تونس: سياق الأزمة وخيارات الخروج من المأزق

جاءت الاضطرابات الأمنية في تونس في سياق تقدم في أشغال المجلس التأسيسي واحتداد للتوتر بين الترويكا الحاكمة والمعارضة، وحراك للسلفية الجهادية. وفي حين تنشغل الحكومة بإدارة أزماتها، فإن المعارضة تحاول الاستفادة من الأحداث في انتظار مبادرة سياسية لتجاوز الأزمة.
201387183716173734_20.jpg
إن ارتفاع التوتر السياسي وتردي الوضع الأمني قد أحدث أزمة، لا يبدو أن مجرد العثور على حل سياسي على مستوى المشاركة في الحكم كفيل بوضع حد لها (الجزيرة)

في خضم موجة العنف التي تشهدها تونس، خاصة بعد الكمين الذي أودى بحياة ثمانية جنود في مرتفعات الشعانبي غرب البلاد، أصبحت عملية اغتيال النائب في المجلس التأسيسي محمد البراهمي تفصيلاً صغيرًا في حياة التونسيين منذ أسبوع. والحقيقة أن أعمال العنف التي بدأت منذ حكومة الباجي قايد السبسي وقبل انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011، قد ازدادت وتيرتها. وعرفت تونس يوم 6 فبراير/شباط أول عملية اغتيال سياسي منذ أزيد من خمسين عامًا، إذا ما استثنينا عمليات القتل داخل سجون نظام زين العابدين بن علي في بداية التسعينيات.

تبدو أعمال العنف حتى الوقت الراهن أعمالاً فردية، إلا أن الخيط الناظم لها ظاهر للعيان، وهو خيط يمكن تتبعه من خلال المعطيات التي أسفرت عنها التحقيقات الأمنية، وكذلك من خلال تحليل الأهداف الظاهرة لتلك العمليات. وقد حدثت عمليات الاغتيال والكمائن ضد قوات الأمن في سياق سياسي تميز بالتقدم في أشغال المجلس التأسيسي واحتداد التوتر بين الترويكا الحاكمة والمعارضة. كما جاءت أيضًا في سياق الحراك الذي تشهده أوساط السلفية الجهادية. وتشير معلومات متطابقة منذ حوالي ستة أشهر إلى أن أربع مجموعات قد انشقت عن تنظيم أنصار الشريعة؛ حيث حدث خلاف مع التنظيم الأم بالأساس حول مدى إمكانية اعتبار تونس أرض دعوة أو أرض جهاد.

كما تشير معلومات أمنية إلى أن السلطة كانت تتوقع منذ بضعة أسابيع انفجارًا في الوضع الأمني في شكل عملية اغتيال شخصية سياسية بارزة من المعارضة، أو تفجير كبير يوقع عددًا من القتلى، بما يدفع البلاد عكس الوجهة التي بدا أنها تتبعها منذ الانتخابات.

أما سياسيًّا، وفي ظل عجز المعارضة عن تحريك الشارع، فإن تحليلات عديدة قبل حادثة اغتيال البراهمي أشارت إلى أن استيراد الوضع المصري إلى تونس قد يتطلب حدثًا أمنيًا بارزًا يعيد تأسيس الاستقطاب ويحوله ضد المؤسسات المنتخبة، وأساسًا المجلس الوطني التأسيسي. وحتى بعد حادثة الاغتيال والكمين الذي أودى بحياة الجنود الثمانية، فإن السلسلة لن تتوقف قريبًا فيما يبدو؛ حيث تتتبع الأجهزة الأمنية عددًا من الإشارات حول التحضير لعمليات أمنية أخرى قد تسبب ضررًا أكبر في الأيام القادمة.

المعارضة ضمن المشهد السياسي والأمني

أما بالنسبة للمعارضة، وإن ذهب البعض إلى اتهامها بالضلوع خلف عدد من الأحداث الأمنية، فإن الأدلة على ذلك غير متوفرة إلى حد الآن، بل يبدو أكثر من أي وقت مضى أن تلك الاتهامات جاءت في سياق الرد على اتهامات المعارضة لأحزاب الترويكا، وخاصة حركة النهضة بالوقوف وراء نفس الأحداث، وهي اتهامات تتناقض مع المنطق السليم. بالموازاة مع ذلك، تبدو المعارضة أكبر مستفيد من الأحداث الأمنية؛ حيث استطاعت تحريك بعض المظاهرات، إضافة إلى انسحاب عدد من النواب من المجلس؛ وهو ما عطّل أشغاله لأكثر من أسبوع.

تشتغل المعارضة ضمن سياق غير ملائم لها شعبيًا، ذلك أنه إذا كانت تجربة الحكم قد أصابت شعبية ثالوث الترويكا بالاهتراء الواضح، فإن سمعة المعارضة لدى الشارع لم تستفد من ذلك. وفي خضم عجزها عن تحريك الشارع بالكيفية التي تهدد التوازنات السياسية القائمة، تتربص المعارضة بكل الأحداث التي تيسر لها التعبئة وتحاول الاستفادة منها.

إن ما يوحد المعارضة التونسية هو فقط عداؤها لحركة النهضة. فيما عدا ذلك، تبدو أحزابها، مثل حركة النهضة تقريبًا، منقطعة أو تكاد عن اهتمامات الشارع الذي يراقب ما يحدث دون حماس كبير. وإذا ما كان أداء الترويكا الحاكمة وخاصة حزبها الرئيسي: النهضة قد أدى إلى غضب المعارضة وتكتلها ضدها، فإن خيبة أمل أنصار الائتلاف الحاكم تبدو أكبر من ذلك بكثير؛ حيث لم تتميز الحكومة بجرأة كبيرة في سياساتها، وحاولت استيعاب جزء من النظام القديم، لكن القليل الذي أنجزته لم يجد إلا الصد لدى المعارضة التي تتهم الحكومة بترسيخ أقدامها استعدادًا للانتخابات القادمة. وفي المقابل فإن ما يعيبه أنصار الائتلاف الحاكم هو تراخيه في محاربة الفساد والمفسدين وعدم القطع مع المنظومة القديمة.

تحاول المعارضة التعويض عن ضعفها في الشارع بالتحالف مع المنظمات الكبرى في البلاد وبخاصة مع اتحاد العمال الرئيسي الذي أكد في أكثر من مناسبة أنه يشتغل وفق أجندة المعارضة. ومؤخرًا انضم اتحاد الأعراف للتحالف المقدس ضد الترويكا الحاكمة، بالإضافة إلى معظم أجهزة الإعلام. ولضرب الائتلاف الحاكم وخاصة النهضة في العمق رفعت المعارضة شعار حل المجلس الوطني التأسيسي مستفيدة من انهيار شعبية هذا المجلس، غير أن الهدف كان هو الحكومة. ولأنه طالما بقي المجلس بتوازناته التي أفرزتها الانتخابات سيؤدي في كل مرة إلى إعادة ولادة نفس الحكومة تقريبًا، فإن استهداف المجلس التأسيسي كان سيحقق كل تلك الغايات بضربة واحدة. لكن المعارضة عجزت عن تقديم سيناريو واضح يغري قسمًا واسعًا من التونسيين باتباعها إذا ما وقع حل المجلس وإنهاء كل الشرعيات القائمة بما يعنيه من دخول البلاد في حالة فراغ مؤسساتي كامل.

يمكن القول بعد أسبوع من رفع المعارضة لشعار إسقاط المجلس التأسيسي: إن ذلك الخيار قد فقد إمكانية التحقق. ويكاد سجال اليوم ينحصر حول صيغة الحكومة المطلوبة، بما يوحي بأنه حتى إن تشكلت حكومة جديدة فإن توازنات المجلس لن تجعلها مختلفة كثيرًا عن الحكومة الحالية والتي سبقتها. 

الاتحاد العام للشغل: حظوظ القدرة على المبادرة السياسية

لا يفهم كثير من التونسيين حماس النقابة الرئيسية في البلاد للعب دور سياسي يبدو بداهة أنه يتجاوز اختصاصها؛ وهو ما أدى إلى توترات عديدة في العلاقة بين الحكومة والمنظمة العمالية، وأحيانًا إلى مصادمات مع رابطات حماية الثورة القريبة من الإسلاميين، في مناسبات كان آخرها يوم 4 ديسمبر/كانون الأول 2012. والحقيقة أن الاتحاد العام التونسي للشغل لعب باستمرار دورًا سياسيًا في تونس، وذلك منذ تأسيسه على يد الزعيم فرحات حشاد في أربعينيات القرن الماضي، وذلك بغض النظر عما إذا كان هذا الدور لصالح النظام أو ضده.

ولا يفهم النقابيون من جهتهم حرص الترويكا على إقصائهم من لعب أي دور مركزي في ترتيبات الوضع السياسي العام غداة انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2011، والإهمال الذي تلقاه المبادرات التي يتقدم بها الاتحاد العام التونسي للشغل الذي لم يستطع بالفعل إنجاح أية مبادرة سياسية ذات بال في سياق الترويكا (لم يُفضِ "مؤتمر الحوار الوطني" في دورتيه إلى نتيجة تذكر، كما فشل مؤتمر مناهضة العنف فشلاً ذريعًا). وما يحتاج أن يفهمه الطرفان هو أنه لا مصلحة لهما في انعدام المبادرات السياسية التي تخفف وطأة الاحتقان السياسي من أي طرف جاءت، ولو من منظمة عمالية. لكن الحاجز النفسي لا يمكن أن يتحطم طالما تصرفت المنظمة النقابية باستمرار كقيادة أركان لأحزاب المعارضة ضعيفة التمثيل في المجلس التأسيسي.

توقع كثيرون أن يلجأ الاتحاد العام التونسي للشغل إلى تصعيد خطير عن طريق إضرابات واسعة النطاق، لكن يبدو أن عدة عوامل حالت، أو على الأقل أجّلت ذلك. من بين هذه العوامل النجاح المحدود للإضراب العام الأخير الذي جاء على خلفية اغتيال محمد البراهمي، لكن عددًا من التحليلات الجدية أرجعت ذلك إلى توازنات دقيقة داخل الهيئات القيادية للمنظمة، منعت إلى حد الآن من توجيه اليساريين لها صوب المعارضة الشاملة للحكومة.

انتهى الاجتماع الأخير للهيئة الإدارية للاتحاد العام التونسي للشغل إلى عدم تبني مطلب حل المجلس التأسيسي، وهو ما يمكن اعتباره هزيمة لأحزاب الجبهة الشعبية التي حاولت الدفع نحو حل المجلس. في المقابل اعتبر الاتحاد أن على حكومة علي العريض أن تحزم حقائبها وترحل، ووضع لذلك أجلاً بأسبوع، ولكن مر أسبوعان ولم ترحل الحكومة ولم يُعد الاتحاد التأكيد على مطلبه. هذه العناصر من شأنها أن توضح أن الاتحاد ربما كان غير مستعجل في رحيل الحكومة بعد أن "ورّط نفسه" في رفض مطلب حل التأسيسي، ذلك أن المنطق يفترض أنه طالما بقي المجلس فإن نفس التوازنات الموجودة داخله ستنعكس في تشكيل أية حكومة مقبلة، إن تشكلت.

يطرح الاتحاد عوضًا عن ذلك فكرة حكومة الكفاءات، وهو في تصوره لهذه الحكومة يقترب كثيرًا من فكرة حكومة الإنقاذ التي ما انفكت الأحزاب اليسارية تدعو لها. ويعيش الاتحاد مشكلاً سياسيًا كبيرًا، مضمونه أن سلوكه السياسي في الفترة الماضية وتحوله إلى مركز قيادة لأحزاب المعارضة وخاصة منها اليسارية الأكثر تشددًا، أفقد أفكاره ومبادراته إلى حد الآن القدرة على تحقيق نوع من القبول لدى أحزاب الترويكا، وخاصة لدى حركة النهضة. لكن الكثيرين ما زالوا ينظرون إليه على أنه الأكثر قدرة على تقديم مبادرات جدية إذا ما استطاع كسر الجليد في علاقته بالائتلاف الحاكم، وبالتالي التحول تدريجيًا إلى الوسط وترك أقصى اليسار، وهو أمر يبدو صعب التحقق بفعل التوازنات الداخلية للمنظمة.

سيناريوهات الخروج من الأزمة

إذا ما استثنينا تجمع الأحزاب الشيوعية والبعثية المعبّر عنها في إطار "الجبهة الشعبية" والتي لا تزال تطالب بحل التأسيسي، فإن بقية المعارضة أصبحت أكثر واقعية بعد أسبوع من تبنيها لمطلب حل التأسيسي. وبالنسبة لعدد من الأحزاب المعارضة فإن الأمر يبدو متعلقًا بتحسين شروط التفاوض على طبيعة الحكومة المقبلة، إن تشكّلت.

وفي مقابل حكومة الإنقاذ التي دعا إليها بعض مكونات المعارضة وعلى رأسها الجبهة الشعبية، فإن الجزء الآخر من المعارضة أصبح يتحدث عن حكومة كفاءات، في حين عاد الثالوث الحاكم للحديث عن حكومة وحدة وطنية تتوسع بمقتضاها الحكومة الحالية لتشمل أحزابًا وشخصيات وطنية جديدة. غير أن إمكانيات الاتفاق على مقترح وسط تبدو محدودة إلى حد الآن في ظل التجييش المتواصل للشارع من هذا الجانب وذاك. بل إن التجمع الجماهيري الكبير الذي حققته حركة النهضة مساء السبت 3 أغسطس/آب يمكن أن يغريها بمزيد التشبث بموقفها في رفض حكومة الكفاءات والإنقاذ.

وفي المقابل قرر المجلس التأسيسي في اجتماع مكتبه صبيحة نفس اليوم استئناف جلساته العامة مطلع الأسبوع القادم؛ ما يعني أنه لن ينتظر عودة النواب المنسحبين إلى ما لا نهاية. وعلى المستوى التكتيكي تبدو المعارضة في موقف صعب، لكن ذلك لا يعني عدم وجود أزمة، أو أن الأزمة في طريقها إلى الحل.

لم تنضج إلى حد الآن مبادرة سياسية جامعة يمكن أن تشكل نقطة التقاء للفرقاء، غير أن مطلب تغيير الحكومة في حد ذاته يبدو مطلبًا متجهًا للتراجع. في المقابل هناك حديث عن ضرورة إجراء تنقيحات على التنظيم المؤقت للسلطات العمومية أو ما يسمى بالدستور الصغير (الانتقالي) عن طريق اتفاق النواب على رزنامة مضبوطة تنهي عمل المجلس وتحدد تاريخ الانتخابات، وتجبر الجميع على احترام التواريخ. وبالنظر إلى اقتراح أن تتم الانتخابات قبل نهاية السنة الحالية أو في بداية السنة المقبلة، فإن تشكيل حكومة جديدة يصبح أمرًا غير واقعي لأن المفاوضات يمكن أن تستغرق شهرين على الأقل من ضمن الأشهر الستة الباقية على الانتخابات.

خيارات الحكومة في الخروج من الأزمة

تبدو هذه الأزمة حقيقية حتى لأكثر أنصار الحكومة تعصبًا. وإذا ما أرادت الحكومة الحالية البقاء فهي مخيرة بين إرضاء أنصارها أو إرضاء خصومها، وفي كلتا الحالتين فإنها ستكون خاسرة. يتطلع التونسيون من غير المتعصبين للحكومة أو ضدها إلى إجراءات تقوي قبضة الدولة على مسالك التهريب، وتضع حدًّا للفوضى عن طريق تطبيق القانون على كل المخالفين. وليس صدفة أن كثيرًا من التونسيين أصبح يتحدث اليوم عن ضرورة اتباع سياسة القبضة الحديدية، مع نوع من الحنين للفترة التي سبقت الثورة.

إن التحدي الأمني الذي أصبحت تواجهه البلاد يمكن أن يوحد التونسيين، أو أكبر جزء منهم على الأقل، في سياق ما بات يوصف علنًا ورسميًا بالحرب على الإرهاب. ويبدو طبيعيًا في ظل الأخطار الأمنية الراهنة والمتصاعدة أن يضغط الشارع على السياسيين من أجل تأجيل خلافاتهم لحشد الجهود الوطنية ضد الخطر الذي أصبح يستهدف التونسيين جميعًا، وهو أمر لا يصب مطلقًا في صالح المعارضة.

في المقابل فإن أية حوادث أمنية خطيرة في الأسابيع القادمة ستزيد من مصداقية اتهام السلطة بعدم الكفاءة في مواجهة العنف. لكن أي عمليات أمنية ستعطي أيضًا للحكومة الفرصة للمطالبة بمنحها صلاحيات أكبر لمواجهة العنف؛ حيث عاد الحديث بقوة وحتى في الأوساط الرسمية عن ضرورة العودة لتطبيق قانون الإرهاب الذي جُمّد منذ الثورة.

إن تلازم ارتفاع التوتر السياسي وتردي الوضع الأمني قد أحدث أزمة، لا يبدو أن مجرد العثور على حل سياسي على مستوى المشاركة في الحكم كفيل بوضع حد لها؛ حيث تتلبد الغيوم في سماء الانتقال الديمقراطي في تونس أكثر من أي وقت مضى. وإذا ما أضفنا إلى ذلك محدودية كفاءة الحاكمين وعجزهم عن اتخاذ قرارات شجاعة فإنهم سائرون ليس فقط لمواجهة تصاعد غضب المعارضة، وإنما لفقدان كثير من الشعبية في صفوف أنصارهم. في المقابل تبدو المعارضة، وهي خليط من التيارات الشيوعية والقومية والليبرالية وأنصار النظام القديم (وهي صورة تشبه كثيرًا الوضع المصري) مرشحة للانفجار الداخلي ولانهيار المعنويات مع مرور كل يوم إضافي لا تستطيع فيه إسقاط الحكومة.