الانتخابات العراقية: واقع سياسي جديد متغير ومتوتر

أسفرت الانتخابات البرلمانية العراقية عن نتائج قد تعيد تشكيل الخارطة السياسية بشكل كبير، سواء في العراق، أوفي السياق الإقليمي. وقد واجهت على الفور طعنا بنزاهتها من قبل قوى فقدت الكثير من مقاعدها، ومن بينها قوى مسلحة، مما يهدد بنشوب صراع أهلي، أو تسوية هشة.
مفوضية الانتخابات أكدت سلامة إجراءاتها بعد أن واجهت من الخاسرين اتهامات بالتقصير وسوء التنظيم (الجزيرة)

أفرزت الانتخابات البرلمانية العراقية صراعًا جديدًا في العراق، لا يستبعد اللجوء للسلاح، وذلك قبل الانتهاء رسميًّا من فرز الأصوات والإعلان عن النتائج النهائية.

كانت النتائج الأولية التي أُعلنت مساء الاثنين، 11 أكتوبر/تشرين الأول (2021)، قد فرضت خارطة سياسية جديدة ومثيرة للاهتمام، لاسيما في المجال السياسي الشيعي؛ حيث تهاوت قوى سياسية كبيرة وتلاشى بعضها بلا أي مقعد في البرلمان، فيما حظيت قوى سياسية جديدة بحضور مفاجئ كبير ومهم، ومنهم على وجه الخصوص، الناشطون المدنيون الشباب، المشاركون في احتجاجات أكتوبر/تشرين الأول أو من يسمَّون بالتشرينيين.

حصل التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر على الصدارة المطلقة متقدمًا بنحو الضعف على أقرب منافسيه. ففي النتائج الأولية، بلغ عدد مقاعد التيار 73 مقعدًا، وهو ما يمثل أكثر من 40% من عدد المقاعد التي حصل عليها كل المرشحين الشيعة أحزابًا ومستقلين والبالغة نحو 176 مقعدًا، وقد تتغير هذه الأرقام صعودًا أو نزولًا بعد الانتهاء من فرز الأصوات بكاملها وحسم الشكاوى، لكن هذا الفوز المؤثِّر للصدريين، المدعومين بشارع واسع شديد الولاء، وقوة مسلحة كبيرة، وزعامة مطلقة ذات هيمنة دينية وسياسية، كل ذلك يجعل من تأثير الفوز القوي والصريح لهم عنوانًا واسعًا للنفوذ السياسي سواء في البرلمان أو الحكومة أو في الشارع.

خلاف سياسي شيعي

لكن مثل هذه الصورة المتوقعة في المشهد السياسي هي مجرد افتراض نظري، دون حساب الرفض المتوقع من قوى سياسية شيعية ومسلحة تجد في التيار الصدري خصمًا لدودًا ونقيضًا نوعيًّا مهدِّدًا بقوة لمشروعها في العراق، وما يمكن أن يترتب عليه، من فوضى ونزاع مسلح، أو من تسويات سياسية قد تخلق واقعًا سياسيًّا متوترًا وغير فاعل للسنوات القادمة.

هذه القوى، متجسدة على الخصوص بكل من تحالف الفتح بزعامة هادي العامري وما يضمه من كيانات سياسية تمثل القوى المسلحة القريبة من إيران ودولة القانون بزعامة نوري المالكي، سارعت فورًا لرفض النتائج والطعن في مصداقيتها، ولوَّحت بشكل مباشر باللجوء إلى السلاح في مواجهة واقع سياسي جديد اعتبرته مهدِّدًا مباشرًا لمصالحها بل ولوجودها بكامله.

وقد حفز (خطاب النصر) الذي ألقاه الصدر، مساء يوم 11 أكتوبر/تشرين الأول، هذه المخاوف، حينما وعد بأن الحكومة التي يُفترض أن يشكِّلها تياره ستجعل العراقيين "يعيشون بأمان بلا احتلال ولا إرهاب ولا ميليشيات تخطف وتروع وتنقص من هيبة الدولة". ومضى قائلًا: "لن نسمح بالتدخلات على الإطلاق، ومن الآن فصاعدًا يجب حصر السلاح بيد الدولة، ومنع استخدامه خارج هذا الإطار، وإن كان ممن يدَّعون المقاومة". وغالبًا ما يهاجم الصدر القوى المسلحة المؤيدة لإيران المعروفة بالميليشيات الولائية التي تضع نفسها ضمن ما يُعرف (محور المقاومة) الذي يمتد عبر المنطقة وتتزعمه إيران، ويعتبر أنها (ميليشيات وقحة)، ويتوعد بأنه سيقضي عليها في حال تكليف تياره برئاسة الحكومة.

خارج الصراع المتطور داخل الهيكل السياسي الشيعي بين الصدر وخصومه (الولائيين)، فإن قوة أخرى ناشئة برزت بقوة في هذه الانتخابات تمثل قوى الاحتجاجات التي تكرست في بغداد والمناطق الشيعية على وجه الخصوص، وقد حظيت هذه القوى من خلال حركتين سياسيتين جديدتين، هما: (امتداد) و(إشراقة كانون)، مجتمعة بأكثر من 20 مقعدًا، تشكِّل ثقلًا مهمًّا في البرلمان الجديد لاسيما إن تحالفت مع التيار الصدري أو مع قوى معارضة خارج الأطر السياسية التقليدية، وهؤلاء الفائزون الجدد -وجُلُّهم من الشباب الناشطين- يعبِّرون عن تطور مهم في الوعي الشعبي في مدن الجنوب العراقي الذي ظل محكومًا منذ عام 2003 بقوى الإسلام الشيعي التقليدية، حتى كانت احتجاجات تشرين الأول 2019 علامة فارقة في الوعي السياسي الشيعي الشعبي العراقي، وقد زادت حدة خصومتها بل وعدائها مع الأحزاب التقليدية والقوى المسلحة التابعة لها أو القريبة منها بعد مقتل المئات من الناشطين وجرح آلاف آخرين.

ولم تقتصر مخاوف القوى السياسية الشيعية على ما خسرته في حواضنها الطبيعية بجنوب العراق، بل يشمل أيضًا مناطق أخرى باتت تخرج من دائرة نفوذها، وأبرزها محافظة ديالى (شمال شرقي بغداد) المختلطة طائفيًّا وعرقيًّا؛ حيث تعرضت المحافظة التي تعتبر أقصر طريق بري بين الحدود الإيرانية وبغداد، إلى محاولات هيمنة سياسية وأمنية شيعية مستمرة منذ 2003، بغضِّ النظر عن واقعها الديمغرافي الحقيقي، وكانت منظمة بدر بزعامة هادي العامري هي المسيطرة فعليًّا على المحافظة، وأغلبية مقاعدها، وهو ما تغير بشكل واسع في هذه الانتخابات حيث هيمن السُّنَّة لأول مرة على ثلثي المقاعد النيابية الممثِّلة للمحافظة في مجلس النواب، وكان ذلك تحديًا من نوع آخر، يتعلق بالهمينة الطائفية، لكنه اعتُبر تحديًا مؤجلًا أمام إشكالية العلاقة الشيعية-الشيعية.

السُّنَّة وهيمنة (تقدُّم)

على الصعيد السُّني، هيمن تحالف (تقدم) الذي يتزعمه رئيس البرلمان المنصرف، محمد الحلبوسي، على أكثر من نصف المقاعد التي حصل عليها السنَّة مجتمعين، سواء كانوا أحزابًا أو مستقلين، فقد حصل في النتائج الأولية على 38 مقعدًا، من بين نحو 74 مقعدًا فاز بها مرشحون سُنَّة، وقد تزيد الأرقام التي حصل عليها (تقدم) بعدما أعلن عدد من المستقلين الفائزين انضمامهم له، ومع احتمالات أن يفوز عدد آخر من مرشحيه عند فرز الأصوات المتبقية.

ولم تحصل في الوسط السياسي السُّني ردود فعل عنيفة من قبل الخاسرين كما حصل مع القوى الشيعية، فقد اكتفى بعضهم ببيانات تطعن في نزاهة الانتخابات، كما فعل الحزب الإسلامي الذي لم يفز -لأول مرة- بأي مقعد، وكذلك شخصيات سياسية سُنِّية تقليدية فشلت بالفوز مثل رئيسي البرلمان الأسبقين، أسامة النجيفي وسليم الجبوري، وشخصيات أخرى، بعضها كان عضوًا في جميع الدورات السابقة لمجلس النواب.

ولا يُتوقع أن يكون لغياب الشخصيات الخاسرة أثر كبير على الحراك السُّني في مجلس النواب؛ فقد كانت الدورة الأخيرة من المجلس قد شهدت تراجع تأثيرهم بالأصل لصالح بروز قوة الحلبوسي، وبعض القوى الأصغر، فيما ينبئ حصول كتلة (عزم) بزعامة خميس الخنجر على 14 مقعدًا فقط، بتراجع وربما توقف مبكر لقاطرتها السياسية لاسيما أن الخنجر نفسه لم يُرشَّح للانتخابات كما أن رئيس المكتب السياسي للكتلة وزير الدفاع الأسبق، خالد العبيدي، فشل بدوره في الفوز.

الكرد وهيمنة الديمقراطي الكردستاني

ومن جانبهم، حقق الكرد أيضًا مفاجآت واضحة، فالحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البرزاني نال 34 مقعدًا وهو ما يمثل نحو ثلثي عدد المقاعد التي حصل عليها الكرد مجتمعين والبالغة 54 مقعدًا، فيما فقد حزب الاتحاد الوطني الكردستاني مقعدين من رصيده في البرلمان المنصرف ليفوز هذه المرة بـ16 مقعدًا، بينما فشلت حركة التغيير في الحصول على أي مقعد، وحصلت حركة جديدة معارضة هي (الجيل الجديد) على 8 مقاعد، وهو ما اعتبر مفاجأة في اختراق الوسط السياسي الكردي المحكوم بدوره بالقوى السياسية التقليدية.

بطبيعة الحال، يمكن تفهم النتائج الكردية بالوضع الذي يعيشه الاتحاد الوطني الكردستاني وانقساماته الداخلية، وكذلك عدم قدرة حليفته، حركة التغيير، على إيجاد بديل كاريزمي لمؤسسها وزعيمها الراحل، أنو شيروان مصطفى، الذي توفي في العام 2017، وهو ما وفر للديمقراطي الكردستاني فرصة تحقيق الفوز حتى في السليمانية حيث معقل كل من (الاتحاد) و(التغيير)، كما منح هذا الوضع (الجيل الجديد) فرصة الاستئثار بأصوات الرافضين للأحزاب التقليدية.

تغير متوتر للواقع السياسي

في ظل هذه الخارطة وما فيها من متغيرات، لا يمكن توقع حصول انتقال هادئ نحو واقع سياسي جديد، ليس فقط بسبب الطموحات السياسية للأحزاب والأشخاص، بل ما تعنيه هذه المتغيرات الحادة من تأثير على مشاريع إقليمية بأذرع محلية، فقد اعتُبرت إيران -إلى حدٍّ كبير- خاسرًا أساسيًّا بعدما فقد حلفاؤها التقليديون هيمنتهم الطويلة، ولن يكون مفيدًا جدًّا بالضرورة حصول المالكي على عدد كبير نسبيًّا من المقاعد (37 مقعدًا)، فهو يمكن أن يصبح مركزًا لتحالف شيعي قوي يضم الولائيين ومن يقترب منهم  بأكثر من 90 مقعدًا، لكن هذا التحالف سيحتاج من جانب الى كتل أخرى غير شيعية ليصل إلى الثلث المؤثر. ومن جانب آخر، فإن التحدي الحقيقي لن يكون في سياق اللعبة البرلمانية، بل في مخاوف حقيقية من إقدام حكومة يقودها الصدريون على مواجهة النفوذ الإيراني القوي في العراق، ونزع سلاح الفصائل الولائية، والتعامل بحزم مع الفساد ومظاهره التي يشكِّل بعضها مصادر دخل أساسية لهذه الفصائل.

وتدرك إيران أن الشارع الشيعي لم يعد قابلًا بشكل عام للتحكم الطائفي، بل إن جزءًا مهمًّا منه بات ينظر لإيران والقوى المحلية القريبة منها بشكل سلبي، لاسيما خلال احتجاحات تشرين التي شهدت هجمات ضد القنصليات الإيرانية في البصرة وكربلاء وحرق صور لقيادات إيرانية، وشعارات مناوئة للقوى السياسية والمسلحة القريبة من إيران، وقد تكون هذه المشاعر أحد أبرز الأسباب التي تسببت بالنتائج الحالية للانتخابات.

لن يفوِّت الصدر مثل هذه الفرص لتنفيذ أجندته، لاسيما إن تحالف مع الحلبوسي والبرزاني والتشرينيين ليحصل على أغلبية مريحة عابرة للطائفية والعِرقية، ويحظى بتأييد الشارع المحتج، وهو ما يتسبب بعزل للقوى الولائية، وزيادة فرص الصدام الذي قد يصبح حتميًّا آنذاك وسيُحسب على أنه صراع تثبيت هيبة الدولة كما توعد في خطابه الأخير، وليس صراعًا شيعيًّا-شيعيًّا، حتى وإن كان جزءًا منه كذلك.

وقد تكون هناك فرص لتسوية سياسية، يمكن أن تقنع المعترضين بقبول النتائج مقابل أثمان معينة، مثل إجراء تعديلات عليها، أو منحهم ضمانات بعدم التعرض لهم ولسلاحهم، والقبول بوجودهم ضمن سياق معين، وقد تستغرق هذه التسوية –إن تحققت- وقتا طويلا بانتظار توافق إقليمي ودولي، وفرض إرادات بشكل أو بآخر على الأطراف المختلفة، قد يكون من بينها طرح نوري المالكي كرئيس للوزراء، مقابل حصول التيار الصدري على عدد مناسب من الوزارات والنفوذ داخل الدولة، وذلك لتهدئة مخاوف القوى الولائية المسلحة من جانب، وسيطرة الصدريين على المفاصل التنفيذية في البلاد، حسب استحقاقهم الانتخابي من جانب آخر.

 لكن مثل هذه التسوية، ستكون مرهونة بموقف المتغيرين السني والكردي اللذين يمكن أن يتدخلا بقوة في تشكيل تحالفات الحكم المقبلة، كما أنها قد لا تكون واقعية تماما، بسبب الخصومة الشديدة، وانعدام الثقة بين المالكي والصدر، وقد يصر الصدر على تعيين رئيس الحكومة من تياره كما كان قد طالب مرارا من قبل، مقابل ضمانات للولائيين، ومثل هذا الخيار إن تحقق لن يكون له سوى أثر مؤقت، وسيبقى التوتر سيد الموقف، ليس فقط بسبب نمط الخصومة القوية بين القواعد الشعبية للصدريين والولائيين، بل أيضًا بسبب تدخلات خارجية متوقعة قد يكون من مصلحتها تعزيز قوة هذا الطرف أو ذاك، فالعراق بوضعه الراهن يبقى بالنسبة للكثير من دول الإقليم ساحة ومنطلقًا  للنفوذ الإقليمي، وحتى الدولي، ولن يمضي الكثير -إذا ما اجتمعت كل هذه المحفزات أو بعضها- حتى ينشب الصراع الذي كان متوقعًا منذ وقت ليس بالقصير.

نبذة عن الكاتب