تغيَّر المناخ السياسي والأمني في العراق بشكل حاد ومفاجئ بعد الإعلان عن تعرض رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، لمحاولة اغتيال فاشلة فجر الأحد الماضي بطائرة مسيَّرة أصابت منزله وتسببت بأضرار مادية جسيمة. على الفور تحول كامل الانتباه المحلي والدولي، إلى اتهام مباشر للفصائل المسلحة بمحاولة تقويض الدولة، وممارسة الإرهاب ضد رموزها السيادية، بعدما كانت هذه الفصائل ذاتها تسيطر قبل ذلك بساعات على المجال العام، وتمارس تصعيدًا حادًّا ضد الحكومة العراقية ورئيسها والقوات الأمنية متعلِّلة بسقوط ضحايا من بين المتظاهرين المناصرين لها في رفض نتائج الانتخابات.
تسبب حادث الاغتيال الفاشل، في تكوين رأي عام عراقي وعالمي ناقم على الفصائل المسلحة ومُطالِب بالقضاء عليها، فيما تحولت هذه الفصائل من موقف الهجوم إلى الدفاع، محاولة نفي الاتهامات التي طالتها بتنفيذ الهجوم، وصدرت عن قادتها بيانات تندد بالمحاولة الفاشلة وتنسب الأمر إلى الولايات المتحدة أو (أطراف ثالثة)، معتبرة أنها مؤامرة مدبرة للنَّيْل منها.
جرت محاولة اغتيال رئيس الوزراء عبر ثلاث طائرات مسيَّرة مفخخة استهدفت منزله في المنطقة الخضراء خلال وجوده هناك حسب بيان لوزارة الداخلية، وقد جرى إسقاط اثنتين من الطائرات المهاجمة، فيما أصابت الثالثة هدفها، وتسببت بخسائر مادية ولكن من دون إحداث خسائر بشرية.
وعقب الإعلان عن المحاولة، خرج رئيس الوزراء العراقي في خطاب تليفزيوني قصير، بدا أنه أُعِدَّ على عَجَل، وقد كان يرتدي ملابس غير رسمية، مع ضمادة في رسغه الأيمن، ليعلن عن نجاته ومن معه، من غير أن يتهم أية جهة أو طرف، مكتفيًا بالدعوة إلى الحوار والهدوء وضبط النفس، لكنَّ بيانًا لاحقًا صدر بعد بضع ساعات عن المجلس الوزاري للأمن الوطني الذي انعقد برئاسة الكاظمي، وصف هجوم الطائرات المسيرة بـ"الاعتداء الإرهابي" وقال: إنه "استهداف خطير للدولة العراقية على يد مجموعات مسلحة مجرمة"، وتوعد البيان بالكشف عن الجهات المتورطة بالاعتداء وتقديمها للمحاكمة.
بدت الأجواء التي سادت في بغداد صبيحة ومساء الأحد، متسقة مع اللهجة الحادة للبيان، فقد تم نشر قوات مدرعة في شوارع العاصمة، فيما حلَّقت الطائرات المقاتلة والمروحيات بكثافة في سمائها، في استعراض نادر للقوة، فيما جرى تشكيل لجنة تحقيق عليا تتألَّف من الوزراء والقادة العسكريين والأمنيين في البلاد.
وفي هذا الوقت تسابقت القيادات السياسية في العراق لإدانة العملية، لاسيما الأطراف التي تلاقت مع الفصائل المسلحة مؤخرًا في رفضها لنتائج الانتخابات، بينما شهد العالم موجة استنكار قد تكون من بين الأكثر اتساعًا في مثل هذه الحالات، وتلقى الكاظمي اتصالات تأييد من أبرز قادة المنطقة والغرب، وقد كانت وزارة الخارجية الأميركية سارعت بعد نحو ساعة من الإعلان عن الاعتداء لإدانته في بيان رسمي أصدره الناطق باسمها في خضم عطلة نهاية الأسبوع، قبل أن يتصل الرئيس، جوزيف بايدن، ووزير خارجيته، أنتوني بلينكن، بالكاظمي لتأكيد التضامن والاستعداد لوضع فريق الأمن القومي الخاص بالرئيس الأميركي في خدمة التحقيقات العراقية.
قدمت موجة التنديد السريعة والواسعة وعالية المستوى، دلائل واضحة على طبيعة الموقف الدولي من العراق، ويتجسد تحديدًا بدعم حكومة مستقرة يقودها الكاظمي، مع رفض حازم لوجود الفصائل المسلحة التي باتت توصف بالإرهاب بعدما كان يُكتفى بوصف عملياتها بالخارجة على القانون. وفي مثل الموقف قدر كبير من الفهم لطبيعة الأحداث المقبلة بعد اعتداء فجر الأحد.
الانتخابات والمتغيرات العراقية
أصاب الاعتداء الفاشل فيما يبدو جوهر الجهود التي تبذلها القوى الرافضة للانتخابات، ومنها استخدام الشارع للضغط على الأطراف المقابلة، وقد يكون من بين أول نتائج ما حصل، إجهاض مرحلة تصعيد كان يُخطَّط لها، وربما كان يمكن أن تصل إلى استخدام السلاح بذريعة الدفاع عن المتظاهرين في مواجهة قوات أمن تستهدفهم.
لم يكن القبول بالنتائج التي توصلت لها مفوضية الانتخابات خيارًا مطروحًا بالنسبة للرافضين وتحديدًا للفصائل المسلحة أو القوى السياسية التي تعتمد على قواها العسكرية لمد النفوذ العسكري والاقتصادي والسياسي، وأقل ما كان يمكن أن تقبل به هذه الأطراف، لوقف التصعيد، تسوية سياسية تمنحها دورًا حقيقيًّا يتجاوز وزنها البرلماني في تحديد شكل الحكومة المقبلة، وأن تحصل على ضمانات واضحة بعدم المس بسلاحها ومصالحها الاقتصادية غير القانونية التي توفر لها عوائد ضخمة.
كانت هذه الأهداف جزءًا واضحًا وعلنيًّا من رسائل متتابعة صدرت عن قادة الفصائل المسلحة والأحزاب القريبة منذ إعلان النتائج الأولية للانتخابات، وتتضمن رفضها، والإصرار على تصعيد الضغوط، ومن بين ذلك إثارة الفوضى في الشارع، من خلال دفع المئات من أنصار الفصائل او المنتمين لها إلى بوابات المنطقة الخضراء للاحتجاج على النتائج، قبل أن تتحول الاحتجاجات إلى مواجهات عنيفة مع القوات الأمنية تسببت بمقتل شخصين وإصابة بضع عشرات، وكان أحد القتيلين قائدًا عسكريًّا كبيرًا تابعًا لفصيل عصائب أهل الحق.
تلقفت الفصائل سقوط الضحايا لتصعيد الموقف والإعلان عن اعتبار الكاظمي وعدد من أبرز القادة العسكريين مسؤولين عن (المجزرة)، مع التوعد بالقصاص منهم، واعتبار المستقبل السياسي للكاظمي قد انتهى. وترافقت التهديدات العلنية والتوتر الأمني مع استعداد للتصعيد بمجرد الإعلان عن النتائج النهائية للانتخابات التي بدا أنها لن تختلف كثيرًا عن النتائج الأولية. وسرت مخاوف من أن تكون الفصائل المسلحة تستعد للقيام بتصعيد قد يكون مسلحًا، لإجبار الطبقة السياسية على الاستجابة لها، لذا ظهرت وكأنها باتت من يقود القوى السياسية الرافضة للانتخابات، والتي لم تتضح تمامًا علاقتها بهذا المخطط التصعيدي.
الصدر والفصائل والكاظمي
تزايد قلق القوى الرافضة للانتخابات مع قيام زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، بزيارة لبغداد قادمًا من مقرِّه في النجف، التقى خلالها بقيادات سياسية، للقيام بترتيبات لتشكيل تحالفات الكتلة الأكبر التي ستشكِّل الحكومة، فيما بدا أنه تجاهل كامل لمطالبها، وإجراءاتها التصعيدية. يصرُّ الصدر على أن الحكومة المقبلة يجب أن تكون حكومة أغلبية، والتخلي عن مبدأ التوافق الذي طبع كل الحكومات السابقة منذ عام 2005. ورغم دأب الصدر منذ إعلان النتائج الأولية للانتخابات، على إصدار بيانات وقرارات والتصرف كأنه حسم أمر السيطرة على الحكومة المقبلة، إلا أنه لم يمانع من أن يكون في المعارضة إن تمكن خصومه من تشكيل التحالف الأكبر داخل البرلمان الجديد الذي يفوز بحق تشكيل الحكومة، لكن موقفه أغضب منافسيه الشيعة، فهو من ناحية أقرب منهم إلى تشكيل التحالف الأكبر، بسبب نسبة فوزه الكبيرة، وفرصه الأقرب في التحالف مع السنَّة والأكراد، وبالتالي فتجاهل مطالبهم بحكومة توافقية قد يعني ذهابهم قسرًا إلى معارضة برلمانية لم يألفها المجال السياسي العراقي، وخسارة مزايا وعوائد المشاركة في الحكومة. ومن ناحية ثانية، فقد وجد هؤلاء أن الصدر يهدد الاستحواذ الشيعي على الحكومات المتعاقبة، وبتكريس انقسام الكتل الشيعية للمرة الأولى منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003.
لكن الأخطر، بالنسبة لمنافسي الصدر، أنه تعهد علنًا بالقضاء على ظاهرة (السلاح المنفلت) ومحاربة القوى المسلحة (غير الشرعية) حتى لو كانت تعمل تحت اسم (المقاومة الإسلامية). فهمت الفصائل المسلحة أن مصادر قوتها ونفوذها العسكرية والاقتصادية ستتعرض للتنكيل بقوة الدولة والتأييد العالمي لها في حال جرى تنفيذ هذا التهديد، ولذلك كان الأمر بالنسبة لها يتعدى المكاسب والمصالح إلى وجودها ذاته. وفضلًا عن ذلك، فإن القوى السياسية الشيعية الكبيرة الأخرى بما فيها حزب الدعوة الذي حصل على المركز الثالث في الانتخابات على المستوى الوطني بعدد مقاعد يفوق ما حصل عليه في انتخابات 2018، لم يكن يرضيها الابتعاد عن مركز القرار في السلطة، والبقاء في دائرة أقلية برلمانية غير مؤثرة، وربما تُفقدها الكثير من جمهورها. وقد زاد من قلق حزب الدعوة، الخصومة المستحكمة بين زعيمه، نوري المالكي، وبين زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، وما يمكن أن يتسبب به من احتمال استهداف الحزب أو المالكي شخصيًّا، لاسيما لجهة دوره الذي ظل خارج المساءلة في سيطرة تنظيم الدولة على الموصل ونحو ثلث أراضي العراق، عام 2014. ولذلك، تزعَّم المالكي حركة رفض الانتخابات، لكنه حرص على أن يظل خطابه السياسي متوازنًا وملتزمًا بالقانون والدستور على خلاف القوى المسلحة المتحالفة معه.
في خضمِّ هذا الشك وانعدام الثقة واليقين، كان الكاظمي الذي أصبح رئيسًا لحكومة تصريف أعمال بعيدًا عن الجهود السياسية، فهو غير منتم إلى أي حزب، ولم يشارك في الانتخابات، لكنه حظي بتأييد سياسي غربي وعربي، ظهر بشكل غير مسبوق لرئيس وزراء عراقي بعد محاولة اغتياله الفاشلة. وربما كان القرب الواضح للكاظمي من الولايات المتحدة، وانفتاحه على الدول العربية، فضلًا عن سياسات داخلية مختلفة، أسبابًا تجعل إيران لا ترغب بإعادة تكليفه لتشكيل الحكومة المقبلة، لكن طهران استنكرت محاولة اغتياله.
عُرف عن الكاظمي منذ توليه منصبه، في مايو/أيار 2020، أنه غير مولع بالمواجهات، وغالبًا ما يميل إلى تجاوز التهديدات التي تستهدفه شخصيًّا. وقد تحول هذا الأمر إلى ما يشبه النمط منذ أن جرى التعامل معه بحدة وشراسة من قبل الفصائل المسلحة في أكثر من مناسب حاول خلالها تثبيت سلطاته وتطبيق القانون، بدءًا من أول اجراء اتخذه بعد نحو شهر من توليه المنصب، حينما أصدر أوامر باعتقال 14 شخصًا من عناصر كتاب حزب الله العراقي كانوا يستعدون لإطلاق صواريخ ضد مصالح أميركية في بغداد، بعد الحادث على الفور تعرض الكاظمي للتعنيف والتهديد من قبل حزب الله وفصائل مسلحة أخرى يُفترض أنها جزء من الحشد الشعبي الذي يخضع رسميًّا له، واضطر لاحقًا لإطلاق سراح المعتقلين.
لم يقم الكاظمي بالكثير من الإجراءات الحاسمة والرادعة لمواجهة تغول الفصائل المسلحة، لكنه كان يبرِّر على الدوام سلوكه المتحفظ برغبته في عدم الانجرار إلى استفزازات قد تقود نحو الحرب الأهلية، وأنه مهتم بشكل أساسي بتنفيذ مهامه الأساسية وأبرزها إجراء الانتخابات المبكرة، بشكل نزيه وآمن، واجتياز الوضع الاقتصادي الخانق الذي ورثه عن سلفه المستقيل، عادل عبد المهدي، والتعامل مع انتفاضة تشرين ومطالبها.
نجح الكاظمي نسبيًّا في تجاوز الأزمة الاقتصادية وبدأ بإجراءات محاربة الفساد، وعمل على الانفتاح في علاقات العراق مع محيطه الإقليمي بشكل متوازن، فضلًا عن أنه كان أول رئيس وزراء منذ انتخابات 2005 من خارج أحزاب الإسلام السياسي الشيعي التقليدية، ورغم ذلك، فكثيرًا ما تعرض لانتقادات بسبب ما اعتُبر (عدم حزم) منه في التعامل مع تنامي ظاهرة الفصائل المسلحة وتجاوزها على الدولة، ورموزها، والتغاضي عن علاقتها القوية مع إيران. وقد تجددت هذه الانتقادات بعد تعرضه لمحاولة الاغتيال الفاشلة، بدعوى أنه لم يقم بالانتصاف للرمزية التي يمثلها، مستفيدًا من الدعم الشعبي والدولي الذي حظي به في السيطرة على الوضع الأمني وسطوة الفصائل المسلحة.
المعادلة الجديدة
خلق حادث الاعتداء على منزل الكاظمي، وضعًا جديدًا وفوريًّا في العراق، فبشكل مفاجئ فقدت الفصائل المسلحة زمام المبادرة، وتحولت إلى موقف الدفاع عن الاتهامات الموجهة لها. وكان لافتًا أن مفوضية الانتخابات أعلنت مساء نفس اليوم الأحد عن الانتهاء من إجراءات فحص الطعون والاعتراضات وصار واضحًا أنها تقترب كثيرًا من الاعلان عن النتائج النهائية. وهكذا، وبدلًا من أن يجري الإعلان والمصادقة على النتائج في خضم معارضة ناقمة ومسيطرة ومتنفذة بالشارع والمناخ العام، صار الوضع معكوسًا؛ مما يمهِّد لتمرير النتائج دون ضجيج، وإرغام المعترضين على القبول من دون تعديلات ولا تسويات، وبالتالي فرض الواقع الجديد الذي أظهرته النتائج وما سيعكسه من حكومة أغلبية لا يكون فيها نصيب للفصائل المسلحة ومن يتحالف معها.
ربما سيكون ذلك أبرز التداعيات الفورية للاعتداء على الكاظمي، فليس متوقعًا أن يجري الانقضاض على الفصائل أو اتخاذ قرارات راديكالية قد تستفزها وترغمها على استخدام سلاحها الكثيف المنتشر وسط السكان مما يهدد بخسائر بشرية لا يمكن حصرها، وأقرب الاحتمالات أن تقوم حكومة الكاظمي بمطاردة الأشخاص المتورطين بالاعتداء، والتلويح للآخرين بالانزواء بعيدًا كي لا تطولهم الإجراءات الحكومية، وهو ما سيمنح الصدر ومن يتحالف معه فرصة تشكيل حكومتهم بشكل سريع، وفي مناخ غير ضاغط، وسيكون من الراجح أن يحظى الكاظمي بتجديد ولايته على رأس الحكومة المقبلة، لاسيما بعد التأييد الدولي الذي جعله مرشحًا مفضلًا وقويًّا.
مثل هذا السيناريو صار راجحًا، لكنه لن يُنهي الأزمة في العراق، بل سيبدأ بها فصلًا جديدًا، من أبرز معالمه محاولة تجفيف منابع القوة للفصائل المسلحة وربما القضاء عليها، لكن ذلك سيكون مهمة عسيرة ومعقدة وخطرة، فهذه الفصائل هي جزء من سياق إقليمي تديره إيران، وتراهن عليه في مواجهة خصومها القريبين والبعيدين، ومن غير المتوقع أن تجري أية محاولة للسيطرة على الفصائل المسلحة دون دخول في تجاذبات خشنة مع إيران، لا يمكن تقدير مداها، فالعلاقات المشتركة متشعبة ومعقدة، ولإيران في العراق مصالح ضخمة، ولها في التأثير عليه أوراق قوية تتعلق بالنفوذ المتراكم في المؤسسات الإدارية والعسكرية وفرص التحكم بالمشهد الأمني، فضلًا عن قضايا المياه وواردات الغاز والديون وسواها.
في كل الأحوال، فإن محاولة اغتيال الكاظمي يمكن أن تحقق مسارًا سياسيًّا وأمنيًّا مختلفًا في العراق، لكن الفصائل التي تعي بدقة مخاطر ما يجري، هي ومن يشاركها الرؤية والمصالح من القوى السياسية، ستفعل ما بوسعها لتجاوز الزاوية الصعبة التي تساق نحوها، ولن يكون معروفًا ما الذي يمكن أن تقوم به في سبيل ذلك، كما لن يكون مؤكدًا ما الذي يمكن أن يشهده العراق في مرحلته الانتقالية المعقدة الراهنة.