كشفت الأحداث والمواجهات الأخيرة في مايو/أيار 2021 بين المواطنين العرب الفلسطينيين في إسرائيل والأجهزة الأمنية؛ عن العلاقات المتأزمة بين العرب واليهود في إسرائيل من جهة، وبين المواطنين العرب والدولة من جهة أخرى. وجاءت الأحداث بالذات بعد سنوات من الاندماج المُعمّق للمواطنين العرب في المجتمع الإسرائيلي، وفي الاقتصاد والنظام السياسي والبيروقراطي في إسرائيل. وساهمت الأحداث في طرح سؤال يتعلق بمدى تأثير العرب على النظام السياسي والاقتصادي في إسرائيل، ومجرى الحياة اليومية في ظل اندماجهم الكبير في النظام الإسرائيلي، وتنظيمهم السياسي الداخلي كمجموعة قومية.
ستحاول هذه الورقة رصد أهم مواقع تمثيل العرب واندماجهم في النظام الإسرائيلي، وأهم مركّبات التنظيم الداخلي، ومناقشة مدى التأثير الذي يمكن أن يلعبوه في إسرائيل.
والجدير بالذكر أن المراد في هذه الورقة هم المواطنون العرب الفلسطينيون الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، والذين ظلوا في أرضهم عام 1948، التي أقيمت عليها دولة إسرائيل، ويسكنون داخل الخط الأخضر.
العرب في سوق العمل
يصل تعداد العرب الفلسطينيين "مواطني دولة إسرائيل" إلى حوالي مليون ونصف المليون نسمة(1)، ويشكلون حوالي 17% من مجمل "المواطنين" في إسرائيل(2). وارتفع مستوى التعليم الأكاديمي في صفوف العرب منذ سبعينيات القرن الماضي، ومع ذلك لا تزال الفجوة كبيرة بين التحاق العرب بالتعليم العالي، مقارنة مع المجتمع اليهودي. ومنذ العام 1948، لم يطور "المواطنون العرب" اقتصادا عربيا مستقلا عن الاقتصاد الإسرائيلي، وبقي السوق العربي تابعا للاقتصاد الإسرائيلي.
في هذا الصدد، تراجع معدل تمثيل العرب من مجمل القوى العاملة في إسرائيل خلال العقد الأخير، فقد تراجع من نحو 78% من الرجال العرب عام 2017، إلى قرابة 72% عام 2020. في المقابل، لم ترتفع كثيرا نسبة النساء العربيات في سوق العمل، حيث كانت 35% عام 2017 ووصلت إلى 39% عام 2020(3)، وذلك رغم الارتفاع الكبير في نسبة الأكاديميات العربيات، وارتفاع معدل مشاركتهن في التعليم العالي.
يعاني "المواطنون العرب" في إسرائيل من تدني معدل التمثيل والأجور في سوق العمل، حيث إن معدل انخراطهم في سوق العمل أكبر من المعدل العام في القطاعات التي تتميز بأجور متدنيّة. فعلى سبيل المثال، يعمل أغلب العرب في قطاعات اقتصادية ذات أجور منخفضة، ومنها قطاع البناء، حيث يعمل 17% من العرب في هذا القطاع الذي يشكل العاملون فيه 5.3% من إجمالي اليد العاملة في إسرائيل. ويعمل حوالي 15% من العرب في قطاع التربية والتعليم، الذي يشكل العاملون فيه نحو 13%. كما يعمل 7.2% من العرب في قطاعات الخدمات والمواصلات والتخزين والبريد، مقابل 4.4% هي نسبة العاملين فيه. ويعمل 5.4% من العرب في قطاع خدمات الطعام والضيافة، مقابل 4.3% لمجموع العاملين فيه. كما يعمل حوالي 2% من العرب في الزراعة والأحراش وصيد السمك، مقابل 1% للعاملين فيها(4).
أما نسبة العرب في القطاعات الاقتصادية ذات الأجر المرتفع، فهي أقل من المعدل العام فيها، فمثلا في قطاعات الإدارة المحلية والإدارة العامة والأمن والتأمين الوطني، فإن معدل العاملين فيها يصل إلى حوالي 10%، بينما يصل معدل العرب فيها إلى 3.4%. وفي قطاعات الخدمات المهنية والعلمية والتكنولوجية، يبلغ المعدل العام للعاملين فيها 7.6%، في حين لا يتجاوز معدل العرب فيها 3.8%. وفي القطاعات المالية وخدمات التأمين، فإن معدل العاملين فيها يصل إلى 3.4%، بينما تصل نسبة العرب إلى 1.2%. أما في قطاعات الاتصالات والمعلومات، فإن المعدل العام يصل إلى 5.3%، بينما تبلغ نسبة العرب في هذه القطاعات 1.1%(5).
تبين هذه المعطيات أن العرب لا يزالون على هامش الاقتصاد الإسرائيلي، وذلك رغم الجهود التي تبذلها الدولة لزيادة اندماجهم في سوق العمل، لأن ذلك سيعود بالفائدة على الاقتصاد الإسرائيلي، بيد أن عوائق سياسية وسياسات التمييز تمنع ذلك. فمن جهة، تحاول إسرائيل دمجهم، لاسيّما النساء، لأن ذلك يوفر على الاقتصاد الإسرائيلي تبعات دفع مخصصات اجتماعية لهن، ومن جهة أخرى يزيد من الناتج القومي بمليارات الشواكل، إلا أن سياسات التمييز تمنع اندماج العرب الكامل في الاقتصاد الإسرائيلي.
ويبقى العرب مهيمنين على القطاعات ذات الأجور المتدنية في الاقتصاد الإسرائيلي، بينما تمثيلهم منخفض في القطاعات الأخرى، لاسيّما في قطاع تكنولوجيا المعلومات، الذي يشكل اليوم الرافعة الأساسية للاقتصاد الإسرائيلي، وتصل نسبة العرب في هذا القطاع إلى 2% فقط(6).
لا يزال تخصص تكنولوجيا المعلومات أقل اعتبارية في المجتمع العربي من الناحية الاجتماعية، على الرغم من أنه القطاع الأكثر ربحا في الاقتصاد الإسرائيلي، بينما يحتل موضوع الطب الصدارة بوصفه التخصص الأكثر اعتبارا في المجتمع العربي، لذلك ليس صدفة أن 25% من الأطباء في إسرائيل هم من العرب (ينظر الجدول رقم 1). ومع أن نسبة العرب متدنية في قطاع تكنولوجيا المعلومات، فإنه قطاع يمكنهم الانخراط فيه بسهولة أكبر من باقي القطاعات، فهو قطاع خاص ومعولم، ويبحث عن المتميزين أساسا، بغض النظر عن خلفياتهم القومية والدينية والإثنية. ويمكن لهذا القطاع أن يُشكل ارتقاء اقتصاديا للمجتمع العربي إذا استطاع هذا الأخير جذب مستثمرين في هذا المجال، وانخرط العرب فيه.
جدول (1): الدرجات الوظيفية في الجهاز الصحي التي تبلغ فيها نسبة العرب أعلى من 20% (2019)(12).
|
ممرضات للصحة الجماهيرية |
فنيو تصوير |
أطباء |
صيادلة |
علاج طبيعي |
ممرضات |
نسبة العرب من مجمل المستخدمين |
30% |
27% |
25% |
24% |
22% |
20% |
تمثيل العرب في القطاع الحكومي البيروقراطي
ازداد تمثيل المواطنين العرب في القطاع الحكومي خلال العقدين الماضيين. فحسب معطيات مفوضية خدمات الدولة، فإن نسبة المواطنين العرب من مجمل المستخدمين في القطاع الحكومي عام 2019 بلغت حوالي 12%، ارتفاعا من 6% عام 2007. ومع ذلك فإنه في ثلاث وزارات فقط (الداخلية، الصحة، العمل والرفاه)، كانت نسبة العرب تتجاوز 10% (ينظر الجدول رقم 2). وتبين المعطيات التي نشرها مركز البحث والمعلومات التابع للكنيست الإسرائيلي، أنه في العام 2019 عمل في القطاع الحكومي حوالي 80 ألف مستخدم في 96 وحدة إدارية، منهم حوالي 9700 موظف عربي. تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن 13% من المستخدمين العرب في القطاع الحكومي هم من المجموعة الدرزية، وهو تمثيل أكبر من نسبتهم من السكان العرب (7.6%)، في حين أن نسبة المستخدمين الدروز من مجمل المستخدمين في الدولة هو 1.6%، وهي نسبة تنسجم مع نسبتهم من مجمل السكان في إسرائيل(7).
كما تشير المعطيات إلى أن 57% من المستخدمين العرب في بيروقراطية الدولة هم من الرجال، و43% من النساء. ويعمل حوالي ثلثي العرب (66%) في الجهاز الصحي، والثلث الآخر (34%) في دوائر الوزارات الحكومية. وهذا التقسيم يختلف عن التقسيم الدارج لمجمل المستخدمين في القطاع الحكومي، حيث يظهر أن 55% منهم عملوا في الدوائر الوزارية المختلفة، بينما عمل 45% في الجهاز الصحي.
أما بالنسبة للمستخدمين العرب في الدوائر الحكومية فقط (أي مكاتب الوزارات)، ففي عام 2019 عمل في الوزارات الحكومية حوالي 44 ألف مستخدم، منهم قرابة 3360 مستخدما عربيا، يشكلون 7.7% من المستخدمين، 54% منهم يعملون في وظائف مهنية على اختلاف درجاتها، بينما 46% يعملون في وظائف إدارية. وفي ستة تدرّجات مهنية من أصل 31، كانت نسبة المستخدمين العرب أعلى من 10%، وهي على النحو التالي: مفتشون في وزارة التعليم (تدرّجان: أحدهما 17% والثاني 18%)، التدريس (15%)، عاملون اجتماعيون (14%)، ممرضات (13%)، ومحامون عامون (13%)(8).
جدول (2): نسبة العرب في المكاتب الحكومية الوزارية ومدى تحقيق كل وزارة للنسبة المستهدفة منهم(13)
المكتب الوزاري |
نسبة المستخدمين العرب |
النسبة المستهدفة |
الداخلية |
18.4 |
\ |
الصحة |
17.6 |
\ |
العمل والرفاه |
11.9 |
\ |
التربية والتعليم |
8.2 |
x |
تطوير النقب والجليل |
8.2 |
x |
الأمن الداخلي |
7.6 |
x |
العلوم والثقافة |
7.5 |
x |
الزراعة |
7.4 |
x |
المساواة الاجتماعية |
7 |
x |
القضاء |
6.9 |
x |
المالية |
6.4 |
x |
المواصلات |
6.3 |
x |
جودة البيئة |
6 |
x |
البناء والسكن |
6 |
x |
السياحة |
5.3 |
x |
الاتصالات |
5 |
x |
الطاقة |
4.9 |
x |
الاقتصاد |
4 |
x |
رئيس الحكومة |
3 |
x |
الخارجية |
2.7 |
x |
الهجرة والاستيعاب |
1.4 |
x |
الخدمات الدينية |
0 |
x |
علاوة على ذلك، تبين المعطيات أن نسبة كبيرة من المستخدمين العرب يشتغلون في المستوى الذي يُسمى "تدرّج الدخول"(9) وهو أدنى السلم الوظيفي في الوزارات الحكومية (حوالي 49% مقابل 39% من مجمل المستخدمين يعملون في هذا المستوى). بالإضافة إلى ذلك، فإنه كلما ارتفع التدرّج الوظيفي، انخفضت نسبة المستخدمين العرب فيه. فعلى سبيل المثال، فإن 3.7% من مجمل المستخدمين في الوزارات الحكومية يعملون في التدرج المرتفع، في حين تصل نسبة العرب فيه 1.5% فقط(10). (ينظر الجدول رقم 3).
جدول (3): توزيع مجمل المستخدمين ومنهم العرب على الدرجات الوظيفية المختلفة في الدوائر الحكومية (2019)(11)
|
"تدرّج الدخول" |
إداري-مهني |
المستوى المتوسط |
المستوى المرتفع |
مستخدمون عرب |
49% |
34% |
15% |
1.5% |
مجمل المستخدمين |
38% |
38% |
20% |
3.7% |
تشير المعطيات المذكورة إلى أن تأثير العرب في الجهاز البيروقراطي ضئيل جدا، لاسيّما في المكاتب الوزارية. ويتواجد العرب بشكل كبير في الوزارات التي لها علاقة مباشرة بالمجتمع العربي، مثل جهاز التعليم والجهاز الصحي والخدمات الاجتماعية، ومع ذلك فإن نسبة العرب في الوظائف التي يتم فيها اتخاذ القرارات الهامة قليلة، فضلا عن أن العرب يعملون في القطاع الحكومي كأفراد، لا كممثلين لمجموعة قومية.
تمثيل العرب في النظام السياسي
يعتبر الكنيست من الساحات السياسية التي يحاول العرب في إسرائيل التأثير من خلالها على أوضاع حياتهم، على المستوى المدني واليومي. وقد ازداد تأثير العرب السياسي بشكل خاص على تركيبة الحكومة الإسرائيلية منذ انتخابات 2019، فنسبة التصويت للأحزاب الصهيونية تراجعت منذ تسعينيات القرن الماضي، بينما ازدادت نسبة التصويت للقوائم العربية، لاسيّما القائمة المشتركة، لتصل إلى 80% من الأصوات العربية، وخلال الاستحقاقات الانتخابية الأربعة السابقة (ينظر الجدول رقم 4)، حتى إن بنيامين نتنياهو لم يستطع تشكيل الحكومة في مارس/آذار 2020، لأسباب عديدة، كان منها وجود تمثيل عربي وصل ذروته في انتخابات الكنيست آنذاك.
ولكن نسبة التصويت في المجتمع الفلسطيني في انتخابات مارس/آذار 2021، لم تتعدَّ 45%، وهي أدنى نسبة مسجلة منذ بداية مشاركة الفلسطينيين في الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية. (ينظر الجدول 4). وبالمقارنة مع نتائج الانتخابات في الدورة السابقة (مارس/آذار 2020) التي بلغت فيها نسبة مشاركة العرب الفلسطينيين 65%، نرى أنّ هناك تراجعًا جديًّا في نسبة التصويت.
ويشكِّل العزوف عن التصويت المعطى الأهمَّ في السلوك الانتخابيّ لدى الفلسطينيين منذ تشكيل القائمة المشتركة عام 2015، وبحسب نتائج الانتخابات الأربعة الأخيرة التي جرت خلال السنتين الماضيتين، تراجعت نسبة التصويت إلى أقلّ من 50%، ومن ثَمّ قفزت إلى 60% وأكثر، لتتراجع بعد ذلك إلى 45% في الانتخابات الأخيرة. هذه التغيُّرات الحادّة في أنماط التصويت، تحمل الكثير من الدلالات بشأن العلاقة بين الجمهور الفلسطيني والعمل البرلماني عمومًا من جهة، وبينه وبين الأحزاب العربية خصوصا من جهة أخرى.
الجدول (4): أنماط التصويت لدى المجتمع العربي منذ تشكيل القائمة المشتركة (2015)(14)
|
2015 |
أبريل/نيسان 2019(15) |
سبتمبر/أيلول 2019 |
مارس/آذار 2020 |
مارس/آذار 2021(16) |
عدد أصوات |
446,583 |
337,108 |
470,611 |
487,911 |
317,384 |
عدد المقاعد |
13 |
10 |
13 |
15 |
10 |
نسبة المصوتين |
82% |
70% |
80% |
87% |
79.5% |
نسبة المصوتين |
18% |
30% |
20% |
13% |
19.4% |
نسبة الامتناع |
36% |
51% |
40% |
35% |
55% |
وفي أعقاب انتخابات الكنيست في مارس/آذار 2020، قررت القائمة المشتركة التوصية بـ "بيني غانتس" لرئاسة الحكومة، وهكذا منعت نتنياهو من تشكيل الحكومة في الفترة الأولى من عملية التكليف. وعندما قرر غانتس عدم تشكيل حكومة بالاعتماد على القائمة المشتركة، وكان هذا خياره الوحيد ليكون رئيس حكومة بعد الانتخابات، انشق عن تحالف "أزرق أبيض"، وشكل حكومة بالتناوب مع نتنياهو لم تستطع الصمود لعام واحد (مايو/أيار 2020 - يونيو/حزيران 2021).
وفي انتخابات مارس/آذار 2021، حدث انشقاق في القائمة المشتركة، حيث خاضت القائمة العربية الموحدة برئاسة منصور عباس الانتخابات منفردة وحصلت على أربعة مقاعد، جعلت منها القائمة التي تُحدد شكل الحكومة في إسرائيل، في ظل الاستقطاب السياسي بين المعسكر الداعم لنتنياهو والمعسكر المعارض له. ولأول مرة في تاريخ العرب، دخلت القائمة الموحدة الائتلاف الحكومي برئاسة نفتالي بينيت ويائير لبيد، وتعتبر ركنا أساسيا في استقرار الحكومة وبقائها.
قرّرت القائمة العربية الموحدة الانضمام إلى حكومة بينيت- لبيد، وذلك بعد عام من تحرّكها الفاعل من أجل المشاركة في أيّ ائتلاف حكومي، أو دعمه. وجاء هذا القرار تحت مظلة "التأثير من الداخل" على حد تعبير قادتها، فقد اتّبعت القائمة الموحدة، برئاسة منصور عباس، خطابًا وسلوكًا سياسيَّيْن يراهنان على الانخراط في أيّ حكومة إسرائيلية، وعلى وجه التحديد؛ بعد انتخابات مارس/آذار 2020 وفشل مشروع المراهنة على غانتس، وإسقاط نتنياهو الذي حملته القائمة المشتركة التي كانت القائمةُ الموحّدة أحدَ مكوناتها. وقد أدّى ذلك، كما سبق، إلى انسحاب القائمة العربية الموحدة من القائمة المشتركة، وخوضها الانتخابات منفردة وحصولها على أربعة مقاعد(17). بعد فشل نتنياهو في تشكيل الحكومة، بسبب رفض حزب "الصهيونية الدينية" (المتطرف) مشاركة القائمة الموحدة في الائتلاف الحكومي، وقّعت القائمة يوم 2 يونيو/حزيران 2021 اتفاقَ المشاركة في الائتلاف الحكومي (حكومة التغيير كما سُميت) مع حزب "يوجَد مستقبل" بقيادة يائير لبيد. وشمل الاتفاق التفاهمات التي اتُّفِق عليها بين القائمتين، وملحَقًا يُنظّم عمل الحكومة، كجزء من الاتفاق بين الطرفين.
تحاول القائمة العربية الموحدة تطبيق ما أطلقت عليه "النهج الجديد" في الائتلاف الحكومي، ويعتمد هذا النهج كما صرّح منصور عباس(18)، على: التحالف مع أيّ حزب إسرائيلي يوافق على التعاون بشأن الاحتياجات المدنيّة للمجتمع العربي في إسرائيل، وتحييد كلّ ما يخصّ القضية الوطنية جانبًا لأنها بمثابة عائق أمام تحالفات مع أحزاب إسرائيلية وأمام المشاركة في الحكومة، وتغييب الفروق بين التيارات السياسية الإسرائيلية من أجل التحالف معها، على عكس ما اتّبعته الأحزاب العربية التي غيّبت الفروق بين الأحزاب الصهيونية كي لا تتحالف معها، إذ إنّ السرديّات التاريخية -على حد تعبير منصور عباس- ما هي إلا سرديّات داخلية ليس لها علاقة بالصراع.
التنظيم الداخلي للعرب في إسرائيل
يتكون الحقل السياسي العربي في إسرائيل من أحزاب وحركات سياسية ومؤسسات ذات طابع اجتماعي ومؤسسات ومنظمات مجتمع مدني. وتعتبر لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية الجسمَ السياسي الأعلى للجماهير العربية، وهي لجنة تضم ممثلين عن الأحزاب العربية ورؤساء سلطات محلية عربية وممثلين عن المجتمع المدني والأهلي وأعضاء بلديات عرب في المدن اليهودية والمختلطة. ويعتبر الحكم المحلي من المؤسسات الهامة في المجتمع العربي، إذ يديره عرب ويرأسه منتخبون عرب، وهو من المؤسسات المؤثرة على الحياة اليومية للعرب في البلدات العربية.
بيد أن الحكم المحلي العربي يعاني من شح الميزانيات، ووضع مالي واقتصادي صعب، إما لقلة الميزانيات المُخصصة له، وإما لسوء الإدارة في الكثير من السلطات المحلية، وإما لغياب بنية تحتية اقتصادية في البلدات العربية (مثل: مناطق صناعية ومكاتب حكومية) يمكنها تعزيز قوة السلطة المحلية اقتصاديا.
كما أن السلطات المحلية سلطاتٌ تابعة لوزارة الداخلية الإسرائيلية، ولا تمثل نمطا من الحكم الذاتي الإداري، لذلك فإن قدرتها على التأثير على مكانة العرب ضئيلة وتنحصر في داخل البلدة العربية التي تواجه أصلا تحديات كبيرة. وفي هذا الصدد، يُعد حضور الأحزاب العربية في الحكم المحلي قليلا، فالانتخابات المحلية تعتمد بالأساس على القوائم المحلية، وبعضها قوائم عشائرية-عائلية أو تشكلت نتيجة تحالف عشائري-عائلي، الأمر الذي يجعل الرؤية من أجل تطوير الحكم المحلي والبلدات العربية ضيقة وقصيرة المدى.
إلى جانب الحكم المحلي التابع لوزارة الداخلية، تطورت في العقدين الماضيين مئات الجمعيات العربية غير الحكومية (مؤسسات المجتمع المدني العربي)، وبلغ عدد الجمعيات الفاعلة منها في المجتمع العربي حوالي 1300 جمعية، بنسبة تصل إلى نحو 8% من مجمل الجمعيات الفاعلة في إسرائيل(19). تجدر الإشارة إلى أن عدد الجمعيات اليهودية العربية المشتركة، يبلغ 29 جمعية بنسبة 0.7%. (ينظر الجدول رقم 5).
جدول (5): الجمعيات العربية في إسرائيل(20)
|
مجمل الجمعيات في إسرائيل |
الجمعيات العربية |
مؤسسات مسجلة |
43.714 |
3895 (8.9%) |
مؤسسات فاعلة |
16.278 |
1298 (7.9%) |
ومن حيث التوزيع الديمغرافي، فإن قرابة 83% من الجمعيات العربية موجودة في البلدات العربية، و16% في مدن مختلطة، وأقل من 1% في مدن يهودية. وتشير المعطيات إلى أن مجال عمل الجمعيات العربية متعدد: نحو 22% منها تعمل في مجال التعليم والبحوث والثقافة، و18.5% في المجال الصحي والإغاثي، ونحو 17% في المجال الرياضي، وحوالي 12% في المجال الديني، ومثلها كمراكز جماهيرية(21). كما تبين المعطيات أن أغلب الجمعيات العربية تعتمد على نفسها في التمويل، وأن نسبة الجمعيات التي لها علاقة تعاقدية مع الحكومة الإسرائيلية لا يتعدى 1%، وهي 22 جمعية لها تعاقدات مع الوزارات الحكومية، وأغلبها كليات عربية تحصل على تمويل حكومي، أو مراكز شيخوخة ومؤسسات رفاه اجتماعي(22).
يذكر أمل جمّال وآخرون (2019) في بحثهم حول الجمعيات العربية، أن المجتمع العربي غير قادر على تأسيس مؤسسات أهلية قادرة على مواجهة التحديات، فمستوى المأسسة في المجتمع العربي منخفض، كما أن أغلب مصادر التمويل خارجية وتحدد للجمعيات العربية أجندات عملها حسب مصالح الجهات المُموّلة، الأمر الذي يحوّل المجتمع العربي إلى مجتمع مدني تابع لجهات خارجية(23).
اندماج أكبر وتأثير أقل
تشير المعطيات إلى أن "المواطنين العرب الفلسطينيين" في إسرائيل حققوا مستوى متقدما من الاندماج والتمثيل في النظام الإسرائيلي خلال العقد الأخير، مقارنة بالعقود السابقة. وتتفاوت درجات التمثيل باختلاف المجالات وداخل كل مجال، فبالرغم من أن تمثيل العرب في القطاع الحكومي ارتفع في السنوات الأخيرة، فإن أغلبهم يعملون في الدرجات الوظيفية الدنيا. وفي المجال الاقتصادي، لا تزال أغلب القوى العربية تعمل في الوظائف المتدنية ذات الأجور المنخفضة، ولا يزال تأثيرها على الاقتصاد الإسرائيلي ضعيفا. غير أنه في بعض المهن الأكاديمية، هناك تمثيل كبير للعرب، مثل المهن الطبية، وهو نابع من اعتبارات اجتماعية داخل المجتمع العربي تجعله يصنف مهنا معينة كالطب مثلا، بمعيار اجتماعي عال. ولا ينتظم العرب في مهن معينة ضمن روابط عربية، في حين ينضوي أغلب المهنيين العرب تحت روابط مهنية إسرائيلية عامة، مثل نقابات المحامين والأطباء وغيرها.
لا تعترف الدولة بلجنة المتابعة كممثلة للجماهير العربية، فضلا عن أن اللجنة نفسها لا يتم انتخابها من المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل، لذلك فإن قدرتها على تمثيل الفلسطينيين ضعيفة. وتعمل لجنة المتابعة كلجنة تنسيق بين الحركات والأحزاب العربية، وهي الجهة التي تدعو إلى الاحتجاجات والإضرابات والمظاهرات ذات الطابع السياسي والاحتجاجي، بيد أن تأثيرها على القرار الحكومي ضعيف، مما ساهم في إعلاء شأن الأحزاب العربية في الكنيست، التي تراهن على التأثير على الحياة المدنية وتحصيل حقوق مدنية للمجتمع العربي.
تمثل القائمة العربية الموحدة تجربة جديدة في العمل السياسي العربي داخل إسرائيل، فهي المرة الأولى التي تنخرط فيها قائمة عربية في الحكومة وتكون جزءا من الائتلاف الحكومي. وتواجه هذه التجربة تحديات عديدة، حيث يعتمد نهج القائمة الموحدة على أن دَوْرها البرلماني يتمثل في تقديم خدمات وتحقيق "إنجازات" للمجتمع العربي، بصرف النظر عن السؤال الوطني، فمشاركتها في البرلمان من أجل هذه "الإنجازات" لا من أجل تسجيل مواقف سياسية. غير أنّ هذا الاعتبار يواجه تحديات تتمثل في قدرتها على تحقيق "إنجازات" حقيقيّة للمجتمع العربي، أو على الأقل تنفيذ الاتفاقية التي وقّعتها مع حزب "يوجَد مستقبل"، والتي تُعد بعض بنودها غير قابلة لقياس مدى تطبيقها أو حتى إمكانية تطبيقها. وهناك أيضا التحديات السياسية، حيث لا تستطيع القائمة العربية الموحدة تجاوز هذه التحديات التي ستَفرض نفسها عليها، والتي قد تتطلب من الحكومة اتخاذ مواقف قد تُغيّر الوضع القائم في الموضوع الفلسطيني أو في القدس، إرضاء لقواعدها الانتخابية أو إرضاء لحركات يمينية في الحكومة. وتُبقي الحكومة الحالية على السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين كما كانت، وهو ما يشكل تحديا وطنيا وأخلاقيا للقائمة الموحدة أكثر منه للحكومة، فالأخيرة مستمرة في سياسة الاستيطان والسماح لليهود بدخول المسجد الأقصى، دون أن تتمكن القائمة من فعل شيء يمنع ذلك، بما يجعلها "شريكة في هذه القرارات".
كما سيكون التحدي الحكومي حقيقيا أمام تجربة القائمة الموحدة ومدى تأثيرها على الحكومة إذا استطاع بينيت ولبيد إدخال مكوّن جديد إلى تشكيلتها. وحتّى الآن، هذه الحكومة المؤلّفة من ثماني قوائم مرتبطةٌ بكلّ مكوّن فيها لضمان بقائها، وهي حالة غير مسبوقة في النظام السياسي الإسرائيلي، إذ تستطيع كلّ قائمة إسقاط الحكومة إذا انسحبت منها. وهناك سيناريو آخر -وإن كان ضئيل الاحتمال- يتمثّل في تنحّي نتنياهو عن المشهد السياسي؛ فهل سيبقى للقائمة حينها أيّ تأثير على الحكومة؟ في هذه الحالة، قد يشارك الليكود في الحكومة دون نتنياهو، ومن ثَمّ تنتهي الحاجة المؤقتة إلى القائمة الموحدة.
استطاع العرب في العقد الأخير تحسين مكانتهم الاقتصادية والسياسية (بزيادة تمثيلهم البرلماني) والتعليمية (ارتفاع نسبة الحاصلين على لقب أكاديمي)، كما ازداد تمثيلهم في الجهاز الحكومي، ونمت طبقة وسطى عربية قوية اقتصاديا. ومع ذلك، ما زالت الفجوات كبيرة بين العرب واليهود، وما زال النظام السياسي الإسرائيلي يعطي الأفضلية للمجموعة اليهودية في توزيع الموارد واتخاذ القرارات.
ولدى المجتمع العربي توجهات مختلفة إزاء فكرة الاندماج، رغم وجود إجماع على أهمية الانخراط في الاقتصاد الإسرائيلي لأنه السوق الوحيد المتاح أمامهم، إذ هناك تباين حول عمق الاندماج في النظام السياسي الإسرائيلي.
ويمكن الإشارة هنا إلى ثلاثة توجهات متنافسة حول ذلك: الأول؛ يطالب بمقاطعة النظام السياسي وبناء مؤسسات وطنية داخلية، مثل انتخاب لجنة المتابعة العليا بشكل مباشر لتكون جسما تمثيليا داخليا على المستوى السياسي (مثل برلمان عربي)، والثاني؛ يقبل بالاندماج في النظام السياسي كمعارضة له، وهو ما انتهجته القوائم الانتخابية العربية التي تريد التواجد في الكنيست دون الانخراط في الحكومات الإسرائيلية. وأما التوجه الثالث؛ فتمثله القائمة العربية الموحدة التي ترى الانخراط العميق في النظام السياسي (أي الانضمام إلى الحكومات الإسرائيلية)، لتحسين مكانة العرب في إسرائيل.
لم يتحد العرب على توجّه بعينه، وهناك تنافس سياسي حول مصداقية هذا التوجه أو ذاك، وغير أن ذلك كله يترافق مع استمرار اندماج العرب في الاقتصاد الإسرائيلي ومؤسساته الحكومية والخاصة.
- بطبيعة الحال لا تشمل هذه المعطيات الفلسطينيين في القدس وهضبة الجولان.
- Asad Ghanem and Mohanad Mustafa. The Palestinians in Israel: The Politics of Faith after Oslo. (Cambridge: Cambridge University Press, 2018). P: 1.
- مركز البحث والمعلومات التابع للكنيست، معطيات حول التشغيل والأجور في المجتمع العربي، مع التركيز على مجال تكنولوجيا المعلومات (القدس: مركز البحث والمعلومات - الكنيست، 2020) ص: 2 (بالعبرية). (تاريخ الدخول: 4 يناير/كانون الثاني 2022): https://bit.ly/32Trv8O
- المصدر السابق، ص: 4.
- المصدر السابق، ص: 5.
- المصدر السابق، ص: 8.
- مركز المعلومات والبحث - الكنيست، تمثيل مناسب في قطاع الدولة: المجتمع العربي (القدس: مركز البحث والمعلومات - الكنيست، 2020)، ص: 4 (بالعبرية).
- المصدر السابق، ص: 5.
- "تدرّج الدخول" هو أدنى درجة وظيفية في القطاع الحكومي من حيث المستوى المهني والأجر، وهو المستوى الأول في السلم الوظيفي بالقطاع الحكومي.
- المصدر السابق.
- المصدر السابق، ص: 12.
- المصدر السابق.
- المصدر السابق.
- لا تشمل هذه النتائج المدن المختلطة.
- الأرقام تتعلق بالتصويت للقائمتين: تحالف الجبهة والعربيّة للتغيير، وتحالف الموحّدة والتجمّع.
- الأرقام تتعلق بالتصويت للقائمتين: القائمة المشتركة (ثلاثة مكونات)، والقائمة العربية الموحدة.
- تقدير موقف: قراءة في نتائج انتخابات الكنيست الرابعة والعشرين (مارس/آذار 2021) في المجتمع الفلسطينيّ في إسرائيل، وحدة السياسات، مدى الكرمل، (مارس/آذار 2021).
- المصدر السابق.
- أمل جمال وآخرون، منظمات عربية فلسطينية في المجتمع المدني في إسرائيل (القدس: الجامعة العبرية، 2019) ص: 8 (بالعبرية).
- المصدر السابق.
- المصدر السابق، ص: 22.
- المصدر السابق، ص: 35.
- المصدر السابق، ص: 48.