ورقة تأطيرية

(الجزيرة)

تُعد المشكلات التطبيقية والنظرية لمناهج البحث في علوم الإعلام والاتصال إحدى القضايا الأساسية التي تواجه تطور المعرفة الإعلامية ضمن المجال البحثي والدرس الأكاديمي العربي. وتمثِّل هذه المشكلات مجموعة من العوائق الإبستمولوجية التي تخلق حالة من الجمود في هذا الحقل المعرفي، بل وفي محتوى المعرفة الإعلامية ذاتها، من خلال ظاهرة "الترقيع والتلفيق المنهجي" الفوضوي، وسطحية عملية البحث الإعلامي، أو "السهولة البحثية"، التي تكشف مفارقات منهجية ونظرية في أُسُس العملية البحثية ومتطلباتها. ويُكرِّس هذا النمط من الممارسة البحثية -بغضِّ النظر عن أوصافه المختلفة- مقاربات منهجية تلفيقية، ومداخل نظرية اختزالية في دراسة الظواهر والقضايا الإعلامية عبر تدوير واستعادة تصورات فكرية موروثة، وأُطُر نظرية تقليدية تُسهِم في تعميق الفجوة بين نتائج البحث والشروط العلمية المُؤَسِّسَة لفهم وتفسير الظاهرة الإعلامية ودراستها في سياقاتها الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية. ولا ينظر هذا النمط أيضًا إلى محتوى العلم باعتباره -في المقام الأول- منهجًا وقواعد للبحث والدراسة وليس موضوعًا، كما أن وحدة العلوم تكمن في مناهجها وليس في مادتها. وتفتح هذه العوائق الإبستمولوجية "العلبة السوداء" في مناهج البحث، باعتبار الرهانات والافتراضات المعرفية والقيمية التي تصاحب عملية "التفكير بالمنهج" وليس "التفكير فيه"، وتؤدي إلى نتائج سياسية في البيئة الاجتماعية والاقتصادية، فضلًا عمَّا كشفته البيئة الرقمية من قصور منهجي في التعامل (كيف يتعامل الباحث/الأكاديمي؟) مع المجالات والميادين البحثية الجديدة التي فتحتها هذه البيئة، حيث البيانات الرقمية الضخمة والنشاط الرقمي الذي تحتل فيه منصات الإعلام الاجتماعي والتكنولوجيا الرقمية موقعًا مركزيًّا، وتشكِّل بنية تحتية للظواهر الإعلامية.

وتُبيِّن دراسات نقدية كثيرة مظاهر الخلل في نتاج البحث الإعلامي/الأكاديمي العربي، والتي ترتبط أساسًا بسيرورة العملية البحثية نفسها في بحوث الإعلام والاتصال ومنطلقاتها المنهجية والنظرية، ثم مخرجاتها التي لم تُقدِّم -إلا فيما ندر من الدراسات- قيمة مضافة ذات جدوى علمية وأصيلة في بحوث الإعلام والاتصال. كما لم يُقدِّم هذا النتاج البحثي أطروحات، أو نماذج معرفية علمية، رائدة تكون عابرة للثقافات وتُسهِم في فهم الوسائط والمنصات المختلفة، وخصوصية البيئة الإعلامية والرقمية التي قامت بتجديد موضوعات الدراسة والبحث، ومكَّنت من متابعة نشاط الأفراد والمجتمعات الرقمية، وكذلك الجماعات والدول عبر الويب. كما نحتاج إلى أطر معرفية تُسهِم في الكشف عن دور هذه البيئة وموقعها في واقعنا اليومي، وأساليب وأشكال انغمار وسائطها ومنصاتها في بيئتنا الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، وتأثيرها في بناء تصوراتنا ومدركاتنا للواقع وتكوين الرأي العام بأنواعه المتعددة.

وتبرز العوائق الإبستمولوجية أمام تطور بحوث الإعلام والاتصال بدءًا بسوء الفهم لجوهر العملية البحثية ذاتها وقصور في الرؤية المنهجية لاستيعاب متطلباتها؛ إذ يفتقر الكثير من هذه البحوث لثقافة منهجية وعُدَّة فكرية ومداخل نظرية تساعد في فهم الظاهرة وتفسير متغيراتها وعلاقاتها. وهنا، نجد بعض البحوث -إذا اتفقنا على تسميتها كذلك- لا يُقيم اعتبارًا للتفكير في المنهج الذي يختلف تبعًا للقضايا التي نبحثها والوظيفة التي يؤديها في دراسة أبعاد الموضوع، ولا يعتبر التفكير فيه متطلبًا من صميم العملية البحثية يؤدي إهماله إلى نسف نتائج البحث. وفي حال اهتم بعض الدراسات والبحوث الإعلامية بالتأطير المنهجي، فهو لا يملك القدرة الإجرائية لتطويع وتوظيف هذه العُدَّة في خدمة أهداف البحث ورهاناته. كما لا يهتم الكثير من البحوث بالمنطلقات النظرية والمرتكزات التحليلية التي توفر نموذجًا معرفيًّا وإطارًا من الفرضيات لفهم وتفسير القضية أو الظاهرة الإعلامية محل الدراسة، وهو ما يؤدي إلى نتائج تبسيطية واختزالية وجزئية يغلب عليها الرأي والتعميم، ولغة التكميم لحجب العوائق المعرفية الحقيقية.

وتمتد هذه العوائق إلى سوء ضبط الجهاز المفاهيمي للبحث، بل نجد بعض البحوث يخلو من تحديد المصطلحات والمفاهيم التي تمثِّل مرتكزًا أساسيًّا في النظر إلى الموضوع، وبلورة المشكلة البحثية التي تستند إلى تركيب وبناء معجمي يتأسس انطلاقًا من المقولات والمفاهيم التي تعبِّر عن جوهر ومضمون الظاهرة المدروسة وتساعد في فهم وشرح أبعادها المختلفة. وتشمل هذه العوائق أيضًا مشكلة بناء الأدوات البحثية التي تمكِّن الباحث من استكشاف وملاحظة الظاهرة الإعلامية ومتابعتها، وجمع البيانات حولها وقياس عناصرها وتحليل وحدات المجتمع البحثي، فضلًا عن مشاكل هذا التحليل نفسه الذي تكون نتائجه ثمرة لسوء فهم جوهر العملية البحثية من الأصل، والاعتماد أيضًا على مراجع ثانوية مُتَجَاوَزَة، أو غير ذات مصداقية، بحثيًّا وعلميًّا، مثل المدونات الجماعية والمنصات التشاركية، وهو ما يثير مشكلة الأمانة العلمية وأخلاقيات البحث العلمي التي تتطلب الموضوعية وتجنب الأحكام والأفكار الجاهزة، وتوخِّي الدقة في نقل ومناقشة أفكار الباحثين الآخرين. وهنا، لا يمكن أيضًا إغفال مشكلة التحكيم العلمي لبحوث ودراسات الإعلام، التي تعكس في جزء منها أزمة المواثيق الأخلاقية للبحث العلمي، وكذلك حالة الجمود التي يعيشها المشهد البحثي والأكاديمي العربي.   

لدراسة هذه المشكلات المنهجية والمعرفية والعوائق التي تمثِّلها أمام تطور بحوث الإعلام والاتصال في المشهد البحثي والأكاديمي العربي، نظَّم مركز الجزيرة للدراسات مؤتمرًا بعنوان: "المشكلات التطبيقية والنظرية لمناهج البحث في علوم الإعلام والاتصال"، يومي 8 و9 ديسمبر/كانون الأول 2021، بمشاركة نخبة من الأكاديميين والباحثين المختصين في حقل الإعلام والاتصال.