الانتفاضة السودانية: مخاطر القبضة الأمنية

كان قرار الحكومة السودانية برفع الدعم عن بعض مواد الطاقة الشرارة التي أشعلت الشارع السوداني بتظاهرات عنيفة هزت السودان، فباتت الحكومة أمام خيارين: توسيع المشاركة السياسية أو القبضة الأمنية.
2013107125452376580_20.jpg
التهاب أسعار النفط يشعل الاحتجاجات بالسودان (أسوشييتد برس)
ملخص
كان قرار الحكومة السودانية برفع الدعم عن بعض مواد الطاقة الشرارة التي أشعلت الشارع السوداني بتظاهرات عنيفة هزت السودان، فزعزعت أعمدة استقراره؛ ففي أسبوع واحد اندلعت عشرات المظاهرات والاحتجاجات العنيفة؛ لم تواجه حكومة الرئيس عمر البشير مثلها منذ وصوله إلى السلطة في 30 يونيو/ حزيران 1989، فباتت حكومته أمام خيارين رئيسيين: إما القبول بتوسيع المشاركة السياسية مقابل مقابل اقتسام عبء التضحيات الاقتصادية أو غلق النظام السياسي في وجه المعارضين والمراهنة على القبضة الأمنية للسيطرة على الاحتجاجات مع احتمالات تدهور الأوضاع إلى ثورة أو حرب أهلية.

قررت الحكومة السودانية رفع الدعم عن سلع أساسية؛ فارتفع سعر جالون البنزين من 12,5 جنيهًا إلى 21 جنيهًا بنسبة 68%، وارتفع سعر أنبوبة الغاز إلى 58%، فتضررت القدرة الشرائية للسودانيين، فعبّروا عن سخطهم في مظاهرات استلهمت شعاراتها من الربيع العربي، فواجهها النظام السوداني برفض مطالبها وإنكار شرعيتها وبقبضة أمنية أوقعت 200 قتيل، أصيب كثير منهم برصاص في الرأس والصدر حسب منظمة العفو الدولية، بينما لم تعلن السلطات إلا عن سقوط 34 قتيلاً.

والملاحظ أن معظم المشاركين في التظاهرات هم من الفئة الشابة التي تتراوح أعمارها بين العشرين والثلاثين، وهي الفئة التي نشأت وترعرعت في عهد نظام الإنقاذ، ويعد احتجاجها تعبيرًا عن مأزقه وفشله في إقناعهم بأن مستقبلهم يرتبط ببقائه في الحكم. علاوة على أنها فئات غير منضوية في التنظيمات السياسية المعارضة أو عايشت فترة من فترات حكم أي منها؛ فهي فئات تعد من الناحية الاجتماعية نتاجًا للنظام القيمي والسياسي والاقتصادي لنظام الإنقاذ، ويعد خروجها عليه تعبيرًا واضحًا عن انسداد أفقها في الوضع الحالي.

وقد حاولت الحكومة السودانية قبل إعلان قرارات رفع الأسعار استباق هذا السخط؛ فاتصلت بالقوى السياسية المعارضة المختلفة بهدف توضيح أسباب اضطرارها إلى رفع الأسعار؛ حيث التقى وزير المالية زعماء أحزاب الأمة، الاتحادي الديمقراطي، المؤتمر الشعبي لكنها لم تحصل على قبولهم بالسياسات التي تعالج الأوضاع، فبينما ركزت الحكومة على الإجراءات الاقتصادية التقنية، أعطت المعارضة الأولوية للحلول السياسية.

من جانب آخر، أطلقت الحكومة حملة إعلامية واسعة عبر مختلف وسائل الاعلام، ونظمت اجتماعات قطاعية لمؤسسات تابعة للحكومة، قادها الرئيس السوداني عمر البشير، شملت قطاعات المرأة والطلاب والشباب بالمؤتمر الوطني الحاكم، والجيش والشرطة وجهاز الأمن والمخابرات، لكن ما رشح من معظم هذه الاجتماعات هو الرفض البات لهذه الإجراءات إلا أن الحكومة تمسكت بقراراتها.

اختارت الحكومة بعد فشلها في حشد التأييد لقرارات رفع الأسعار، واندلاع التظاهرات، اللجوء إلى القبضة الأمنية، خاصة أن انزلاق المظاهرات في بعض الأحيان للعنف، وفَّر للسلطات الأمنية الذرائع كي تعتبرها حركة مخربين بلا هدف سياسي مشروع من ناحية، وبمواجهتها بالعنف لإحداث حالة الردع لكل من يود الالتحاق بالاحتجاجات.

سيولة الموقف

أثَّرت هذه التطورات على تماسك صفوف المؤتمر الوطني، وهو الحزب الحاكم، فجناحه الإصلاحي وجّه مذكرة للرئيس عمر البشير، وقَّعها 13 قياديًا باسم الحراك الاصلاحي في المؤتمر الوطني، منهم برلمانيون، ووزراء سابقون، وضباط متقاعدون، وغيرهم، وصفوا فيها حزمة الإجراءات بالقاسية وأبعد ما تكون عن مقاصد الشريعة في الرحمة والعطف على الضعفاء والعدل، وطالبوا بالتراجع عنها، ونبهوا البشير إلى أن مشروع حكمه لم يكن على المحك كما هو اليوم. هذا التصدع ليس وليد اليوم بل يعود إلى سنوات سابقة لكنه قد يزداد مع تزايد تكلفة القبضة الأمنية وقد يؤدي إلى فصل الإصلاحيين من الحزب الحاكم، فينفرد الصقور بقيادته لكنهم يفقدون في المقابل مساندة قطاع من القوى التي كان الإصلاحيون يمثلونها داخله.

أما المعارضة السودانية فظلت متهيبة من الانخراط الكامل في الاحتجاجات وتبني مطالبها، وقد تحكم في موقفها عدد من العوامل المتنازعة، فهي من جهة ظلت تعتقد أن المبادرة بيد النظام الحاكم، وأن المراهنة على الشارع مخاطرة كبيرة لأنها غير متأكدة من اعترافه بتمثيلها، وغير متأكدة من تماسكه أمام السلطة. ومن جانب آخر، فإن المعارضة تخشى من أن قوى الأطراف، خاصة أن الجبهة الثورية قد تنتهز فرصة إضعاف الاحتجاجات للنظام وتستولي على السلطة.

رأت الجبهة الثورية في الاحتجاجات فرصة لإضعاف النظام، وتوسيع قواعدها، وتحولها من قوى تمثل الأطراف إلى قوى ذات بُعد وطني؛ فاقترحت تشكيل هيئة مشتركة، لكنها لم تنجح في تحويل هذه الاحتجاجات إلى رصيدها السياسي، لأنها أثارت المخاوف من أن انخراطها كقوى مسلحة في الاحتجاجات قد يعطي النظام مبررًا لاستعمال القوات المسلحة للقضاء على التظاهرات، ومن جهة أخرى فإنها الطرف الأكثر حظًا في الاستيلاء على السلطة لو نجحت الاحتجاجات في إسقاط النظام.

أماالقوى الكبرى، الإقليمية والدولية، فإنها في الغالب الأعم بنت موقفها على اعتبارين؛ فهي من جانب تنظر نظرة سلبية للنظام السوداني لعدد من الأسباب، وعلى رأسها سياساته في دارفور، ومن جانب آخر فإنها تخشى من سقوطه وانفلات الأوضاع، فيتسع الاضطراب بمنطقة الشرق الإفريقي، فتنتهز الجماعات المتشددة المسلحة الفرصة، وتحصل على مواقع قدم في السودان قد تستعملها لضرب استقرار مصر وتشاد أو مساعدة القوى الجهادية بالصومال وليبيا. وفي كل الأحوال فإن النظام السوداني يعاني من عزلة دولية، وتتركز مخاوف القوى الكبرى على  البديل الذي يخلفه أكثر من حرصها على بقائه.

من مجمل هذا المشهد، تبرز سمة رئيسية وهي أن الظام السوداني، تتناقص موارده، ولا يملك التماسك الضروري لتحمل نتائج الخيار الأمني، ويعاني من عزلة متزايدة.

مسارات محتملة

ويمكن داخل هذا التوجه العام، تصور بعض المسارات:

  1. الاحتمال الأول: ربما أدركت الحكومة ضيق هامش المناورة الذي يمكن توظيفه في اللعبة السياسية، وبالتالي تسعى إلى تقديم التنازلات الضرورية للالتقاء في وسط الطريق مع المعارضة. ولعل من أسباب ترجيح هذا المسار، أن الحكومة لمست مدى الغضب الذي وُوجهت به سياساتها، وسرعة التآكل التي تواجه رصيدها السياسي، ويمكن الإشارة إلى كلمة الرئيس البشير في الأكاديمية العسكرية 1 أكتوبر/تشرين الأول 2013 التي قال فيها: "نمد أيدينا لكل الإخوة شركاء الوطن، لنبذ العنف والعمل معًا لإرساء قواعد السلام وإدامة الاستقرار.. واقتسام المسؤولية والتضامن، لنقبل على الانتخابات والوطن خال من المنغصات الأمنية والمعيشية". أما المعارضة فقد جددت الأحداث أملها بإمكانية إسقاط النظام أو استعمال حالة الغضب والعزلة التي تعانيها الحكومة كورقة ضغط للحصول على تنازلات، مثل قبول النظام بتشكيل حكومة انتقالية يشارك فيها الجميع بما فيهم الحركات المسلحة، وأن تكون مهمة حكومة الوفاق إدارة فترة انتقالية تهيئ البلاد لانتخابات حرة ونزيهة ومتفق على مؤسساتها وسياساتها. 
  2. الاحتمال الثاني: هو تمترس الفرقاء بمواقفهم، فتزداد احتمالات انفجار حرب أهلية، خاصة نتيجة ما خلّفته الأحداث من مرارات مست الكثيرين جرّاء الأرواح التي أُزهقت؛ فإذا اجتمعت هذه المشاعر مع انسداد الأفق السياسي فإن عوامل الجذب نحو الالتحاق بالحركات المسلحة التي تحارب الدولة تزداد لتصير أقوى، وبالطبع ليس عند الجبهة الثورية العسكرية ما تقدمه للقوى المدنية غير مجهود حربي، قد يوسع دائرة التقاتل لتصير حربًا أهلية شاملة، تمزق أوصال الدولة والمجتمع، وتدفع السودان إلى دائرة الصوملة.
  3. الاحتمال الثالث: تتمسك الحكومة بقرارات رفع الأسعار واستعمال القبضة الأمنية لإسكات المحتجين فتتواصل الاحتجاجات، خاصة أن انطلاق الموسم الدراسي جعل المؤسسات التعليمية إضافة للمساجد من أهم مراكز الحشد وانطلاق التظاهرات، فيتزايد عدد القتلى، فيتسع السخط ليشمل قطاعات جديدة، فتعجز الحكومة عن ضبط الأوضاع، فيشجع هذا الفشل والارتباك المعارضة فتنخرط بشكل حاسم في الاحتجاجات، فتدخل البلاد في حالة ثورية تهدد النظام نفسه، فتلجأ الحكومة للقوات المسلحة لفرض الأمن والاستقرار، لكن القيادة العسكرية ترفض قتل المتظاهرين، فيحاول النظام عقد صفقة مع المعارضة لكن الأوان يكون قد فات، ويلتحق السودان بموجة الربيع العربي.