لإنقاذ مستقبل أفغانستان: حاجة ماسَّة لإطلاق حوار وطني ورؤية مشتركة

مع الانسحاب الأميركي شهدت أفغانستان تحولًا استراتيجيًّا كبيرًا، فقد تحولت حركة طالبان من حركة مقاومة تقاتل ضد الاحتلال الأميركي إلى قوة تحكم البلاد. فهل ستنجح الحركة في هذه المرحلة الجديدة "مرحلة السلطة والحكم" كما نجحت في مرحلة المقاومة؟
قوات من طالبان في مطار حامد كرازاي في كابل (رويترز)

عندما اقترب موعد انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان الذي أعلن عنه الرئيس الأميركي، جو بايدن، ولم تتقدم المحادثات الأفغانية التي عرقلتها حكومة أشرف غني بحيل مختلفة لمدة تتجاوز ثمانية عشر شهرًا، بدأت المديريات ثم عواصم المحافظات تتساقط أمام قوات حركة طالبان بدون إطلاق رصاصة واحدة من قبل الجيش. وكان أفراد الجيش ومقاتلو حركة طالبان يختلطون مع بعضهم بعضًا عند تسليم المقرات للحركة وكأنهم يعرفون بعضهم بعضًا منذ فترة طويلة، وفي غضون شهر وصلت حركة طالبان إلى تخوم كابل وفق خطة محكمة كانت الولايات المتحدة الأميركية تحرك المشاركين فيها تحريك اللاعب للأحجار على رقعة الشطرنج، ويبدو أن أشرف غني، الرئيس الأفغاني السابق، مع كل فريقه خرج من كابل بمبالغ ضخمة وفق الخطة المذكورة بترتيبات متخذة مسبقًا.

كان الاتفاق العلني بين حركة طالبان والولايات المتحدة الأميركية أن لا يدخل مقاتلو حركة طالبان إلى العاصمة إلى أن تُتخذ ترتيبات معينة لنقل السلطة سلميًّا من حكومة أشرف غني إلى حكومة تُشكَّل عن طريق المحادثات بين الجهات الأفغانية المختلفة، لكن الحركة اضطرت للدخول إلى المدينة بعد إلحاح من حامد كرزاي على قيادات حركة طالبان والقيادات العسكرية الأميركية وزلماي خليل زاد بعد جلسة طارئة في الدوحة بين قيادات حركة طالبان وفريق المفوَّض الأميركي، زلماي خليل زاد، وكان سبب هذا الإلحاح على دخول مقاتلي طالبان هو سد الفراغ الناتج عن خروج أشرف غني وكل فريقه الأمني، مع أن كابل كانت تعج بقوات النخبة الأميركية، فقد كان يوجد في كابل أكثر من ثمانية آلاف جندي أميركي في تلك اللحظة، وكان الخوف من المجموعات المسلحة وقطَّاع الطرق أن تنهب مؤسسات الدولة وممتلكات الناس وبيوتهم. وبعد دخول مقاتلي حركة طالبان أمكن السيطرة على أعمال النهب والسلب إلى حدٍّ كبير(1).

 وبعد استيلاء حركة طالبان على العاصمة الأفغانية يوم الأحد، 15 أغسطس/آب 2021، تغيرت الظروف، وتأكد هذا التغيير بعد منتصف ليل 31 أغسطس/آب 2021 عندما انسحب آخر جندي أميركي من مطار كابل، وتحررت أفغانستان من الوجود الأميركي تمامًا. لقد حصلت بذلك نقلة كبيرة حيث تحولت حركة طالبان من حركة مقاومة تقاتل ضد الاحتلال الأميركي إلى قوة تحكم البلاد، وهو ما فرض مجموعة من الأسئلة التي سوف تسعى هذه الورقة للإجابة عليها: فهل ستنجح حركة طالبان في هذه المرحلة الجديدة "مرحلة السلطة والحكم" كما نجحت في مرحلة المقاومة؟ وماذا يجب عليها أن تتخذ من تدابير؟ وما شكل مستقبل أفغانستان في ظل سلطة طالبان؟ وما الآليات الضرورية للتغلب على المشاكل التي تواجهها الحركة اليوم؟

هزيمة أم تغيير في الخطة؟

يبدو أن الولايات المتحدة الأميركية حاولت أن توهم حركة طالبان بأنها سلَّمت لها زمام الأمور في أفغانستان وأنها استطاعت بذلك أن تجنِّب أفغانستان الحروب الأهلية كما حدث بعد الانسحاب السوفيتي وذلك عن طريق وساطة قطرية بينها وبين حركة طالبان(2)، لكن الولايات المتحدة الأميركية حاولت بذلك أن تحيك مؤامرة محكمة الأطراف نُفِّذت بعض بنودها قبل تسليم العاصمة الأفغانية لمقاتلي حركة طالبان، والبنود الأخرى محل التنفيذ بعد تسلم الحركة سلطة البلاد سواء كان ذلك قبل الانسحاب الأميركي أو بعده، وما لم تفشل هذه المؤامرة لا يمكن أن تستقر أفغانستان وتنعم بالازدهار. والمؤامرة تتلخص في إرجاع أفغانستان إلى المربع الأول الذي انطلقت منه أو إلى الحالة التي كانت عليها قبل عشرين عامًا عندما احتلتها الولايات المتحدة الأميركية، وذلك بهدف الوصول إلى بعض أهدافها الاستراتيجية، وملامح هذه المؤامرة كما بدأت تظهر على أرض الواقع كما يلي: 

القضاء على المؤسسات الأساسية للدولة

إن عماد أية دولة في الأساس هي المؤسسات الأمنية من الجيش والشرطة والاستخبارات، لأن هذه المؤسسات تحافظ على كيان الدولة، والمؤسسات الأخرى تساعد في تشغيل هذا الكيان، ولو نجحت المحادثات الأفغانية في الدوحة لجرى الحفاظ على هذه المؤسسات الأمنية كاملة، وكان بمقدور الولايات المتحدة الأميركية أن تجبر حكومة أشرف غني على المضي قدمًا في المحادثات الأفغانية والقبول بنتائجها، بل كان باستطاعتها إجبارها على التنازلات لكنها لم تفعل، وتركت الأمور لتثبت أن المحادثات الأفغانية فشلت ثم تدخلت وأمرت الرئيس الأفغاني، محمد أشرف غني، أن يسلِّم المحافظات ومقرات الجيش لمقاتلي حركة طالبان من غير قتال، بل جرى تحييد كتائب القوات الأفغانية الخاصة(3) التي درَّبتها الاستخبارات الأميركية (CIA) في القتال، وبذلك سُلِّمت المدن الكبرى ومقرات الجيش لمقاتلي حركة طالبان من غير تسجيل المعدات والأسلحة الموجودة فيها، ولم يُعرف ماذا جرى تسليمُه وماذا نهبه وسرقه الضباط، والذي جرى تسليمه هل يمكن صيانته كما يجب بعد انهيار نظام مؤسسة الجيش. وبعد تسليم السلاح والعتاد لمقاتلي حركة طالبان جرى تسريح الجنود والضباط فذهبوا إلى بيوتهم وذلك باسم العفو العام، وعوملت الشرطة والاستخبارات نفس التعامل.

وقد يكون هذا القرار جاء برغبة حركة طالبان أيضًا؛ لأن بقاء هذه المؤسسات على حالها من غير تسريح أفرادها وتشتيتهم وهم أكثر عددًا وأفضل عتادًا، يصعِّب على حركة طالبان استيعابها، لكن لو نجحت المحادثات الأفغانية في الدوحة لبقيت هذه المؤسسات ثم كان من الممكن أن يجري إصلاحها وتنقيتها من العناصر غير المطلوبة. لا يتجاوز عدد مقاتلي حركة طالبان ثمانين ألف شخص مع المبالغة في التقدير، ولم يتلقَّ أغلبهم تدريبات نظامية ولا تدريبات في مجالات الشرطة والأمن، فكيف يمكن، مع قلة الخبرة، سدُّ ذلك الفراغ الكبير الذي أحدثه تلاشي مؤسسات أمنية كان قوامها ثلاثمئة ألف شخص مدرب؟ ومن هنا، شئنا أم أبينا، أحدث تسليم هذه المؤسسات وتسلمها بهذه الصورة فراغًا أمنيًّا كبيرًا، وإن لم يُتدارك الأمر عاجلًا ستستفيد الجهات الأجنبية والاستخبارات العالمية من هذا الفراغ بتنشيط المجموعات المتشددة المسلحة مثل "تنظيم الدولة" (داعش) وغيره لأغراضها الخاصة، وسيتعرض المجتمع الأفغاني للانفلات الأمني مرة أخرى.

تدمير المعدات والأسلحة

كان عداء الولايات المتحدة الأميركية للشعب الأفغاني واضحًا من تعاملها عند إخلاء قواعد جيشها؛ فقد سحبت كل معداتها ودمرت ما لم تستطع سحبه من المعدات والأسلحة، وباعته في  سوق الخردة، ويبدو أن ذلك كان جزءًا من ترتيبات الولايات المتحدة الأميركية من ذاك الوقت لمرحلة ما بعد أشرف غني، وكان آخر مظاهر هذا العداء السافر تدمير كل الطائرات التابعة للجيش الأفغاني والأسلحة والسيارات والرادارات وحتى برج المراقبة والمباني ومدرج الطائرات، كليًّا أو جزئيًّا في ليلة 31 أغسطس/آب 2021، الليلة الأخيرة لسحب قواتها من أفغانستان(4)، وكان أغلب ما جرى تدميره في مطار كابل مِلْكًا لأفغانستان، وكان يستخدم لأغراض مدنية.

تقول مسعودة كرخي، عضو البرلمان الأفغاني، حول تدمير الولايات المتحدة الأميركية المعدات العسكرية في أفغانستان قبل سحب قواتها: يعتقد الأميركيون أنه لا توجد في أفغانستان جهة يمكن الاعتماد عليها، ولذلك يدمرون جميع معداتهم الحربية قبل سحب قواتهم، لأنهم يظنون أنه يمكن أن تقع هذه المعدات الحربية المتقدمة في كل لحظة بيد المجموعات الإرهابية(5).

بينما أعلنت الولايات المتحدة الأميركية أن هذه المعدات المتطورة لا يوجد في الجيش الأفغاني من يستخدمها، ولذلك اضطرت لتدميرها(6)، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على كذب الادعاء الأميركي بخصوص تدريب الجيش الأفغاني تدريبًا عاليًا وصرف مليارات الدولارات على تدريبه؛ إذ لو تم تدريبه تدريبًا جيدًا لتمكن من تشغيل هذه الأسلحة البسيطة، ويدل على أن الولايات المتحدة الأميركية احتلت أفغانستان لتحقيق أهدافها الخاصة، وسلَّطت على الشعب الأفغاني مجموعة من عملائها لينهبوا خيرات البلد، ولم يكن من أهدافها بناء أفغانستان الحديثة كما كانت تدعي باستمرار خلال عشرين سنة الماضية، وأن هذا الادعاء كان كذبًا محضًا لا غير.

تفريغ أفغانستان من الكوادر الفنية

أجلت القوات الأميركية أكثر من 123 ألف شخص من الأفغان خلال الفترة (من 15 أغسطس/آب 2021 إلى 30 أغسطس/آب 2021) ممن تلقوا تدريبات عالية وحصلوا على تجارب ثرية في المجالات الفنية والإدارية خلال عشرين سنة الماضية(7)، وصرفت على تدريبهم أموالًا ضخمة من أموال الدولة. أُجلي هؤلاء بحجة أن حياتهم في خطر مع أن حركة طالبان لم تتعرض لأحد بأذى هذه المرة، وكان تعاملها بهذا الخصوص جيدًا مع بعض التجاوزات البسيطة التي لا تخلو منها التجارب الإنسانية. حاولت الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية الأخرى بذلك إفشال نظام طالبان وكذلك الحكومة المقبلة من الناحية الفنية والإدارية؛ وذلك لأن ملء هذا الفراغ لا يمكن خلال فترة وجيزة.

ومن هنا، حاولوا إعادة أفغانستان من هذه الناحية أيضًا إلى المربع الأول حيث انطلقت منه قبل عشرين سنة، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى شابت عملية الإجلاء حوادث مخجلة ودموية كان من الممكن الحيلولة دون وقوعها عن طريق إدارة العملية بصورة أفضل، ويبدو أن الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية أرادت من خلالها من هذه الناحية أيضًا إرسال رسالة للعالم بأن عامة الشعب الأفغاني مستاء استياء شديدًا من حركة طالبان ونظامها المقبل مع أن أغلب هؤلاء الذين أُجْلوا مورست عليهم عمليات ترهيب وتخويف من قِبل الأميركان بأنهم سيتعرضون للأذى من مقاتلي حركة طالبان!

تهيئة الأجواء لعمل المجموعات المتطرفة

يبدو من تعامل الولايات المتحدة الأميركية أنها تريد تنشيط المجموعات المسلحة المتطرفة مرة أخرى في أفغانستان، سواء كان أعضاؤها من الأفغان أم كانوا من أتباع الدول المجاورة، وذلك بهدف إحداث الانفلات الأمني في أفغانستان، وإعادة أفغانستان إلى حالة كانت عليها قبل عشرين سنة عند احتلالها من قبل الولايات المتحدة الأميركية. وغالبًا سيجري التركيز من قبل الاستخبارات الأجنبية على تنشيط وتمويل الجهات التي لديها أجندة إعادة الخلافة الإسلامية عن طريق استخدام القوة والسلاح، وكذلك سيبدأ تنشيط المجموعات التي لديها أجندة التحرر من بلدانها أو إقامة نظام إسلامي فيها عن طريق استعمال القوة والسلاح؛ لأن هذه المجموعات يسهل الاستفادة منها في إحداث القلاقل والاضطرابات الأمنية في تلك الدول التي تريد الولايات المتحدة الأميركية زعزعة استقرارها وإيجاد القلاقل فيها لأهداف تريد تحقيقها.

ولأجل ذلك، بدأ الإعلام الغربي والاستخبارات الأجنبية والدوائر الحكومية الأميركية(8)عملية تضخيم "تنظيم الدولة في خراسان" (داعش) بالدعاية المضادة لها، وخاصة بعد التفجيرات المدبرة في مطار حامد كرزاي الدولي بكابل، والتي راح ضحيتها أكثر من 190 شخصًا من الأفغان(9)، وأعلنت الولايات المتحدة الأميركية في اليوم التالي أنها قضت على العقل المدبر للعملية في هجوم لطائرة بدون طيار في ولاية ننجرهار(10)، مع أن المتابعين للأوضاع الأفغانية يعرفون أن تنظيم الدولة في أفغانستان قد قُضي عليه تقريبًا من قبل طالبان، وبقي وجوده كمشروع لبعض الحلقات في الاستخبارات الأفغانية التابعة لحكومة أشرف غني المنصرمة.

ستحاول الاستخبارات الأميركية ومعها استخبارات بعض الدول الغربية الأخرى -إلى جانب الاهتمام بتنشيط "تنظيم الدولة"- تنشيط وتمويل بعض المجموعات المسلحة للقيام ببعض العمليات العسكرية داخل أراضي الدول المجاورة لأفغانستان بالاستفادة من الفراغ الأمني الذي تركه تلاشي القوات الأمنية الأفغانية، وذلك لزعزعة استقرارها، فإن الولايات المتحدة الأميركية ترى مصالحها في ذلك.

الفراغ الاقتصادي والمالي

حاولت الولايات المتحدة الأميركية بالتزامن مع سحب قواتها من أفغانستان أن تعيد أفغانستان إلى الوراء وتوجه ضربة قوية في الجانب الاقتصادي والمالي لحكومة حركة طالبان، وذلك عن طريق عدة إجراءات استثنائية، أهمها:

  • تجميد أرصدة البنك المركزي: فقد جمدت الولايات المتحدة الأميركية كل الأرصدة التي يملكها البنك المركزي الأفغاني، ويصل مقدارها إلى (9.5) مليارات دولار، وكانت هذه الأرصدة تُحفظ في البنوك الأميركية، وقد اتُّخذ قرار تجميد تلك الأرصدة في مجلس برئاسة (جنت لوييز يلن) وزير مالية الولايات المتحدة الأميركية، وكان السبب وراء اتخاذ هذا القرار منع طالبان من الحصول على المبالغ المذكورة(11)كما جمَّد صندوق النقد الدولي مبلغًا مقداره 440 مليون دولار لأفغانستان بحجة عدم وضوح الظروف السياسية فيها(12).
  • قطع مساعدات الدول والمؤسسات المالية الغربية عن الشعب الأفغاني؛ فقد أوقفت كل الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية والمؤسسات المالية مساعداتها المالية لأفغانستان؛ حيث أوقفت ألمانيا مساعداتها المالية لأفغانستان التي كانت تقدر بخمسمئة مليون دولار للسنة الجارية، كما أن الاتحاد الأوروبي الذي كان قد أعلن أنه سيساعد أفغانستان خلال أربع سنوات قادمة بـ(1.4) مليار دولار، قد أوقف هذا البرنامج بعد استيلاء حركة طالبان على كابل(13)، وقد أوقف البنك الدولي مساعداته ومشاريعه في أفغانستان، وقال الناطق باسم البنك المذكور: نحن أوقفنا المساعدات المالية لأفغانستان كما أوقفنا أنشطتنا فيها، وندرس الوضع الراهن في أفغانستان وفق سياسات البنك الدولي، وكان البنك الدول قد خصص (5.3) مليارات دولار لمشاريعه في أفغانستان(14)، ونشير إلى بعض هذه الدول والمؤسسات كمثال وإلا فكل الدول الغربية والمؤسسات المالية أوقفت مساعداتها المالية وأنشطتها ومشاريعها في أفغانستان. وقد صرَّح رئيس البنك المركزي السابق في عهد أشرف غني أنه ليس بيد طالبان أكثر من 0.2% من أرصدة الدولة(15).

لم تكتف هذه الدول بإيقاف مساعداتها ومشاريعها الجارية بل طلبت إنزال العقوبات على حركة طالبان، كما طالب وزير خارجية بريطانيا في مقال كتبه لـ"ديلي تلغراف" طلب فيه من المجتمع الدولي أن يستخدم جميع الخيارات لاحتواء طالبان بما فيها العقوبات(16).

ماذا تريد الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها أن يحققوه؟

قد يرى البعض أن الدول الغربية تحاول باتخاذ هذه الخطوات أن تضغط على حركة طالبان للقبول بالانفتاح على الآخرين، وتريد أن تجبرها على رعاية حقوق الإنسان وحقوق المرأة والمحافظة على الحريات العامة لكن الذي يتضح لمراقب الأوضاع عن كثب أن الدول الغربية تحاول بكل الطرق إفشال حركة طالبان في مرحلة الحكم والسلطة، وتريد بالضغوط المذكورة أن تحشرها في زاوية ضيقة لتتجه نحو مزيد من التطرف، وقد أدركت الصين ذلك حيث أكدت على لسان وزير خارجيتها في مكالمة تليفونية مع نظيره الأميركي أنه: "يجب على الولايات المتحدة الأميركية مع المجتمع الدولي أن تسهم في توفير المساعدات الاقتصادية والمساعدات الإنسانية لأفغانستان، وأكد على أن تستمر الولايات المتحدة الأميركية في دعم الكيان السياسي الجديد في أفغانستان للحفاظ على نشاط الدوائر الحكومية وللحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والسياسي"(17). كأن وزير الخارجية الصيني يشير إلى أن الولايات المتحدة الأميركية وحلفاءها بقطع مساعداتها الاقتصادية والمالية عن حكومة طالبان تريد إيقاف حركة الحياة في أفغانستان.

هذه الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها على حركة طالبان وعلى الحكومة المقبلة، الهدف منها الوصول إلى بعض أهدافها الاستراتيجية التي لم تتمكن من تحقيقها عن طريق استعمال القوة؛ فقد كانت تريد إنشاء قواعد عسكرية في أفغانستان، وكانت وراء تلك الرغبة تحقيق أهداف استراتيجية لها في مجال السياسة العالمية والاقتصاد وغيرها، لكن مصاريف الحرب كانت كبيرة جدًّا، وكان المستفيدون من صرف تلك المبالغ الضخمة التي كانت تصرفها في حربها على الإرهاب المزعوم منافسيها من الصين وروسيا وإيران، وكان ضغط المقاومة مرتفعًا في نفس الوقت، فقررت تغيير الخطة من العسكرية إلى الاستخباراتية لتقليل المصاريف، وأن يتحمل هذه المصاريف منافسوها في السياسة العالمية في الصين وروسيا، وأن تواجه هذه القوى العالمية والإقليمية المجاورة لأفغانستان حالة الانفلات الأمني، لأنها هي المتضررة أكثر وليست الولايات المتحدة الأميركية.

الأهداف الأميركية من تغيير خطتها

ويبدو أن الولايات المتحدة الأميركية وحلفاءها يريدون من تغيير الخطة من العسكرية إلى الاستخباراتية الحصول على الأهداف التالية:

أولًا: قد تحاول الولايات المتحدة الأميركية من ممارسة الضغوط المذكورة أن تفرض على حركة طالبان بعض القيم الغربية وبعض قراراتها السياسية باسم الحفاظ على الحريات والحفاظ على حقوق الإنسان وحقوق المرأة بالمفهوم الغربي الذي يتعارض كليًّا أو جزئيًّا مع ما لدى حركة طالبان من تصورات، ويكون الهدف من ذلك أن تفقد حركة طالبان مصداقيتها لدى أتباعها ومقاتليها، كما أن تلك الدول من الممكن أن تفرض على الحكومة المقبلة بعض المعاهدات التي تستفيد منها تلك الدول اقتصاديًّا وسياسيًّا مثل مطالبة الحكومة المقبلة بإلغاء اتفاقيات استخراج المعادن مع الصين، والتضييق على الحكومة في الاتفاقيات مع الصين في مختلف المجالات، والضغط على الحكومة المقبلة في إبرام صفقات شراء الأسلحة من الصين وروسيا بدل شرائها من الشركات الأميركية.

ثانيًا: لقد ورد في تسريبات صحفية أن اتفاقية الدوحة كانت مشتملة على عدة ملاحق، وكان من موضوعات بعض هذه الملاحق السماح للاستخبارات الأميركية بالعمل في أفغانستان(18)، وقد تكون هذه الضغوط للحصول على الإذن بالعمل للاستخبارات المركزية الأميركية أو للحصول على الإذن بالعمل للمؤسسات التي تعمل للاستخبارات الأميركية باسم مؤسسات المساعدات الإنسانية أو المؤسسات العاملة في المجالات التنموية.

ثالثًا: قد يكون إحداث الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة الأميركية في أفغانستان وخاصة الفراغ الأمني بهدف أن تتدهور الأوضاع الأمنية في أفغانستان وتعود إلى حالتها السابقة من الفوضى والاضطرابات لئلا يستفيد محور الصين وروسيا وتركيا وباكستان وإيران من الفرص الاقتصادية الموجودة في أفغانستان، وخاصة الفرص المتوافرة في استخراج المعادن، فإن الولايات المتحدة الأميركية كانت تعارض عقد اتفاقيات استخراج المعادن مع الشركات الصينية، وكانت توجه وزارة المعادن لعقد اتفاقيات استخراج المعادن مع الهند، والشركات الصينية التي حصلت على بعض المشاريع مثل مشروع معدن "مس عينك" في لوجر واستخراج النفط في منطقة آمو في شمال أفغانستان كانت الولايات المتحدة الأميركية تعرقل عمل تلك الشركات بحيل مختلفة(19). ومن الواضح أن الصين كانت مهتمة جدًّا بتنفيذ الجزء المتعلق بأفغانستان في مشروعها العملاق "الحزام والطريق" (One Belt One Road) لكنها لم تتقدم خطوة واحدة في ذلك أثناء الوجود الأميركي في أفغانستان، ولا تريد الولايات المتحدة الأميركية أن تعطيها فرصة لتطبيق مشروعها هذا حتى بعد سحب قواتها من أفغانستان وذلك عن طريق إحداث الفراغ الأمني والنشاط الاستخباراتي. وقد وقَّعت الصين وإيران اتفاقية تستثمر الصين بموجبها أربعمئة مليار دولار خلال خمسة وعشرين سنة قادمة في مجالات تنموية مختلفة، وستحصل مقابل ذلك على حاجتها من النفط الإيراني بسعر رمزي ورخيص، وأقصر طريق للتبادل التجاري بين الصين وإيران هو طريق أفغانستان، ولا يمكن تطبيق هذا المشروع بالتكلفة المنخفضة إذا وُجدت القلاقل في أفغانستان نتيجة الفراغ الأمني(20).

رابعًا: قد يكون الهدف من إيجاد الفراغ الأمني في أفغانستان تهيئة الظروف لعمل المجموعات المسلحة المتشددة الأجنبية منها والأفغانية، ومساعدة تلك المجموعات استخباراتيًّا بهدف إيجاد القلاقل في الدول المجاورة للحد من قدرتها على منافسة الولايات المتحدة الأميركية والضغط عليها في مختلف المجالات، مثل الصين وروسيا وكذلك إيران. وقد تنبهت الصين لهذه الخطة الأميركية؛ فقد قال وزير خارجية الصين في مكالمة تليفونية مع نظيره الأميركي حول أفغانستان إن بلده قلق من أن سحب القوات الأميركية وقوات الناتو بالكامل من أفغانستان سيهيئ الفرصة لعودة الإرهابيين مرة أخرى(21). وأضاف قائلًا: "إن انسحاب القوات الأميركية بهذا الاستعجال وعدم الترتيب قد يكون سببًا لأن تعود المجموعات الإرهابية إلى النشاط في أفغانستان مرة أخرى"(22).

خامسًا: قد يكون الهدف من تلك الضغوط حشر حركة طالبان في زاوية ضيقة، ودفعها لمزيد من التطرف والتشدد، فإذا كانت حركة طالبان تظن أنها تنازلت عن مبادئها ومع كل تلك التنازلات يتعامل الغرب معها بهذه الصورة فهي ستندفع لمزيد من التشدد والانغلاق، والتشدد والانغلاق سيؤديان إلى فشلها في إدارة الدولة، وهذا الفشل سينعكس على الأوضاع الأمنية سلبًا في أفغانستان والدول المجاورة والمنطقة.

بعض إجراءات حركة طالبان تغذِّي الاضطراب

تزيد بعض إجراءات حركة طالبان من اضطراب الشعب الأفغاني وتغذي خوفه من المستقبل المجهول في مجالات مختلفة، ومن هذه الإجراءات نشير إلى ما يلي:

أولًا: الإجراءات البطيئة في حلِّ مشاكل المجتمع (مثل التأخر في تشكيل الحكومة، وحل المشاكل المالية والاقتصادية للشعب) وهي لا تدرك أهمية الإجراءات العاجلة لحل المشاكل؛ فهي ما زالت تتعامل مع الأوضاع كحركة مقاومة وليست كحكومة، فقد مضى نحو شهر على استيلاء حركة طالبان على العاصمة والشعب ما زال ينتظر عودة الحياة إلى طبيعتها. وما زال العمل في الدوائر الحكومية متوقفًا، ولا يوجد شخص مسؤول في أية وزارة ولا دائرة، والحدود الأفغانية مع جميع الدول المجاورة ما زالت مغلقة والبنوك والمؤسسات المالية كلها متوقفة عن العمل؛ وقد أدى ذلك إلى ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية لأن أغلبها يُستورَد من الدول المجاورة والحدود مغلقة، وأدى كذلك إلى إلحاق أضرار بالمزارعين والمنتجين فقد تلفت محاصيلهم في الحقول بدل أن تُنقل إلى أسواق الدول المجاورة.

ثانيًا: التعيينات الحالية أضافت سببًا آخر لاضطراب الناس، كانت حركة طالبان تدير أمورها قبل الاستيلاء على كابل عن طريق لجان تتولى كل لجنة مسؤولية دائرة من الدوائر المهمة، مثل لجنة التعليم والتربية والتعليم العالي، ولجنة الأمور الصحية، واللجنة العسكرية، ولجنة الاستخبارات، وهذه اللجان كلها مشكَّلة من أتباع حركة طالبان، ولما استولوا على كابل تولَّت هذه اللجان مسؤولية الوزارات المعنية، وهذا أحدث قلقًا كبيرًا في أوساط الشعب؛ لأن أعضاء تلك اللجان ليسوا مؤهلين لتولي تلك المناصب الرفيعة في الدولة، ويُبدي عامة الشعب تخوفًا من أن حركة طالبان تجر أفغانستان بذلك إلى الانفلات الإداري والفوضى الأمنية وبالتالي إلى الفشل، وهذا ليس في صالح أحد.

ثالثًا: الإصرار على حل القضايا عن طريق القتال والحرب. استولت حركة طالبان على جميع الولايات وبقيت ولاية بنجشير، وكان من الممكن أن تُحل قضيتها عن طريق الحوار، وإن أخذ ذلك وقتًا أطول، فالزمن سيكون جزءًا من العلاج، لكن بعض الحلقات في حركة طالبان تصر على حل تلك القضية عن طريق استعمال السلاح، ويتخوف العقلاء من الشعب من أن تتحول هذه الحروب إلى حروب عرقية وخاصة بما تقوم به وسائل الإعلام المأجورة من الدعاية والدعاية المضادة، وتنتشر بعد ذلك بسرعة ولا يمكن التحكم فيها.

رابعًا: نوعية النظام والحقوق الأساسية للمواطنين. فإن أغلب المواطنين الأفغان لا يعرفون شيئًا عمَّا تفكر فيه حركة طالبان بخصوص النظام المقبل: كيف سيكون شكله؟ وكيف سيتشكل؟ وكيف ستكون الحقوق الأساسية للمواطنين فيه؟ وكيف تكون حالة الحريات؟ وغير ذلك من الأمور المهمة للمواطن العادي، وهذا الغموض يزيد من اضطراب الناس، وكثير ممن يغادرون أفغانستان وراءهم شيء من هذه الهموم.

ما المخرج من الأزمة؟

ليس كل ما جرى التخطيط له واقعًا لا محالة، بل من الممكن إفشال تلك المخططات التي أشرنا إليها آنفًا بخطوتين اثنتين:

إحداهما: ملء الفراغ الذي أحدثه الانسحاب الأميركي المفاجئ.

ثانيتهما: أن تلتزم حركة طالبان ببعض الأمور ولا تتعمد أن تُفشل تجربتها.

أولًا: ملء الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة الأميركية والناتو

هذا الفراغ الذي تركه انسحاب القوات الأميركية وقوات الناتو وراءه في مجالات مختلفة يمكن أن يُملأ عن طريق إيجاد محور من الدول الصديقة لأفغانستان، مثل تركيا وقطر والصين وبعض الدول الأخرى. وهذا المحور يجب أن يقدم للحكومة المقبلة ما تحتاج إليه من مساعدات اقتصادية واستثمارات وتعاون فني واستشارات وغيرها إلى أن تقوم على قدميها، لكن إيجاد هذا المحور يحتاج إلى دبلوماسية نشطة وواعية، بعد تحديد المصالح العليا للبلاد والمحافظة عليها.

ثانيًا: أن تقوم طالبان بما يجب عليها

إن حركة طالبان إذا أرادت ألا تُفشل تجربتها في الحكم وتنجح في هذه المرحلة كما نجحت في مرحلة مقاومة المحتل الأجنبي فعليها أن تقوم بما يجب عليها، وألا تتوانى في ذلك، وأهم ما يجب على حركة طالبان في هذه المرحلة ما يلي:

أولًا: أن تكون الحكومة الجديدة قادرة على اثبات كفاءتها سريعا، لأن الشرعية الثورية لا تستمر طويلًا، وما لم تكن هناك شرعية يقتنع بها الشعب بجميع فئاته ومكوناته سيؤدي ذلك إلى الاحتقان، وسيؤدي الاحتقان إلى الانفجار مرة أخرى عاجلًا أم آجلًا.

ثانيًا: يجب تعيين لجنة محترمة تجمع مكونات المجتمع الأفغاني لتعديل الدستور الحالي أو كتابة مسودة للدستور الجديد. وهذا الأمر لا يحتمل التأخير، لأن المجتمع يريد أن يعرف ملامح النظام القادم: ماذا سيكون؟ وكيف سيكون؟ ولن يقتنع أحد بكلام يسترسل استرسالًا ما لم يُدوَّن في صورة دستور للدولة. كما أن الجميع مهتم بحقوق ومسؤوليات المواطنين الأساسية إلى جانب تحديد مسؤوليات وواجبات الحكام، وكل ذلك يتطلب تدوين دستور للبلاد يتفق الجميع على قبوله واحترامه، وألا تُترك الأمور لمزاج الأفراد ليتصرفوا كما يريدون!

ثالثًا: إشراك الآخرين معها في القرار السياسي وليس إشراكهم في حق التوظف، وخاصة في المرحلة الحالية؛ لأن انتزاع الاعتراف الدولي بالحكومة الجديدة متوقف على نوعية النظام الذي سيُشكَّل، كما أن نشاط المعارضة أيضًا يتوقف على مدى إشراك الآخرين في الحكومة، فإن كان الإشراك بمعنى أن يُسمح لغير المنتمين لحركة طالبان بالتوظف في بعض المناصب لتنفيذ قرارات تُتخذ من قبل قيادات حركة طالبان فلن يعتبر أحد ذلك إشراكًا للآخرين في الحكم. ويبدو من تصرفات حركة طالبان حاليًّا أنها لا تقبل حتى المشاركة الشكلية للآخرين في الحكم، فإن كل التعيينات التي تمت حتى الآن لم تخرج من دائرة أفراد حركة طالبان، ولم يراع فيها الأهلية والتخصص.

رابعًا: ألا تتعامل مع الأحزاب السياسية والمؤسسات الاجتماعية مثل تعاملها معها في نسختها القديمة في تسعينات القرن الماضي حيث كانت تُسمي كل الجهات الأخرى بـ"قوى الشر والفساد". فلتمنع النشاط العسكري مطلقًا، ولتضرب بيد من حديد، وأما النشاط السياسي والاجتماعي فليُسمح به مع ضوابط قانونية معلنة يلتزم بها الجميع.

خامسًا: إعادة بناء كيان الجيش والشرطة والاستخبارات بصورة مهنية واحترافية من غير تأخير؛ ويجب أن تكون هذه المؤسسات بعيدة عن التسيس؛ لأن هذا عصر التخصصات، ولا يمكن الحفاظ على أمن البلاد بدون تشكيل مؤسسات أمنية وطنية واحترافية غير مسيَّسة، وخاصة بالنظر إلى الموقع الجيوسياسي لأفغانستان، فإنها توجد في منطقة تحيط بها قوى إقليمية مهمة، وكل هذه القوى الإقليمية إلى جانب القوى العالمية لديها مصالح وأطماع في أفغانستان، وفي مثل هذه الظروف تتأكد ضرورة الإسراع في إعادة تشكيل الجيش والشرطة والاستخبارات للحكومة المقبلة. ويجب أن تكون هذه المؤسسات في مستوى الدول المحيطة بأفغانستان لتتمكن من أداء مسؤولياتها على أحسن وجه.

سادسًا: عدم السماح بنشاط المجموعات المسلحة المتطرفة الأفغانية والأجنبية تحت أي مسمى وتحت أي مبرر داخل الأراضي الأفغانية، لأن أفغانستان لن تستقر ما لم تبعد الاستخبارات الأجنبية عنها، والاستخبارات الأجنبية لن تبتعد عنها ما دام هناك نشاط غير قانوني لتلك المجموعات المسلحة المتطرفة، فإن نشاط تلك المجموعات سيعيد أفغانستان مرة أخرى إلى ميدان لتصفية حسابات لقوى إقليمية وعالمية ويكون ذلك سببًا للفوضى والاضطرابات في المجتمع.

سابعًا: ألا تصر على حل القضايا العالقة عن طريق القتال؛ لأن القتال يبدأ خفيفًا سهلًا لكنه ينتشر انتشار النار في الهشيم، ومن أهم تلك القضايا قضية ولاية بنجشير ومطالب أحمد مسعود، نجل أحمد شاه مسعود، وهي مطالب بسيطة جدًّا، ومن الممكن حلها بطرق سلمية وعن طريق مواصلة الحوار، لأن الحرب إذا بدأت ستتحول إلى حرب عرقية بين الطاجيك والبشتون، ووسائل الإعلام المأجورة ستلعب لعبتها القذرة مع أن حركة طالبان لا تمثل البشتون ولا أحمد مسعود يمثل الطاجيك.

ثامنًا: القضايا الفقهية في الغالب تتعدد فيها آراء الفقهاء؛ فمنهم من يتشدد ومنهم من يتساهل ومنهم من يتوسط ويعتدل، واختيار الآراء المتشددة في القضايا الخلافية من قبل الدولة باسم الاحتياط يضيِّق على الناس حياتهم، ومن هنا يفضَّل لهم عدم التشدد في القضايا الفقهية الخلافية، وإذا كانت القيادة السياسية تشعر بالضغط من قبل أفراد حركة طالبان المتشددين فطريق الخروج منه تشكيل لجنة من كبار العلماء من العالم الإسلامي لعرض القضايا الخلافية عليها، والالتزام بقرارتها في تلك القضايا الخلافية وكل القضايا المستجدة.

تاسعًا: أن تسمح حركة طالبان بتنوع الأفكار والآراء وتشكيل التجمعات والأحزاب، تؤكد حركة طالبان في خطاباتها ومنشوراتها على ضرورة تشكيل حكومة مركزية وقوية ومستمرة، ويقصدون بـ"مركزية الحكومة" ألا تتعدد فيها الولاءات بتعدد الانتماءات الحزبية والتشكيلات الفكرية والاجتماعية، وأن يكون ولاء الجميع للحاكم، رفع هذا الشعار سيؤدي بطبيعة الحال إلى الاستبداد الفكري والاستبداد الفكري في المجتمع يؤدي إلى الاحتقان الداخلي والاحتقان يؤدي إلى الانفجار أو يؤدي إلى تنشئة الناس على الخنوع والذل للحاكم المستبد وكلا الأمرين يتعارضان مع مقاصد الشرع الحكيم، أما الانحراف الفكري فيمكن أن يُقاوَم عن طريق الحجة والبرهان وليس عن طريق تكميم الأفواه، والنشاط الفكري سيؤدي إلى مزيد من الثراء الفكري والثقافي للمجتمع.

عاشرًا: التدرج في الإصلاح؛ فالمجتمع الأفغاني -لا شك- يعاني من كثير من المشاكل العملية والفكرية، لكن هذه المشاكل لا يمكن معالجتها في يوم وليلة بل تحتاج إلى وقت وتحتاج إلى تدرج وروية، وهذا هو الطريق الأوفق لحلها، فإن محاولة حل المشاكل عن طريق استعمال القوة لا تنجح في استئصالها بل تختفي المشاكل من ظهر الأرض إلى بطنها.

حادي عشر: فتح ملف مطالبة أميركا وحلفائها بتعويضات الحرب وما قتلت من العزل من أفراد الشعب الأفغاني وذلك كورقة ضغط على الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها إذا أرادت الضغط على الحكومة المقبلة أو أرادت زعزعة استقرار أفغانستان.

ثاني عشر: إطلاق حوار وطني للوصول إلى رؤية مشتركة حول مستقبل أفغانستان من الناحية السياسية والاقتصادية والعلاقات الدولية، وكذلك لأجل الوصول إلى طمأنة الجميع ومشاركتهم في الانسجام السياسي وتحسين ظروف الشعب الأفغاني المعيشية والقضاء على أسباب الحروب الأهلية المدمرة.

ثالث عشر: تقديم صورة مشرفة للحكم الإسلامي عن طريق الاهتمام بالجانب التنموي وتحسين مستوى حياة المواطنين من ناحية التعليم والصحة والخدمات والاقتصاد إلى جانب إقناع الناس بمبادئ الإسلام الخلقية والحضارية وما يحمله الإسلام لهم من عز وكرامة وخير في الدنيا والآخرة، بدل أن ينصب كل الاهتمام على تطبيق الحدود والعقوبات الشرعية، والمفروض أن تكون سياسة تطبيق العقوبات والحدود الشرعية مبتَنَيَة على قول الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم: "ادرؤوا الحدود بالشبهات" ويكون الهم الأصلي للقضاة درء الحدود ما وجدوا إلى ذلك سبيلًا.

رابع عشر: عدم القبول بالعزلة عن العالم، وهذا يتطلب أن تحدد حركة طالبان بالتشاور مع كل مكونات المجتمع الأفغاني المصالح العليا للشعب الأفغاني ولدولة أفغانستان، ثم وضع خطة محكمة لتطوير العلاقات الدولية إقليميًّا ودوليًّا للوصول إلى المصالح المشتركة مع كل الدول من غير تنازل عن المصالح الوطنية العليا.

خامس عشر: تشكيل لجان متخصصة لوضع خطط استراتيجية للتنمية في كل المجالات الحيوية في ضوء المصالح العليا للشعب الأفغاني، ثم صياغة كل تلك الخطط في خطة استراتيجية طويلة المدى موزعة على مراحل محددة المعالم والخطوات (قصيرة المدى، ومتوسطة المدى) وحشر كل الإمكانيات لتطبيقها كاملة.

سادس عشر: تجب الاستفادة في كل ذلك من الخبرات الأفغانية السابقة، وألا تُستبعد تلك الخبرات بحجة أن هؤلاء عملوا مع الحكومات السابقة أو أنهم كانوا في خدمة الاستعمار. نعم، تجب مراقبتهم بقوة من ناحية الفساد.

سابع عشر: عدم الاتكاء كليًّا على المساعدات الأجنبية في توفير الموازنة حتى وإن كانت المساعدات من الدول الصديقة؛ لأن الاستقلالية في القرار السياسي للدولة تتطلب أن تكون السلطة متحررة عن الضغوط التي عادة ما ترافق تلك المساعدات.

ثامن عشر: يجب وضع خطة محكمة لاسترجاع أموال الدولة وأموال الشعب من المختلسين والسراق ومحاسبة هؤلاء، لكن بشرط ألا تُسيَّس هذه العملية، وألا تُتخذ وسيلة للانتقام من المعارضين.

إذا أدى كل طرف معنيٍّ في القضية الأفغانية دوره من الممكن أن تنجح هذه التجربة التي سيعود نجاحها بالخير على الجميع، وإلا سيكون نصيبها الفشل، والفشل ستكون نتائجها وخيمة ومدمرة للجميع.

نبذة عن الكاتب

مراجع
  1. معلومات استقاها الباحث من الشيخ الملا عبد السلام ضعيف، سفير أفغانستان السابق في إسلام أباد، وأحد الشخصيات الموثوق فيهم.
  2. محمد المختار الشنقيطي،"هل تعلمت طالبان بعد أن تألمت؟"، الجزيرة نت، 20 أغسطس/آب 2021، (تاريخ الدخول: 31 أغسطس/آب 2021): https://2u.pw/VXtTi
  3. هذه الكتائب هي (01) و(02) و(03) و(04).
  4. بثت كل المحطات التلفزيونية المحلية والعالمية مناظر هذا الدمار الذي خلَّفته القوات الأميركية في مطار حامد كرزاي الدولي بكابل يوم 31 أغسطس/آب2021.
  5. انتقاد افغان ها از انهدام تجهیزات نظامی امریکایی در افغانستان (اعتراض الأفغان على تدمير المعدات العسكرية الأميركية في أفغانستان) وكالة أنباء "خبرگزاری جمهوری اسلامی ایران"، 25 أبريل/نيسان 2021، (تاريخ الدخول: 3 أغسطس/آب 2021): https://2u.pw/0wda8
  6. راجع تقريرًا وثائقيًّا لمحطة كابل نيوز الخاص بتدمير معدات الجيش الأميركي في أكبر مقر له في ولاية هلمند، مديرية "شورابك" قبيل انسحابه منه، (تاريخ الدخول: 31 أغسطس/آب 2021): https://2u.pw/0wda8
  7. حضور ۲۰ ساله امریکا در افغانستان بایان یافت(نهاية 20 عامًا من الوجود الأميركي في أفغانستان"، صحيفة هشت صبح، (تاريخ الدخول: 31 أغسطس/آب 2021): https://bit.ly/3BXEN0f
  8. "بنتاكون می كوید هنوز تهدید داعش جدى است" البنتاجون يقول إن داعش لا تزال تهديدًا جديًّا"، بي بي سي بالفارسية، 28 أغسطس/آب 2021، (تاريخ الدخول: 31 أغسطس/آب 2021):  https://bbc.in/3nabLGx
  9. كل الفضائيات الكبيرة والجرائد والمجلات الغربية بثت ونشرت برامج ومقابلات ومقالات عن تنظيم الدولة ونسبت هذه الأحداث إليه.
  10. "حمله بهباد امریکا به داعش خراسان در ننگرهار" هجوم طائرة أميركية على داعش خراسان في ننجرهار،  إذاعة (دويتشه وله)، 28 أغسطس/آب 2021، (تاريخ الدخول: 2 سبتمبر/أيلول 2021): https://p.dw.com/p/3zbIR
  11. "امریکا میلیاردها دالر ذخایر پولی افغانستان را منجمد کرده است" جمدت أميركا مليارات الدولارات من أرصدة أفغانستان، موقع فضائية طلوع نيوز الأفغانية، 28/اسد/1400هـ ش الموافق 19/8/2021، (تاريخ الدخول: 2 سبتمبر/أيلول 2021): https://tolonews.com/fa/business-174277
  12. "دسترسی افغانستان به ذخایر صندوق جهانی پول مسدود شد" منع أفغانستان من الوصول إلى أرصدتها في صندوق النقد الدولي، إذاعة (دويتشه فيله) الألمانية، 19 أغسطس/آب2021، (تاريخ الدخول: 31 أغسطس/آب 2021): https://p.dw.com/p/3z9Dz
  13. "بانك هاي أميركايي 10 مليارد دلار دارايي أفغانستان را مصادره كردند"  البنوك الأميركية صادرت أرصدة أفغانستان البالغة عشرة مليارات دولار، موقع وكالة الأنباء (انا) الإيرانية يوم 5/6/1400هـ ش الموافق 27أغسطس/2021م، (تاريخ الدخول: 31 أغسطس/آب 2021): https://2u.pw/ehMyH
  14. "بدلیل قدرت گرفتن طالبان: بانک جهانی کمک مالی به افغانستان را متوقف کرد" بسبب استيلاء طالبان على الحكم أوقف البنك الدولي مساعداته لأفغانستان، وكالة أنباء "موج" الإيرانية، 3/6/1400هـ ش، (تاريخ الدخول: 2 سبتمبر/أيلول 2021): https://2u.pw/Zbqwj
  15. "اجمل احمدی: طالبان به ذخایر ارزی کشور دسترسی ندارد" أجمل أحمدي (رئيس البنك المركزي المعزول): طالبان ليس لديهم إمكانية الوصول إلى أرصدة البلد، 18 أغسطس/آب 2021، وكالة أنباء الأناضول، (تاريخ الدخول: 2 سبتمبر/أيلول 2021): https://2u.pw/VpcNn
  16. " اهرم تحریم: یکی از گزینه های انگلیس برای مهار طالبان" تأثير العقوبات أحد خيارات الإنجليز لاحتواء طالبان، (IRNA) وكالة أنباء الجمهورية الإسلامية،7/شهريور/1400هـ ش، (تاريخ الدخول: 3 سبتمبر/أيلول 2021):  https://2u.pw/PfVVn
  17. چین: امریکا باید در فراهم کردن کمک‌های اقتصادی و بشردوستانه به افغانستان با جامعه جهانی همکاری کند(الصين: يجب على الولايات المتحدة أن تعمل مع المجتمع الدولي لتقديم مساعدات اقتصادية وإنسانية لأفغانستان)، هشت صبح، (تاريخ الدخول: 3 سبتمبر/أيلول 2021):  https://bit.ly/3yQ9JgK
  18. محمود عبد الهادي، "طالبان على أبواب الإمارة الثانية (2) الملاحق السرية"، الجزيرة نت، 30 أغسطس/آب 2021، (تاريخ الدخول: 3 سبتمبر/أيلول 2021): https://2u.pw/FLUkB
  19. معلومات استقاها الباحث عن طريق موظفين في وزارة المعادن الأفغانية.
  20. "سند همکاری 25 ساله ایران و چین امضا شد" توقيع وثيقة التعاون لخمس وعشرين سنة بين الصين وإيران، إذاعة بي بي سي بالفارسية، 27 مارس/آذار 2021، (تاريخ الدخول: 4 سبتمبر/ أيلول 2021):  https://bbc.in/38Hl2NJ  
  21. "چین از امریکا به خاطر وضع "اشفته" در افغانستان از امریکا انتقاد کرد" الصين تنتقد أميركا بسبب الأوضاع المتردية والمضطربة في أفغانستان، إذاعة (دويتشه فيله) الألمانية باللغة الفارسية، 30 أغسطس/آب 2021، (تاريخ الدخول: 4 سبتمبر/أيلول 2021): https://bit.ly/38KVAqF
  22. خيبر سهيل، "چین: امریکا باید در فراهم کردن کمک های اقتصادی وبشردوستانه به افغانستان باجامعه جهانی همکاری کند" الصين: يجب أن تتعاون أميركا مع المجتمع الدولي في توفير المساعدات الاقتصادية والإنسانية لأفغانستان، جريدة هشت صبح باللغة الفارسية، 30 أغسطس/آب 2021، (تاريخ الدخول: 4 سبتمبر/أيلول 2021): https://bit.ly/3n8JCiT