع مع إجراء الانتخابات، وهو سيتحول بعدها لرئيس حكومة تصريف أعمال دون صلاحيات حقيقية، وحتى مع افتراض تكرار التجارب العراقية التي تلت كل الانتخابات السابقة في التأخر عدة أشهر حتى إعلان النتائج واختيار رئيس جديد للوزراء، فإن الكاظمي لن يمكنه الاستفادة من مخرجات علاقاته الدولية، أو الإقليمية، بسبب محدودية صلاحياته، وربما عدم تكليفه للاستمرار بمنصبه.

وبرغم هذه المعطيات، فإن مؤتمر بغداد كان خطوة لافتة على الصعيد الدبلوماسي، وربما كان سيثمر عن نتائج لو كان أمام حكومة الكاظمي وقت أطول، لكن الشراكات الخارجية -ومنها مؤتمر بغداد الأخير- لا تمثل إلا جزءًا يسيرًا من متغيرات معقدة عديدة تواجه العراق، فهناك الانسحاب الأميركي المرتقب مع نهاية هذا العام، وهناك حكومة إيرانية جديدة لم يجر بعد اختبار سياستها تجاه العراق أو دول المنطقة، وهناك الانتخابات البرلمانية والصراع السياسي المرتبط بها، والنتائج المتوقعة منها، وملفات أخرى معقدة وصعبة، قد لا يمكن لعلاقات دولية جيدة أن تقوم بحلها، لاسيما مع حكومة قصيرة العمر، وربما لن تستمر.

نبذة عن الكاتب