الظاهرة الخطابية للرئيس سعيد وهندسة الحقل السياسي التونسي

تشير سيولة خطابات الرئيس التونسي، قيس سعيد، إلى ظاهرة اتصالية استثنائية غير مألوفة تتفاعل مع جميع الأحداث والقضايا عبر طقوس وسلوكيات تتجاوز الأفق النقدي للمشهد السياسي والمدني والقانوني والحقوقي، وتنزع لمأسسة ممارساته الخطابية بحمولتها الاجتماعية والسياسية، وإيجاد معادل موضوعي مؤسسي للخطاب.
18 يناير 2022
السيولة الخطابية المفرطة والفعل التواصلي المشبع بالأيديولوجيا للرئيس قيس سعيد يهدفان إلى إيجاد معادل موضوعي مؤسسي للخطاب (الأناضول)

بموازاة الحالة الاستثنائية التي تعيشها تونس، منذ الخامس والعشرين من يوليو/تموز 2021، بعد قرارات الرئيس قيس سعيد تجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن النواب وإعفاء رئيس الحكومة وتولي رئيس الجمهورية مهام السلطة التنفيذية، برزت حالة اتصالية استثنائية أخرى؛ تتمثَّل في سيولة الخطاب (الفعل التواصلي) لرأس السلطة، ومُوَجِّهات ممارسته الخطابية اليومية تفاعلًا مع الحالة السياسية الناشئة. فقد أصبح الرئيس، في سياق الصراع والجدل السياسيين حول رهانات وتحديات هذه المرحلة مع مكونات المشهد السياسي والمدني والقانوني والحقوقي، مصدرًا متدفقًا لإنتاج واستهلاك الخطابات السياسية بصورة غير مألوفة في التاريخ المعاصر لتونس، وربما أيضًا تخرج عن المألوف والتقليدي في مهام النشاط الاتصالي لرئاسة السلطة في أي بلد آخر. لذلك حوَّلت هذه السيولة الخطابية المفرطة، والفعل التواصلي المشبع بالأيديولوجيا، الرئيس قيس سعيد إلى ظاهرة خطابية استثنائية تتفاعل مع جميع القضايا والأحداث (الشاردة والواردة) عبر بروتوكولات وطقوس وسلوكيات تنزع لمأسسة ممارسته الخطابية بحمولتها الاجتماعية، وشرعنة القيم الحاملة لها، والبحث عن الوسائل والآليات لإيجاد معادل موضوعي مؤسسي للخطاب، لاسيما أن المواقف والأفكار والقيم والأطروحات لا توجد خارج نسق اللغة أو التمثيل؛ إذ إن "الخطاب هو المكان الذي تلتقي فيه اللغة بالأيديولوجيا" كما يشير بعض مؤسسي دراسات تحليل الخطاب.

وفي ضوء ذلك، تحمل بنية الخطاب، الذي ينتجه الرئيس قيس سعيد، آثارًا للصراع على المعاني ودلالات الأحداث والقضايا، كما تحمل سجلًّا بالاختلاف حول القيم والغايات ونمط العلاقات مع المعارضين له وخصومه السياسيين. لذلك، فإن الظاهرة الخطابية الاستثنائية، التي يُمثِّلها الرئيس سعيد من خلال سيولة ممارسته الخطابية ومُوَجِّهاتها، تجعل الخطاب فضاء أو منصة تعكس تَمْثِيلات المتكلم/المخاطِب للواقع، وللقيم، وللعلاقات مع باقي الفاعلين في المشهد السياسي التونسي، وتُسهِم أيضًا في تشكيل أطر وممارسات سياسية وتشييد بنى ثقافية واجتماعية. وستكون هذه الدوائر الثلاث (التمثيلات، القيم، العلاقات)، التي تُعبِّر عن طبيعة السلطة وفلسفتها، محورًا لهذا التعليق الذي يحاول أولًا: أن يُبيِّن الكيفية التي يُقدِّم بها المتكلم/الرئيس الواقعَ السياسي التونسي والفاعلين فيه ورؤيته ومنظوره للقضايا محل الخلاف، وثانيًا: أن يُحدِّد نوع الهويات التي يُنْشِئُها المخاطِب لنفسه ولمختلف الفاعلين في المشهد السياسي والمدني والقانوني والحقوقي، وثالثًا: أن يرصد نمط العلاقات بين مكونات المجال السياسي ومستوياتها.

تمثيلات الواقع  

يرتكز الفعل التواصلي للرئيس قيس سعيد على استعمال مخصوص للغة، مستندًا إلى تكرار وحدات معجمية بعينها في تعليقه على بعض الأحداث والقضايا لتأكيد المعاني ضمن استراتيجيات خطابية متنوعة، تشمل التسمية الصريحة في تحديده مثلًا للمشكلة التي تعيشها تونس بعد مرور عقد ونيف على الثورة، حيث تتعرض الدولة ومؤسساتها -بحسب المخاطِب- لخطر "الضرب من الداخل" بسبب الدستور، الذي صادق عليه المجلس الوطني التأسيسي، في 26 يناير/كانون الثاني 2014؛ إذ "لم يعد صالحًا ولا مشروعية له" في إدارة الدولة وتدبير الشأن العام. ويعتبر المتكلم الوثيقة الدستورية أداة قانونية تُكرِّس تنازع مؤسسات الدولة واختصاصاتها، بل وتُكرِّس إرادات متعددة تعمل بمنطق "الدويلات" أو "الدولة داخل الدولة"، وتُقسِّمها وتُسَيِّرها بمنطق الجماعة. وصار البعض "يعتقدون أنفسهم الدولة"؛ حيث تحوَّلت المؤسسات والمرافق العمومية -بحسب المتكلم- إلى "غنيمة للسطو على إرادة الشعب"، ومجالًا للنهب وانتشار الفساد، وللإثراء وتكديس الأموال داخل تونس وخارجها. وهنا، يحاول المتكلم إقناع جمهور المخاطَبِين بأن هذا العمل لا يمت بصلة إلى المسؤولية التي حمَّلها الشعب التونسي للجهات المعنية، بل هو عمل خارج القانون، ويتطلب "المقاومة والتصدي" له بكل الوسائل القانونية وغيرها.

ويُسمِّي المتكلم الجهات التي تسعى إلى "إسقاط الدولة التونسية"، و"تفجيرها من الداخل" وتحويلها إلى "مجموعة من الدويلات"، بـ"المنظومة" التي جاءت بعد 14 يناير/كانون الثاني وتعمل على إجهاض الثورة، والتنكيل بالشعب التونسي، والعبث بالدولة ومقدراتها وبالأرواح والأموال. وتتشكَّل هذه المنظومة من "المجرمين واللصوص الذين نهبوا أموال الدولة، وأموال الشعب المفقر.. وأفقروا خزائن الدولة"، ويصف ممارساتهم وسلوكياتهم بـ"الإجرام والجناية"، لأنهم يتاجرون بفقر الشعب التونسي وآلامه ويقايضونه على التعليم والصحة والبيئة والأمن. وهنا، يَدْمَغ المتكلم أعضاء المنظومة بعلامات خاصة تميزهم عن باقي الكيانات السياسية والمجموعات الاجتماعية وتُلْحِقُهم بمنزلة ينبذهم فيها المجتمع (الإجرام، الجناية، اللصوصية...) وتنزع المشروعية عن أفعالهم، لأنهم يعملون ضد مصالح الدولة والشعب التونسي، وهو ما يعرِّضهم للمساءلة القانونية، بل إن المتكلم يدعو القضاء إلى استعجال النظر في ملفاتهم ومحاكمتهم. كما تنزع هذه الصفات، التي يَسِمُ بها المخاطِب المنظومة التي جاءت بعد 14 يناير/كانون الثاني، الشرعية والتَّمْثِيل عن أعضائها في المؤسسات السيادية وغيرها، وهو ما يعني تجريد الجهات والمكونات السياسية التي تُمثِّل المنظومة من حق التنظيم والعمل السياسي وحرية الرأي والتعبير، لأن "بناء الدولة لا يكون عبر السب والشتم والقذف والتطاول على الدولة ومؤسساتها والكذب والافتراء".

وتبرز استراتيجية التسمية أيضًا من خلال العلامات التي يصف بها المخاطِب جهات محلية تعمل بـ"الليل والنهار" مع أطراف أجنبية في الغرب والشرق لضرب الدولة التونسية والتحكُّم في مستقبلها، ويَسِمُها بـ"الخيانة والعمالة" لتعاونها وتخابرها مع قوى أجنبية وبيع ذممها؛ حيث تسعى في كل المحافل الدولية إلى الوقوف ضد مصالح الدولة التونسية، وتبذل جهدها في الخارج للحيلولة دون مساعدة تونس، بل أصبح لديها قابلية للاستعمار الأجنبي؛ إذ "تستبطن فكرة الاستعمار من كل الدول الأخرى". لذلك ينفي عنها المتكلم صفة الوطنية "لا وطنية لمن تنادي"، وهو اختيار وانتقاء لكلمات مقصودة (الخيانة، العمالة، اللاوطنية) تمثِّل حقلًا دلاليًّا للتخريب والشر الذي تُلحقه بالوطن. ويُستخدم هذا الحقل للنيل من سمعة الجهة المعنية ومن ثم جعل هذه العلامات لافتة (يافطة) دالة عليها، نافيًا عنها الانتماء لهذا الوطن، وهو حقل دلالي يحمل بالطبع شحنة عاطفية لتعبئة الجمهور ضد هذه الجهات، ويشير أيضًا إلى وجودها غير الشرعي بعد أن "لفظها الشعب التونسي ولفظها التاريخ"، وأن مصيرها هو المحاكمة والمحاسبة على أفعالها التي يدينها الشرع والشارع.

وتمتد استراتيجية التسمية التي يستخدمها الرئيس قيس سعيد إلى مرفق القضاء، حيث يسم جزءًا من القضاة بـ"الشرفاء، الذين ليسوا امتدادًا لسلطة ولا لقوى سياسية ولا لعصابات إجرامية"؛ ما يعني أن هناك فئة أخرى من القضاة غير الشرفاء، الذين سكت المتكلم عن وسمهم بهذا الوصف، لكن يعتبرهم امتدادًا لقوى سياسية أو يعملون لمصلحتها، "وقد رفض بعضهم تسليم الملفات المتعلقة بالاغتيالات والسرقة والاستيلاء على المال العام". لذلك يدعو المتكلم القضاة الشرفاء الذين "لم يبيعوا مواقفهم وضمائرهم" إلى تطهير مرفق القضاء، ومن ثم تطهير البلاد بسبب ما آلت إليه خلال السنوات العشر الماضية. وهو ما يشير إلى المعاني الكبرى التي تؤسس لها الممارسة الخطابية للمتكلم، حيث الرهان على "تنظيف" المشهد السياسي من المنظومة التي جاءت بها ثورة 14 يناير/كانون الثاني، والعمل على هندسة واقع سياسي واجتماعي بدءًا بتغيير تاريخ الثورة نفسه، وخلق الظروف المناسبة من خلال المعاني السياسية والقانونية والاجتماعية التي يُشيِّدها خطاب الرئيس كما سنرى لاحقًا.

ويستخدم المتكلم استراتيجية خطابية أخرى تحيل على أعضاء المنظومة التي تسعى إلى ضرب الدولة التونسية، وهي "استراتيجية الإحالة" التي تعتمد على صفات ونعوت تحدد هوية المنظومة بـ"السباع والضباع والطيور الكواسر" الذين حوَّلوا مؤسسات الدولة إلى غنيمة، وهم أيضًا التماسيح والحيتان والقروش "الأشد فتكًا من قروش البحار والمحيطات التي ألقوا فيها بالمفقرين لتلتهمهم الحيتان والقروش". وهنا، يُجرِّد المتكلم أعضاء هذه المنظومة من صفاتهم الإنسانية ويُسنِد إليهم طباع الحيوانات ويلحقهم بعوالم المخلوقات غير الإنسانية، مما يجعلهم فاقدين للشعور بالمسؤولية وكأنهم يعيشون في غابة متوحشة لا يهمهم سوى إشباع نزواتهم ورغبتهم في البقاء، وافتراس الآخرين ونهب حقوقهم، والعبث بمصالح الشعب التونسي والدولة التونسية. كما تحيل هذه الاستراتيجية على وصف هذه المنظومة بالنفاق والكذب والفسوق والرفث والغدر، فيُسنِد إليهم كل المثالب والسلوكيات غير الأخلاقية: "لا يحترمون قواعد الدين ومقاصده والقواعد الأخلاقية"، وهو ما يعني زيف خطابهم الأخلاقي، الذي يستخدمونه وسيلة لتحقيق أهدافهم السياسية.

كما يحيل المتكلم إلى "الظلام الحالك والفترة القاتمة"، التي سادت البلاد في ظل إدارة هذه المنظومة لضرب مؤسسات ومرافق الدولة، والإرث الثقيل لسياساتها في جميع القطاعات، "ويسعى من يعملون في الظلام أن يكون حالكًا أكثر". وتشير هذه الإحالة على الظلام أيضًا إلى المشاكل الأمنية التي عاشتها البلاد بعد الاغتيالات السياسية التي طالت بعض رموز المعارضة التونسية، مثل: شكري بلعيد (فبراير/شباط 2013)، ومحمد البراهمي (يوليو/تموز 2013). ويحاول خطاب المتكلم أن يحمِّل المسؤولية في هذه الاغتيالات إلى المنظومة السياسية الحاكمة أخلاقيًّا وسياسيًّا باعتبارها كانت مسؤولة عن هذا الظلام، بل أعدَّت خططها حتى يسود الظلام الحالك.  

الهويات والقيم

إزاء الصفات السلبية التي وَسَم بها المتكلم المنظومة التي جاءت بعد الثورة (ضرب الدولة والعبث بمقدراتها، والتنكيل بالشعب التونسي وسرقة أمواله وثرواته...)، والعلامات التي وَصَم بها أعمالها غير الوطنية (الخيانة والعمالة والتخابر، والكذب والفسوق والافتراء والغدر)، حرص المتكلم أن يُقدِّم الذات الرئاسية إيجابيًّا للمستمعين إليه وإلى الجمهور الذي يخاطبه. فهو الرئيس الذي تحمَّل مسؤوليته أمام الشعب التونسي لإيقاف العبث بمقدرات الدولة وضرب ومؤسساتها، والوفاء لما يُسمِّيه بـ"الانفجار الثوري الذي حدث في 17 ديسمبر/كانون الأول". وهنا يحاول المتكلم إبراز قيمة "الوفاء" (وفاء الرئيس) للثورة التونسية والإخلاص لمبادئها في الحرية والكرامة والعدالة والمساواة؛ حيث لم يُبدِّل ولم يُغيِّر كما هي حال الآخرين الذين نهبوا وسرقوا وداسوا على هذه المبادئ. ويسعى المخاطِب عبر هذا التقابل بين الوفاء (الأنا/الرئيس) والخيانة (الهُمْ/المنظومة)، أن يرسم معالم هويتين مختلفتين: هوية وطنية تلتحم بالشعب التونسي وآماله وتسعى لتحقيق مطالبه (الأنا/الذات الرئاسية)، وأخرى غير وطنية خانت هذه الآمال والمطالب (الهم/المنظومة السابقة). ويستخدم هذه الهوية لإضفاء المشروعية على إدارته للمرحلة السياسية باتجاه خلق حالة من التطبيع مع جميع الخطوات والإجراءات والتدابير الاستثنائية التي اتخذها لتصحيح الأوضاع وإنقاذ الدولة والمجتمع مما تعرضا له خلال الفترة الحالكة السابقة.   

وترتبط هذه القيمة (الوفاء) بقيمة أخرى تجسدها المسؤولية التي يتحمَّلها الرئيس قيس سعيد، والتضحية والسهر ليلًا ونهارًا على إدارة شؤون البلاد والاستجابة لاحتياجات المواطنين؛ إذ "يتدخل في منتصف الليل أو في الفجر لتوفير الأوكسجين وبعض المعدات الطبية ونقلها من مكان إلى مكان آخر". وهنا، يُقدم المتكلم نفسه للمستمعين إليه وللجمهور الذي يخاطبه باعتباره منقذًا للدولة (هوية المنقذ) وللشعب التونسي من "الحيتان والقروش والتماسيح البشرية" التي تنكِّل به، ثم حاميًّا للوطن؛ حيث يتصدى لهؤلاء الذين أرادوا ضرب الدولة ومؤسساتها، وسعوا في تقسيمها إلى دويلات. وهو الذي يعمل أيضًا من أجل إرساء دولة المؤسسات والقانون، وخلق الثروة، ووضع حدٍّ لشبكات الفساد، والوقوف أمام الجهات التي تتعاون مع قوى أجنبية ضد مصالح بلدها. و"سيواصل العمل كما بدأ على نفس النهج للاستجابة لمطالب الشعب"، و"لا مجال للمقارنة بين الوضع الذي عاشته تونس في تلك الأيام الحالكة السوداء، حيث كانت الاجتماعات تتم دون أي أثر في الواقع"، وبين ما حقَّقه الرئيس قيس سعيد من "نتائج غير مسبوقة في ظرف وجيز" للقضاء على جائحة كوفيد-19، وتوفير الخدمات في قطاع الصحة والبيئة وغيرها من القطاعات.

كما يُقدِّم المتكلم نفسه محرِّرًا للبلاد (هوية المحرر) من المنظومة التي جاءت بها ثورة 14 يناير/كانون الثاني، أو مما يُسمِّيهم "العابثين بمقدرات الدولة والمخربين لمؤسساتها، وعقلية الجماعة في إدارة الدولة، واللصوص واللوبيات، والمجرمين والعملاء والخونة، وأهل الكذب والنفاق والغدر، الذين لا عهود لهم ولا أخلاق...". وهنا، يحاول الرئيس أن يضع خطًّا فاصلًا بين مرحلتين: مرحلة الظلام الحالك التي حاولت فيها تلك المنظومة ضرب الدولة من الداخل وتقسيمها إلى دويلات لخدمة مصالح حزبية وسياسية، ومرحلة بناء المستقبل؛ حيث "لا مجال للعودة إلى الوراء، لأن التاريخ يتقدم نحو المستقبل ولا يتقدم إلى الماضي". وهذا يتطلب -بحسب المتكلم- تطهير البلاد مما يُسمِّيه "الإرث الثقيل" بجميع رموزه خلال فترة الظلام الحالك من أجل تحقيق الحرية والعدل والمساواة -كما يراها المتكلم- والكرامة للشعب التونسي.

وفي الوقت الذي يحاول المتكلم أن يجعل هذه القيم (الوفاء، المسؤولية، التحرير...) وسمًا للذات الرئاسية -وعلامة بارزة تحيل على مناقب الرئيس وهويته الوطنية وإخلاصه في خدمة بلاده والسهر على شؤونه ومقاومة أي خطر داهم يهدد كيانه ومستقبله- فإن الخطاب يركز أيضًا على مثالب وعيوب الآخرين (المنظومة)، نافيًا عنهم أية صفة أو سلوكًا إيجابيًّا أخلاقيًّا وسياسيًّا. وهو التقابل أو التضاد الذي تشير إليه دراسات تحليل الخطاب بـ"المربع الأيديولوجي"، الذي طوَّره الباحث فان ديك؛ حيث ينسب المتكلم إلى نفسه كل الأعمال والسلوكيات والصفات الإيجابية، كما فعل الرئيس قيس سعيد الذي يُقدِّم نفسه "الصادق الأمين والوفي بالعهود والنزيه والعفيف الذي لا تطول يده المال العام"، وكانت تكلفة حملته الانتخابية غير مسبوقة في تاريخ الانتخابات، وهو أيضًا المنقذ للدولة من التقسيم إلى دويلات داخل الدولة، والمنقذ للشعب التونسي من الظلام الحالك، والمدافع عن سيادة واستقلال البلاد، وحماية مصالحها من العبث والتخابر مع قوى أجنبية...إلخ.   

وهنا، يحدد المتكلم لنفسه موقعًا ودورًا محوريًّا في إدارة الشأن العام ليس فقط باعتباره رأس السلطة، وإنما المتحكِّم في مصير البلاد والعباد، وهو "المرجع" في تحديد حاضرها ورسم مستقبلها، والذي يقضي بما شاء وكيفما شاء، فهو الجامع لكل السلط والممسك لها، فهو رمز السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية والنيابة العامة. لذلك يتحدث باسم الجميع وتتعدد أصواته في الخطاب لتمثيل كل المؤسسات والكيانات (الشعب، مؤسسات الدولة المختلفة...)، ولا تعتري قرارته وسلوكياته أية أخطاء أو مثالب كما يعتري النقصان أي شيء آخر. في المقابل، يحرص المتكلم في خطاباته على إبراز جميع النقائص والسلبيات التي وسمت سلوكيات وقرارات المنظومة التي جاءت بعد 14 يناير/كانون الثاني، وتطعن في شرعيتها السياسية، ومشروعيتها على مستوى الإنجاز وتحقيق آمال الثورة. ويحدد دورها المخرب للبلد نافيًا عنها أي سلوك إيجابي، لأن الفترة التي قضتها في الحكم لم تكن سوى ظلام حالك. لذلك، فإن دورها -بحسب منطوق خطاب المتكلم- كان بالغ السوء في إدارة الشأن العام وإن موقعها هو خارج التاريخ. 

نمط العلاقات  

تعكس الهويات والقيم التي يُشيِّدها المتكلم في الخطاب -ويَسِم بها نفسه (الأنا/الطهرانية) والمنظومة السابقة (الآخرين/المخربين والمجرمين والخونة والعملاء واللصوص والكذابين...)- أنماطًا مختلفة من العلاقات بين الطرفين منذ وصول قيس سعيد إلى هرم السلطة بعد انتخابات الرئاسة التي جرت في سبتمبر/أيلول 2019. ويشير الخطاب إلى سياسة التأزيم التي كانت تطبع تدبير المنظومة الحاكمة للشأن العام التونسي؛ إذ "يختلقون الأزمة تلو الأزمة، لأن الأزمات عندهم أداة من أدوات الحكم"، وقد امتد ذلك إلى علاقة الرئاسة بأطراف المنظومة، والتي ظهرت في مناسبات مختلفة (رفض الرئيس قيس سعيد أداء بعض الوزراء اليمين الدستورية خلال التعديل الوزاري الذي أجراه رئيس الحكومة، هشام المشيشي، في يناير/كانون الثاني 2021..)، وسكت المتكلم كثيرًا عن هذه السياسة وصبر عليها، لكن التعايش معها كان مستحيلًا؛ لذلك لجأ إلى الإجراءات الاستثنائية يوم 25 يوليو/تموز 2021. وتطورت علاقة التأزيم بين المتكلم والمنظومة السائدة إلى مواجهة بين الطرفين (علاقات المواجهة) إعلاميًّا وسياسيًّا وقانونيًّا وحقوقيًّا، بل استعان المخاطِب في هذه المواجهة بوحدات معجمية من القاموس الحربي (الرصاص، راجمات الصواريخ...)، وتوعد الأطراف التي تهدد استقرار البلاد وتتطاول على الدولة ورموزها باستخدام الرصاص: "لن نسكت عن أي شخص يتطاول على الدولة ولا على رموزها، ومن يطلق رصاصة واحدة ستجابهه قواتنا المسلحة العسكرية الأمنية بواصل من الرصاص لا يحده إحصاء".

وإزاء هذه العلاقة التي تتسم بالتأزيم والمواجهة بسبب التقابل في الإرادات والاختيارات والهويات والمواقع بين الطرفين، فإن خطاب المتكلم لا يخلو من الاحتقار للفاعلين السياسيين والحقوقيين وبعض القضاة أيضًا، الذين يتجنب ذكر أسمائهم في خطاباته، مؤكدًا "لا أُعيرهم أي أهمية على الإطلاق"، ويزدري حديثهم عن الانقلاب الدستوري: "ما أسمعه وما أقرؤه وما أحتقره وأزدريه في نفس الوقت هو أن يتحدث قاض عن الانقلاب". وتدفع هذه العلاقة التي ينشئها مع خصومه (الازدراء والنظرة الدونية للآخرين) إلى حمل المخاطَب على كراهية المنظومة السابقة التي فقدت شرعيتها ولا ينتظرها -بحسب المتكلم- سوى التطهير الذي يقوم به الرئيس المنقذ/المخلص وأيضًا الشعب التونسي والقضاة الشرفاء.

خلاصة

تنبني الممارسة الخطابية للمتكلم، قيس سعيد، على إظهار طهرانية الذات الرئاسية التي تتميز بالوفاء والإخلاص لمبادئ الثورة، والتضحية وتحمُّل المسؤولية في إنقاذ الدولة وتحريرها من عبث المنظومة السابقة التي كانت تسيِّرها بمنطق الجماعة وتقسِّمها إلى دويلات، والاستجابة لآمال الشعب التونسي. كما تنبني هذه الممارسة الخطابية في المقابل على إبراز تلوث الآخر/المدنس، أي المنظومة السابقة التي حوَّلت مؤسسات الدولة إلى غنيمة ونهبت أموال الشعب (السباع والضباع والتماسيح) وأَدارَتها بمنطق الجماعة. وهو خطاب يتجاوز الأفق النقدي للممارسة السياسية لهذه المنظومة، ويحاول المتكلم أن يوصله إلى الجمهور بكل الوسائل وعبر جميع المنصات والقنوات لإنشاء واقع اجتماعي وسياسي جديد، لذلك يتحوَّل إلى عداء وازدراء وتحقير، بل وكراهية للنخبة السياسية والمؤسسات السياسية والقضائية التي أقامتها الثورة خلال الفترة الحالكة كما يُسمِّيها المتكلم، ويطالب بتطهير البلاد من كل الآثار المترتبة عليها. وهنا، تبدو أهداف خطاب الرئيس قيس سعيد واضحة؛ إذ يحاول أن يُظهر طوال الوقت انحيازه لإرادة الشعب التونسي ومطالبه (الإرادة العامة)، ساعيًا إلى هندسة المجال السياسي والاجتماعي ووضع قواعد جديدة تنظِّم العلاقة العمودية للمتكلم مع باقي مكونات المجتمع ليكون المرجع في كل شيء، ومصدرًا لجميع السلطات.    

نبذة عن الكاتب