تنحي الحريري عن الحياة السياسية في لبنان: السياق والتداعيات

أحد أكبر المعضلات التي ستشهدها الساحة اللبنانية، هو الفراغ الذي سيخلِّفه انسحاب الحريري من الحياة السياسية، وغالب القوى السُّنِّية لا تملك القدرة على ملء هذا الفراغ على الأقل في المدى القريب.
26 يناير 2022
الحريري عن أسباب انسحابه: "لا مجال لأي فرصة إيجابية للبنان في ظل النفوذ الإيراني والتخبط الدولي" (رويترز).

أعلن رئيس تيار المستقبل ورئيس الوزراء اللبناني السابق، سعد الحريري، (24 يناير/كانون الثاني 2022) عن تعليقه العمل بالحياة السياسية ودعا تياره، تيار المستقبل، للقيام بالمثل وعدم المشاركة في الانتخابات النيابية اللبنانية المقبلة، والتي من المفترض أن تُعقد في مايو/أيار 2022.

أسباب التنحي

اختصر سعد الحريري في كلمته مشروع والده (رفيق الحريري)، في فكرتين، أولاهما: "منع الحرب الأهلية"، والثانية: "توفير حياة أفضل للبنانيين"، واعتبر أنه نجح في الأولى لكنه "لم ينجح بشكل كاف" في الثانية، وأرجع سبب ذلك إلى التسويات التي عقدها مع قوى الثامن من آذار حليفة حزب الله، وذلك بدءًا من 7 مايو/أيار 2008، أي في أعقاب الخروج المسلح لحزب الله في العاصمة بيروت وما تلاه من تسوية في اتفاق الدوحة (21 مايو/أيار 2008) لاستيعاب تداعياته، مرورًا بزيارته للرئيس، بشار الأسد، في دمشق (ديسمبر/كانون الأول 2009) على الرغم من أنه كان قد اتهمه بالضلوع في اغتيال والده، الرئيس رفيق الحريري، وصولًا إلى انتخابه ميشال عون لرئاسة الجمهورية، عام 2016، في تسوية عقدها مع التيار الوطني الحر أتاحت له العودة لرئاسة الوزراء، وهي التسوية التي لم تُعمَّر طويلًا؛ حيث جاءت احتجاجات 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 المطالبة بتغيير "طبقة الأحزاب الحاكمة"، واستقال الحريري منذ حينها. وكان قد حاول العودة لرئاسة الوزراء مرة أخرى بعد إعادة تكليفه (22 أكتوبر/تشرين الأول 2020) لكنه ما لبث أن استقال بعد أن فشل في تأليف حكومة تكنوقراط مستقلة عن السياسيين وفق المبادرة الفرنسية.

إن إعلان الحريري لتعليق عمله بالسياسة لم يكن مفاجئًا إلى حدٍّ ما؛ حيث كثرت التكهنات بإقدامه على الانسحاب من الحياة السياسية، بعد أن خسر دعم الرياض، لاسيما أنه كان قد أعلن استقالته منها في ظروف ملتبسة، في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، قبل أن يعود عنها، وهي الحكومة الأخيرة التي ترأَّسها قبل أن تسقط باحتجاجات 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019.

ومن الواضح أن السبب الرئيسي وراء قرار الحريري بتنحيه عن الحياة السياسية هو خسارته دعم الرياض له وتغير موقفها من لبنان، لاسيما أنها أحد أبرز صنَّاع اتفاق الطائف. كما أنه غير قادر على المواصلة في هذه الظروف، التي يغلب عليها الاشتباك العسكري والأمني الإقليمي وقد يشتد، وهو مما قاله الحريري، أن "لا مجال لأي فرصة إيجابية للبنان، في ظل النفوذ الإيراني والتخبط الدولي، والانقسام الوطني واستعار الطائفية واهتراء الدولة". لاسيما أن بنية تيار المستقبل سياسية انتخابية، وليست أمنية عسكرية ولا أيديولوجية.

أسئلة وتداعيات

إن "الحريرية"، كما توصف، قد حفرت عميقًا في الوجدان اللبناني، وخاصة لدى سُنَّة لبنان (بالاعتبار الطائفي)؛ إذ عُمر "الحريرية" تقريبًا من عمر الطائف (1990)؛ حيث أسهم رفيق الحريري في صياغته ومن ثم أخذ يلعب دورًا مباشرًا في الحياة السياسية اللبنانية منذ العام 1992، وأصبح جزءًا مرحَّبًا به من المشهد الإقليمي وحتى الدولي، واستمرت "الحريرية" بعد اغتياله مع اختيار ابنه، سعد الحريري، ليخلفه (2005). لهذا، فإن قرار الحريري "بالتنحي سياسيًّا" سيثير أسئلة كما سيترك تداعيات وتأثيرات كثيرة، من أهمها في السياق الحالي، أولًا: ما يتمثل بالفراغ الذي سيخلِّفه وراءه الحريري وتياره، وثانيًا: دلالة هذا الانسحاب عربيًّا ودوليًّا.

الفراغ السُّنِّي والوطني: أحد أكبر المعضلات التي ستشهدها الساحة اللبنانية، هو الفراغ الذي سيخلِّفه انسحاب الحريري من الحياة السياسية، وإن كان قد وصفه "بالتعليق" أي إنه مؤقت، لكن السياق يشير إلى أبعد من ذلك. فغالب القوى السُّنية لا تملك القدرة على ملء الفراغ الذي سيخلِّفه تيار المستقبل، على الأقل في المدى القريب، وهناك صعوبة في تقديم بديل قوي للتيار في الظرف الحالي، إذا ما أخذ في الاعتبار أن إنتاج "الحريرية" السياسية أخذ ما يقرب من عشر سنوات (1982-1992)، وكانت الطائفة السُّنية قد فقدت جُلَّ قوتها العسكرية وطبقتها السياسية.

لهذا، تتصاعد التحذيرات من أن يكون "سُنَّة لبنان" عرضة للاختراق من قبل بعض قوى الثامن من آذار وتحديدًا من محور حزب الله. وبالمقابل، يحذر آخرون ومنهم هذا الأخير، من تمدد "التطرف"، سواء الديني أو السياسي، إلى الجمهور السُّني العريض.

إن الطائفة السنية هي أحد أكبر المكونات اللبنانية، وكانت سببًا مباشرًا في إرساء اتفاق الطائف (1990)، وكانت العمود الفقري لـ"انتفاضة تشرين" 2019، ولها امتداد جغرافي واسع مختلط مع بقية الطوائف ما يعطيها دورًا مركزيًّا في اللعبة الانتخابية، وأي فراغ فيها سيغيِّر من موازين القوى الوطنية؛ ما يضع شكوكًا كبيرة حول عقد الانتخابات المقبلة المزمعة في مايو/أيار 2022، وإن جرت في مثل هذه الظروف لن تنتهي إلا إلى مزيد من تكريس نفوذ حزب الله وحلفائه.

دلالة الانسحاب عربيًّا ودوليًّا: لم يُسجَّل أي تدخل عربي أو دولي كبير وفاعل لثني الحريري عن قراره "بالتنحي السياسي" أو لتوفير سبل استمراره وتياره في الحياة السياسية، رغم الاختلال الكبير الذي سيلحق بالوضع السياسي اللبناني جرَّاء هذا القرار. 

ومن اللافت أن زيارة وزير الخارجية الكويتي، حمد ناصر الصباح، إلى لبنان (23 يناير/كانون الثاني 2022)، جاءت بالتزامن مع تحضيرات الحريري لإعلان تنحيه عن العمل السياسي، وطرح الوزير الكويتي على اللبنانيين مبادرة من اثني عشر بندًا بوصفها السبيل إلى "إنقاذ لبنان وترتيب العلاقات الخليجية-اللبنانية". تركز المبادرة -ويمكن وصفها بالخليجية والعربية إلى حدٍّ بعيد- على التزام لبنان باتفاق الطائف ونزع سلاح حزب الله وتعزيز سلطة الدولة اللبنانية على أراضيها ومنافذها وفق القرارات الدولية، وعلى انكفاء حزب الله عن دوره الإقليمي وأن لا يكون لبنان منصة تُستخدم ضد دول الخليج أو الدول العربية.

إن سقف المطالب العربية كما هو في هذه المبادرة عال جدًّا، لأنها بالأصل هي موضوع الأزمة اللبنانية الحالية وهي محل انقسام اللبنانيين؛ حيث كانت قوى 14 آذار تسعى إلى تحقيقها وعلى رأسها تيار المستقبل وقد فشلوا في ذلك، وهذا الفشل كان جزءًا من أسباب "تعليق" الحريري مشاركته في الحياة السياسية، وفق إعلانه. كما فشل الحريري وسواه في تشكيل حكومة وفق المبادرة الفرنسية والتي تقوم بجوهرها على "تحييد لبنان" عن الصراع الإقليمي واعتماد ما سُمِّيت سياسة "النأي بالنفس" وبشكل فعلي.

في هذا السياق، تأتي المبادرة الكويتية بمنزلة تأكيد على تدويل الأزمة اللبنانية لتحقيق أهدافها (أهداف المبادرة) بعد أن فشلت القوى المحلية ومنها "الحريرية" في تحقيقها، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، قد تصبح أهدافها بمنزلة مؤشر على اتجاه وأهداف الأجندة العربية من لبنان، ما يعني استمرار الضغوط لتحقيقها. بهذا الاعتبار، يشكِّل انسحاب الحريري وتياره من الحياة السياسية تأكيدًا عربيًّا -وربما دوليًّا- على القطع مع اللعبة السياسية اللبنانية بصيغتها الحالية وأن لا أمل من إصلاحها بتفاهم لبناني-لبناني، وأن لبنان بات خارج إطار "اتفاق الطائف"، وبالتالي، هناك مشهد سياسي جديد قيد الإعداد، لكن يحدد شروطه ووجهته ما ستفضي إليه تفاهمات الإقليم أو صراعاته.

خاتمة

يقوم لبنان على توازن طائفي دقيق كرَّسه اتفاق الطائف؛ ما يجعل أية عملية تغيير جزئية غير شاملة تستهدف مكونًا واحدًا من مكوناته محل شك، وأنها تصب لصالح تعزيز أسباب الاضطراب أو الحرب وليس قطع سبلها وتحقيق الاتفاق. وعلى الصعيد الوطني، إن غياب الحريري يشي بدخول لبنان فعليًّا إلى مرحلة ما بعد الطائف وهو يعاني من عدة معضلات، من أهمها: معضلة حزب الله بوصفه فاعلًا قويًّا عسكريًّا محليًّا وإقليميًّا، والمعضلة الاقتصادية حيث يعاني لبنان منذ أكتوبر/تشرين الأول 2019 من انهيار مالي لم يعرفه لبنان منذ تأسيسه وأصبح أكثر من نصف اللبنانيين تحت خط الفقر، ومعضلة الانقسام بين القوى اللبنانية وفق محاور إقليمية بالتوازي مع تمدد النفوذ الإيراني في المنطقة. هذا فضلًا عن مخاطر اندلاع مواجهة لبنانية مع إسرائيل سواء لأسباب إقليمية أو أخرى تتعلق بلبنان والخلاف على الحدود البحرية وثرواتها المفترضة.

انسحاب الحريري من الحياة السياسية في نهاية المطاف، هو بطريقة ما مؤشر على فشل تحييد لبنان عن أزمات الإقليم وأنه بات في وسطها.

نبذة عن الكاتب