رؤية نقدية لمناهج البحث في علوم الإعلام والاتصال

تعتمد الورقة مقاربة نقدية لمناهج البحوث في علوم الإعلام والاتصال، وتركز على البعد الفكري ومقاربة السياق العام لإنتاج البحث العلمي في ظل الأسئلة الجديدة التي يثيرها الاتصال الرقمي. وترى أن تَعَقُّد الظاهرة الاتصالية يستدعي ابتكار أطر معرفية تقوم على أدوات علمية جديدة؛ إذ أحدثت الرقمنة الاجتماعية انقلابًا حقيقيًّا في هذا الحقل العلمي؛ حيث يفرض عالم الشبكات تجديدًا كليًّا في الأساليب والدراسات النوعية، ويُقدِّم عوالم جديدة كثيرة للاستكشاف، وموارد وحقولًا غير مستهلكة، تحتاج لجهد فكري كبير والمزيد من الاجتهادات والابتكارات المنهجية الإبداعية.
غياب السياسات والمختبرات والفرق البحثية التي تحتضن الأعمال البحثية وتستثمر نتائج الدراسات يمثِّل العائق الأساسي للمشاركة في الإنتاج المعرفي والبحثي الإعلامي (الأناضول)

ظهرت "علوم الإعلام والاتصال" علمًا مستقلًّا من العلوم الإنسانية والاجتماعية مع التطور التكنولوجي وحاجة الباحثين إلى مساعدة مجتمعاتهم لتجنب الخضوع لمتاهة التكنولوجيا والاستراتيجيات الصناعية، وللتفكير بشكل ديمقراطي وخلَّاق في كل التغيرات من أجل ابتكار المستقبل. وقد أظهر تَعَقُّد الظاهرة الاتصالية الضرورة الملحَّة لميلاد أطر معرفية تقوم على أدوات علمية جديدة، تجعل من أبحاث الإعلام والاتصال حقلًا معرفيًّا مستقلًّا؛ إذ أحدثت الرقمنة الاجتماعية انقلابًا حقيقيًّا في هذا الحقل العلمي، وباتت الدراسات من خلال العيِّنة، وأدوات المسح التقليدية مثل الاستبيان، غير كافية أو صالحة لزمن الرقمنة؛ حيث يفرض عالم الشبكات تجديدًا كليًّا في الأساليب والدراسات النوعية، ويُقدِّم عوالم جديدة كثيرة للاستكشاف، وموارد وحقولًا غير مستهلكة، تحتاج لجهد فكري كبير والمزيد من الاجتهادات والابتكارات المنهجية الإبداعية.

ويطرح تطور دراسات الاتصال تساؤلات عديدة، أهمها: هل يمكننا الحديث عن المنهج الإثنوغرافي إن كان مجتمع الدراسة يتمثَّل في مستخدمي الإنترنت، وأحيانًا من دون علمهم؟ وهل يمكن تطبيق التحليل الاجتماعي على أفراد لا يكشفون هويتهم الحقيقية أو يختبئون خلف شخصية مستعارة؟  وكيف يمكن التعميم بخصوص تفاعلات يسيطر عليها عدد قليل من المتحدثين المهيمنين الذين يحتلون مساحة الاتصال؟ وكيف يمكن تحليل تبادلات وحوارات لا تخضع لثوابت أو قواعد معينة، أو الحديث عن علاقات اجتماعية بهذا التفاوت وهذا الاضطراب؟

من هنا، تسعى الورقة للإجابة على أسئلة إشكالية محددة: ما الأصول النظرية لدراسات الإعلام والاتصال؟ وما مسارات تطور البحوث والمناهج في علوم الإعلام والاتصال؟ ما أهم الأسئلة الجديدة في الاتصال الرقمي؟ وكيف يمكن معالجة إشكالية بحثية محددة ومتماسكة في عالم لا حدود له؟ ما الإشكاليات المنهجية للبحوث في المنطقة العربية؟ وما خصوصية البحث في الإعلام والاتصال؟

وتعتمد الورقة، في بحث هذا الحقل الاستفهامي، المقاربةَ النقدية لمناهج البحوث في علوم الإعلام والاتصال، وتركز على البعد الفكري ومقاربة السياق العام لإنتاج البحث العلمي، لاسيما في البحوث العربية في عالم متغير. ويقتضي هذا النوع من المقاربة تحليلَ عينة من الدراسات العربية والتعليق عليها، وبيان الاتجاهات الحديثة لبحوث الإعلام والاتصال، وأهم مناهج البحث الحديثة في سياق البيئة الرقمية وأبرز إشكالياتها.

1. الأصول النظرية لدراسات الإعلام والاتصال

تعود الدراسات والبحوث العلمية الإعلامية الأولى في العالم إلى فترة ما بين الحربين العالميتين، وقد أطلقها الانتشار القوي والمتسارع لوسائل الإعلام الجماهيرية لأغراض الدعاية. في هذا الإطار، ظهرت الدراسات الأمبريقية المعتمدة على نموذج الرصاصة السحرية الذي يرى أن تأثير الوسائط على رأي الجمهور بمنزلة كرة موجهة نحو المتلقي السلبي، الذي لا يعارض أو يقاوم الأفكار المقدمة إليه(1).

لكن هذا النموذج انتُقِد سريعًا، ورأى الباحثون أن رسائل وسائل الإعلام والاتصال لها تأثير غير مباشر؛ حيث يدرك الجمهور الرسالة ويقبلها فقط إذا كانت تتفق مع الأفكار التي يشعر بانتمائه إليها. كما أن الفرد يضع ثقته في قائد فكر يكون جزءًا من مجموعته، ويَعدُّه قادرًا على تلقي الرسائل من وسائل الإعلام وكشف الحقيقة من الخطأ، ويمر التأثير الشخصي للقائد عبر المحادثة النشطة التفاعلية. علاوة على ذلك، بما أن الفرد يشعر بالتواطؤ مع زعيمه، فهناك رابط عاطفي يعطي أهمية لفكرته(2).

لذلك، بُذِلَت لاحقًا محاولات علمية عديدة لتحليل عملية الاتصال ووصف أبعادها وعناصرها، وأكدت الدراسات أهمية وسيلة الاتصال، ودورها المؤثر في المجتمع. ومن أهم نماذج الاتصال التي أسست لعلوم الإعلام والاتصال نموذج إليهو كاتز (Elihu Katz) وبول لازرسفيلد (Paul Lazarsfeld)، وهو يبحث في تأثير الأفراد في عملية الإعلام الجماهيري على أساس أن الإعلام لا يؤثر في الناس مباشرة، بل من خلال قادة الرأي العام، كذلك نموذج تشارلز رايت (Charles Wright)، وهو يهتم بالوظيفة والدور الذي تقوم به وسائل الإعلام، ثم نموذج ملفين ديفلور (Melvin DeFleur) الذي يتناول المؤسسات الإعلامية من خلال أسلوب عملها، وكيفية فهمها وسبب وجودها وحجم تأثيرها في المحيط الاجتماعي.

وبناء على نموذج تيودور نيوكومب (Theodore Newcomb)، يجب أن تكون لنا مواقف حيال الأشخاص والأحداث المحيطة بنا. ويتناول أيضًا نموذج ديفيد بيرلو (David Berlo) العمليات التي تصاحب المواقف الاتصالية، ويحدد العوامل المسؤولة عن نجاح وفشل العمل الاتصالي وعلاقة العناصر ببعضها؛ إذ يرى أن مكونات عملية الاتصال تشمل أربعة عناصر تشمل: المرسل، والرسالة، والوسيلة، والمتلقي(3).    

وأضاف ويلبر شرام (Wilbur Schramm) إلى المعرفة نموذج النظام الوظيفي لعملية الاتصال، وقدَّم من خلال هذا النموذج مفاهيم مهمة، مثل: الإطار الدلالي، والخبرة المشتركة وأهميتها في عملية الاتصال. أما نموذج معاملات الاتصال (Transactional model of Communication) فهو نموذج علمي مستمد من النهج النظامي، وقد طوَّره إيريك بيرن (Eric Berne) وحقَّق نجاحًا هائلًا في الولايات المتحدة وأوروبا، ويمثِّل الطريقة الأكثر شيوعًا اليوم للتواصل الاجتماعي. فالتفاعلات العادية والأحاديث تُعد أيضًا شكلًا فعَّالًا للتفاعل أو التواصل، وهي أكثر فعالية وتنظيمًا للمستخدمين الذين لديهم قواسم ثقافية مشتركة، وأيضًا لأولئك الذين يعرفون بعضهم البعض. وتعتمد موثوقية وكفاءة الرسائل المترابطة أيضًا على الطريقة المستخدمة، فالعديد من العوامل يمكن أن تؤثر على إجراء التفاعل أو التواصل، مثل الخلفية والضوضاء غير المرغوب فيهما(4).

2. تطور بحوث الإعلام والاتصال

تطورت علوم الإعلام والاتصال بسرعة قياسًا إلى تاريخ ظهور الدراسات الإعلامية الأولى، وأصبح لها نشاط بحثي خاص يضم مئات المتخصصين حول العالم، وباتت مجالًا علميًّا مستقلًّا من مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية. ويُسهِم اليوم هذا المجال العلمي الجديد في إعداد الطلاب لكل مِهَن الإعلام والاتصال، من الصحافة المكتوبة إلى الاعلام المرئي والمسموع، إلى الاتصال التنظيمي والسياسي، وعلم المعلومات وتقنيات الشبكات...إلخ، وتُناقَش مئات الأطروحات الجامعية في هذه المجالات المختلفة سنويًّا. ويرتبط تطوير هذا النشاط بالابتكار والتغييرات التي تؤثر في أنظمة المعلومات، والصناعات الثقافية والإعلامية، لاسيما الابتكارات السمعية البصرية، وتطبيقات الإنترنت، وتقنيات الترويج وصناعة العلامة التجارية(5).

ولكن، في مقابل التخصصات الأخرى في العلوم الإنسانية والاجتماعية التي تهتم أيضًا بهذه الابتكارات، تكمن المساهمة الأساسية للباحثين في علوم الإعلام والاتصال في البُعد النظري، أي في حقيقة أن العلاقة بين المعلومات والتواصل تمثِّل في نظرهم مفهومًا متكاملًا له بعده الفلسفي، وليست مجرد مجموعة بسيطة من التقنيات أو السلوكيات أو العمليات الاتصالية. فهم ينظرون إلى عملية التواصل برمتها دون فصل أساسها التقني والاقتصادي عن بعدها اللغوي، وعن خصائصها باعتبارها عملية اجتماعية. على هذا النحو، يحافظون على علاقات مهمة مع التخصصات الأخرى، مثل الفنون والآداب، والتاريخ والأنثروبولوجيا، وعلوم اللغة وعلوم الكمبيوتر(6).     

إن دور علوم الإعلام والاتصال في الجامعة هو قبل كل شيء لمساعدة مجتمعنا على تجنب الخضوع للابتكارات التقنية والاستراتيجيات الصناعية، ولمنح أنفسنا الوسائل للتفكير بشكل ديمقراطي وخلَّاق في هذه التغييرات من أجل ابتكار المستقبل. ويستخدم البحث مجموعة متنوعة من الأساليب، بما في ذلك دراسة تداول الخطاب، مع مراعاة عدم الفصل بين التقنيات والعلامات والممارسات. وعلى الصعيد الدولي، تتفاعل علوم الإعلام والاتصال بشكل خاص مع الدراسات الإعلامية، والمعلومات وعلوم المكتبات، والسيميائية والدراسات الثقافية(7).

وإذا كانت الأصول التاريخية للاتصال تعود للعصور القديمة من خلال الأدب والخطابة والبلاغة، فإنها لم تشتهر في الخطاب الحديث العادي إلا منذ أواخر القرن التاسع عشر؛ حيث بدأت الدراسات الأكاديمية في مجال الفنون والآداب تهتم بمواضيع متفرقة، مثل سلوكيات الجماهير واستخداماتهم لوسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية(8). لكن تحديث علوم الإعلام والاتصال، بإضفاء الطابع المهني عليها وتعليم مستلزماتها المهنية على غرار القانون والتشريعات، بدأ فعليًّا مع اقتراح الباحث الأميركي، روبرت لي (Robert Lee)، الذي دعا إلى تكوين جامعي لمِهَن الإعلاميين في عام 1869. وبدأت هذه الفكرة تنتشر بين المؤْتَمَرَيْن الدوليين حول الإعلام اللذين عُقِدا في بوردو وبرلين؛ حيث وُضِع أول برنامج دراسي في ميدان الإعلام عام 1901، ثم نشأت جامعات أخرى، وكانت أول كلية صحافة جامعية مكتملة العضوية في جامعة ميسوري عام 1908، تلاها فتح أول تخصص جامعي للاتصال في أوروبا في ألمانيا عام 1916. من جهتها، تُعتبر المدرسة العليا للصحافة التي تأسست في باريس، في نوفمبر/تشرين الثاني 1899، أول مدرسة غير جامعية خاصة للصحافة في العالم، تلاها في أوروبا في أوائل العشرينات المعهد الألماني للصحافة، والمدرسة الحرة للصحافة التابعة لليومية الكاثوليكية في إسبانيا، عام 1926 وأول مدرسة في إيطاليا عام 1929.

وكانت محتويات المواد الدراسية في كل هذه الهيئات ذات طابع مهني يرتكز أساسًا على التقنيات الخاصة بممارسة مهنة الصحافة، ثم أصبحت ابتداء من العشرينات تتضمن كذلك وحدات نظرية، مثل التاريخ وأخلاقيات الصحافة والرأي العام وإدارة الصحيفة والإشهار، وذلك بفعل عدة عوامل منها التفاعل بين تعليم الإعلام والعلوم الاجتماعية التي تمثِّل المحيط الثقافي لمثل هذا التخصص. بالإضافة طبعًا إلى ظهور وسائل الاتصال الحديثة، مثل الهاتف والإذاعة والتليفزيون، التي أصبح تأثيرها يتزايد في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية.

وبدأت، بين عامي 1934 و1935، دراسات ما بعد التدرج في بعض الجامعات الأميركية، ثم اتسع مجال البرامج الإعلامية كمًّا وكيفًا بعد الحرب العالمية الثانية ليُسهِم في تأصيل تعليم الإعلام باعتباره علمًا قائمًا بذاته في أميركا، ثم في أوروبا وبقية أنحاء العالم، ومنها في مصر عام 1939 والجزائر في الستينات وتونس والمغرب في السبعينات. وبحلول فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية بدأ الاعتراف بالتدريس في الإعلام والاتصال كمجال أكاديمي متميز، كما أن المفهوم العادي للاتصال قد طوَّر دلالات غنية متعلقة بالسيميائية وعلم الدلالات والعلاقات الإنسانية والتفاعل والتأثير الاجتماعي والاتصال الجماهيري وتكنولوجيا المعلومات(9).

3. تطور مناهج بحوث الإعلام والاتصال

يُعرَّف المنهج (Method) بالطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم المختلفة، ويُعرَّف البحث بمجموعة من القواعد العلمية المستعملة من أجل الوصول إلى الحقيقة في العلم. أما منهج البحث فهو الطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم بواسطة مجموعة من القواعد العامة تهيمن على سير العقل وتحديد عملياته للوصول إلى نتيجة معلومة(10).

ويتم اختيار منهج البحث عن طريق مشكلة البحث، التي يُحدَّد من خلالها اتجاهات البحث إن كان تاريخيًّا أو وصفيًّا أو مسحيًّا أو تجريبيًّا. ويعني منهج البحث العلمي استخدام طريقة علمية منظمة في مواجهة مشكلاتنا اليومية والعامة، وهو ما يسمح برفع وتعزيز قدرتنا على حلِّها عبر تناولها بطرق علمية مما يسهل علينا مواجهتها.

وقد اختلف علماء المنهجية في تصنيف مناهج البحث العلمي، كما اختلفوا مع تطور علوم الإعلام والاتصال حول المصطلحات العلمية نفسها، مثل المنهج والمنهجية والأسلوب والطريقة، وحتى حول أهمية المنهج وأدواته وأنواعه ووظيفته في البحث. هذه المسائل تحتاج لنقاشات علمية جادة واتفاق بين الباحثين بشأنها، أو الالتزام بما يقرره المرجع الأكاديمي أو البحثي لإنجاز ونشر البحوث. وتُعدِّد كتب المنهجيات أنواع المناهج، إلا أننا نميز ثلاثة منها أساسية، مع اعتبار البقية أدوات وأساليب، وهي: المنهج التاريخي الذي يُستخدم لدراسة حصلت في الماضي، والمنهج الوصفي الذي يُطبَّق لدراسة ظاهرة معاصرة، والمنهج التجريبي الذي يستخدم بهدف التوقع المستقبلي للظاهرة المدروسة.

كانت بعض البحوث والدراسات الإعلامية في البدايات تقف بأهدافها عند حدود الوصف المجرد للظاهرة للإجابة عن التساؤل: ماذا وكيف؟ أي التعريف بالظاهرة والتغيُّر فيها، أو كيف تتحرك هذه الظاهرة أو كيف يحدث التغيُّر فيها. ويقوم المنهج الوصفي على رصد ومتابعة دقيقة لظاهرة أو حدث معين بطريقة كمِّية أو نوعية في مدة زمنية معينة أو عدة فترات من أجل التعرف على الظاهرة أو الحدث من حيث المحتوى أو المضمون، والوصول إلى نتائج وتعميمات تساعد في فهم الواقع وتطويره.

وفي ظل تعَقُّد الإشكاليات البحثية وتطور الفكر الاتصالي، اتجه البحث في علوم الإعلام والاتصال نحو الاهتمام بتحليل النتائج ومناقشتها وربطها بالسياق العام وبيئة الاتصال، بحيث تصبح وحدة متكاملة. فأصبح المنهج الأول هو منهج المسح الميداني بأدواته المختلفة، والأهم ما يسفر عنه من نتائج وقدراته التفسيرية لتحقيق الإضافة العلمية. فالمنهج المسحي هو أبرز المناهج المستخدمة في البحث الإعلامي للحصول على البيانات والمعلومات التي تستهدف الظاهرة العلمية ذاتها، ويُعرَّف هذا المنهج بمجموعة الظواهر موضوع البحث، التي تضم عددًا من المفردات المكوِّنة لمجتمع البحث خلال مدة زمنية كافية بهدف تكوين القاعدة الأساسية من البيانات والمعلومات في مجال تخصص معين ومعالجتها، ويفيد الأسلوب الارتباطي لكشف العلاقة بين متغيرين أو أكثر في دراسات الإعلام والاتصال. وتكمن أهمية استخدام المنهج التاريخي في أنه يسمح -من خلال دراسة الأحداث الراهنة والاتجاهات المستقبلية في ضوء ما حدث في الماضي- بتقويم ديناميكية التغيير أو التقدم أو تحقيق المزيد من الفهم للمشكلات الإعلامية المعاصرة، وإمكانية التنبؤ بالمشكلات التي قد تنجم مستقبلًا. ويتجه الباحثون اليوم في الدول الغربية، وخصوصًا في بحوث البيئة الرقمية، إلى اعتماد المنهج التجريبي الذي يُستخدَم لدراسات الجمهور والاستخدامات والإشباعات والسلوكيات والتأثير، وتحتاج الدول العربية إلى اعتماده أكثر وإدخاله ضمن مناهجها، لأنه يساعد على التحقق من أمور لا تتوضح من خلال الأدوات الأخرى(11).

4. الاتجاهات الحديثة لبحوث الإعلام والاتصال

بالرغم من الصعوبات المشار إليها، فإن الدور الذي تقوم به وسائل الإعلام والاتصال داخل المجتمعات في كل المجالات الحياتية منذ ظهورها حتى الآن قد أدى إلى ميلاد وعي متزايد بمشاكل وقضايا الرسائل التي تبثها وسائل الإعلام والاتصال. وقد تجلى هذا الوعي في اهتمام سلطات الدول بوسائل الاتصال الجماهيري بفعل الدور الكبير الذي أدَّته، خاصة على مستوى تكوين الرأي العام وأيضًا الترويج السلعي والخدماتي، خلال الخمسينات من القرن الماضي، ولذلك تم تأسيس العديد من المعاهد والكليات ومراكز التدريس والتدريب والبحث المتخصصة في الإعلام والاتصال، إلى جانب الجهود البحثية التي بُذِلَت على مستوى تخصصات علمية، مثل العلوم السياسية(12).

حتى الآن، جرى توجيه الأولوية المنهجية السائدة نحو تطوير نماذج السببية وتفسير الواقع الاجتماعي. كما نلاحظ اليوم إحياء لـلمناهج التي تركز إما على الوصف الدقيق للحالات، أو على إجراءات تصنيف البيانات من أجل تسليط الضوء عليها من خلال التفكير في المجال الاجتماعي وقراءة مؤشرات الواقع البشري التي يمكن أن تتفاعل مع بعضها البعض. هذا التعدد والتنوع في الأساليب يؤدي إلى اعتماد المنهجيات الهجينة والتوافقية، وفي نفس الوقت، لا نستطيع تجاهل حقيقة أن انتقاد اختيار الأساليب أمر ضروري ويرتبط ارتباطًا وثيقًا بطبيعة الإشكاليات والأسئلة البحثية. فالمنهجية الصحيحة تسمح ببناء البيانات التي تتوافق على أفضل وجه مع أسئلة البحث التي نريد الإجابة عليها. ولا يمكن أن يحدث التفكير في المنهجية في الفراغ؛ إذ هي مرتبطة بالضرورة بمشكلة وسؤال بحثي.

من هنا، فالتحدي المنهجي المعاصر مرتكز على القدرة على الصمود، بعيدًا بما فيه الكفاية عن الشركات التي تمتلك الأدوات والبنية التحتية والمنصات الرقمية من أجل الحفاظ على الاستقلال لإنتاج علمي مجاني تمامًا، في مواجهة القيود التي يمكن أن يفرضها اقتصاد السوق والرأسمالية المعلوماتية. لذلك، فمن الطبيعي أن تتحوَّل الطرق والأساليب الكمِّية البحثية بعمق لتصبح للمنهجية أهمية مزدوجة، فهي تعني أساليب البحث والتحليل، ومجموع القرارات والعمليات التي يجري إجراؤها لتحديد وشرح ظاهرة، وفي نفس الوقت تشير إلى الموقف الفكري للعلماء والباحثين، وإلى الطرق التي تتشكَّل بها المعرفة في مختلف التخصصات العلمية(13)

وتفتح التكنولوجيا الرقمية آفاقًا جديدة للوصول إلى مجالات البحث، والمزيد من مجموعات البيانات للمؤسسات الصناعية العامة والخاصة. من ناحية أخرى، تسمح بمراقبة تجارب الأفراد وآثارهم الرقمية على "الويب"، خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ولا تثير هذه الوعود المتعلقة بالبيانات الضخمة حماس علماء المعلومات وعلماء الاتصال وحدهم، ولكنها تثير أيضًا اهتمام العلوم الاجتماعية المعنية بالآثار التي خلَّفتها الإجراءات والاستخدامات اليومية على الشبكة. ومن هنا، تُطرح إشكاليات منهجية كثيرة جديدة، مثل مكانة النظرية، والإطار المعرفي في البحث، وعلاقته بالبيانات، ودور الباحث وأهمية السياق، وكل شروط إجراء البحث في المجتمعات الرقمية.  

وقد يميل الباحثون إلى التفكير في تجديد أساليب البحث في السياق الرقمي باعتباره حديثًا، وإلى خرق وتجاوز الأساليب الحالية. لذلك، فإن إعادة تشكيل المشهد المنهجي الحالي هو أقرب إلى "إعادة توزيع" الأساليب، بحيث تتكيَّف مع خصائص التكنولوجيا الرقمية. وتُسهِم إعادة التوزيع هذه، في إعادة تشكيل العلاقات بين الأشخاص المشاركين في الأنشطة البحثية؛ مما يؤدي إلى إعادة توزيع المهارات والقوة والشرعية. وتطرح عمليات إعادة التشكيل تحديات معرفية مهمة، وفي نفس الوقت تتيح الفرصة لإعادة النظر في المقاربات البحثية وأهميتها للبحث. فمن المهم إعادة توزيع كل من الأساليب والجهات الفاعلة في البحث، لنبدأ من الاحتمالات التي يفتحها هذا الاقتراح للتفكير في البناء الاجتماعي للمعرفة في عصر التحول الرقمي(14).

لقد أدت ممارسات التحقيق الإثنولوجي والإثنوغرافي الجديدة مثلًا إلى زعزعة الانضباط المنهجي، مع أن مجال البحث الإثنوغرافي على الإنترنت قد أسهم في إظهار الحاجة إلى إلقاء نظرة على القضايا الأخلاقية، على وجه الخصوص، لأنها تخص علم الأعراق البشرية إلى جانب اعتماد أداة الملاحظة، خاصة في الحالات القصوى من التصوير الذاتي في السياق الرقمي؛ حيث يتم الآن إجراء الكثير من الأبحاث من دون علم الناس(15).

5. الأسئلة البحثية والإشكاليات المنهجية (دراسة تحليلية)

في هذا المحور نحلِّل نتائج البحوث والدراسات الميدانية التي أنجزها فريقنا البحثي ضمن "الرابطة العربية للبحث العلمي وعلوم الاتصال"، والتي قادتنا إلى تحديد فرضياتنا وبلورة عناصر وشروط نظرية "متاهة التواصل الاجتماعي في المجال العام"، بعد قيامنا بمراجعة الرسائل التي أشرفنا عليها أو قرأناها أو ناقشناها خلال 2015-2018، وقد أنجزها طلاب من مختلف الدول العربية، وقمنا برصد النقاط المشتركة في النتائج المرتبطة بالبحوث حول وسائل التواصل الاجتماعي في العالم العربي، وتوقفنا عند أهم النتائج الخاصة بأهداف الدراسة.

وقد اعتمدت البحوث والدراسات منهج المسح الميداني عن طريق أداة الاستبيان ومناقشة نتائجه. ففي رسالة جامعية حول استخدامات وسائل الإعلام والاتصال والإشباعات المتحققة منها، بيَّنت النتائج أن متابعة الإنترنت استحوذت على نسبة أعلى من متابعة وسائل الإعلام التقليدية، ولمدة تتجاوز ثلاث ساعات يوميًّا (تغريد عبد الله، 2016-2017). وفي دراسة أخرى، تناولت استخدامات الصحافة الإلكترونية والإشباعات المتحققة منها، تمكَّنت الباحثة -من خلال أداتي الاستبيان والمقابلة، وتحليل المضمون- من بيان العلاقة بين الإشباعات المتحققة من الموقع الإخباري وبين مجموعة من المتغيرات، مثل الجنس والعمر ووقت وعدد مرات استخدام الموقع في الأسبوع. وأظهرت النتائج أيضًا أن الخبر احتلَّ المساحة الأبرز، بينما كان الاهتمام بالتقارير والمقالات والمقابلات محدودًا مع غياب تام للتحقيقات خلال فترة الدراسة. ولم تهتم المواقع المدروسة بالمواضيع الثقافية والاجتماعية بالدرجة المطلوبة، ما يعكس "قصورًا واضحًا في الكوادر البشرية المدرَّبة والمؤهلة للعمل في البيئة الإلكترونية. ويُعد هذا ضعفًا مهنيًّا لدى العاملين في المواقع التي تناولها البحث" (سيرين تيماني، 2015-2016)(16).

وبخصوص عوامل تأثير الصحافة الإلكترونية في الصحافة الورقية، توصل أحد البحوث من خلال أداة الاستبيان إلى أن العامل المادي هو الأكثر حضورًا على مستوى تأثير الصحافة الإلكترونية في الصحافة الورقية. ويؤدي عامل القراءة دورًا في جعل الصحافة الإلكترونية ذات تأثير في الصحافة الورقية. فعملية القراءة تمر بأزمة واضحة، حيث تبيَّن أن عدد الكتب التي يقرؤها أقل من نصف العينة لا يتجاوز ثلاثة كتب كحدٍّ أقصى في السنة الواحدة. كما استخدمت الدراسة أداة تحليل المحتوى وأوضحت ضعف توظيف الوسائط المتعددة في صناعة المحتوى، وبيَّنت أن الصور تُعد الشكل الأكثر استخدامًا من قِبَل المواقع الإخبارية اللبنانية (أمل حمزة، 2017-2018)(17).

وأظهرت دراسة تناولت دور استخدامات وسائل التواصل الاجتماعي في صناعة الخبر السياسي في قناتي الجزيرة والعربية أن التغييرات التي شهدتها تكنولوجيا الاتصال، وعالم التواصل عبر شبكة الإنترنت، شكَّلت علامة فارقة في استخدامات وسائل الإعلام وأساليب عملها. وقد تأثرت بذلك الفضائيات الإخبارية، ومنها قناتا الجزيرة والعربية باعتبارهما وسيلتي اتصال جماهيري (أنور الزوبعي، 2017-2018). وفي دراسة رصدت دور مواقع التواصل الاجتماعي في الانتخابات الطلابية في جامعة الكويت (2014- 2015)، أوضحت الباحثة الدور الذي تلعبه المضامين الانتخابية على مواقع التواصل الاجتماعي في استثارة اهتمام طلاب الجامعات للمشاركة في الانتخابات الطلابية. وأكدت أن هذه المنصات أوْلَت اهتمامًا خاصًّا بالتفاعلات والأحداث التي ارتبطت بالانتخابات الطلابية في جامعة الكويت. وأظهر الطلاب قدرًا عاليًا من التفاعل مع المضامين، خصوصًا على مستوى التدوين في موقعي تويتر وفيسبوك؛ ما يعني أن هناك اتجاهًا من جانب الفاعلين في الانتخابات الطلابية للتوظيف السياسي لهذين الموقعين، في إطار الانتخابات (هاجر شبكوه، 2016-2017).

وفي رسالة حول دور المجتمع المدني في بناء فضاء عمومي فاعل في لبنان، قامت الباحثة بدراسة تحليلية للنشاط الاتصالي الرقمي لمنظمات الحراك المدني في الفترة الممتدة من مايو/أيار 2017 إلى مايو/أيار 2018. وتوصلت الدراسة من خلال أداتي تحليل المضمون والمقابلة إلى تأكيد وجود دوافع اقتصادية وسياسية، وتشريعية، واجتماعية وتكنولوجية ذاتية حتَّمت على منظمات المجتمع المدني في لبنان إنشاء وتفعيل صفحات خاصة بها على مواقع التواصل الاجتماعي. ويقتصر الخطاب في فضاء الإنترنت على القضايا المحلية، وخاصة ما يتعلق بكشف الفساد وانتقاد أداء الطبقة الحاكمة في مقاربة المشاكل الأساسية للمواطن اللبناني، كما أن المشاركين الأساسيين في هذا الخطاب هم محليون، حتى لو لم يكونوا موجودين في لبنان، مثل المغتربين والمسافرين، وهم في الغالب يوجدون فيه بهوياتهم وانتماءاتهم الحقيقية، ولذلك فالنقاش فيه غالبًا ما يكون بين أطراف معلومة (زينب حسن سليم، 2017-2018)(18).

بعد تحليل الاتجاهات البحثية لأطروحات الدكتوراه في علوم الإعلام والاتصال في الجامعة اللبنانية، والتي نوقشت بين عامي 2019-2021، تبيَّن أن الاهتمام الأول كان لبحوث "الإعلام الجديد"، أما المنهج المستخدم فهو المسح من خلال تحليل المضمون مدعومًا بالمقابلات. فمن أصل 26 أطروحة جامعية تناول 10 منها "الإعلام الجديد"، وركزت 5 أطروحات على الصحافة الورقية، و5 أخرى على التليفزيون، وتناولت 6 أطروحات وسائل الإعلام عامة، هذا يدل على الاهتمام باستخدامات وسائل الاتصال الحديثة وتحليل مضامينها (انظر الملحق 1)(19).

وفي دراسة أخرى، قامت إحدى الباحثات بتحليل أطروحات الدكتوراه الجامعية العربية في علوم الإعلام والاتصال، وبدأت مسارها البحثي بدراسة استطلاعية استكشافية، شملت 32 أطروحة دكتوراه باللغة العربية في علوم الإعلام والاتصال من جامعات لبنانية مختلفة، وصلت إليها من خلال زيارات متكررة لمكتباتها. وشكَّل هذا العمل مرحلة مهمة في سياق البحث؛ إذ تمكَّنت الباحثة من التعرف على طرق بناء الإشكاليات، وماهية النظريات، وأنواع بحوث الدكتوراه، وطبيعة موضوعاتها. وفيما يخص الأطروحات التي تعود لجامعات عربية، فإن الباحثة اتبعت أسلوب المسح الشامل لكل أطروحات الدكتوراه العربية في علوم الإعلام والاتصال المنشورة بشكل كامل، وبصيغة "بي دي إف" (PDF) على شبكة الإنترنت، حتى انتهت كل عمليات المسح عبر استخدام محركات البحث، وجرى تحميل وتحليل كل مخرجاتها، وتكوَّنت العينة النهائية من 12 أطروحة دكتوراه(20).

وقد اعتمدت جميع البحوث المنهج "الوصفي"، ورأت الباحثة أن هذه النتيجة متوقعة ومنطقية، لأن معظم الباحثين الذين قابلتهم يعتبرون أن المنهج الوصفي هو الأنسب للدراسات الإعلامية ويستندون إليه. وكان توزيع النظريات التي استعان بها الباحثون في فهم الموضوعات والإشكاليات على هذا النحو: نظرية الاستخدامات والإشباعات (5)، ونظرية الأطر الإعلامية (4)، ونظرية الأجندة (3)، ونظرية الاعتماد (3)، ونظرية حارس البوابة (2)، ونظرية الغرس الثقافي (2)، ونظريات العنف الإعلامية (1)، ونظرية التصميم (1)، ونظرية التأثير (1)، ونظرية الأنظمة التمثيلية (1)، ونظرية الانعكاس الشرطي (1)، ونظرية ثراء الوسيلة (1)، ونظرية السلام الديمقراطي (1)، ونظرية الاتصال الحواري عبر الإنترنت (1). (انظر الجدول رقم 1)   

وأكدت نتائج الدراسة أهمية ونجاعة وقدرة النظريات ذات الخصوصية والأصول الإعلامية على الاستجابة لمتطلبات أطروحات الدكتوراه في علوم الإعلام والاتصال أكثر من سواها. ويبقى لجوء بعض الباحثين لنظريات من مجالات وحقول معرفية أخرى من أجل إضفاء المزيد من الأبعاد المعرفية والتفسيرات العلمية لموضوعات أبحاثهم.

جدول (1): توزيع النظريات المستخدمة في الأطروحات المدروسة

م

النظريات المستخدمة في الأطروحات المدروسة

التكرارات

1

نظرية الاستخدامات والإشباعات

5

2

نظرية الأطر الإعلامية

4

3

نظرية الأجندة

3

4

نظرية الاعتماد

3

5

نظرية حارس البوابة

2

6

نظرية الغرس الثقافي

2

7

نظريات العنف الإعلامية

1

8

نظرية التصميم

1

9

نظرية التأثير

1

10

نظرية الأنظمة التمثيلية

1

11

نظرية الانعكاس الشرطي

1

12

نظرية ثراء الوسيلة

1

13

نظرية السلام الديمقراطي

1

14

نظرية الاتصال الحواري عبر الإنترنت

1

ووجدت الباحثة أن نصف الأطروحات المدروسة فقط تمتاز بملاءمة تامة بين النظريات المستخدمة فيها وبين إشكالياتها البحثية؛ مما يشير بوضوح إلى مشكلة تواجه بعض الباحثين في تحقيق تناغم وتكامل بين الإشكالية البحثية وبين استخدام النظرية في أطروحاتهم، وهذا ما يخلق شرخًا بنيويًّا في دراساتهم. (انظر الجدول رقم2)

جدول (2): توزيع مستوى تطبيق النظرية المستخدمة في نتائج الأطروحة

م

مستوى تطبيق النظرية المستخدمة في مناقشة نتائج الأطروحة

التكرارات

1

تطبيق تام

2

2

تطبيق جزئي

6

3

عدم تطبيق

4

المجموع

12

وتمكنت أطروحتان فقط من مجموع عيِّنة الدراسة (12 أطروحة) من تطبيق النظرية المستخدمة بشكل كامل في تفسير النتائج البحثية. وهذا يؤكد أن النظريات المستخدمة من قِبَل بعض الباحثين ما زالت إلى حدٍّ كبير بعيدة عن التوظيف المناسب للوصول إلى مناقشة هادفة للنتائج ترتكز بقوة إلى مقاربات نظرية. ويتباعد المساران، المنهجي والنظري، في عدد من الأطروحات، في حين يجب أن يتلازما في كل أطروحة دكتوراه، ويلتقيا في تفسير الحصاد التطبيقي لكل دراسة(21).

6. خصوصية البحث في المنطقة العربية

يطرح انتشار وسائل التواصل الاجتماعي في المنطقة العربية أسئلة إشكالية عديدة اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية تستحق البحث. والدراسات الوصفية حول عدد المستخدمين، أو حول الخصائص الديمغرافية والاجتماعية غير كافية؛ فأبعاد هذه المعلومات وتفسيراتها هي التي تهم الباحثين وتمكِّنهم من معرفة كيفية التأثير، أو المساهمة في التغيير الاجتماعي، أو ماذا تعني هذه الأدوات للمستخدم، وكيف تؤثر على تفكيره وشخصيته وعلاقاته بالآخرين، وبالتالي ما دورها في المجتمعات. وهذا يتطلب الغوص في عمق الممارسة الإعلامية والاتصالية في المجتمعات العربية. ودور علماء الإعلام والاتصال اليوم هو السعي إلى بعث النقاش العلمي حول المنطلقات الفلسفية لبحوث الإعلام والاتصال، وتشجيع الإنتاج البحثي الهادف، بتطبيق النهج الفلسفي. عليهم أن يسعوا لبلورة الإشكاليات المرتبطة باستخدامات وسائل الإعلام والاتصال، خاصة الجديدة منها، في البيئة الثقافية العربية، وإخراج المؤشرات التي تكشف عن خصوصية الاتصال في البيئة العربية(22).

نحن متفقون على أن البحث العلمي هو عملية عقلية معقَّدة تقوم على الوصف والتفسير والتنبؤ، وهو أيضًا التقصي المنظم للحقائق العلمية بهدف التأكد من صحتها أو تعديلها أو إضافة الجديد إليها، وذلك باتباع أساليب ومناهج علمية محددة تهدف لإيجاد حلول لمشاكل مطروحة. ولم يتفق الباحثون على تقسيم واحد لأبحاث الإعلام والاتصال لاعتماد كل باحث على أسس خاصة به في القيام بهذا التقسيم. من هنا، نسجل وجود العديد من التقسيمات، منها ما كان أساسها المجال الذي تناولته هذه الأبحاث، مثل: أبحاث اجتماعية، أو أبحاث طبيعية، أو أبحاث إنسانية. ومنها ما كان أساسها الوسائل المستخدمة في إنجازها، مثل: أبحاث كمِّية وأبحاث نوعية. ومنها ما كان أساسها المنهج المطبق في إجرائها، وبالتالي توزعت هذه الأبحاث إلى تاريخية، وتجريبية، وإحصائية، ومسحية...إلخ(23).

ويرتكز مفهومنا للبحث العلمي على أهمية الإضافة العلمية، والوصول إلى نتائج يجري تحليلها وتفسيرها وتوضيح أبعادها من خلال مقاربة نظرية محددة تشكِّل منذ البداية إطار البحث. وينطلق تحليل النتائج ومناقشتها من الإطار الفلسفي الذي تفرضه الإشكالية وأهداف البحث، وتكون المنهجية البحثية في خدمة الأهداف، ودائمًا ضمن الإطار الفكري الفلسفي العام. وما نراه مهمًّا اليوم في علوم الإعلام والاتصال هو التفكير في النهج الذي يوجِّه الرؤية، ويفرض أدواته المنهجية وطرقه، وليس المطلوب نكران أو رفض أو تجاهل كل التيارات الغربية الفلسفية والمعرفية التي أسست لعلوم الإعلام والاتصال، ولكن لابد لنا كباحثين في علوم الإعلام والاتصال في العالم العربي من المشاركة في إنتاج المعرفة العلمية في مجالنا، انطلاقًا من خصوصيتنا الثقافية ودراساتنا الميدانية الخاصة، والخروج عن الموروث النظري الذي أطَّر تفكيرنا(24).  

خاتمة

إن العائق الأساسي للمشاركة في الإنتاج المعرفي في المنطقة العربية هو غياب السياسات والرؤى البحثية، والمختبرات والفرق البحثية التي تحتضن الأعمال البحثية وتستثمر نتائج الدراسات التي تذهب سدى وتبقى من غير فائدة عملية. والجهود البحثية موجودة في عالمنا العربي، لكنها لم تثمر بسبب غياب سياسات البحث العلمي وضعفها. من هنا، يضيع مفهوم البحث العلمي لدى الباحثين أنفسهم، فيركزون على المناهج الثقيلة والأفكار الشائعة والنظريات الموروثة، دون محاولة تقديم المختلف والجديد؛ فالبحث هو إما للترقية أو واجب مفروض، أو وسيلة للتكوين الأكاديمي للتخرج لممارسة مهنة التعليم في الجامعة، ولا فائدة منه أكثر من ذلك في نظر الباحثين. أما الخروج بنظريات علمية فهذا ليس من شأنهم، أو أكثر من ذلك، ما لا قدرة لهم عليه.

لقد اكتفى إلى الآن معظم الباحثين العرب بإجراء البحوث الكمية، فالطلب الاجتماعي على بحوث الإعلام والاتصال في المنطقة العربية ما زال محدودًا، ومرتَهنًا بمنطقَي السوق والأيديولوجيا. وإذا عَدَدْنا السوق قوة ناشئة في المنطقة العربية تحرِّك الاستهلاك الإعلامي والثقافي، فإنها تحتاج إلى الدراسات الكيفية التي ترتكز على تحليل حاجات الجمهور وكيفية تلبيتها.

نبذة عن الكاتب

مراجع

(1) مي العبد الله، البحث في علوم الإعلام والاتصال من الأطر المعرفية إلى الإشكاليات البحثية، (بيروت، دار النهضة العربية، 2011)، ص 36.

(2) Pierre Bourdieu, “Penser la politique,” Actes de la recherche en sciences sociales, Vol. 71-72, (March 1988).

(3) مي العبد الله، نظريات الاتصال، (بيروت، دار النهضة العربية، 2005)، ص 78.

(4) Ian Stewart, Eric Berne, Key Figures in Counselling and Psychotherapy (London: Sage Publications, 1992), 127

(5) Dominique Boullier, “Les sciences sociales face aux traces du big data,” Revue française de science politique, Vol. 65, no. 5, (2015): 805-828.

(6) Mike Ananny, Kate Crawford, “Seeing without knowing: Limitations of the transparency ideal and its application to algorithmic accountability,” New Media & Society, Vol. 20, no. 3, (2016): 973-989.

(7) يوسف أزروال، "الإعلام الجديد وموجة التغير العربي"، صحيفة الرؤية، العدد 647، 2014.

(8) العبد الله، البحث في علوم الاعلام والاتصال من الأطر المعرفية إلى الإشكاليات البحثية، مرجع سابق، ص 28.

(9) مي العبد الله، علوم الاعلام والاتصال، (بيروت، دار النهضة العربية 2009)، ص 50.

(10) العبد الله، البحث في علوم الاعلام والاتصال من الأطر المعرفية إلى الإشكاليات البحثية، مرجع سابق، ص 159.

(11) مي العبد الله، متاهة التواصل الاجتماعي في الفضاء العام، (بيروت، دار النهضة العربية، 2020)، ص 17.

(12) فضيل دليو، مدخل إلى الإعلام والاتصال: المفاهيم والنماذج والأنظمة، ط 1 (الجزائر، منشورات ألفا للوثائق)، 2018، ص 13-14.

(13) Stéphane Orivesi, Sciences de l'information et de la communication

Objets, savoirs, discipline, (Grenoble : PUG, 2014), 18.

(14) Mélanie Millette et al., Méthodes de recherche en contexte numérique : une orientation qualitative (Québec : Les Presses de l’Université de Montréal, 2020), 28.

(15) بلقبي فطوم وسيفون باية، "الإثنوغرافيا منهج حديث في الفضاء الاتصالي الجديد"، مجلة الخلدونية (جامعة ابن خلدون، المجلد 13، العدد 1، 2021)، ص 39-52.

(16) العبد الله، متاهة التواصل الاجتماعي في الفضاء العام، مرجع سابق، ص 140.

(17) المرجع السابق، ص 142.

(18) المرجع السابق، ص 144.

(19) مي العبد الله، لين محمودي، الاتجاهات البحثية لأطاريح الدكتوراه في علوم الإعلام والاتصال (بيروت، الجامعة اللبنانية، 2021)، ص 5. 

(20) نسب نصوح مرعب، المقاربات النظرية المستخدمة في بحوث الإعلام والاتصال الأكاديمية الجامعية وملاءمتها لمنهجية البحث، نموذج دراسي لأطروحات دكتوراه عربية: دراسة وصفية تحليلية، (الجامعة اللبنانية، المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية)، (بيروت، الجامعة اللبنانية، 2021)، ص 220.

(21) المرجع نفسه، ص 221.

(22) بسيوني حمادة، اتجاهات عالمية حديثة في بحوث الإعلام وتكنولوجيا الاتصال، (دبي، مطابع البيان، 2003)، ص 152.

(23) العبد الله، علوم الإعلام والاتصال، مرجع سابق، ص 46.

(24) المرجع السابق، ص 48.

ملحق 1

عناوين أطروحات الدكتوراه في علوم الإعلام والاتصال في الجامعة اللبنانية (2019-2021)

م

عنوان الأطروحة

اسم الطالب

سنة المناقشة

1

اتجاهات الصحافة اليومية الأردنية في تغطية المشاركة السياسية للمرأة

مارسيل جوينات

2019

2

وسائل الإعلام الأردنية وأثرها على التنوع في المجتمع الأردني: التنوع السياسي والديني والثقافي نموذجًا

أحمد عطيات

2019

3

دور وسائل الإعلام اللبنانية في إنتاج العنف الإعلامي: نموذج في الصحافة السياسية

كلوفيس البويز

2019

4

دور الإعلام في بناء صورة رئيس الجمهورية اللبناني لدى الرأي العام بعد الطائف

شربل مارون

2019

5

دور وسائل الاتصال الحديثة في تطوير الاستراتيجيات التسويقية: نموذج الاستراتيجيات التسويقية لشركات تشغيل قطاع الاتصالات في لبنان عام 2017 – تاتش، ألفا، أوجيرو

لانا عبد الله

2019

6

قضايا الفساد المثارة في البرامج الحوارية ومنصتها الاتصالية (الفيسبوك) وموقف الحكومة العراقية إزاءها: دراسة تحليلية لقناتي البغدادية والتغيير من 1 يناير/كانون الثاني 2015 إلى 31 يناير/كانون الثاني 2015

رأفت عبد الرزاق

2019

7

دور مواقع التواصل الاجتماعي في تعزيز قيم المواطنة لدى الشباب الكويتي

بدر العنزي

2019

8

دور الإعلام اللبناني في صناعة القرار التنموي: معالجة الفقر نموذجًا

فيرونيك كليمون أبو غزالة

2019

9

دور وسائل الإعلام الأردنية في نشر الوعي البيئي لدى الجمهور

عصمت ثلجي حداد

2019

10

الصحافة الخليجية ومعالجتها الإعلامية لقضايا مجلس التعاون الخليجي (القبس، الرياض، الأيام، الاتحاد، الراية، عمان): 2011-2014

خالد العنزي

2019

11

الرسائل الثقافية الموجهة للأطفال في الإعلانات عبر المحطات التليفزيونية اللبنانية

ماري بونار

2019

12

تطور مناهج تدريس علوم المكتبات والمعلومات العربية وتقييمها لنواحي الكفاءات ومتطلبات المهنة

موسى الديراني

2019

13

صناعة الحرب في مواقع التواصل الاجتماعي: الأزمة السورية نموذجًا

خالد زعرور

2019

14

الإعلام الجديد وأثره في تشكيل مظاهر العنف لدى الشباب العراقي: دراسة مسحية تحليلية

حبيب خلف

2019

15

صناعة النشرات الإخبارية في الفضائيات العربية وتأثيرها على الشباب الفلسطيني: قضية القدس نموذجًا، دراسة تحليلية ميدانية

محمد أبو طربوش

2019

16

تعميم الصورة في التليفزيون الرسمي وتأثيرها على المتلقي الكويتي: دراسة تطبيقية

مبارك الدسمة

2019

17

اللغة العربية في الفضائيات اللبنانية: الواقع والتحولات والسياسات

فاطمة بري

2020

18

دور النشاط الاتصالي الرقمي لمنظمات الحراك المدني في بناء فضاء عمومي فاعل: نموذج الحملات الاتصالية الرقمية لحزب "سبعة" وحملتي "طلعت ريحتكم" و"بنا نحاسب" في الفترة الممتدة من مايو/أيار 2017 إلى مايو/أيار 2018

زينب سليم

2020

19

الشخصية الفردية بين الإعلام التقليدي والإعلام الرقمي: طلاب نهاية المرحلة الثانوية في بيروت أنموذجًا

وفاء حطيط

2020

20

Uses and impacts of Interactivity and User Generated Content on The Lebanese Television Websites, Facebook And UTube: local News and Political Programs

فيفيان أغوبيان

2020

21

المؤسسات الإعلامية والصحافيون ومدى التزامهم بالضوابط المهنية والأخلاقية والقانونية في محطات التلفزة اللبنانية

زياد عجاج

2020

22

استخدام الشبكات الدلالية في استرجاع المعلومات من قواعد البيانات العربية وتصنيفها

ليندا محمودي

2020

23

المسؤولية الاجتماعية لدى المكتبات الجامعية الخاصة في لبنان

منى عكنان

2020

24

استخدامات الشباب الجزائري لشبكات التواصل الاجتماعي: دراسة على موقعي فيسبوك وتويتر

عبد الكريم محمد الطيب شين

2020

25

محددات صناعة الخبر السياسي في الصحافة اللبنانية: المفاوضات النووية الإيرانية الغربية أنموذجًا

أسعد صدقة

2021

26

معالجة الصحافة العراقية للحراك السياسي في العراق واتجاهات النخبة نحوها

فاضل البجاري

2021