خيارات الطاقة في إفريقيا: سبل تأمين الإمدادات

تحاول هذه الورقة تحليل سياسات الطاقة على ضوء التغيرات المتلاحقة وطنيًّا وإقليميًّا ودوليًّا من خلال التعرف على الفاعلين في مجال الطاقة بإفريقيا ومن خلال الوقوف على أهم التحديات التي تواجه هذا القطاع فضلًا عن التطرق للفرص المتاحة أمام إفريقيا للتحرر الطاقي.
نصف سكان إفريقيا جنوب الصحراء لا يحصلون في الوقت الحالي على الكهرباء (الفرنسية)

قِدْمًا كانت ولا تزال إفريقيا مضمارًا لتنافس القوى الكبرى على مصالحها المتعددة بأرجائها الشاسعة؛ وقد ظلت جسرًا عالميًّا وممرًّا استراتيجيًّا، والتكالبُ الدوليُّ عليها ثابتة جيوبوليتيكية، وتأتي الطاقة في الوقت الراهن على قائمة المطامع الأجنبية مُخلِّفة أثرها على الدوافع والأطراف ثم الأبعاد.

ويعبِّر مجال الطاقة عن ذروة تشابك المصالح الدولية والبحث عن النفوذ والهيمنة بين اللاعبين الدوليين والإقليميين؛ كما يتجلى حينًا في التدخل في الشؤون الداخلية وأحيانًا بمناصرة حليف أو في مستوى حجم التبادل أو إلغاء الديون أو إشعال الحروب إن اقتضى الأمر ذلك واستخدام كل أوراق الضغط. 

ويتقاطع موضوع الطاقة مع السياسة والاقتصاد والاجتماع والأمن والتنمية والتعليم والصناعة وغيرها، وتتعدد أطرافه بين الداخل والخارج؛ ما يجعله في خضمِّ النظام الدولي المعاصر، كما يشكِّل الوقود الأحفوري محدِّدًا أساسيًّا للتفاعلات الدولية وعنوانًا للتفكير الاستراتيجي العالمي.

على الرغم من أن الوحدات السياسية الإفريقية فتية انطلاقًا من عهد استقلالها إلا أنها لم تتأخر في الالتحاق بالسوق العالمية للطاقة، وتتفاوت الدول الإفريقية بشكل كبير في علاقتها بالطاقة أهمية وتوريدًا وإنتاجًا وتصديرًا وتصنيعًا.

ويفرض تأمين الوقود على الشركاء المتشاكسين الواقعية السياسية إبقاءً على مصالحهم الحيوية، أو اعتماد سياسة التوازنات بناء على قاعدة تنويع الشراكات يستوي في ذلك المركز والأطراف، وتختلف أهمية مصادر الطاقة بحسب الأهداف الرئيسية التي تسعى إليها سياسة الطاقة(1).

ويأتي التأطير القانوني للثروات الطبيعية تعبيرًا عن سيادة الشعب على ممتلكاته، وقد انتبهت المنظمة الأممية عبر اجتماعات الجمعية العامة منذ ستينات القرن الماضي إلى ضرورة إرساء السيادة على الموارد الطبيعية والثروات، وتكمل السياسات الدولية كأهداف التنمية المستدامة 2030 وأجندة إفريقيا 2063 التشريعات الوطنية؛ إلا أن البون شاسع بين مبدأ السيادة وتطبيقاته المعاصرة.

ونتساءل هنا عن الفاعلين في مجال الطاقة بإفريقيا، وعن أهم التحديات التي تواجه القطاع، والفرص المتاحة أمام إفريقيا للتحرر الطاقي.

وسنحاول في هذه الورقة تحليل سياسات الطاقة على ضوء التغيرات المتلاحقة وطنيًّا وإقليميًّا ودوليًّا انطلاقًا من المحاور التالية:

أولًا: قطاع الطاقة الإفريقي

عرفت المجتمعات الإفريقية استغلال الموارد الطبيعية منذ القدم، وقد بدأ الكشف والتنقيب عن حقول النفط والغاز أيام الاستعمار، وتزايد الاهتمام بالطاقة مع الاستقلال، لكن يلاحظ أن الدول الكبرى المنتجة للنفط لم تعرف استقرارًا في عقودها الأولى كحالة نيجيريا وأنغولا مثلًا.

وأدت التغيرات الدولية المعقدة بعد انتهاء الحرب الباردة إلى رسم الخارطة الجيوبوليتيكية العالمية وإلى بروز القارة الإفريقية مجددًا على المسرح الدولي لما تزخر به من ثروات ومعادن، واستجابة لصدى التعاون أو التنافس الدولي ثم البحث عن فرص وحلفاء جدد.

تتحكم الشركات الكبرى في قطاع النفط بحكم إمكانياتها الهائلة في مقابل ضعف الدول الإفريقية ماديًّا وعلميًّا، فيما تلعب الشركات الوطنية دورًا محدودًا وثانويًّا، وتعتمد اعتمادًا شبه كلي على الشركات الأجنبية، نذكر منها على سبيل المثال: شركة البترول الوطنية النيجيرية، وشركة سوسيداد/سونانغول الأنغولية، وسوناطراك الجزائرية، وشركة النفط الوطنية في جنوب إفريقيا (بتروسا) إلا أن الأخيرة استثناء قاري، وتمتد أحيانًا عقود تراخيص الشركات النفطية مع الدول الإفريقية إلى أكثر من عشرين سنة، وتوجد عدة أصناف من العقود البترولية(2)، والقطاع مُدِرٌّ للأرباح والثروات الطائلة ومن ثم فلا غرو أن يتحكم عمالقة النفط العالمي في السياسات الدولية.

يتعدد اللاعبون في المجال من مؤسسات دولية كالبنك الدولي إلى شركات متعددة الجنسيات غربية (أوروبية-أميركية) وآسيوية، إلى دول من مختلف القارات. وتحتل منطقة غرب إفريقيا أهمية حيوية خاصة؛ حيث تسيطر على الاستثمار في هذه المنطقة شركات أميركية كبيرة، مثل: إيكسون موبيل Mobil Exxon، وأميرادا هي Hess Amerada ، وشيفرون تكساكو Texaco Chevron، وماراثون أويل Oil Maratho(3).

وتفتح الواجهة الأطلسية الإفريقية للسياسات الطاقية وتحديدًا مع الولايات المتحدة الأميركية ودول غرب أوروبا آفاقًا واسعة، وتتمركز الولايات المتحدة أطلسيًّا في لواندا وخليج غينيا الاستوائية وتشهد حالة تمدد بنواكشوط من خلال مشروع سفارتها وقاعدتها العسكرية في ظل حسابات جيوبوليتكية مرتبطة بتأمين المحيط الأطلسي وإمدادات الطاقة وتكريس وجودها أمام منافسيها ثم التغلغل بالمستعمرات الفرنسية.

وتشكِّل الشواطئ الشرقية ميزة للقوى الآسيوية عمومًا وللأقوى منها خصوصًا (بكين، نيودلهي، طوكيو، طهران، أنقرة)، وما وجود القاعدة الصينية واليابانية بجيبوتي إلا دليلًا على الأهمية الاستراتيجية التي تحظى بها هذه المنطقة في استراتيجية آسيا المتعاظمة بإفريقيا.

وتوفر الشركات العملاقة سلعًا تصديرية للسوق الدولية مما يعزز حضورها وتأثيرها على السياسات الخارجية، ويرجع السبب في تعدد الشركات الأجنبية بإفريقيا إلى ضمان استمرار استخراج الطاقة والتنويع من الشركاء وتخفيف الاعتماد على شريك أحادي، وأخيرًا انفتاح العالم وشدة التنافس على الموارد الأولية.

وتنتظم دول إفريقية في تكتلات نفطية دولية وإقليمية:

ـ رابطة منتجي النفط الإفريقية: Africa Association Producers Petroleum ، وتضم دولًا عربية وإفريقية منتجة للذهب الأسود، وتهدف إلى تطوير القطاع وتلبية حاجة شعوبها من الطاقة.

ـ الدول الإفريقية المنضمة للأوبك وتصل إلى سبع دول، وقد أُنشئت المنظمة بهدف استرداد السيطرة من الشركات متعددة الجنسيات، وهي التي جعلت من النفط سلاحًا استراتيجيًّا ضد خصومها منذ عام 1973.

ولا يتجاوز الاستهلاك الإفريقي من الطاقة 4% عالميًّا، وتحتل الأخشاب المصدر الأول للطاقة وبالأساس في الأرياف، وتفسر هذه النسبة حجم مساهمة القارة في التجارة العالمية، فالطاقة عنوان العصر وسلم التقدم، ففي بلد كالكونغو بمساحته وثرواته يشكِّل الخشب والفحم النباتي أربعة أخماس الطاقة المستخدمة في منازل جمهورية الكونغو الديمقراطية(4)، وتعتبر الجزائر ومصر وجنوب إفريقيا كبرى الدول الإفريقية المستهلكة للنفط حيث تمثل مجتمعة 54% من استهلاك القارة النفطي(5).

ثانيًا: مصادر الطاقة

لا يزال الوقود الأحفوري كالفحم والنفط والغاز واليورانيوم يمثل النسبة الأعلى من مصادر الطاقة، إيرادًا وتصديرًا، وتتوزع جغرافية إفريقيا موارد طبيعية وثروات تضعها في الرتب المتقدمة عالميًّا، كما تتعدد مصادر الطاقة البديلة بها كالشمس، والرياح، والمياه.

  • النفط

من سمات النفط الإفريقي القرب والجودة وقلَّة التكاليف، وتبلغ احتياطات القارة النفطية حوالي 10% عالميًّا، وتَعِدُ مصفاة دانغوت، رجل الأعمال النيجيري، بريادة في الصناعات الهيدروكيماوية مما يقلِّل ولو نسبيًّا من الاعتماد على الشركات الأجنبية لأبوجا ويساعد على استغلال المواد المستخرجة من النفط وزيادة الناتج المحلي الإجمالي.

وتستهلك الصناعات العملاقة غالبية الطاقة العالمية عبر المحور الثلاثي، وتعتبر أكثر المناطق استهلاكًا للنفط عالميًّا هي منطقة آسيا أي بنسبة 30% تليها شمال أميركا بنسبة 27.4% ثم قارة أوروبا 24.3%(6)، وهي نِسَب مرشحة للارتفاع بسبب استخدام التكنولوجيا الحديثة.

وتستفيد الاقتصادات الضعيفة من انخفاض سعر البترول مقابل تضرر الدول النفطية الكبرى من تقلبات الأسعار الدولية مما قد يؤثر سلبًا على الناتج المحلي الإجمالي.

  • الغاز

تبلغ احتياطيات الغاز الإفريقي حوالي 13-15% عالميًّا(7)، ومن المتوقع زيادة الطلب العالمي على الغاز الطبيعي في العقود القادمة، ويتصدر الشرق الأوسط سوق الغاز العالمية، إلا أن الاكتشافات القارية واعدة.

وقد يساعد الغاز النيجيري الأوروبيين على تقليل الاعتماد على الروس والافتكاك من هيمنة موسكو على بروكسل عبر مشروع مدِّ خط أنابيب الغاز العابر للصحراء؛ ما يجعل من إفريقيا قارة التنافس والتوازن. وتعرف موزمبيق في السنوات الأخيرة اكتشافات هائلة من النفط والغاز الطبيعي والفحم، مصادر الوقود الثلاث التي تقوم ببناء الاقتصاد الحديث معًا(8)، كما تزوِّد دول الجوار بالغاز.

ويتوفر الشريط الساحلي وشواطئ المحيط الأطلسي على احتياطيات كبيرة من البترول والغاز طولًا وعرضًا امتدادًا على محورَيْ داكار-دارفور والرباط-أنغولا، والاكتشافات بدارفور، 2005، وفي السواحل البحرية السنغالية-الموريتانية شاهدة على ذلك.

والمعروف أن هناك أربعة لاعبين مهمين في الجيوستراتيجية التي تسعى للتأثير في تدفق النفط والغار لاسيما في مجال الاستهلاك، وهي الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين والاتحاد الأوروبي باعتبارهم أكبر المستهلكين في العالم، ومن الواضح أن الولايات المتحدة والصين هما أهم لاعبيْن فيها(9).

وستظل بكين معتمدة في احتياجاتها الطاقية على الموارد الإفريقية بحكم اقتصادها المتنامي، والبحث عن شركاء جدد، وقد زاحمت الصين دولًا غربية عديدة فعززت صادراتها التجارية مثلا إلى الغابون وأنغولا، ثم إن وتيرة السرعة التي تسير بها بكين مع العواصم الإفريقية منذ بداية الألفية دليل على ما يخبئه المستقبل لهذه الدولة الآسيوية من تنام متعاظم، كما نلمس ذلك مع أبوجا وليبرفيل.

بيد أن روسيا ورغم نجاحها في السنوات الأخيرة في إحداث اختراقات مهمة في القارة فإن المقارنة بمنافسيها تكشف عن وجود قدر من المبالغة في تضخيم الدور الروسي هناك(10)، وقد تكون خطة موسكو البحث عن شركاء في مجال الغاز بحكم ارتفاع إنتاجها وخبرتها المتراكمة ووضع يدها على السوق الغازية الإفريقية مستقبلًا.

وتنشط الشركة الفرنسية العملاقة (توتال) بإفريقيا، وتستحوذ على جزء كبير من الاستثمارات الطاقية خارج مناطق نفوذها التقليدية، منفردة أو متحالفة مع الصناعات النفطية العالمية وإن تراجع دورها أمام واشنطن وبكين.

  • اليورانيوم

يعتبر اليورانيوم من المواد الاستراتيجية، ومن بين الدول الأكثر إنتاجًا له النيجر وناميبيا وجنوب إفريقيا ومالاوي، وتستحوذ عليه شركات أجنبية؛ أشهرها شركة أريفا AREVA الفرنسية بالنيجر، كما تتنافس عليه شركات أخرى كندية وأسترالية وصينية.   

منذ عودتها إلى المنتظم الإفريقي، 1994، فإن بريتوريا من الدول المتقدمة نوويًّا في القارة وشريك أساسي إقليمي ودولي، وإلى جانب جمهورية جنوب إفريقيا فقد أعلنت كل من مصر ونيجيريا، في عام 2006، عن اتخاذ خطوات بشأن إنشاء أول محطة نووية في كل منهما، وفي عام 2007 أعلنت ناميبيا اهتمامها ببحث خيار الطاقة النووية على المدى البعيد(11).

فيما فرضت لواندا نفسها كفاعل في القضايا الإفريقية بعد خروجها من الحرب الأهلية المدمرة، واستطاعت بناء اقتصاد ريعي قائم على مواد الخام وأداء دور إقليمي سياسيًّا وعسكريًّا وماليًّا، وها هي اليوم تصنَّف ضمن أكبر ثلاثة اقتصادات في المنطقة؛ وهي: نيجيريا وجنوب إفريقيا وأنغولا(12)، وتشبهها مالابو (عاصمة غينيا الاستوائية) في استفادتها من ثرواتها بخلاف ليبرفيل وأبوجا.

وإلى جانب الوقود الأحفوري، توجد الطاقة البديلة كالطاقة الشمسية، وتعد التجربة المغربية من أنجح التجارب الإفريقية، وتظل إمكانية الحصول على الطاقة من حوض الكونغو هائلة، والواقع أن الكهرباء المتولدة عن الماء وحدها، إذا ما طوِّرت، قد تصل إلى ما يقرب من سدس الإجمالي العالمي(13).

ثالثًا: حاجة إفريقيا إلى الطاقة

نحو نصف سكان إفريقيا جنوب الصحراء لا يحصلون في الوقت الحالي على الكهرباء، والذين يحصلون عليها يدفعون في المتوسط حوالي ضعف ما يدفعه المستهلكون في الأماكن الأخرى من العالم(14).

ولا تزال السياسات القارية عاجزة عن توفير الكهرباء لمواطنيها، فضلًا عن الاحتياجات الثانوية المرتبطة بالوقود، وقد أطلق البنك الإفريقي للتنمية، 2016، مبادرة جديدة تهدف إلى إضاءة إفريقيا وإمدادها بالطاقة، والوصول الشامل للكهرباء بالقارة في أفق 2025(15).

وتبلغ المساهمات الحكومية الإفريقية الحالية في الاستثمارات في قطاع الطاقة حوالي 0.3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي فقط(16)، وباستخدام 2-3% فقط من الناتج المحلي الإجمالي السنوي ستُسَدُّ الفجوة الاستثمارية المذكورة أعلاه.

وستزداد سياسة الربط الطاقي مستقبلًا إذ صارت همًّا قاريًّا؛ إما بسبب مصلحة البلدان الإفريقية ذاتها أو بسبب مصالح اللاعبين الكبار، كالربط بين شمال المتوسط وجنوبه عبر مشاريع طاقية بديلة، ويُسهِّل موقع القارة من الانفتاح والتواصل مع مختلف مناطق العالم من خلال المضايق والبحار والمحيطات.

وتوجد مشاريع قيد التنفيذ على مستوى الأقاليم الفرعية كما في غرب القارة مع مشروع (WAGP)، وفي شرقها حيث سيربط خط الأنابيب البالغ طوله 1800 كيلومتر احتياطيات الغاز الطبيعي الغنية في تنزانيا وصناعة الصلب المتطورة في أوغندا، ويعزز النمو الاقتصادي من خلال التصنيع. ومن المتوقع أن يبدأ المشروع عملياته في عام 2026(17).

وستسهم تلك الخطوط (غاز، نفط، كهرباء) في المدَيَيْن، المتوسط والبعيد، في تقاسم الثروات بين أبنائها علاوة على زيادة التعاون، والاستقلال النسبي واندماج الاقتصاد الإفريقي عبر تفعيل اتفاقية التجارة الحرة القارية، وما من شك في أن توفير الطاقة سيمكِّن إفريقيا من تسريع وتيرة الاقتصاد والنقل والإدارة ومرافق الحياة المعاصرة بصورة عامة.

رابعًا: التحديات

  • التمويل

يتطلب استخراج الطاقة وتوظيفها أرقامًا فلكية تصل لمليارات الدولارات التي لا تتوافر لكثير من الدول بسبب العجز الاقتصادي، وقد لعبت بعض العوامل السياسية والاقتصادية مثل تأخر استقلال الدول الإفريقية والإرث الاستعماري لما بعد الاستقلال والصراعات الداخلية والديون الخارجية المتراكمة دورًا سلبيًّا وعائقًا أمام الاستثمارات الخارجية(18).

يشمل الاستثمار في النفط مجالات عدة كالتنقيب والاكتشاف والتكرير والتطوير والإنتاج والتسويق، ويعتمد أساسًا على رأس المال الأجنبي، وثمة مبادرات نحو الاستثمار القاري. على سبيل المثال، قامت مؤسسة "رنيسانس كابيتال" بإنشاء الصندوق الإفريقي "أفريكان فاند"، وصندوق "أوريكس إس إيه فاند" الذي يعد صندوق التحوط الأكبر في جنوب إفريقيا، للتركيز بشكل فردي على السندات والسلع ذات الصلة بالقارة الإفريقية. كما قامت ليبيا بخطوة مماثلة عبر إنشاء "محفظة ليبيا إفريقيا للاستثمار" المختصة بالاستثمار في كافة المجالات والقطاعات الاقتصادية بالقارة الإفريقية(19).

ثم إن البلدان النامية أمامها اليوم فرصة غير مسبوقة، وهي إمكانية إنهاء الفقر المدقع خلال جيل واحد. وفرصة كهذه ينبغي اغتنامها وعدم إضاعتها(20)، كما يؤكد خبراء المالية.

  • التحدي الأمني

أدَّت لحظة 11 سبتمبر/أيلول وما أعقبها من الحرب الدولية على الإرهاب ومحاصرة الجماعات المسلحة في العالم وصولًا لإفريقيا إلى بلورة فكر استراتيجي يضع في الصدارة الاعتبارات الأمنية لحماية المصالح القومية خارج العالم الصناعي كتأمين الإمدادات من الطاقة.

وترتبط الطاقة بالأمن والتجارة مشكِّلة مثلث النفوذ، كالعلاقات العسكرية الصينية-النيجيرية، ومن مهام القيادة الأميركية تأمين موارد النفط بإفريقيا، وتنفيذ الاستراتيجية الأميركية العالمية والمتمحورة حول الأمن والطاقة لاسيما في هذه القارة(21).

وقد أدى تصاعد وتيرة العنف بدلتا النيجر إلى إغلاق معظم المرافق في الدلتا، مسبِّبًا خفض معدل الإنتاج عام 2006 بنسبة 50%، وقدَّرت وزارة المالية أن هذه الأزمة كلَّفت الحكومة خسارة إيرادات بقيمة 4.4 مليارات دولار(22). ومن هنا، لا يمكن الفصل بين وجود القواعد العسكرية الأجنبية في جيبوتي لحماية أمن بلدانها وبين الحفاظ على مصالحها الحيوية وعلى رأسها الوصول إلى منابع النفط كهدف استراتيجي وسياسي، ومع أن السباق محموم بين القوى الكبرى التقليدية والصاعدة على المعادن والمواد الأولية الإفريقية فإنه مرشح للازدياد.

وليس من المستبعد خوض القوى الكبرى حروبًا بالوكالة على أرض إفريقية بسبب أهمية الطاقة في الوقت الراهن لاقتصاداتها، خصوصًا إذا أخذنا في الاعتبار الانتشار العسكري المتفاقم للدول الكبرى في البلدان الإفريقية منذ بداية الألفية الثالثة.

غير أن التكالب الدولي يسفر أحيانًا عن نوع من تغذية التنافس القاري بين القوى الإقليمية الفرعية نتيجة ازدياد العوائد البترولية كما هي الحال في شمال إفريقيا بين الجزائر والرباط وأنغولا وجنوب إفريقيا، أو تسخير الموارد بحثًا عن دور إقليمي محوري في عهد إدريس ديبي بالساحل والصحراء.

وهنا، تأتي أهمية التعاون الطاقي بين الجارين، السنغالي والموريتاني، للغاز المشترك من "حقل السلحفاة الكبير-أحميم" ، والتشادي-الكاميروني لتصدير النفط على مسافة تزيد عن 1000 كلم منذ 2003.

خامسًا: أفق التحرر الطاقي

يعتبر التلاحم بين الطاقة والعلم "التصنيع" أحد المخارج الآمنة لتأمين الإمدادات، بعد بناء الدولة وترشيد النفقات على شكل يضمن التكوين العالي وتوطين التكنولوجيا والشفافية وتعميم المعلومات وتهيئة فضاء علمي يمكِّن الأجيال الناشئة من استغلال ثروات القارة وتسخيرها لصالحها.

علمًا بأن تقاسم عائدات الطاقة عموديًّا وأفقيًّا لا يزال مثار جدل واهتمام الرأي الوطني والدولي، ما يعيد دومًا مسألتَيْ الشفافية والتصرف في المال العام إلى الواجهة. وتتبادل الدول والشركات النفطية التهم جرَّاء الفساد وسوء إدارة العائدات المخصصة للجماعات المحلية كحالة شركة شل مع الحكومة النيجرية.

فلو تضافرت الموارد على تنوعها مع إدارة وطنية رشيدة وعمل القوة الديمغرافية الفتية واستغلال الأراضي الشاسعة وتوظيف التكنولوجيا الحديثة لتخلصت إفريقيا من أزماتها الخانقة ولنافست القوى الكبرى في ظرف وجيز.

خاتمة

يرسم استخدام الطاقة ملامحَ المستقبل الإفريقي في القرن الواحد والعشرين مع اختلال موازين القوى بين الأطراف الفاعلة، فيما تشهد إفريقيا حضورا دوليا وصراعا بين القوى الكبرى على تأمين الوقود، وقد ازداد دورها في الوقت الراهن بسبب اعتماد الاقتصاد العالمي على الطاقة، وتسابقت الدول العظمى نحوها كسبا لمزيد من القوة والنفوذ على حساب مسيرة القارة التحررية والتنموية.

إلا أن إمكانيات القارة الطاقية لا تترجم حجمها الإقليمي حتى في توفير احتياجاتها الأساسية فضلا عن أداء دور عالمي مرتقب في أي ملف من الملفات الشائكة سواء تعلق الأمر بالأمن أو الاقتصاد أو الدبلوماسية.

نبذة عن الكاتب

مراجع

(1) الغابات والطاقة، عرض الطاقة والطلب عليها: الاتجاهات والاحتمالات، ص17، تقرير منظمة الزراعة العالمية بدون تاريخ، (تاريخ الدخول: 14 أغسطس/آب 2021):

https://bit.ly/3zaoVFM

(2) Seydou KA-lesoleil.sn ,  Dr Pape Mamadou Touré : «la Covid-19 n’a pas eu d’effets juridiques majeurs sur les projets pétroliers et gaziers du Sénégal, SeneWEb du 21 août, 2021, (Vu le 21 Aout 2021):

https://bit.ly/3llmM5c

(3) د. أيمن شبانة، النفط الإفريقي: عندما تتحرك السياسة الأميركية وراء الموارد، العدد الثاني، فبراير/شباط 2013، مجلة إفريقيا قارتنا، ص4، (تاريخ الدخول: 14 أغسطس/آب 2021):

https://www.sis.gov.eg/newvr/africa/2/12.pdf

(4) وانغاري ماثاي، إفريقيا والتحدي، ترجمة: أشرف محمد كيلاني، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، مارس/آذار 2014-الكويت، ص245.

(5) المنتدى رفيع المستوى حول التعاون العربي الإفريقي في مجال الاستثمار والتجارة، الجماهيرية الليبية 25/26 سبتمبر/أيلول 2010، الواقع والآفاق المستقبلية للنفط والغاز بالقارة الإفريقية، ص16، (تاريخ الدخول: 17 أغسطس/آب 2021):

https://bit.ly/3huXHDK

(6) المرجع السابق، ص15.

(7) Adama WADE , l’Afrique peut peser entre 13 et 15% des réserves mondiale, Finance Afrik, 2019/06/12, (Accessed 05 september, 2021):

https://bit.ly/396dOTG

 (تاريخ الدخول: 5 سبتمبر/أيلول 2021).

(8) التوقعات لمجال الطاقة، الوفاء بالإمدادات المستقبلية، موقع إكسون موبيل، 8 يوليو/تموز 2019، (تاريخ الدخول: 17 أغسطس/آب 2021):

https://exxonmobil.co/3tGI5lf

(9) د. حسن صادق جاحم، التنافس الأميركي-الصيني على الطاقة في إفريقيا، المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، برلين-ألمانيا، الطبعة الأولى 2020، ص49.

(10) عبد القادر محمد علي، الحضور العسكري الروسي في إفريقيا ودلالاته، مركز الجزيرة للدراسات، 19 مايو/أيار 2021، ص8، (تاريخ الدخول: 11 أغسطس/آب 2021):

https://bit.ly/3lm6rgx

(11) مجلة الوكالة الدولية للطاقة الذرية 1/49، سبتمبر/أيلول 2007، ص39، (تاريخ الدخول: 5 سبتمبر/أيلول 2021):

https://bit.ly/3EiDWJ8

(12) تقرير إفريقيا 2017/18، الأسواق العقارية في قارة من الازدهار والفرص، الأبحاث Knight Frank  ص3، (تاريخ الدخول: 12 أغسطس/آب 2021):

https://bit.ly/2XfUUHO

(13) وانغاري ماثاي، إفريقيا والتحدي، مرجع سابق، ص247.

(14) غريغور شوبرهوف ومحمدو سي، حيث تسطع الشمس، التمويل والتنمية، مارس/آذار 2020، ص54، (تاريخ الدخول: 5 سبتمبر/أيلول 2021):

https://bit.ly/3CcNBiz

(15) REVUE DES RÉFORMES DU SECTEUR DE L’ÉLECTRICITÉ EN AFRIQUE, p : 14, (Vu le 14l/08/2021):

https://bit.ly/3k60S6q

(16) مذكرة مفاهيمية، زيادة ميزانية الحكومات الإفريقية لتمويل تطوير قطاع الطاقة، موقع إنكرايزينغ أفريكا، أكتوبر/تشرين الأول 2016، ص3، (تاريخ الدخول: 10 أغسطس/آب 2021):

https://bit.ly/2YJnAcj

(17) خط أنابيب الغاز الطبيعي داخل إفريقيا: العمليات والمشاريع القادمة، موقع ستاو، 19 فبراير/شباط 2021، (تاريخ الدخول: 24 أغسطس/آب 2021):

https://www.seetao.com/details/64813.html

(18) المنتدى رفيع المستوى حول التعاون العربي الإفريقي في مجال الاستثمار والتجارة، مرجع سابق، ص4، (تاريخ الدخول: 16 أغسطس/آب 2021).

(19) المرجع السابق، ص: 4.

(20) التقرير السنوي لمؤسسة التمويل الدولية 2013، ص4، موقع البنك الدولي، (تاريخ الدخول: 22 أغسطس/آب 2021): https://bit.ly/3hrdjIk

(21) د. حسان صادق حاجم، التنافس الأميركي-الصيني على الطاقة في إفريقيا، مرجع سابق، ص176.

(22) تقرير شل حول التنمية المستدامة لعام 2006، ص32، موقع شل، تقرير عام 2006، (تاريخ الدخول: 19 أغسطس/آب 2021):

https://go.shell.com/3AauTHY