الرئاسيات السورية: إطلاق رصاصة الرحمة على اتفاق جنيف

يجري النظام السوري الانتخابات الرئاسية على جزء محدود من الأراضي السورية، وفي غياب ملايين السوريين، سعيا للحصول على شرعية شكلية تحافظ على تمثيله للدولة السورية في المحافل الدولية.
20146210469408734_20.jpg
الرئيس السوري ومرشح الانتخابات الرئاسية بشار الأسد (رويترز)

ملخص
بمجرد أن تلاشى مؤتمر جنيف عن واجهة الاهتمام بعد فشله في تحقيق أية نتائج تؤدي إلى حل سياسي للصراع المسلح الدائر في سوريا منذ ثلاث سنوات، شرع النظام السوري يعد العدة لإجراء انتخابات رئاسية، لينهي بذلك أي أمل بإمكانية التوصل إلى تسوية سياسية قائمة على تنفيذ البند الأهم في إعلان جنيف الصادر في 30 يونيو/حزيران 2012 والذي شكّل الأرضية لانعقاد جنيف2 في يناير/كانون الثاني 2014، وهو تشكيل هيئة حكم انتقالية بصلاحيات كاملة من النظام والمعارضة للإشراف على إنهاء الصراع وإعداد العدة للانتقال إلى وضع سياسي جديد.

أمام هذا الواقع، وفي ظل حالة العجز التي يبديها المجتمع الدولي وانشغاله بقضايا أخرى فإن فرص الحل السياسي سوف تتراجع على الأرجح خلال الفترة التي تعقب الانتخابات مباشرة،  ويرجح أن يستمر طرفا الصراع -أي: النظام وحلفاءه والمعارضة والدول الداعمة لها- بالعمل على تعزيز الموقع العسكري والتفاوضي قبل انطلاق أية عملية سياسية محتملة مع استمرار حصول اتصالات "المسار الثاني" في شكل غير معلن بين إيران ودول غربية حول الأزمة السورية.

مقدمة

بمجرد أن تلاشى مؤتمر جنيف عن واجهة الاهتمام بعد فشله في تحقيق أية نتائج تؤدي إلى حل سياسي للصراع المسلح الدائر في سوريا منذ ثلاث سنوات، شرع النظام السوري يعد العدة لإجراء انتخابات رئاسية، لينهي بذلك أي أمل بإمكانية التوصل إلى تسوية سياسية قائمة على تنفيذ البند الأهم في إعلان جنيف الصادر في 30 يونيو/حزيران 2012 والذي شكّل الأرضية لانعقاد جنيف2 في يناير/كانون الثاني 2014، وهو تشكيل هيئة حكم انتقالية بصلاحيات كاملة من النظام والمعارضة للإشراف على إنهاء الصراع وإعداد العدة للانتقال إلى وضع سياسي جديد. وقد سلك النظام هذه الطريق متشجعًا بإنجازات عسكرية كان يحققها على الأرض، فيما المعارضة منشغلة في قتال تنظيم الدولة الإسلامية في غير مكان من سوريا، أو بالخلافات بين فصائلها المختلفة. كما استغل النظام تراجع الاهتمام بالأزمة السوريّة بسبب الأزمة الأوكرانية، وانصراف التركيز الأميركي إلى مفاوضات الملف النووي الإيراني، للمضي قدمًا في موضوع الانتخابات الرئاسية وفرض نتائجها كأمر واقع على الجميع.

تصميم الانتخابات

تمثلت سياسة النظام منذ بداية الأزمة في تبني نهج أحادي يجري السير فيه يراوغ أية متغيرات سياسية أو ميدانية، محلية أو خارجية، فيما يتم في الوقت نفسه إعطاء الانطباع بمسايرة أو التجاوب مع المبادرات الدولية والإقليمية الرامية إلى تسوية الأزمة، بحسب استحقاقات كل مرحلة. هذا ما حصل مع مبادرة الجامعة العربية وبعثة المراقبين العرب التي جرى الاتفاق على إرسالها لمراقبة الوضع الأمني أواخر العام 2011، ثم مع مهمة كوفي عنان وبعثة المراقبين الدوليين في النصف الأول من العام التالي، ثم مع استحقاق جنيف2 أواخر العام الفائت 2013 ومطلع العام الحالي 2014. ففي كل مرة كان النظام يوافق على المبادرات الخارجية كسبًا للوقت، على أمل أن تأتي القوة المسلحة بنتائج حاسمة على الأرض، أو على أمل أن تتغير المعطيات الإقليمية والدولية لمصلحته.

وعليه، وبمجرد انتهاء الجولة الثانية من مفاوضات مؤتمر جنيف2 في العاشر من فبراير/شباط 2014، بدأت تسريبات إلى وسائل الإعلام عن نية الرئيس الأسد الترشح للانتخابات، لتشكّل بالونات اختبار على ردود الفعل الدولية بخصوص استمرار الأسد في صدارة المشهد السياسي السوري. وفي غياب ردود فعل قوية رافضة، أعلن رئيس مجلس الشعب السوري جهاد اللحام يوم 21 إبريل/نيسان 2014 فتح باب الترشح للانتخابات الرئاسية التي قال إنها تجري في الثالث من يونيو/حزيران. وخلال الأيام العشرة التي حددها الإعلان لتلقي طلبات المرشحين تقدم 24 مرشحًا بطلباتهم، لكن الأمر انتهى بموافقة المحكمة الدستورية العليا على طلبات ثلاثة منهم، وهم الرئيس بشار الأسد وحسان عبد الله النوري وهو وزير سابق، وماهر حجار وهو عضو في البرلمان السوري. ويمكن في العموم القول: إن النظام أجرى ترتيبات دقيقة لأول انتخابات تعددية تجري في سوريا.

فدستور العام 1973، الذي وضعه الرئيس السابق حافظ الأسد بعد مجيئه إلى السلطة قبل ذلك بثلاث سنوات، ألغى الحاجة إلى إجراء انتخابات تعددية فيما يتعلق بموقع الرئاسة بعد أن نص في مادته الثامنة على احتكار البعث للسلطة من خلال تكريسه حزبًا قائدًا للدولة والمجتمع. وعليه، تقوم القيادة القُطرية للبعث باختيار مرشحها للرئاسة، ثم تحيله إلى البرلمان للمصادقة عليه قبل أن يجري الاستفتاء عليه شعبيًا. ولم يفز المرشح الوحيد خلال الثلاثين عامًا التالية وهو الرئيس حافظ الأسد في أي مرة بأقل من 99 بالمائة من الصوت الشعبي. وفي عام 2012، وبضغط الثورة، جرى إقرار دستور جديد ألغى المادة 8 وسمح بانتخابات تعددية في البلاد.

لكن هذه الانتخابات كانت أقرب ما تكون إلى الصورية؛ إذ جرى استبعاد مرشحي المعارضة في الداخل والخارج؛ حيث نصّ قانون الانتخابات الذي أُقرّ العام 2012 كجزء من حزمة "إصلاحات رئاسية" على أن يكون المرشح الرئاسي قد أقام في سوريا خلال الأعوام العشرة الماضية وأن يحظى بدعم 35 نائبًا على الأقل من النواب الذين يضمهم مجلس الشعب، وعددهم 250 نائبًا؛ ما يجعل من الصعب بل من شبه المستحيل على معارضي الخارج والداخل خوض الانتخابات. وزيادة في التأكيد على حصول النتيجة المتوخاة من إجراء الانتخابات، منع القانون على كل من خرج من سوريا دون جواز سفر وبدون تأشيرة خروج رسمية عبر معبر يسيطر عليه النظام من المشاركة في الانتخابات؛ ما حرم نحو ثلاثة ملايين لاجيء سوري في الخارج من التصويت، في حين جرى السماح لـ200 ألف سوري فقط بالإدلاء بأصواتهم. وعليه قام النظام بكل الترتيبات اللازمة للحصول على النتيجة التي يريدها ومنع المفاجآت، بدءًا باختيار المرشحين المنافسين للرئيس الأسد وصولاً إلى تقرير من يحق له المشاركة في الاقتراع، وانتهاء باللجنة التي تشرف على العملية الانتخابية من ألفها إلى يائها؛ حيث أصدر الرئيس بشار الأسد مرسومًا عيّن بموجبه أعضاء "اللجنة القضائية العليا للانتخابات" التي ستتولى إدارة عملية انتخاب رئيس الجمهورية.

التمهيد لولاية جديدة ميدانيًا

بالتزامن، وتمهيدًا لإجراء الانتخابات الرئاسية أسرع النظام الخطا لتغيير الوقائع على الأرض، ليعود ويفرض نفسه على المشهدين الدولي والإقليمي، فتمكن في منتصف مارس/آذار 2014 بمساعدة حزب الله من السيطرة على يبرود ثم عموم مناطق القلمون ليغلق بذلك نهائيًا الحدود الغربية مع لبنان والتي كانت تشكّل خط إمداد مهم للمعارضة في مناطق شمال دمشق وغربها، وليؤمّن كذلك الطريق الدولي بين دمشق وحمص. كما وافق النظام بوساطة روسية-إيرانية على إجلاء مقاتلي المعارضة من حمص وليستعيد بذلك السيطرة على كامل المدينة القديمة، وذلك في إطار اتفاق يشمل أيضًا إطلاق أسرى من الجانبين. وفي وقت سابق كان النظام نجح (20 مارس/آذار 2013) في السيطرة على بلدة قلعة الحصن القريبة من الطريق الدولية حمص-طرطوس، لينهيَ بذلك وجود كتائب المعارضة وفاعليتها في كلّ من الريف الغربي والجنوبي للمدينة.

كما تبنى النظام أسلوب الهدن والمصالحات، فراح يعمل على تهدئة المناطق الثائرة خاصة في محيط مدينة دمشق، بحيث يجري حصر الأعمال القتالية في المناطق النائية والبعيدة بما يسهّل عليه إجراء الانتخابات وإعطاء الانطباع بأن الأزمة في طريقها إلى الحل بالقوة حينًا وبالتسويات أحيانًا، وبما يوحي بأن هذه المناطق الخارجة عن سلطته قد عادت إلى حضن النظام؛ فجرى التوصل إلى تهدئات في بعض أحياء جنوب العاصمة في شهر فبراير/شباط الماضي، سمح النظام خلالها بإدخال مواد غذائية إلى الأحياء المحاصرة مقابل تسليم السلاح الثقيل ورفع علم النظام على المباني الحكومية. كما سبقت هذه "الهدنة" أو "المصالحة" عقد اتفاقات مشابهة في أحياء حمص القديمة في يناير/ كانون الثاني 2014، وأيضًا في مدينة المعضمية في غوطة دمشق الغربية، في ديسمبر/ كانون الأول، تضمنت وقف إطلاق النار بين الجانبين مقابل السماح بإجلاء المدنيين وإدخال المساعدات الإنسانية إلى المناطق التي تحاصرها قوات النظام. وقد امتدت التسويات لتشمل عمليات لتبادل الأسرى والمخطوفين في مناطق مختلفة في إطار ما أطلق عليه النظام اسم خطة المصالحة الوطنية.

بالتوازي بدأت عملية تسيير المسيرات المؤيدة لإجراء الانتخابات الرئاسية وترشيح بشار الأسد لولاية جديدة،  كما بدأ الترويج لعودة معارضين من الخارج والدعوة إلى مؤتمر حوار وطني واعتماد حل يجري التوافق عليه داخل سوريا. في الأثناء بدأ الترويج لفكرة تشكيل حكومة وحدة وطنية بعد الانتخابات الرئاسية، تعد لإجراء انتخابات محلية برقابة دولية انطلاقًا من الاتفاقات المحلية لوقف إطلاق النار في ريف دمشق وحمص وسط البلاد، ثم انتخابات برلمانية وصولاً إلى تعديل الدستور وتغيير في صلاحيات الرئيس لصالح رئيس الوزراء.

انقسام دولي

جاءت ردود الفعل الدولية على إعلان دمشق إجراء الانتخابات الرئاسية متطابقة مع الانقسام الحاصل حول الأزمة منذ بدايتها؛ ففي حين أعلن حلفاء النظام -إيران وروسيا التي ساءت علاقاتها مع الغرب على خلفية الأزمة الأوكرانية- عن دعمهم إجراء الانتخابات الرئاسية، ندد خصوم النظام الإقليميون والدوليون بالخطوة واعتبروها مهزلة في ظل استمرار أعمال العنف في مختلف أنحاء البلاد. مع ذلك فقد جاءت ردود الفعل المعارضة لإجراء الانتخابات ضعيفة أول الأمر، إلا أن الإصرار على المضي فيها جعل هذه الردود تكبر مثل كرة الثلج؛ فتقدم المبعوث الدولي الأخضر الإبراهيمي باستقالته إلى الامين العام للأمم المتحدة، بعد أن اعتبر أن إجراء انتخابات رئاسية في سوريا ينسف جهود التسوية الرامية لوضع حد لثلاث سنوات من النزاع. كما اتهم دمشق باللجوء إلى "مناورات تسويفية" لتعطيل الحل.

الدول الأوروبية من جهتها اختارت الرد على قرار دمشق إجراء انتخابات رئاسية بمنع إجراء تصويت للسوريين المقيمين على أراضيها، وقد حذت بعض الدول العربية حذوها في منع إجراء الانتخابات السورية على أراضيها؛ وقد استهلت المنع دولة الإمارات العربية المتحدة، في حين ذهب الأردن إلى حد طرد السفير السوري لديه مع التوجه إلى فتح ممثلية للائتلاف المعارض على أراضيه.

كما قامت فرنسا مدعومة أوروبيًا بالتقدم بقرار إلى مجلس الأمن لإحالة ملف سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية، ردت عليه روسيا بمشروع قرار لدعم المصالحات والتسوية السياسية في سوريا اعتمادًا على ما اعتبرته "الخبرة الإيجابية للمصالحة في حمص"؛ وذلك قبل أن تعود بالتنسيق مع الصين وتستخدم حق النقض "الفيتو" للمرة الرابعة في مجلس الأمن لحماية النظام السوري من أية إجراءات عقابية سياسية أو قانونية تترتب على مشروع القرار الفرنسي. هذا في حين اعتبر سفير موسكو في الأمم المتحدة فيتالي تشوركين أن "بيان جنيف لا يحظر إجراء الانتخابات الرئاسية في سوريا".

لكن رد الفعل الأبرز جاء من واشنطن التي اعتبرت الانتخابات "مهزلة"، وجاء ردها على مستويين:

  • الأول: دبلوماسي؛ حيث قامت بطرد البعثة الدبلوماسية السورية، ورفعت مستوى تمثيل الائتلاف إلى بعثة خارجية، كما جرى تنظيم زيارة لقيادة الائتلاف كانت الأولى إلى واشنطن وترتيب لقاء مع الرئيس باراك أوباما في البيت الأبيض. 
  • من جهة ثانية، زادت واشنطن من مساعدتها للمعارضة بما فيها تقديم مساعدات عسكرية مثل صواريخ تاو التي جرى استخدامها بفعالية في شمال سوريا ضد دبابات النظام ومدرعاته، كما أقر الرئيس الأميركي باراك أوباما "برنامج لتدريب وتجهيز" مقاتلي المعارضة المعتدلين ضد نظام الرئيس بشار الأسد، في الوقت الذي كانت تجري فيه مناورات "الأسد المتأهب" متعددة الجنسية في الأردن، بمشاركة ما يزيد على 12 ألف عسكري يمثلون 22 دولة.

أما إيران التي بدأت تقدم نفسها راعيًا لمصالحة سورية داخلية، تجري بمساعدة دولية، فقد قامت بتسهيل اتفاق خروج مقاتلي المعارضة من حمص وطرحت خطة لحل الأزمة بعد الانتخابات الرئاسية التي أعربت عن دعمها الكامل لها، كما أرسلت مندوبين للإشراف عليها.

شرعية ملتبسة

رغم كل الاعتراضات الإقليمية والدولية وعدم إمكانية مشاركة نصف السوريين بسبب ظروف اللجوء والتهجير، ورغم تعذر إجراء الاقتراع إلا على مساحة تبلغ نحو 40 في المئة من الأراضي السورية؛ فإن النظام ظل مع ذلك مصممًا على إجراء الانتخابات الرئاسية لفرض واقع سياسي جديد، يلغي كل فكرة الحل القائم على إنشاء هيئة انتقالية تستبعد الأسد. وفي سعيه للحصول على ما يستطيع أن يزعم أنه تفويض شعبي للاستمرار في سياساته وحفظ بقائه وأعتراف المحافل الدولية به، يتجاهل النظام حقيقة تحول السوريين إلى أكبر تجمع لاجئين في العالم، في الوقت الذي تعرض فيه نحو 3 بالمائة منهم إلى القتل أو التشوه أو الإصابة.

أمام هذا الواقع، وفي ظل حالة العجز التي يبديها المجتمع الدولي وانشغاله بقضايا أخرى فإن فرص الحل السياسي سوف تتراجع على الأرجح خلال الفترة التي تعقب الانتخابات مباشرة، قبل أن تعود لتصبح محل اهتمام أكبر مع ارتباطها بنتائج المفاوضات حول الملف النووي الإيراني. وعليه، يرجح أن يستمر طرفا الصراع -أي: النظام وحلفاءه والمعارضة والدول الداعمة لها- بالعمل على تعزيز الموقع العسكري والتفاوضي قبل انطلاق أية عملية سياسية محتملة مع استمرار حصول اتصالات "المسار الثاني" في شكل غير معلن بين إيران ودول غربية حول الأزمة السورية.

وحتى يتم التوصل إلى تفاهم إقليمي ودولي، سوف يستمر السوريون في دفع فاتورة صراع مسلح فرضه عليهم النظام القائم لحرمانهم من حق اختيار من يحكمهم بكل حرية.