وضع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، هدفين لاجتياح أوكرانيا: الإطاحة بالقيادة الأوكرانية التي نعتها بالنازية الجديدة وتجريد الجيش الأوكراني من أسلحته. وقد حشد لهذا الاجتياح نحو 190 ألفًا، وشنَّه على ثلاث جبهات رئيسية، من الجهة الشرقية عبر الحدود الروسية المحاذية للمناطق التي يسيطر عليها الانفصاليون الأوكرانيون الموالون لموسكو، ومن الجهة الشمالية عبر الحدود البيلاروسية القريبة من العاصمة الأوكرانية كييف، ومن الجهة الجنوبية عبر جزيرة القرم وبحر آزوف والبحر الأسود.
تبدو هذه الاستراتيجية مخالفة لاستراتيجياته السابقة في شنِّ الحروب، كما في تدخله العسكري في جورجيا لفصل أبخازيا وأوسيتيا في 2008، ثم في ضم جزيرة القرم، ودعم الانفصاليين في إقليم دونباس الأوكراني في 2014، وقد تكلَّلت جميعها بالنجاح لأنها تشترك في عدد من الميزات الرئيسية:
- يغلب على سكان هذه الأقاليم الانتماء لروسيا؛ إذ يتحدثون اللغة الروسية، ويحمل أعداد منهم جوازات سفر روسية، ويكوِّنون بذلك بيئة صديقة للقوات الروسية، تحفز بوتين على تنفيذ ضرباته من دون تكبد خسائر بشرية.
- يوجدون في أطراف دولهم، أبخازيا وأوسيتا في شمال جورجيا، والقرم في جنوب أوكرانيا على البحر الأسود، وإقليم دونباس في شرق أوكرانيا؛ ما يجعل قدرة دولهم على السيطرة عليهم ضعيفة.
- توجد هذه الأقاليم بمحاذاة الحدود الروسية، فيسهل على موسكو إمدادها بالعدد والعتاد.
- هي أقاليم ذات مساحات صغيرة، لا تحتاج روسيا لقوات كبيرة للسيطرة عليها.
هذه المواصفات ليست متوافرة في اجتياح أوكرانيا:
- غالبية سكان البلد يتحدثون الأوكرانية؛ ما يجعل شعورهم بالتميز عن روسيا قويًّا وتمسكهم بالاستقلال عميقًا.
- عدد السكان أكثر من 40 مليون، والمساحة 600 ألف كم2، أي أكبر من مساحة فرنسا.
- عدد القوات الأوكرانية نحو 196 ألف جندي، وعدد قوات الاحتياط 900 ألف، وقد عملت القيادة الأوكرانية خلال 8 سنوات، أي منذ 2014 على تطوير قدرات قواتها تدريبًا وتسليحًا.
- تحاذي أوكرانيا عددًا من دول الناتو المناوئة لروسيا، مثل بولندا ورومانيا، فتحصل منهم ومن خلالهم على الدعم الاقتصادي والعسكري، وتحول دون تطويق روسيا لها.
من المقارنة يبرز نموذجان: الغزوات السابقة على اجتياح أوكرانيا كانت خاطفة، والاستراتيجية تتصف بالحذر، أما اجتياح أوكرانيا فسيكون طويل الأمد ومرتفع المخاطر لأن أهدافه شبيهة بأهداف الاتحاد السوفيتي في أفغانستان خلال ثمانينات القرن الماضي أو الاحتلال الأميركي للعراق في بداية الألفية، وهي تغيير النظام وتفكيك الجيش.
هذا الاختلاف يجعل القيادة الروسية أمام معضلات استراتيجية، تتلخص في الجملة الشهيرة: يمكن لشخص واحد أن يعلن الحرب لكن إعلان السلام يحتاج إلى اثنين. استطاع بوتين بمفرده أن يقرر اجتياح أوكرانيا لكنه لن يستطيع بمفرده أن يقرر السلام فيها.
عقد متشابكة
هذه المعضلة الرئيسية هي حصيلة عدد من المعضلات، الأخلاقية والسياسية والاستراتيجية، التي تُوقِع القيادة الروسية في تناقضات، تجعلها غير قادرة على السيطرة على مجريات الاجتياح، وقد ترتد عليها تداعياته.
المعضلة الأخلاقية: دأب بوتين على انتقاد استعلاء الغرب، ويعتبره غير مؤهل لتقديم الدروس، لأنه ينتهك سيادة الدول ومبادئ القانون الدولي التي التزم باحترامها، ويذكر مثال الغزو الأميركي للعراق. وقد أكسبه هذا النقد تعاطفًا دوليًّا واسعًا لأنه يعبِّر عن مواقف عدة دول تخشى على سيادتها من التدخل العسكري الغربي، لكن اجتياحه أوكرانيا هو انتهاك للقانون الدولي، والأهداف التي وضعها للاجتياح هي أيضًا إملاءات على الأوكرانيين كي يسلِّموا بما تختاره لهم موسكو.
ستتضرر أكثر أهلية بوتين بعد هذا الاجتياح لانتقاد الاستعلاء الغربي من أجل كسب التعاطف الدولي، وقد يكتفي في المستقبل بالرد على الغربيين بأنهم ليسوا أفضل منه فقط.
المعضلة السياسية: إذا نجح بوتين في تغيير النظام الأوكراني ووضع حكومة موالية له، سيواجه نفس المعضلة السياسية التي واجهها الاتحاد السوفيتي في أفغانستان والولايات المتحدة في أفغانستان والعراق، وهي أن الحكومة الأوكرانية الجديدة ستكون ضعيفة سياسيًّا، وستواجه مقاومة داخلية، وتظل بحاجة إلى الدعم الروسي، فيزداد ضعفها كلما زادت تبعيتها لموسكو، وقد يتكرر سيناريو الاتحاد السوفيتي في أفغانستان لما سقطت الحكومة الموالية لموسكو بعد انسحاب القوات السوفيتية، أو كما وقع في أفغانستان أيضًا لما سقطت الحكومة الموالية للولايات المتحدة عندما قررت واشنطن سحب قواتها.
لا تقتصر المعضلة السياسية على أوكرانيا بل تشمل روسيا أيضًا، فلقد برزت عدة مؤشرات على أن الرئيس بوتين لم يجهز جبهته الداخلية لاجتياح أوكرانيا، من هذه المؤشرات الارتباك الذي بدا على جلسة مجلس الأمن القومي الروسي الذي انعقد خصيصًا لاتخاذ القرار، فلقد ظهر أن مدير الاستخبارات الروسي لم يكن على دراية بموضوع الاعتراف باستقلال الإقليمين الانفصاليين في أوكرانيا، وتدخل بوتين عدة مرات ليخبره بما ينبغي عليه قوله، وكذلك تفادت القيادة الروسية تسمية الاجتياح بالحرب بل دعته بالعملية العسكرية الخاصة؛ لأن كلمة الحرب تحمل ذكريات مفزعة للشعب الروسي، وتقتضي أن هناك مواجهة عسكرية بين دولتين، أما تسمية العملية العسكرية الخاصة فقد تطلق على عملية لمواجهة إرهابيين أو لإنقاذ رهائن أو غيرها من العمليات المحدودة والخاطفة، وقد هددت القيادة الروسية بالحظر وسائل الإعلام الأجنبية التي تواصل تسمية الاجتياح بالحرب أو الغزو، في دلالة على أن الرهانات ليست لغوية بل استراتيجية، تتعلق بطمأنة الشعب الروسي إلى أن الاجتياح محدود وسريع. علاوة على أن رفض القيادة الروسية اعتبار الاجتياح غزوًا أو حربًا هو محاولة لتجنب التبعات القانونية الدولية التي تعتبر الحرب خارج القانون الدولي عدوانًا يتحمل المجتمع الدولي مسؤولية التنديد به ومنعه، ويمنح الدولة المعتَدَى عليها حق الدفاع عن النفس وشرعية المطالبة بالدعم الخارجي. من المؤشرات كذلك على أن بوتين لم يوفر الدعم السياسي الداخلي لاجتياح أوكرانيا المظاهرات التي ينظمها الروس الرافضون للحرب والتي منعها الأمن الروسي بالقوة.
المعضلات الاستراتيجية: في المدى القصير، تكشف مجريات العمليات القتالية أن القيادة الروسية أخطأت في تقدير شدة المقاومة؛ إذ لم تحقق تقدمًا كبيرًا منذ بدء العملية في 24 فبراير/شباط، رغم قصر المسافة بين القوات الروسية القادمة من بيلاروسيا والعاصمة كييف، وقد برز هذا الارتباك في التقدير في تصريحات القيادة الروسية التي جعلت تفكيك الجيش الأوكراني هدفًا من أهداف اجتياحه لكنها طلبت منه، مع تباطؤ تقدم قواتها، الإطاحة بالحكومة الأوكرانية لتسهيل التوصل إلى اتفاق ينهي الاجتياح.
قد تكون قدرة المقاومة الأوكرانية الحالية على التصدي لتقدم القوات الروسية مؤشرًا على شدتها مستقبلًا لما تتحلَّل من الدفاع عن المدن، وتتحول إلى استراتيجية الكَرِّ والفَرِّ، لإطالة أمد الحرب، وتحويل أوكرانيا إلى مصيدة للقوات الروسية. يصفون هذا التحول في الاستراتيجية بمبادلة الأرض مقابل الوقت، ففي الدفاع عن المدن تكون الأولوية لحماية الأرض أما استراتيجية المقاومة أو حرب العصابات فتكون الأولوية بكسب الوقت مقابل التخلي عن الأراضي.
على المدى المتوسط، يرى استراتيجيون -مثل إدوارد لوتواك- أن القوات الروسية التي تشن الاجتياح أقل من عدد القوات الضروري لتحقيق الأهداف التي أعلنها بوتين، ويستنتج أن أقصى ما تستطيع هذه القوات تحقيقه هو السيطرة على المدن الرئيسية، وتظل مساحات شاسعة من أوكرانيا خارج سيطرتها، فتستعملها المقاومة الأوكرانية لشن هجمات على القوات الروسية، فتوقع بها خسائر كبيرة، لن تحتملها القيادة الروسية، ويضرب مثالًا على تخوف القيادة الروسية من وقوع عدد معتبر من القتلى في صفوف قواتها بما وقع في حرب الشيشان لما انسحبت القوات الروسية بعد أن سقط في صفوفها مئة قتيل. يفسر علماء الاجتماع ذلك بشيخوخة المجتمع الروسي الذي بات حساسًا لفقدان فئاته الشبابية. وإذا طال بقاء القوات الروسية في أوكرانيا للقضاء على المقاومة فإن التكلفة البشرية ترتفع فتزداد الضغوط الداخلية على بوتين.
من العوامل التي ترجح استمرار المقاومة الأوكرانية حتى لو سيطرت القوات الروسية على المدن الرئيسية: مجاورة أوكرانيا لدول أعضاء في الناتو ومناوئة لروسيا، وتخشى من أن انتصار روسيا في أوكرانيا قد يشجعها على مواصلة توسعها في دول أخرى مثل مولدافيا، لذلك ستحرص على استنزاف روسيا في أوكرانيا بالمقاومة حتى تنهك روسيا وتجعلها تفقد الرغبة في خوض حروب أخرى، وأقصى ما تتطلع إليه هو الانسحاب المشرِّف من أوكرانيا.
على المدى البعيد، قد يؤدي اجتياح أوكرانيا ليس إلى إضعاف الحلف الأطلسي كما كان بوتين يأمل بل إلى تقويته، فلقد تنادت دوله للتضامن، وقرر بعضها كبولندا زيادة الميزانية المخصصة للدفاع، وطلبت دول إسكندنافية، السويد والنرويج، الانضمام إليه، وقد كانت من قبل زاهدة في ذلك، وعززت الولايات المتحدة حضورها العسكري في أوروبا بدفع مزيد من قواتها إلى دول الحلف المجاورة لروسيا.
يتضح عزم الدول الغربية في العقوبات الجماعية التي فرضوها على عدة قطاعات حيوية روسية، قطاع البنوك وقطاع التكنولوجيا المتطورة، وشاركت في هذا المسعى تايوان التي تتفوق في صناعة أشباه الموصلات الضرورية للأسلحة المتطورة، وقد تتزايد العقوبات فتقطع بولندا الطريق الذي يربط بين ألمانيا وروسيا، فتتوقف حركة البضائع، وقد اتفقت الدول الغربية على إخراج قطاعات روسية من نظام سويفت للتبادلات المالية، فتصيبها بالشلل.
سيضطر التشدد الغربي الرئيس بوتين للاعتماد أكثر على الصين، كما اتضح في تعهد الصين بشراء الفائض من القمح الروسي الذي قد ينتج عن العقوبات الغربية، والارتباط المتزايد بين الروبل الروسي واليوان الصيني لتفادي التعامل بالدولار الأميركي، لكن هذا الاتجاه يجعل روسيا مكشوفة أمام التهديد الصيني في المستقبل؛ لأن هناك تفاوتًا بين البلدين في حجم السكان، وتقع كتل سكانية صينية كبيرة على حدود سيبيريا التي تعاني من نقص السكان الروس، وينبِّه الاستراتيجيون إلى أن هذا التفاوت قد يحفز الصين إلى السيطرة على هذه المناطق الغنية بالنفط الذي تحتاجه لاقتصادها، وقد شبَّه زبينيو بريجنسكي هذه الوضعية الاستراتيجية بـأن روسيا ستكون محطة بنزين للصين.
مخاطرة كبيرة
مختلف هذه المعضلات تجعل الرئيس بوتين يواجه وضعًا غير مسبوق، لا يسيطر على مختلف مجرياته، وقد ترتد على نظامه في المدى المتوسط، وتضعف روسيا على المدى الطويل.
رغم ذلك، قد يفاجئ بوتين الجميع بتحركات لم تكن في الحسبان، تقلب الوضع لصالحه، وإن كانت المعضلات المذكورة سابقًا تحد من قدرته على المناورة بشكل غير مسبوق، وتجعل احتمالات فوزه ضعيفة.