الأبعاد الإنسانية والمهنية في تغطية قصة الطفل ريان

يحاول التعليق فهم وتفسير حجم التغطية الواسعة والتفاعلية لقصة الطفل المغربي ريان خلال الأيام الخمسة التي قضاها في قعر البئر، والتعرف على الأسباب التي جعلت الصحافة الرقمية وبعض الفضائيات والشبكات الإعلامية الدولية تخصص ساعات طوالًا لنقل الحادثة والتركيز عليها، ومراجعة المعايير والقواعد التي تضبط سقف التغطية وحجمها في متابعة الأحداث والقضايا.
10 فبراير 2022
(الجزيرة)

يحفل سجل التغطيات الإخبارية لوسائل الإعلام المختلفة، سواء في التاريخ القريب أو البعيد وفي سياقات وظروف متباينة، بقصص إنسانية كثيرة كانت مركزًا للاهتمام والإبراز بأشكال متعددة، وحاضرة باستمرار ضمن أولوية الأجندة الإخبارية والبرامجية لساعات وأيام. لكن لم يسبق البتة لحادثة أو قصة إنسانية مشابهة تمامًا لقصة الطفل ريان أورام، الذي قضى نحبه في قعر بئر بقرية إغران الجبلية المعزولة في ضواحي إقليم شفشاون شمالي المغرب بعد فشل جميع الجهود التي بُذلت لإنقاذه خلال خمسة أيام، أن أثارت نقاشًا وجدلًا واسعيْن حول طبيعة وحجم التغطية الإخبارية التي حظيت بها، وتحوُّل تفاصيل هذه القصة إلى العنوان الأبرز الذي دفع بعض الفضائيات والشبكات الإعلامية الدولية إلى تَسْيِيل بثِّها المباشر لمتابعة حيثيات عملية الإنقاذ وظروفها من داخل البئر ومحيطه. فضلًا عن النقاش والجدل بشأن القواعد الحاكمة للممارسة الإعلامية والأخلاقيات المهنية في تغطية هذه القصة.

وسنحاول في هذا التعليق فهم وتفسير حجم التغطية الواسعة والتفاعلية لقصة ريان خلال الأيام الخمسة التي قضاها في قعر البئر، والتعرف على الأسباب التي جعلت الصحافة الرقمية وبعض الفضائيات والشبكات الإعلامية الدولية تخصص ساعات طوالًا لنقل الحادثة والتركيز عليها، ومراجعة المعايير والقواعد التي تضبط سقف التغطية وحجمها في متابعة الأحداث والقضايا.

الاهتمام الإعلامي بالقصة   

مثَّلت قصة الطفل ريان -في بعدها الإنساني والظروف التي أحاطت بها- حالة شعورية/عاطفية استثنائية ألغت المسافات والحواجز بين كافة الأفراد والمجتمعات الإنسانية؛ حيث جعل منها الجميع في كل بقاع الأرض، وفي مختلف الميادين والساحات والفضاءات، قصته الشخصية. وقد زاد التأخير في عملية إنقاذ الطفل ريان، ثم مشهدية الانتظار التي استمرت خمسة أيام، من ارتفاع منسوب الحالة الشعورية العاطفية، والتضامن الواسع مع عائلته. وقد أسهمت هذه الوحدة العاطفية للأفراد والمجتمعات على حدٍّ سواء تجاه قصة الطفل ريان في استمرار التغطية المباشرة للحادث. لكن هذا البعد الإنساني لا يكفي وحده لفهم وتفسير التغطية الواسعة للحادثة، والنقل المباشر لتفاصيلها خلال خمسة أيام؛ حيث استمرت القصة عنوانًا رئيسيًّا في نشرات الأخبار الرئيسية والمواجيز الإخبارية لبعض الفضائيات والشبكات الإعلامية العالمية وعلى شبكات التواصل الاجتماعي، وعنوانًا رئيسيًّا أيضًا في صدر صفحات الجرائد الدولية، حتى بعد أن تأكد خبر وفاة الطفل (وبعضها خصص فقرات برامجية لرثائه ووداعه). إذن، هذا البعد لا يكفي، لأن هناك قصصًا إنسانية كثيرة، سواء من جنس قصة الطفل ريان أو تختلف عنها في عِظَم المأساة وحجم المعاناة، والنماذج هنا كثيرة حتى لا نسقط في عملية المقارنة بسبب اختلاف الظروف والسياقات، ولم تحظ بنفس حجم التغطية الإخبارية.

قد يساعدنا التصور النظري الذي أسسه الأنثروبولوجي والمؤرخ الفرنسي، غوستاف لوبون، في تفسيره لسيكولوجية الجماهير، وتَشَكُّل روحها الجماعية العابرة للأفراد، على إدراك خصوصية لحظة تفاعل وسائل الإعلام مع حالة إنسانية عاطفية استثنائية، لكن دون أن نُسقط الخلفيات الأيديولوجية لنظريته وسياقاتها التاريخية على هذه الحالة، وكذلك بعض تفسيراتها السلبية لسيكولوجية الجماهير في الحشد والتظاهر. فقد اعتبر لوبون، في كتابه "سيكولوجية الجماهير"، أن الجمهور روح جماعية عابرة ومؤقتة تتمتع بخصائص محددة ومتبلورة تمامًا؛ حيث تنطمس الشخصية الواعية للفرد، وتصبح عواطف وأفكار الوحدات المصغرة المُشَكِّلَة للجمهور في نفس الاتجاه؛ وعندئذ تصبح هذه الجماعة جمهورًا نفسيًّا/سيكولوجيًّا، وتتشكَّل كينونة واحدة وتصبح خاضعة لقانون الوحدة العقلية للجمهور. وهنا، سنستخدم مصطلح "سيكولوجية الإعلام" في تفسير استجابة وسائل الإعلام وتفاعلها مع قصة الطفل ريان، وهو لا يرتبط بالمفهوم الشائع عن دراسة السلوك البشري والأفكار والمشاعر والعواطف وفحصها في سياق استخدامات الأفراد لوسائل الإعلام، بل يتعلق بالحالة الشعورية للإعلام نفسه في لحظة معينة أو موقف بعينه. ومن ثم، فإن سيكولوجية الإعلام تمثِّل حالة انجذاب نفسية أو ردود أفعال عاطفية مشتركة عابرة لوسائل الإعلام، لكنها مؤقتة، وتركز فيها على المثير/القصة الإنسانية، حيث تتداعى التغطية الإخبارية في اتجاه واحد. وتدفع هذه الحالةُ النفسية وسائلَ الإعلام، التي تبدو كيانًا واحدًا تذوب فيه كل التمايزات، إلى التفاعل والتحرك بطريقة مختلفة تمامًا عن الطريقة التي كانت عليها قبل الحادثة/القصة.

وهنا، يُطرح السؤال الآتي: لماذا تخبو سيكولوجية الإعلام ولا تظهر في قصص إنسانية أخرى مشابهة أو تتداعى في تغطيتها لأحداث وكوارث إنسانية تمس أيضًا فئات هشَّة بمناطق مختلفة؟ وهو سؤال مهم قد يُبيِّن انتقائية الإعلام في التفاعل مع هذه القصص، ويشير ربما إلى مزاجية البعد السيكولوجي للإعلام الذي لا يمكن أن يكون كافيًا في تفسير الاهتمام والتركيز وحالة التفاعل النفسي مع قصة الطفل ريان. لكن إذا نظرنا إلى هذا البُعد (سيكولوجية الإعلام) في علاقته بما يمكن تسميته "دوامة النقل المباشر" لتفاصيل القصة من قِبَل الصحافة الرقمية وشبكات التواصل الاجتماعي في مرحلة أولى، ثم دوامة التغطية المباشرة لبعض القنوات والفضائيات والشبكات الإعلامية العالمية في مرحلة ثانية، نستطيع فهم الحالة النفسية الجماعية المشتركة لهذه الوسائل في لحظة معينة مؤقتة، وتفاعلها مع الحادثة ومأساة الطفل ريان خلال الأيام الخمسة التي قضاها في قعر البئر. ولم تكن وسائل الإعلام مخيرة في هذا الاتجاه، بل إن حالة الانغمار الرقمي التي نعيشها اليوم جعلت المستخدمين يملكون وسائلهم الإعلامية الخاصة وليس فقط منتجين للمحتوى، وهو ما يدفع بوسائل الإعلام التقليدية إلى الانجذاب لدوامة النقل المباشر للأحداث والانصهار في الحالة النفسية التي تُنْشِئُها بعض القصص الإنسانية كما حصل مع قصة الطفل ريان. هل ستتكرر دوامة التغطية في قصص إنسانية أخرى؟ قد يحدث ذلك، وربما بطريقة لا نتوقعها، لاسيما إذا انجذبت سيكولوجية الإعلام بوسائله المختلفة إلى تأثير إعلام الأفراد (الإعلام الاجتماعي).

النسبة والتناسب في التغطية

كان حجم التغطية الإخبارية لقصة الطفل ريان -كما تابعنا- واسعًا في وسائل الإعلام المحلية والإقليمية والدولية، وقد لاحظ كثيرون (صحفيون وغيرهم) أن الاهتمام الزائد بالحادثة وظروفها ومتابعة تفاصيلها وحيثياتها تجاوز القواعد والاعتبارات المهنية في تغطية الأخبار والأحداث، ولم يستطع بعض وسائل الإعلام أن يُقدِّر الحجم الطبيعي والمناسب للقصة. والحجة التي يُقدِّمها هؤلاء لتبرير ذلك أن ثمة قصصًا إنسانية كثيرة من جنس قصة الطفل ريان، وأخرى أكثر مأساوية في الوطن العربي وخارجه، لم تحظ بهذا الاهتمام، ولم تكن في بؤرة التغطية، بل إن هناك أحداثًا وقضايا دولية تؤثر في الاجتماع الإنساني والسياسي -بأبعادها الجيوبوليتيكية والنفسية أيضًا- غير أن الإعلام كان يجعلها في ذيل عناوين النشرات الإخبارية وقد يُعتِّم عليها أو يتجاهلها خلال الأيام الخمسة التي ظل فيها ريان في قعر البئر، وفي غيرها من الأيام. والسؤال أو الأسئلة التي تطرح نفسها بإلحاح هنا: ما الذي (ومَنْ) يُحدِّد الحجم الطبيعي لتغطية أية قصة؟ ما الذي يحدد أولوية الأخبار، خاصة المشابهة لقصة الطفل ريان أو الأكثر خطورة من الناحية الإنسانية؟ ولماذا تنغمس بعض وسائل الإعلام والشبكات الإخبارية العالمية في تغطية بعض الأخبار وتغض الطرف عن أخرى لا تقل أهمية عمَّا تراه القصة الرئيسية؟   

في كل الأحوال، تظل السياسة التحريرية للوسيلة الإعلامية أحد المحددات الأساسية والرئيسية في عملية انتقاء الأخبار وبثها، وتغطية الأحداث والقضايا، وتحديد حجم الاهتمام بها، وأشكال التغطية وأساليبها وأدوات الإبراز، والضيوف المشاركين فيها، لكن هناك أيضًا مجموعة المعايير أو القيم الخبرية التي تمثِّل خلاصة التجارب المهنية لوسائل الإعلام، والتي أمكن حصرها من خلال ملاحظة الأخبار التي تنشرها الصحف بحواملها المختلفة وتذيعها محطات الراديو وتبثها القنوات الفضائية. وتتعامل وسائل الإعلام اليوم مع هذه القيم بطريقتها الخاصة التي تُناسِب سياستها التحريرية. فالمعيار الذي يحدد أهمية وأولوية هذا الخبر لهذه الوسيلة الإعلامية قد لا يكون هو نفسه المعيار أو القيمة الخبرية بالنسبة لوسيلة أخرى، وقد تُعتِّم هذه الوسيلة على الخبر أو الحدث الذي تضجُّ به الدنيا رغم جدته وآنيته، بينما يكون مركز الاهتمام في وسيلة أخرى لساعات وتستمر تغطيته لأيام وأسابيع، وقد يمس الخبر أو الحدث أو القضية مصالح جمهور عريض ويتصدَّر عناوين الصحف والنشرات الإخبارية في بعض وسائل الإعلام، لكن يُدْفَن في الصفحات الداخلية ويهمل في النشرات الإخبارية لوسائل أخرى..  

إذن، أين موقع هذه القيم الخبرية التقليدية في قصة الطفل ريان؟ في الواقع، إن فرادة واستثنائية القصة والظروف التي أحاطت بها -وجعلت الأفراد والمجتمعات الإنسانية تتقمص فيها الحالة الإنسانية/العاطفية للضحية وعائلته- تجاوزت القيم الخبرية التقليدية ببنيتها الحكائية وكثافتها الرمزية (الرواية)، أو ما أسماه الدكتور سعيد يقطين "سردية القصة" وقابليتها للحكي من بدايتها حتى نهايتها؛ حيث إن مجموع البنيات الداخلية للنص/القصة يتضمن خارجه، أي إن مجموع العلاقات التي تربط بنيات القصة بما تُقدِّمه من عناصر ومكونات تصلها بما هو خارجي. ويشير ذلك إلى معيار التلاحم أو التعالق بين الحالة الخاصة والحالة العامة التي رفعت منسوب الاهتمام بالقصة والتركيز عليها، واستمرار التغطية لساعات وأيام. 

وقد أسهمت أيضًا "حالة الإعياء" لدى الجمهور والمستخدمين جرَّاء متابعة سيل الأخبار، التي تتناول مشاكل وظروف فئات اجتماعية كثيرة بسبب الأزمات والصراعات والحروب، في توجيه الاهتمام لقصة الطفل ريان؛ إذ أصبحت الحالات الإنسانية المتكررة طوال اليوم والشهور والأعوام لا تثير اهتمام الرأي العام، فوجد الإعلام في سردية الطفل ريان ما يوحِّد أجندته الإخبارية تجاه الحادث وتفاصيله. لكن، رغم أهمية القصة وتعالق ظروفها الخاصة بالحالة العامة، فإن مهنية الممارسة الإعلامية تتطلب ألا ينغمر الإعلام في الحادث كل الوقت، وألا ينخرط في دوامة النقل المباشر لحادث أو قصة إنسانية أو غيرها لساعات وأيام حتى يبدو العالم كله مختزلًا في هذه القصة، وهو ما يجعل هذا النوع من الإعلام أشبه بالإسفنجة (الإعلام الإسفنجي) عندما تنغمر في الماء كليًّا؛ إذ تحتاج لوقت طويل حتى تجفَّ ويتبخَّر ماؤها، بينما هذا العالم نفسه يتحرك ويغلي بأحداث وقضايا كثيرة تحتاج للإجلاء (والتنظيف) بذات المنشفة. وهنا، يكمن التحدي في التعامل مع الأخبار والأحداث بقدر يتناسب مع أهميتها ومصلحة الجمهور والمستخدمين، وتأثيرها في حياتهم اليومية، لاسيما أن جهات مختلفة أصبحت اليوم تحدد ما يهم المتلقي وليس القائم بالاتصال فقط الذي كان يقوم بذلك وحده في البيئة الإعلامية التقليدية. وهذا التحدي (التناسب بين أهمية الحدث ومصلحة المتلقي وحجم التغطية) يتطلب مراعاة التوازن وتجنب الانتقائية، خاصة في ظل حالة الانغمار الرقمي التي نعيشها اليوم عبر منصات الإعلام الاجتماعي التي تُغرق المشهد الإعلامي بفائض الأخبار والقصص الإنسانية وغير الإنسانية في كل أرجاء المعمورة، وتؤثر فيما يمكن متابعته وما لا يمكن متابعته.

نبذة عن الكاتب