يتوقع أن تعرف نهاية العام المقبل 2023 تحولًا ذا طبيعة نوعية بالنسبة لدولة مثل موريتانيا؛ إذ من المنتظر أن تبدأ مرحلة جديدة في مجال لم تعهده من قبل ألا وهو استخراج وإنتاج الغاز المسال، الذي من المؤكد أنه لن يكون مثل باقي المجالات الاستخراجية لعدة عوامل قد لا يكون أقلها عامل استفادة البلد، الذي يصل منطقة المغرب العربي بمنطقة غرب إفريقيا، من "الاقتصاد الطاقوي".
تعمل موريتانيا، المصنفة ضمن بلدان العالم الثالث الأكثر فقرًا وتخلفًا، منذ أكثر من خمس سنوات على مشروع الغاز المشترك بينها والسنغال المجاورة لها والمعروف بـ"حقل السلحفاة الكبرى آحْمَيَّمْ"، وكانت آخر المراحل -وفق ما أعلنت عنه وزارة الطاقة الموريتانية- انتهاء الحفر في بئرين من أصل أربع آبار، كان قد بدأ الحفر فيها في 17 أبريل/نيسان 2022؛ حيث يحتوي الحقل على اثنتي عشرة بئرًا سيتم العمل عليها لاستخراج الغاز الطبيعي. ووفق التقديرات الرسمية، فإن إنتاج الحقل السنوي سيبلغ 2.5 مليون طن في مرحلته الأولى، ومن المنتظر أن يبدأ تطوير المرحلة الثانية من المشروع ما بين عامي 2026 و2027 ليصل معدل الاستخراج السنوي إلى ستة ملايين طن وفي المرحلة الثالثة عشرة ملايين طن سنويًّا(1).
الشراكة مع السنغال: أي استفادة للبلدين؟
بحكم موقع الحقل المشترك بين الدولتين داخل المياه الإقليمية (offshore)، فقد وقَّعت الحكومتان اتفاقًا يقضي بأن يكون استغلاله تشاركيًّا مع شركتي "كوزموس إنيرجي" الأميركية (Kosmos Energy) و"بريتش بتروليوم" (British Petroleum) البريطانية، وهو الذي يُقدَّر احتياطي الغاز به بـ450 مليار متر مكعب، وهي شراكة ينظر لها البلدان على أنها ستعزز العلاقات الأخوية وتحسين التعاون بينهما إضافة للتطوير الفني والتجاري للحقل المشترك.
من المتوقع أن تكون عائدات موريتانيا السنوية من حقل السلحفاة في حدود مئة مليون دولار سنويًّا في مرحلته الأولى، وهو ما سيتطور على مدى ثلاثين عامًا القادمة. كما يتوقع أن تنعكس شراكة البلدين مع الشركتين المستغلتين إيجابيًّا بالتطوير المشترك والاستغلال الأمثل رغم ما عليها من مآخذ عند مراقبين.
يتطلع الموريتانيون لأن يكون استخراج الغاز بداية للتطور الاقتصادي وما يعنيه ذلك من انعكاس على الظروف العامة اقتصاديًّا وسياسيًّا وأمنيًّا وعلى موقع الدولة في المنطقة والإقليم. لكن شبح سوء التسيير والفساد واختلالات الحكامة الرشيدة لا تفتأ تعيق مسار التقدم والتطور في الأذهان قبل الميدان، يزيد منها تصريحات نُسبت لوزير الشؤون الاقتصادية وترقية القطاعات الإنتاجية بالبلاد؛ حيث قال: إن البلاد لا يمكنها الاعتماد على ثروة لا تتجدد(2)، في إشارة إلى العائدات المتوقعة من مشروع حقل الغاز المشترك، معللًا ذلك بأن بلدانًا كثيرة في العالم جمعت أموالًا طائلة من البترول لكنها استثمرت في أشياء أخرى تنويعًا لمصادرها بعد أن أدركت أن مستقبل الاقتصاد لم يعد لصالح البترول.
وإذا كان من المنتظر أن تكون عائدات حقل الغاز في مرحلته الأولى على الخزينة الموريتانية ما يُقدَّر بمبلغ 100 مليون دولار سنويًّا؛ فالسؤال الذي يطرحه أغلب المحللين والإعلاميين هو: هل يتحقق أمل الموريتانيين برؤية اقتصاد البلاد يتحسن وينمو؟ وهل ستنتشل هذه "الطفرة" في قطاع الصناعات الاستخراجية آلاف الشباب من شبح البطالة الذي يلاحق أكثر من 30% منهم وفق الأرقام الرسمية؟
من المؤكد أن بدء الاستخراج سيجعل موريتانيا محط اهتمام البلدان المستوردة للغاز وخاصة في أوروبا القريبة من الشواطئ الموريتانية والتي أصبحت بحاجة متزايدة إلى إمدادات الغاز الإفريقي عمومًا بعد أن توقفت روسيا عن ضخ الغاز إلى أوروبا، ولا شك أن هذا الأمر سيجعل موريتانيا وشريكتها، السنغال، في قلب التوجهات الإستراتيجية الدولية في مجال الطاقة.
احتياطيات الغاز بشواطئ موريتانيا وحقولها
ليس آحْمَيَّمْ الحقل الوحيد المكتشف بالشواطئ الموريتانية وإن كان احتياطيه يصل إلى حدود 450 مليار متر مكعب بل إن حقل "بير الله" الواقع في المقطع الثامن من الحوض الساحلي الموريتاني، والذي لا يدخل في المياه المشتركة بين الجارتين، موريتانيا والسنغال، هو عملاق حقول الغاز الخاص بالمياه الموريتانية، والذي يبلغ احتياطيه 80 تريليون قدم مكعبة من الغاز المسال ويمثل 10% من الاحتياطيات الإفريقية(3).
ومن المنتظر أن يبدأ استغلال حقل "بير الله" على مدى أكثر من ثلاثة عقود بدءا من 2028، ولكن بتعاون بين شركة موريتانية هي الموريتانية للمحروقات وشركتي "كوزموس إنيرجي وبريتش بتروليوم"، وتذهب التوقعات إلى أن احتياطي حقل "بير الله" قد يجعل البلاد في المرتبة الثالثة إفريقيًّا بعد نيجيريا والجزائر.
على أن حقلي آحْمَيَّمْ وبير الله ليسا الوحيدين بموريتانيا؛ فقد عرفت البلاد حقولًا وُصفت بالخجولة منها حقل "بنده" الذي قُدِّرت احتياطياته عام 2002 بما يبلغ 1.2 تريليون قدم مكعبة وحقل "بيلكان" البالغ 1.6 قدم مكعبة(4).
القدرة على الاستغلال الأمثل في ظل شبح التسيير والأطماع
تخطط السلطات الموريتانية، بالنسبة لما بعد مرحلة الاستخراج، للاستفادة من بير الله عن طريق ميناء إنجاكو الواقع جنوب البلاد، وتتوقع منه استفادة أكبر نظرًا لأنه على الأرض وليس في عمق البحار (offshore) كما هي حال حقل آحْمَيَّمْ السلحفاة الذي يُستغل عن طريق جملة آليات منها كاسرات للأمواج وأنابيب لاستخراج الغاز المسال، ومن تصديره مباشرة قبل أن يصل أحد موانئ البلاد، التي تتوفر على عدة موانئ منها ميناء الصداقة بنواكشوط وميناء نواذيبو، العاصمة الاقتصادية، وميناء إنجاكو بولاية الترارة جنوب غرب البلاد.
إن دخول موريتانيا مجال الطاقة وتصديرها الغاز نحو أوروبا سيمهد لتحولات كبرى، وهو ما يعني ضرورة مراجعة سياسات بعض دول الإقليم إذ بدأ السباق لكسب ود نواكشوط بفتح قنصليات وسفارات، وتوطيد علاقات ثنائية معها. من ذلك تدشين بريطانيا لأول سفارة لها بنواكشوط، عام 2018، وذلك منذ أن أقام البلدان صداقة شراكة في ستينات القرن الماضي.
ويأتي ذلك تزامنًا مع ارتفاع مستوى حضور الشركات البريطانية المستثمرة في الاقتصاد الموريتاني، وخصوصًا بعد دخول شركتي "شل" و"بريتش بتروليوم" بقوة للاستثمار في قطاع الغاز، واستثمار "بريتش بتروليوم" بمليار دولار أميركي في حقل "آحْمَيَّمْ" وحده مؤشر على مدى الاهتمام البريطاني بالاحتياطيات الطاقوية في موريتانيا.
وتعي نواكشوط جيدًا هذا الوضع وانعكاساته على علاقتها الدولية، خصوصًا أنها حرصت -فيما يبدو للمتابع- على المحافظة على علاقاتها بفرنسا، الدولة الأوروبية ذات الإرث الاستعماري والحضور القوي في موريتانيا والسنغال. وعلى الرغم من التجاذبات والصراعات التي تحوم حول موريتانيا، بل وحول منطقة غرب إفريقيا عمومًا، فإن موريتانيا والسنغال تتخوفان من تسرب الصراعات الإقليمية ومن تأثير الجماعات المسلحة النشطة جدًّا في منطقة الساحل وخصوصًا في شمال جمهورية مالي المتاخمة لكل من موريتانيا والسنغال على هذه المشاريع الطاقوية الواعدة، والتي هي بحاجة إلى مناخ أمني مستقر.
الطاقة الموريتانية والمشاريع الإقليمية الموازية
بعيدًا عن موريتانيا جغرافيًّا، بدأ التخطيط لمشروع ضخم لإمداد أوروبا بالغاز المسال عن طريق الأنابيب، وبدأ المشروع يطفو على السطح في أوج الأزمة الروسية-الأوكرانية، وربما تكون الإكراهات التي برزت مع "الحرب الباردة" بين روسيا ودول الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو قد فرضت التفكير في هذا المشروع وبلورته وإخراجه للعلن.
هناك على بعد آلاف الكيلومترات من حقلي آحْمَيَّمْ-السلحفاة الكبرى وبير الله الضخمين بالنسبة لموريتانيا، بدأت المملكة المغربية، الجارة الشمالية لموريتانيا، التخطيط لإطلاق مشروع أنابيب الغاز النيجيرية نحو أوروبا، وستمر أنابيب المشروع بخمس عشرة دولة إفريقية ساحلية، هي: بنين وتوغو وليبيريا وغانا وكوت ديفوار وسيراليون وغينيا بيساو وناميبيا والسنغال وموريتانيا لتضع عصا التسيار في المغرب ومن هناك يتم ربطه بقادش بإسبانيا ومنها إلى باقي دول الاتحاد، في مسافة تُقدَّر بـ5660 كلم(5).
ومؤخرًا، أعلنت نيجيريا إعطاء شركة البترول الوطنية "إن إن بي سي" الموافقة لتنفيذ صفقة مدِّ الأنابيب إلى أوروبا عبر المغرب، لكن تلك لم تكن بداية المشروع؛ حيث إنه قبل أربع سنوات، وفي زيارة لآبوجا، اتفق الملك المغربي، محمد السادس، ورئيس نيجيريا، محمد بخاري، على المضي قدمًا في المشروع الذي يأخذ طريقه عبر المحيط الأطلسي بعد أن وقَّعا على اتفاق مبدئي صيف عام 2016. في خطورة مهمة وجريئة بالنسبة للمغرب، الذي يعلن رغبته بقوة في دخول مجال الطاقة الأحفورية، تقول أبوجا إن المشروع بتعاون ثلاثي بينها والرباط والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "إيكواس". فنيجيريا التي تعد من أكبر منتجي النفط والغاز في إفريقيا دخل مشروعها مرحلة التصميم وسط تكتم من الأطراف الثلاثة على مدة التنفيذ والتكلفة(6).
لكن الأكيد أن الرباط تسعى لتأمين مصادر للغاز الطبيعي بعد تعليق الجزائر العمل بأنبوب غاز يصل إلى إسبانيا عبر المغرب بسبب التوترات السياسية والأمنية القديمة والمتجددة بين الجارتن الخصمين: المغرب والجزائر، وكانت الرباط تتقاضى رسوم عبور، إلى جانب كميات من الغاز لغرض الاستخدام المحلي.
كما أُعلن عن مشروع مماثل ثلاثي الأقطاب بين نيجيريا من جهة والنيجر والجزائر لجهة ثانية، وقد جرت محادثات بشأنه ليعبر هو الآخر منطقة الصحراء، ويجسَّد في أقرب الآجال بعد أن وُضعت اللبنات الأساسية له وفق وزارة الطاقة الجزائرية(7).
والواقع أن المتابع لموضوع الطاقة في غرب إفريقيا وخصوصًا ما أُعلن عنه من اكتشافات بين موريتانيا والسنغال، قد بدأ استغلالها، لا يمكن إلا أن يلمس تأثير ما يقع في ساحة الحرب الجارية بين روسيا وأوكرانيا، وما أعلتنه روسيا من وقف ضخ غازها إلى أوروبا على هذه المنطقة. فهنالك خطوات متسارعة وسباق محتدم من دول المنطقة نحو تصدير الغاز والتحول الطاقوي، وهو ما يجعل بعضها محل اهتمام كبير خاصة إذا أثبتت قدراتها على التعويض عن مصادر سابقة للمادة والاستعاضة عنها بها.
لكنَّ تحديًا آخر قد يبرز بالنسبة للمصدِّرين الجدد يلوح في الأفق، ولن تكون القدرة فقط على الاستمرارية والتطوير الممنهج والمخطط له، بل القدرة على التناغم مع إيقاع الوضعية الدولية الراهنة والمحافظة على المكانة والرفع منها، والقدرة على الاستفادة من الموارد واستثمارها؛ وهذا بالنسبة لدولة مثل موريتانيا قد يكون أكبر تحدٍّ ينضاف للتحدي الأمني في شبه المنطقة الذي تتشاركه مع جاراتها وإن كان بوتيرة أقل حدة.
خاتمة
يمكن القول: إن الانبهار بالاكتشافات الطاقوية قد يخفت وميضه ويتحول لنقمة إن لم تتم مواكبتها ووضع تصورات استباقية لما يترتب عليها، وما يمكن أن ينتج عنها من تحولات جيوسياسية وإستراتيجية، وما يمكن أن تخلق من فرص تطوير إن اغتُنمت . ويبقى سباق تصدير الغاز نحو أوروبا بالنسبة لبعض دول غرب إفريقيا ليس اعتباطيًّا أو وليد الصدفة، بل يحمل في ثناياه صراعات تاريخية وسيادية لفرض مكانة قد يعزز منها الغاز الطبيعي المسال أو يفقدها.
(1) مشروع السلحفاة الكبرى/آحميم: ما انعكاساته على اقتصادنا؟ موقع الأخبار إنفو، 20 مارس/آذار 2022، (تاريخ الدخول: 1 سبتمبر/أيلول 2022): https://alakhbar.info/?q=node/39254
(2) في حديث عن الغاز.. وزير الاقتصاد: لا يمكن أن نعتمد على «ثروة لا تتجدد»، صحراء ميديا، 14 أبريل/نيسان 2022، (تاريخ الدخول: 31 أغسطس/آب 2022): https://bit.ly/3qbI8oi
(3) كوزموس إنيرجي الأمريكية تعلن عن تحضيرات لتوقيع عقد تقاسم إنتاج حقل "بير الله" الغازي في موريتانيا، العالم إنفو، 10 أغسطس/آب 2022، (تاريخ الدخول: 1 سبتمبر/أيلول 2022): http://elalem.info/article10780.html
(4) ثروات واعدة واحتياطيات ضخمة.. ما الذي تعرفه عن حقول الغاز الطبيعي في موريتانيا؟، الجزيرة نت، 16 مارس/آذار 2022، (تاريخ الدخول: 30 أغسطس/آب 2022): https://bit.ly/3cM49ag
(5) أبوجا تعطي موافقتها الأولية على مشروع بناء أنبوب غاز بين نيجيريا والمغرب، فرانس 24، 2 يونيو/حزيران 2022، (تاريخ الدخول: 30 أغسطس/آب 2022): https://bit.ly/3CXyehU
(6) نيجيريا تعتزم مد خط أنابيب غاز إلى أوروبا عبر المغرب، بي بي سي، 3 يونيو/حزيران 2022، (تاريخ الدخول: 2 سبتمبر/أيلول 2022): https://bbc.in/3D0MO8b
(7) الجزائر ونيجيريا والنيجر تبحث إنشاء خط أنابيب غاز يصل الى أوروبا، سويس إنفو، 28 يوليو/تموز 2022، (تاريخ الدخول: 1 سبتمبر/أيلول 2022): https://bit.ly/3enxwA0