باتت فرص إحياء الاتفاق النووي الإيراني ضعيفة، هذا ما تقوله جميع الأطراف المشاركة في المفاوضات، لا يقف ذلك عند الطرف الأميركي أو الإيراني بل ينسحب على الأطراف التي كانت تتحدث بتفاؤل عن إمكانية أن تفضي المحادثات إلى اتفاق ومنهم مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، الذي أكد أن الفرص تتضاءل. وتتحدث طهران كما تتحدث الأطراف الأخرى عن قضايا عالقة كرفع كامل العقوبات وإزالة "الحرس الثوري الإيراني" من قائمة الإرهاب الأميركية، وتقول بعض التصريحات: إن هذا الأمر هو العائق الأبرز أمام التوصل إلى اتفاق، وهو ما تتمسك به إيران معتبرة أن رفع الحرس ومؤسساته وشركاته من قائمتي الإرهاب والعقوبات مطلب لن تتخلى عنه.
أما روبرت مالي، مبعوث الولايات المتحدة الخاص بشأن إيران، والذي وصفته تحليلات كثيرة عندما عُيِّن في منصبه بأنه الشخصية الأكثر قدرة على إنجاز اتفاق، فقد انضم إلى قائمة المتشائمين وعاد لاستخدام التهديد في حديثه حول إيران. قال مالي في شهادة لجلسة استماع في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي: "ليس لدينا اتفاق مع إيران، واحتمالات التوصل إلى اتفاق ضعيفة في أحسن الأحوال". وإذا تعذَّر إحياء الاتفاق، فإن الولايات المتحدة "مستعدة لمواصلة فرض عقوباتها وتشديدها ... والرد بقوة على أي تصعيد إيراني، والعمل بالتنسيق مع إسرائيل وشركائنا الإقليميين".
ولعل التنسيق مع الشركاء وفي مقدمتهم "إسرائيل" هو المؤشر الأبرز على حدوث التصعيد، بل إن المؤشرات تقول: إن تل أبيب حصلت على ضوء أخضر ودعم من الولايات المتحدة الأميركية لرفع مستوى وحدة حرب الظل مع طهران، ولعل الاغتيالات الأخيرة التي طالت قيادات في الحرس الثوري من الصف الأول وخبراء يعملون في وزارة الدفاع الإيرانية تكشف عن الكثير؛ فهي وإن كانت تعكس خروقات أمنية واضحة فهي أيضًا مؤشر على مواصلة التصعيد، الذي يحمل إمكانيات الانتقال من المساحات الرمادية إلى ساحة المواجهة المباشرة.
موقع "أكسيوس" ذكر في فترة سابقة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينيت، قدَّم للرئيس الأميركي، جو بايدن، خلال زيارته إلى الولايات المتحدة، في أغسطس/آب العام الماضي، خطة بعنوان "القتل بألف طعنة". وهي إستراتيجية تقوم على مواجهة إيران من خلال مجموعة من الإجراءات الصغيرة عبر عدة جبهات -عسكرية ودبلوماسية- بدلًا من توجيه ضربة واحدة دراماتيكية. لكن ما تصفه الخطة الإسرائيلية بـ"الإجراءات الصغيرة" يعبِّر عن نفسه بخروقات أمنية كبيرة وضعت المسؤولين عن الأمن في إيران في حرج كبير، فيما تقود التحذيرات التي تصدرها إسرائيل لمواطنيها بعدم السفر إلى توجس من ردٍّ إيراني قادم.
لم تغب الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن ساحة التنسيق مع إسرائيل، فبالتزامن مع تقرير للوكالة يتهم إيران بأنها لم تقدم إجابات مقنعة بشأن مواد نووية وُجدت في ثلاثة مواقع، وهو ما هيَّأ لمشروع قرار أميركي/أوروبي ضد إيران، بالتزامن مع ذلك قام مدير الوكالة، رافائيل غروسي، بزيارة إلى إسرائيل، لم تكن بالطبع لبحث المشروع النووي الإسرائيلي، بل انصبَّت على بحث الملف النووي الإيراني، وضرورة التنسيق بشأن مواجهته. وتأتي الزيارة أيًضا بعد تغريدة لرئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينيت، تقول بأن إيران "سرقت وثائق سرية للوكالة الدولية للطاقة الذرية واستخدمت هذه المعلومات للإفلات بشكل منهجي من عمليات التفتيش" المتعلِّقة ببرنامجها النووي، مرفقًا رسالته بروابط تقود إلى "وثائق بالفارسية قُدِّمت على أنها سرية ومترجمة إلى الإنجليزية". وتحدثت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، عن أن طهران حصلت على وثائق سرية من الوكالة الدولية، ساعدتها في رسم خطط لـ"التهرب" من التحقيق بشأن أنشطتها السابقة.
وهذه السجلات كانت ضمن وثائق الأرشيف النووي الإيراني التي حصلت عليها إسرائيل بعد عملية استخباراتية نفَّذتها في طهران، في 2018، نَفَتْ إيران حدوثها في البداية لكن مسؤولين إيرانيين عادوا وأكدوا حدوث هذا الاختراق الأمني الكبير ومنهم محسن رضائي، القائد السابق للحرس الثوري.
وقبل زيارته إلى الولايات المتحدة الأميركية، قال وزير الدفاع الإسرائيلي، بيني غانتس: إن إيران تعمل على تطوير أجهزة طرد مركزي في مواقع جديدة تحت الأرض يجري بناؤها بالقرب من منشأة نطنز النووية. وإنها تُواصل "مراكمة المعرفة والخبرة، التي لا رجعة فيها، في مجال التطوير والبحث والإنتاج، وتشغيل أجهزة الطرد المركزي المتقدمة".
وفيما تصرُّ إيران على سلمية برنامجها النووي تصرُّ إسرائيل التي باتت تمتلك 90 رأسًا حربيًّا نوويًّا، على أن الجمهورية الإسلامية "تقف على بعد أسابيع قليلة من تكديس المواد الانشطارية التي تكفي لصنع قنبلة أولى، فهي تمتلك 60 كيلوغرامًا من المواد المخصبة بنسبة 60%، وتُنتج اليورانيوم المعدني عند مستوى التخصيب بنسبة 20%، وتمنع الوكالة الدولية للطاقة الذرية من الوصول إلى منشآتها".
وتطالب إسرائيل، التي تمتلك برنامجًا نوويًّا عسكريًّا لا يخضع لأيٍّ من القوانين الدولية ولا تطولها عمليات التفتيش التي تجريها الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بإنهاء البرنامج النووي الإيراني عن بكرة أبيه.
وبعد أن كانت بعض التوقعات تميل إلى القول بأن بايدن سيعود إلى الاتفاق النووي متجاهلًا المطالب الإسرائيلية، يتضح اليوم أن الإدارة الأميركية تنسق على أعلى المستويات مع إسرائيل ضمن سيناريوهات تقوم بصورة أساسية على انتفاء العودة إلى الاتفاق النووي الموقَّع في العام 2015.
يقوم التحرك الإسرائيلي على تعزيز التنسيق مع واشنطن والأوروبيين لمزيد من الضغط على إيران، وهي وإن كانت راضية عن تعثر المفاوضات إلا أنها قلقة من تبعات ذلك وإمكانية أن تفضي إلى خطوات غير مسبوقة من قبل إيران في مجال تخصيب اليورانيوم ومن ذلك التخصيب بدرجة نقاء تصل إلى 90%.
كل هذه المعطيات تجعل مستقبل الاتفاق النووي يتمحور حول سيناريوهات ثلاثة:
الأول: أن تبقى الولايات المتحدة الأميركية وكذلك إيران على مواقفها وهو ما يعني فشل المفاوضات بكل ما يحمله ذلك من تبعات من ضمنها التصعيد والتهديد بعمل عسكري وهو التهديد الذي قد يتحول إلى واقع تدفع منطقة الخليج قبل غيرها ثمنه الباهظ، كما أن إسرائيل لن تبقى بمنأى عن ذلك فعمل ضد إيران يعني ردًّا بصورة تقليدية وغير تقليدية على جبهات عدة.
الثاني: يتعلق بحدوث انفراجة بفعل وساطات تكون قادرة على تقريب المواقف والوصول إلى قرار بإحياء اتفاق 2015؛ وهو ما يبدو أنه مسار ضعيف ومتعثر وتتضاءل فرصه شيئًا فشيئًا.
الثالث: ويقوم على أن يعود الطرفان، الأميركي والإيراني، إلى حلول وسطية وإلى الاتفاقيات الجزئية ذات الطبيعة المؤقتة، ومن ذلك السماح ببيع النفط الإيراني وأن تعود إيران إلى تخفيض مستوى تخصيب اليورانيوم.. وهذا السيناريو قابل للتحقق، وهو وإن كان يخفف من حدة التصعيد العسكري إلا أنه يقوم بترحيل الأزمة والحل النهائي معًا.