"ما وراء الحجاب": أزمة اجتماعية في إيران

يمثل الاحتجاج في إيران مؤشرًا واقعيًّا على أزمة، هي في حقيقتها صراع على صورة إيران وهويتها السياسية والاجتماعية، والنتيجة التي سيصل لها جميع الأطراف أن التغيير الاجتماعي الذي يشهده المجتمع الإيراني سيفرض شروطه في النهاية.
25 سبتمبر 2022
مظاهرة معارضة للحجاب الاجباري في طهران (غيتي)

عدد من العوامل جعل من قضية الحجاب في إيران أزمة، من أهمها السياسات الحكومية والتغيير الاجتماعي؛ فعلى مدى عقود ومع الأجيال الجديدة كانت مسألة القيم الدينية والاجتماعية تتواجه مع الحداثة التي صبغت حياة الأجيال الشابة في إيران، ليحوز موضوع الحجاب مساحة واسعة من النقاش الديني والسياسي والاجتماعي والثقافي في إيران. وبينما صار الحجاب بحكم القانون رمزًا سياسيًّا متجاوزًا مساحته العبادية والفقهية، بات خلعه في الأماكن العامة شكلًا احتجاجيًّا ربما يتجاوز موضوع الحجاب ليطول مسائل أخرى، وجاءت قضية مهسا أميني التي توفيت بعد اعتقالها من قبل "دورية الإرشاد" التي تراقب الحجاب والسلوكيات العامة لتفجر احتجاجات تعكس بصورة جوهرية حالة الأزمة. ولعل واحدًا من جذور الأزمة يعود إلى ما بعد انتصار الثورة، ورغم النقاش المستفيض إلا أن فئة استطاعت أن تفرض رؤيتها التي تقول إنه نظرًا لأن النظام السياسي والثقافي أصبح إسلاميًّا، يمكنه ويجب عليه تحديد القواعد والإجراءات في جميع المجالات، بما في ذلك أنماط التنشئة الاجتماعية وأنماط حياة الناس.

يبدو الإصرار على نشر دوريات الإرشاد في الشوارع مؤشرًا على قصور سياسي عن فهم التغيرات القيمية في المجتمع، والإقرار بحقيقة أن أجيالًا في إيران بات لها أولويات وتفضيلات قيمية ومعيارية وسلوكية قائمة على نظام القيم الحديث مثل الحرية الشخصية والاختيار الفردي، وبدا وكأن التواصل والحوار بين النظام من جهة وهذه الفئة من المجتمع الإيراني مفقود كلية.

يرى باحثون إيرانيون، ومنهم أستاذ العلوم الاجتماعية، منصور ساعي، أن هذه التغييرات القيمية في المجتمع الإيراني، تحتاج إلى سياسة اجتماعية وثقافية متسامحة وديمقراطية تقوم على قبول الاختلافات واحترام القيم المتعددة لجميع الهويات الفاعلة الموجودة في إيران اليوم. ويرى ساعي، في مقالة له تساءلت: لماذا تحول الحجاب إلى أزمة؟، أن نظام الحكم في إيران، وبغض النظر عن التطورات البيئية والقيمة المحيطة، يستمر في التأكيد فقط على التقاليد واستنساخ قيمه التقليدية، مما يُفقده إمكانية فهم العالم الحديث وقيمه وقبوله والتواصل والتفاعل معه. وتكشف الأزمة في بعض وجوهها افتقار الحكومة إلى فهم التطورات والتفاعل المناسب مع ممثلي وحَمَلَة القيم الجديدة من الأجيال الذين نشؤوا اجتماعيًّا في عالم مختلف عن تقاليد الجيل الأول والثاني للثورة في إيران. أما الجيل الجديد فالواضح أن فئة كبيرة منه قد بَنَتْ هوية بصورة مغايرة للسائد، وهو جيل يتحدى القيم التي تستند على التقاليد الدينية والاجتماعية.

هل هو الحجاب فقط؟

في مذكراته الصادرة في 2017 في طهران، بعنوان: "60 عامًا من الصبر والشكر"، يقول إبراهيم يزدي، أول وزير خارجية لإيران بعد الثورة: "تعبر إيران مرحلة شديدة التلاطم..بدأت مرحلة الصحوة والتحرك نحو إسقاط الاستبداد الداخلي بانتفاضة التبغ، عام 1890، وثورة المشروطة، عام 1905، وحركة مصدق لتأميم النفط، 1950، والثورة الإسلامية، عام 1979، ولم تصل إلى مبتغاها بعد".

والحركات الاحتجاجية هي حركات اجتماعية-سياسية، وهي ظاهرة متصلة ومرتبطة ببعضها البعض، فلا يمكن فصل الحركة الاحتجاجية المتعلقة بالحجاب عن الاحتجاجات الأخرى ذات الطبيعة الاقتصادية والسياسية. ولذلك، فقد يكون النظام بحاجة إلى التفكير خارج الإطار القانوني الذي رسمه للمجتمع في فترة من طغيان الحالة الإسلامية خاصة أن هذه الحالة تشهد تراجعًا كبيرًا.

والحديث عن الحالة الاحتجاجية في إيران بموجتها الأخيرة أو الموجات التي سبقتها لا يعني بأي حال من الأحوال تحليلها كحالة تسعى لإسقاط أو حالة قادرة على إسقاط النظام بقدر ما هي حالة ملازمة للمجتمع الإيراني، ويكاد الاحتجاج أن يكون ملازمًا للجمهورية الإسلامية على مدى العقود الماضية، والتي كان من أبرزها احتجاجات طلاب جامعة طهران في عهد خاتمي واحتجاجات الحركة الخضراء، في 2009، عقب إعادة انتخاب أحمدي نجاد، والاحتجاجات المعيشية في عهد روحاني، في 2017، وآخرها الاحتجاجات الحالية، ولذلك يصدق وصف المجتمع الاحتجاجي على المجتمع الإيراني وهو ما يراه عالم الاجتماع المعروف حسین بشیريه في كتابه "العقل في السياسة".

والاحتجاج في إيران يأخذ مظاهر متعددة، منها الاحتجاج السياسي المباشر، وقد مثَّل آية الله منتظري، منذ منتصف عقد الثمانينات من القرن العشرين وحتى وفاته في 2009، حالة احتجاجية فكرية سياسية. وهو الذي انتقل كمنظِّر من منظِّري الثورة وواضعي دستور الجمهورية الإسلامية من تأييد ولاية الفقيه المطلقة القائمة على التنصيب إلى ولاية الفقيه القائمة على الانتخاب والمشروطة بموافقة الناس.

ولعل تراجع نسب التصويت والإحجام عن المشاركة في الانتخابات هي حالة احتجاج سياسي برزت خلال السنوات الأخيرة في إيران.

ويمكن الحديث أيضًا عن الاحتجاجات التي نجدها في الموسيقى والسينما؛ ففي النصف الأخير من عقد التسعينات، شهدت إيران عددًا من الأفلام صُنِّفت من أفضل أفلام هذا العقد وحملت في طياتها حالة احتجاجية ومحاكمة للنخبة الحاكمة ونقدًا لاذعًا لما وصلت إليه الأمور، ونجدها تنطوي على عناوين بارزة، أهمها: قيم المجتمع المدني، وأحكام القانون، وحقوق المرأة، وحرية التعبير، ونقد الحكومة، وحقوق الأقليات، ورفض العنف، والإعلاء من قيمة الحوار والنقد. ونجد في السينما الإيرانية، ورغم الرقابة، إشارات ناقدة للرقابة نفسها والبطالة وإقصاء أصحاب الفكر والرغبة في الهجرة والإدمان لدى الشباب والعنف والفقر وغياب الثقة في المستقبل وتهميش المرأة. وحمل فيلم "وكالة الزجاج"، للمخرج إبراهيم حاتمي كيا، حوارًا ذا إسقاطات سياسية واضحة، ويجري الحوار بين سائق سيارة أجرة شاب وسائق عجوز يأخذ دفة القيادة من الشاب ويسأل الركاب: إلى أين؟ ويجيب الركاب واحدًا تلو الآخر: آزادي آزادي آزادي (ميدان الحرية المعروف في طهران)، ويجيب السائق: أنا لن أذهب إلى "آزادي"، فيحتج الركاب: السائق الشاب قال إنه سيذهب إلى ميدان الحرية، فيرد السائق العجوز بعصبية: لن أذهب إلى ميدان الحرية، أنا أصل إلى ميدان الثورة ولن أذهب أبعد من ذلك.

العقوبات وفعلها

قد تجد أصواتًا في إيران تشكِّك في تأثير العقوبات، لكنها في الواقع حرمت المجتمع الإيراني من مزايا اقتصادية، وطالت بتأثيراتها حتى الطبقة الوسطى في المجتمع، ولذلك فثمة حالة من عدم الرضى المعيشي بفعل تردي الأوضاع الاقتصادية وكانت العقوبات سببًا من أسبابها.

ويدرك خصوم إيران في الخارج مقدار الضغط الذي ترتبه الحالة الاقتصادية ولذلك يضغطون بمزيد من العقوبات وتقديم ما من شأنه أن يعزز الحالة الاحتجاجية داخل إيران ويوسع المسافة بين الشعب ونظام الحكم، بغية إجبار الحكومة الإيرانية على القبول باتفاق ضمن شروط تصر إيران على رفضها إلى اليوم. وتضييق الخيارات الاقتصادية وتراجع مستويات الدخل قد يقود إلى حالة احتجاجية أخرى ذات طبيعة معيشية في عهد رئيسي على غرار ما حدث في عهد حكومة روحاني.  

ورأت طهران أن قرار واشنطن "تخفيف حدة عدد من العقوبات على قطاع الاتصالات، مع الحفاظ على أقصى قدر من الضغوط"، سعي أميركي إلى المضي قدما في أهدافها ضد إيران، وأنه قرار يتماشى مع موقف الإدارة الأميركية العدائي الهادف إلى إثارة عدم الاستقرار في الجمهورية الإسلامية. وصنف المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني الإجراءات الأميركية بأنها "محاولات لانتهاك سيادة بلاده من قبل الولايات المتحدة الأميركية التي حاولت مرارا تقويض استقرار إيران وأمنها دون جدوى وأنها لن تمر دون رد".

وردت الحكومة الإيرانية بمزيد من القيود على الانترنت وأصبح الوصول إلى كثير من المواقع مستحيلا.

الاحتجاج أو العنف: أين الرأس؟

بموازاة الحالة الاحتجاجية التي اتخذت من رفض الحجاب الإجباري شعارًا، كانت المدن الإيرانية تشهد حالات عنف مقصود وفوضى، من بينها ذبح رجل أمن في الشارع وإحراق عدد من سيارات الإسعاف والبنوك، ومن بين القتلى الذين وصل عددهم إلى 41 قتيلًا عدد من شباب قوات التعبئة "بسيج" المحسوبين على الحكومة، وفيما يجري اتهام قوات الأمن بإطلاق الرصاص تؤكد الحكومة وجود "مندسين" وسط المتظاهرين يدفعون الأمور نحو العنف والفوضى، وأعلن بيان رسمي عن إلقاء القبض على عدد من غير الإيرانيين من الضالعين في ذلك. وفي مقابل الاحتجاجات احتشد أنصار النظام بكثافة في طهران ومشهد، وأظهرت الحكومة أنها مازالت قادرة على تحشيد الشارع ضد ما ترى أنه فوضى وعنف مقصود لذاته.

2
لافتة ترفعها مؤيدات للحكومة: "الشعب الإيراني محب للإسلام والثورة والقيادة، مطيعون للقائد" (الأناضول)

والواقع أن الحركات الاحتجاجية الأخيرة في إيران، تفتقد إلى الرأس، أو القيادة الواضحة، في حين أن قادة الحركات الاحتجاجية عموما، يمكن تقسيمهم إلى ثلاثة أنواع:

  1. قادة أيديولوجيين.
  2. قادة منظِّرين.
  3. قادة تعبويين.

وعندما يجتمع ذلك، يمكن الحديث عن حالة ثورية عارمة، على غرار ما حدث في الثورة الإسلامية، لكن الحركات الاحتجاجية اللاحقة في الجمهورية الإسلامية، والحركة الخضراء ليست استثناء من ذلك، تفتقد إلى القيادة بشتى أنواعها.

إلى أين؟

ورغم وضوحها الظاهري إلا أنها حركات احتجاجية تفتقد الوضوح من حيث الهدف، كما أنك لا تستطيع تصنيفها إذا ما كانت سلمية أو عنفيَّة، ولكنها في المجمل لا تقدم منظومة اجتماعية وسياسية واضحة ومختلفة، وإن كانت حالة الاحتجاج الاعتراضية-وهي الطاغية على احتجاجات إيران- تعبِّر بصورة جلية عن حالة من عدم الرضى من الناس تجاه النظام، لكنها تفتقد إلى الهيكلية والتعبئة المنظمة، ولا تمثل تهديدًا واقعيًّا لديه القدرة على إسقاط النظام، أو يهدف في الأساس إلى اسقاط النظام ويأتي من ضمن ذلك احتجاجات العمال والمعلمين والاحتجاجات ذات الصبغة الاقتصادية المعيشية.

يمثل الاحتجاج في إيران مؤشرًا واقعيًّا على أزمة العلاقة بين النظام والناس أو بين النظام وفئة لا يستهان بها من الشعب وهي أزمة تحتاج إلى تغيير في السلوك السياسي للدولة. وهذا الاحتجاج في حقيقته صراع على صورة إيران وهويتها السياسية والاجتماعية، والنتيجة التي سيصل لها جميع الأطراف أن التغيير الاجتماعي الذي يشهده المجتمع الإيراني سيفرض شروطه في النهاية.

نبذة عن الكاتب