السياسة الإسرائيلية وتأثيرها في واقع الممارسة الإعلامية بفلسطين

تبحث الدراسة الواقع المهني للعاملين في وسائل الإعلام بالأراضي الفلسطينية المحتلة، من خلال رصد المخاطر والتهديدات والتحديات التي تعترض الجسم الصحفي، واستقصاء حالة الاستعداء الإسرائيلي تجاه الصحفيين والعاملين في هذا الحقل ودوافعها، كما تحاول تحديد تأثيرات السياسة الإسرائيلية في الممارسة المهنية للمؤسسات الإعلامية. وتفترض الدراسة أن الاستهداف الإسرائيلي لوسائل الإعلام ليس سلوكًا ميدانيًّا تقوم به قوات الاحتلال فقط، بل هو سلوك ناجم عن سياسة أمنية مدروسة تُعبِّر عن اختيارات الاحتلال.
3 يناير 2023
سياسة الإفلات من العقاب دفعت الاحتلال الإسرائيلي لاقتراف المزيد من الانتهاكات بحق الصحفيين ووسائل الإعلام (الأناضول)

منذ بدء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، سعى بكل ما يملك من أدوات وأساليب للتعتيم على جرائمه التي يرتكبها ضد الفلسطينيين، عبر إبعاد وسائل الإعلام عما يحصل فيها، باعتبارها الكفيلة بالكشف عن قمعه المنظم للفلسطينيين، رغم أن هذه الوسائل كانت بدائية في حينه ولم تتوفر على ذات الإمكانيات التقنية العالية التي تملكها اليوم، لكن لم يتحملها الاحتلال وبذل جهودًا مضنية للحيلولة دون وصولها إلى الحقيقة.

دأبت قوات الاحتلال على سياسة استهداف الإعلام طوال سنوات الاحتلال، لكنها شهدت مزيدًا من الحدة والقسوة في السنوات التي شهدت فيها الأراضي المحتلة ثوراتها الشعبية وانتفاضاتها الوطنية، لاسيما انتفاضتا الحجارة بين عامي 1987-1993، والأقصى بين عامي 2000-2005، وعملية السور الواقي في الضفة الغربية عامي 2002-2003، فضلًا عن الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة في أعوام 2008، 2012، 2014، 2021.

وخلال كل هذه الأحداث استهدف الاحتلال وسائل الإعلام بأساليب لا تخلو من العنف، بل قتل العديد من الصحفيين، وأصاب العشرات منهم بإصابات تسببت لهم في إعاقات دائمة، فضلًا عن تدمير مقار تليفزيونية بزعم تحريضها على العنف. وجاءت عملية قتل مراسلة الجزيرة، شيرين أبو عاقلة، في 11 مايو/أيار 2022، من قِبَل قوات الاحتلال الإسرائيلي، فأعادت إلى الواجهة حجم المخاطر والتهديدات التي يواجهها الصحافيون العاملون في المؤسسات المحلية والشبكات الإعلامية الدولية، والتحديات المختلفة التي تُعطِّل نشاطهم الإعلامي، وتعرقل أداءهم المهني. وهذا يعني أن قتل شيرين أبو عاقلة لم يكن حدثًا مفاجئًا، أو غير متوقع، بل جزءًا من سياق أوسع شمل انتهاج سلطات الاحتلال الإسرائيلي سياسة عدوانية تجاه وسائل الإعلام الفلسطينية والأجنبية باعتبارها تحابي الفلسطينيين، وتتبنى روايتهم حول الصراع مع الفلسطينيين؛ مما كشف عن جملة من المخاطر والتحديات التي تتخلَّل السياسة الإسرائيلية في التعامل مع قطاع الإعلام.

وهنا، لا يمكن فصل السلوك العدواني الإسرائيلي تجاه وسائل الإعلام عن السياسات الإسرائيلية العامة في التعامل مع القضية الفلسطينية لإلغاء الوجود الفلسطيني، وروايته، وحقوقه التاريخية، مما يعرض أي صحفي ووسيلة إعلامية تحاول كشف انتهاكات وخروقات قوات الاحتلال إلى الإلغاء والإعدام.

وتأتي هذه الدراسة لتسليط الضوء على السياسة الإسرائيلية تجاه وسائل الإعلام، وتأثيرها في واقع الممارسة الإعلامية بفلسطين، بدءًا بالحديث عن المنظور الإسرائيلي للإعلام، ومحددات سياساته في التعامل مع المؤسسات الإعلامية الفلسطينية والشبكات الدولية، ثم رصد واقع الممارسة الإعلامية في الأراضي المحتلة، أخذًا بعين الاعتبار علاقة هذا الواقع بالسياسة الإسرائيلية وانتهاكاتها ضد وسائل الإعلام، ثم تطورات هذه السياسة وتحولاتها، ونزوعها نحو التوحش المتمثل بالإعدام الميداني للصحفيين، وهدم مقار المؤسسات الإعلامية.

في هذا السياق، تسعى الدراسة أيضًا إلى رصد أهم التحديات المهنية التي تواجه الصحفيين والمؤسسات الإعلامية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك أنواع المخاطر والتهديدات التي تواجههم؛ مما يستدعي تتبع دوافع وأسباب الانتهاكات الإسرائيلية ضدهم، وتأثيرات هذه السياسة الإسرائيلية في نشاط المؤسسات الإعلامية والشبكات الدولية، وتحديد صورة إسرائيل في تقارير المنظمات الحقوقية الدولية التي تعنى بالحريات الإعلامية.

 1. إجراءات منهجية

إشكالية الدراسة وتساؤلاتها

تسعى الدراسة لتسليط الضوء على السياسات الإسرائيلية تجاه وسائل الإعلام عمومًا في منطلقاتها السياسية والأيديولوجية والأمنية، وفي منطلقاتها التطبيقية على أرض الواقع، من خلال عرض سلسلة لأهم هذه السياسات، ورصد نتائجها وتبعاتها على عمل الإعلام في الأراضي الفلسطينية المحتلة عبر الإجابة عن الحقل الاستفهامي الآتي:

1. ما أبرز المخاطر والتهديدات والتحديات المهنية التي تواجه الصحفيين والمؤسسات الإعلامية في الأراضي الفلسطينية المحتلة؟

2. ما أهم معالم السياسة الإسرائيلية تجاه وسائل الإعلام؟

3. ما دوافع السياسة الإسرائيلية العدائية ضد الصحفيين والمؤسسات الإعلامية؟

4. ما تأثير السياسة الإسرائيلية في نشاط المؤسسات والشبكات الإعلامية الدولية؟

أهمية الدراسة وأهدافها

تنبع أهمية الدراسة من سعيها لإضافة ما قد يكون جديدًا في السياسة الإسرائيلية المتبعة تجاه وسائل الإعلام، لاسيما في ضوء الاستهداف المتكرر لها، ومعرفة دوافع حالة العداء التي تنهجها سلطات الاحتلال ضد العاملين في وسائل الإعلام، باعتبار أن ما شهدته السنوات الأخيرة من استهداف إسرائيلي موجه ومقصود تجاه هذه الوسائل إنما ينطلق من مبادئ متوافق عليها بين مختلف مكونات القرار الإسرائيلي: السياسي والأمني والعسكري.

وتكتسب الدراسة أهميتها البحثية أيضًا من خلال هذه الأهداف:

- التعرف على أساليب السياسة الإسرائيلية تجاه وسائل الإعلام.

- تحديد الجهات الإسرائيلية المسؤولة عن حالة العداء ضد الإعلام الفلسطيني.

- تسليط الضوء على أدوات السياسة الإسرائيلية ضد وسائل الإعلام، وتأثيرها في جمهورها المستهدف.

- التعرف على درجة تأثير الحملة الإسرائيلية ضد وسائل الإعلام الفلسطينية.

- تسليط الضوء على صورة إسرائيل في التقارير الحقوقية الدولية الخاصة بالحريات الإعلامية.

فرضية الدراسة

تنطلق الدراسة من فرضية مفادها أن الاستهداف الإسرائيلي لوسائل الاعلام الفلسطينية والأجنبية ليس سلوكًا ميدانيًّا فقط تقوم به قوات الاحتلال تجاه الصحفيين والعاملين في الميدان الإعلامي، بل يمثِّل توجهًا سياسيًّا أمنيًّا مدروسًا تقوم به المؤسسات السياسية والأمنية والدعائية الإسرائيلية ويُعبِّر عن سياسة الدولة.

منهج الدراسة

اعتمدت الدراسة منهجًا مركبًا يمزج بين المنهج المسحي الذي يرصد الانتهاكات الإسرائيلية لحرية الصحافة ووسائل الإعلام في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتحديد تأثيراتها السلبية في النشاط المهني لتلك المؤسسات، واستخلاص النتائج المترتبة عليها، ويعتمد هذا المسح على تقارير المنظمات الدولية والمحلية ذات الصلة، والتقارير الصحفية التي تمثل النسبة الغالبة من المصادر. كما تستخدم الدراسة المنهج التحليلي الخاص باستنتاج السياسات الإسرائيلية، ويأخذ بعين الاعتبار السياق الذي تتم فيه تلك الانتهاكات الإسرائيلية، وانعكاساتها على الممارسة الصحفية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

2. المنظور الإسرائيلي للإعلام ومحددات سياساته في التعامل مع المؤسسات الإعلامية

منذ بدايات النكبة الفلسطينية، اعتبر الاحتلال الإسرائيلي أن أي محاولة للكشف عن انتهاكاته تمثِّل ضربًا لمنظومته العسكرية والأمنية والسياسية، وتعرية لجرائمه ضد الشعب الفلسطيني، ولم يكن هناك من يقوم بهذه المهمة سوى وسائل الإعلام التي لم تكن في السنوات والعقود الأولى من نشوب الصراع على هذا المستوى المتقدم كما هو اليوم.

في المقابل، كثَّف الإعلاميون الفلسطينيون نشاطهم المهني بشكل كبير، وساعدوا الإعلام الأجنبي في تغطية أحداث المقاومة والهبات الشعبية، من خلال تعريفه بالمناطق وتمكينه من مقابلة رجالات وشخصيات فلسطينية... وفي الوقت الذي عكست فيه وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية والدولية اقتدارًا عاليًا ومهمًّا في كشف جرائم الاحتلال الإسرائيلي، وفضح أساليبه المختلفة في قمع الحريات الإعلامية وعنصريته تجاهها، اعتمد الاحتلال سياسة تهميش الهبات الشعبية التي شهدتها الأراضي الفلسطينية بالتوازي مع الاهتمام الإعلامي المحلي والعالمي بها، من خلال ارتفاع عدد الإعلاميين الذين يغطونها ميدانيًّا من المراسلين والمصورين(1).

أما جنود الاحتلال، فقد دأبوا على صب جام غضبهم على وسائل الإعلام التي تغطي أحداث الانتفاضات والهبات الشعبية على شاشات التليفزيون والصحف والمواقع الإخبارية بزعم أن كاميرات التصوير تثير المتظاهرين، وأن مجرد ظهور المصورين يدفع الفلسطينيين إلى الشوارع.

لقد أدركت إسرائيل خطورة اهتمام وسائل الإعلام بالانتفاضات والمقاومة الفلسطينية، مما جعلها تضيق على عمل المراسلين وتحاصرهم، وتجلَّى ذلك بحصر علاقتهم في الحصول على المعلومات من قِبَل سلطاتها، بما في ذلك منح تراخيص العمل الصحفي، وإجراء المقابلات، وتغطية الأحداث.  

ومع تزايد هذا الإدراك لدى الساسة الإسرائيليين، فقد توافرت لديهم قناعة مفادها أنه "إذا واجهت الكاميرا الدبابة، فإن المنتصر بكل تأكيد هو الكاميرا، صحيح أن عدستها قد ترمش، لكنها لا تكذب". لذلك جرى التضييق على أجهزة الإعلام والصحافيين منذ اللحظة الأولى لاندلاع أي مواجهة عسكرية مع الفلسطينيين، وهو ما بلغ ذروته في اغتيال الصحفية، شيرين أبو عاقلة، إبان اقتحام قوات الاحتلال لمخيم جنين، في 11 مايو/أيار 2022. ومع مرور الوقت، بدأت السلطات الإسرائيلية تبرر عداءها لوسائل الإعلام، وتصوغ له أسبابه الأيديولوجية.

يدعي الاحتلال أن وسائل الإعلام تسعى لتشويه صورته، ونقل حقائق مغلوطة عن المواجهات الدائرة مع الفلسطينيين، رغم أن ممارساته القمعية لها أكبر الأثر في نقل هذه الصورة "البشعة"، ولعل ذلك ما شغل مداولات العديد من جلسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، لاسيما ما شهدته الأعوام الأولى لانتفاضة الأقصى من سجال بين أقطاب الحكومة الإسرائيلية التي انتقدت أداء الإعلام بزعم مسؤوليته عن الموقف المعادي لإسرائيل في أوروبا، رغم وجود أصوات إسرائيلية أخرى أكدت أنها لا تستطيع القيام بالدعاية للدولة فيما تبث صور هدم المنازل والقتلى من الأطفال، لأن كل الكلمات لا تغطي صورة واحدة تظهر الجنود يهدمون بيتًا، ويقتلون طفلًا(2).

هذا يعني أن الاستهداف الإسرائيلي الموجه للإعلاميين الفلسطينيين هو نتيجة عمل مقصود وممنهج، على مدار عقود، وعن سابق إصرار وتعمد، لأن وقف تدفق المعلومات عما ترتكبه قوات الاحتلال من انتهاكات وجرائم يُصنَّف أولوية استراتيجية لجيش الاحتلال ضمن صناعة "قبة إعلامية" مساندة للقبة الحديدية العسكرية التي تتصدى لصواريخ المقاومة الفلسطينية.

إن تاريخ المواجهة بين الفلسطينيين وسلطات الاحتلال ظهر ملطخًا بدماء الصحفيين والإعلاميين الذين كانوا دائمًا هدفًا رئيسيًّا لجنودها خلال المواجهات المختلفة بهدف طمس الحقيقة، وإخفاء الجرائم بحق المدنيين والأطفال، وتمكين الجنود والضباط والمسؤولين من الإفلات من العقاب، ومن ثم فإن ملاحقة الإعلاميين تتزامن مع إطلاق أيدي الضباط الإسرائيليين ضد الفلسطينيين.

في الوقت ذاته، يمكن الإشارة إلى أن الورقة أخذت بعين الاعتبار الأطر والسياسات الإسرائيلية في التعامل مع المؤسسات الإعلامية الفلسطينية والأجنبية، خاصة الأطر القانونية والسياسية، لاسيما استعداء هذه المؤسسات، كما سيرد لاحقًا من تصريحات وسياسات، وهي التي مهدت الطريق لاستهداف وسائل الإعلام من خلال بعض الإجراءات العملية على الأرض.   

3. الممارسات الإسرائيلية ضد وسائل الإعلام الفلسطينية والدولية

واجهت وسائل الإعلام الفلسطينية والدولية والصحفيون العاملون فيها سلسلة من الانتهاكات التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي، شملت الكثير من العراقيل والقيود المشددة، مثل القتل، والإبعاد، والإغلاق، ومنع التوزيع، وتفعيل مقص الرقيب العسكري، والاعتقال، وفرض الإقامة الجبرية(3).

لم تكتف سلطات الاحتلال باستعداء وسائل الإعلام والحيلولة دون أدائها لمهامها، بل انتهجت جملة من السياسات الميدانية ضدها، وتصاعدت هذه السياسة في أوقات الحملات العسكرية على الفلسطينيين، حتى إن الأدوات التعريفية للصحفي من خلال الدرع المطبوع عليها كلمة "صحافة"، أو الخوذة التي يضعها فوق رأسه، لم تحمه من الاستهداف الإسرائيلي، الذي أخذ الأشكال التالية:

أولًا: تعمُّد إيقاع الأذى في صفوف العاملين في وسائل الإعلام من الفلسطينيين والأجانب، ومنعهم من نقل الحقيقة في الوقت المناسب، وتنوعت انتهاكاتها بين استهدافهم بالقتل، أو إصابتهم بجروح، أو كسور، أو حروق(4).

ويعتبر السجل الإسرائيلي في استهداف الصحفيين داميًا عبر عمليات القتل الممنهج التي تستهدفهم، وقد مرت كل هذه الجرائم، حتى الآن، دون محاسبة لجُناتها، رغم أن قوات الاحتلال قتلت أكثر من 46 صحفيًّا منذ عام 2000، لأنها أنشأت علاقة عدائية كاملة مع الصحفيين والمصورين الذين يحملون الكاميرا، بوصفها السلاح الذي تخشاه أكثر من البندقية، ومن خلال هذا القتل المتعمد والمباشر تعتقد أنها ستوقف نقل الرسالة الإعلامية، وتبث الرعب في قلوب الصحفيين، فيتوقفون عن أداء مهامهم(5).

وبجانب الاستهداف المباشر للصحفيين والعاملين بوسائل الإعلام، شمل العدوان الإسرائيلي قصف مقار التليفزيونات والإذاعات والصحف، ومصادرة أجهزة البث والحواسيب والأرشيف والسجلات والسيرفرات. وغالبًا في كل حرب يشنها الاحتلال على الفلسطينيين تُحوِّل غاراته الجوية العديد من مقار الوسائل الإعلامية إلى "أكوام من الركام" لحرمان هذه الوسائل من نقل صورة ما يدور على الأرض بغرض إخفاء الحقيقة.

جدول رقم (1) يبين أساليب الممارسات الإسرائيلية ضد وسائل الإعلام الفلسطينية والدولية

الممارسات الإسرائيلية ضد وسائل الإعلام الفلسطينية والدولية
1- تعمد إيقاع الأذى في صفوف العاملين في وسائل الإعلام من الفلسطينيين والأجانب. 6- منع وسائل الإعلام من نقل صورة ما يدور على الأرض بغرض إخفاء الحقيقة.
2- منع الصحفيين من نقل الحقيقة، ووضع الصعوبات أمام حصولهم على المعلومات. 7- إطلاق النار على الصحفيين والقنابل المسيلة للدموع، والضرب بالعصي والسحل.
3- تنوعت الانتهاكات ضد الصحفيين بين استهدافهم بالقتل، أو إصابتهم بجروح، أو كسور. 8- حرمان الصحفيين من الحصول على تصاريح دخول مناطق الأحداث.
4- مهاجمة وقصف مقار وسائل الإعلام مثل: التليفزيونات والإذاعات والصحف. 9- منع معظم الصحفيين من السفر واعتقالهم، وملاحقتهم وفرض الإقامة الجبرية عليهم.
5- مصادرة أجهزة البث والحواسيب والأرشيف والسجلات والسيرفرات. 10- إغلاق المجلات والصحف والمواقع الإخبارية، ومصادرة أدوات العاملين في الإعلام.

صحيح أن طواقم قناة الجزيرة كانت في مركز هذا الاستهداف الإسرائيلي، لكن طواقم قنوات تليفزيونية أخرى لم تسلم من اعتداءات القوات الإسرائيلية الممنهجة وشمل ذلك إطلاق النار عليهم والقنابل المسيلة للدموع والصوتية، والضرب بالعصي والسحل، مما خلَّف إصابات بليغة نتج عن أغلبها عاهات دائمة، مثل فقدان الأطراف والبصر والتشوهات في الوجه(6).

ثانيًا: وضع العراقيل في طريق وصول الصحفيين للمعلومات عبر الحصار والإغلاق الشامل المفروض على وسائل الإعلام، مما ترك أثرًا سلبيًّا على طبيعة عملها، بجانب إغلاق بعض المناطق الفلسطينية أمامها وعزلها، بزعم تقليل الضرر اللاحق بإسرائيل، وحرمان الصحفيين من الحصول على تصاريح دخولها، وفي بعض الأحيان منع معظم الصحفيين الفلسطينيين من السفر، واعتقالهم وملاحقتهم والتحقيق معهم، وفرض الإقامة الجبرية عليهم، خاصة المقيمين في الضفة الغربية والقدس المحتلتين.

وسبق لسلطات الاحتلال اتباع سياسة إغلاق المجلات والصحف والمواقع الإخبارية الواقعة تحت سطوتها، في القدس المحتلة وداخل الأراضي المحتلة عام 1948، وفي فترات لاحقة مصادرة أدوات العاملين في وسائل الإعلام: كاميرات ومسجلات وهواتف محمولة، ووضع اليد على الأفلام والأشرطة التي يحملونها وتخريبها في بعض الأحيان(7).

ثالثًا: رغم أهمية الخبر الفلسطيني لدى الإسرائيليين واعتباره أساسيًّا، لكنه لا يحظى سوى بدقائق معدودة في نشرات الأخبار التليفزيونية، وهو ما يشير إلى وجود سياسة منهجية لتعريف الجمهور الإسرائيلي بكم محدود من الأنباء الفلسطينية، وعدم السماح له بمعرفة أكثر مما يريده الاحتلال.

واستمرارًا لهذه السياسة من التعتيم، فقد فرض الاحتلال رقابة على وسائل الاعلام، لاسيما المكتوبة منها، والخاضعة جغرافيًّا لسيطرته؛ حيث تخضع موادها المنشورة لهذه الرقابة، وتشمل الأخبار والتقارير والصور ورسوم الكاريكاتير والإعلانات، حتى الكلمات المتقاطعة وأبراج الحظ(8).

ويهدف الاحتلال من هذا التعتيم الإعلامي على الأحداث السياسية والميدانية وعدوانه على الفلسطينيين، رغم ما تحوزه وسائل الإعلام من إمكانيات تقنية متطورة، إلى تغييب الصورة عن نشرات الأخبار التليفزيونية، وإخفاء الجرائم التي يرتكبها، عبر منع دخول الصحفيين الأجانب إلى قطاع غزة، وفرض طوق محكم عليه، رغبة في الاستفراد بالفلسطينيين بعيدًا عن "عيون الكاميرات" التي ترصد جرائم الاحتلال، وسعيًا لـ"اغتيال الحقيقة"، والحد من قدرة وسائل الإعلام على نقلها(9).

رابعًا: ملاحقة الاحتلال لوسائل الإعلام الفلسطينية عبر العالم الافتراضي من خلال حذف صفحاتها الإخبارية على منصات التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك وتويتر ويوتيوب وإنستغرام وتيك توك(10). وقد اعترفت وزيرة القضاء الإسرائيلية السابقة، أياليت شاكيد، بأن "فيسبوك استجاب لغالبية طلباتها بحذف صفحات ومواقع فلسطينية، ومنها: صفا، شهاب، شبكة قدس، فلسطين اليوم، وغيرها(11)، فيما رحب مدير قسم مكافحة معاداة السامية بوزارة الخارجية الإسرائيلية، غدعون باخر، بقرار فيسبوك بإزالة بعض الصفحات الإخبارية الفلسطينية. ورفعت منظمة "هناك قانون- يش دين" الإسرائيلية، دعوى قضائية ضد فيسبوك، ولجأت لمحكمة أميركية، وجمعت 20 ألف يهودي لمطالبة المحكمة بوقف الترويج لمنشورات تحريضية على العنف وقتل اليهود.

وقد التقت نائبة وزير الخارجية السابقة، تسيبي حوتوبيلي، بمسؤولي شركتي غوغل ويوتيوب لإنشاء آلية عمل مشتركة لمراقبة ومنع نشر المواد الفلسطينية بزعم أنها "تحريضية"، ونتيجة لذلك تم إغلاق العديد من القنوات الفلسطينية(12).

خامسًا: في أوائل انتفاضة الأقصى، اتخذت شركة الكابل الإسرائيلية قرارًا بإيقاف بث قناة "سي إن إن" بزعم تغطيتها أحادية الجانب، واستبدال قناة "فوكس" الإخبارية المنحازة للاحتلال بها(13)، والذي قاد (الاحتلال) حملة عبر الجالية اليهودية في الولايات المتحدة ضد عدد من الصحف التي يعتبرها منحازة للفلسطينيين، مثل: "نيويورك تايمز"، و"لوس أنجلوس تايمز"، و"شيكاغو تريبيون"، وإلغاء آلاف الاشتراكات، فضلًا عن موجات عديدة من التهديد وخطابات الاحتجاج، مرورًا بتنظيم احتجاجات على أبواب الصحف، وانتقادها لعدم استخدامها كلمة "إرهاب" في وصف الفلسطينيين المسلحين.

لقد دأبت سلطات الاحتلال الإسرائيلي في تركيز استهدافها لوسائل الإعلام على قناة الجزيرة، من خلال التحريض الدائم عليها، كما جاء في طلب وزير الخارجية السابق، أفيغدور ليبرمان، بإخراجها من الساحة الإعلامية، وإعلان وزير الاتصالات الأسبق، رؤوفين ريفلين، أن وزارته تدرس إمكانية إيقاف بثها الكامل عبر الكابل وخدمات الأقمار الصناعية بسبب عدائها لإسرائيل، واستضافتها شخصيات تدعو فلسطينيي 48 للتمرد.

شكل 1 يوضح وسائل الاستهداف الإسرائيلي لقناة الجزيرة

.

كما امتد الضغط الإسرائيلي على قناة الجزيرة إلى اليهود الأميركيين، فهدد مركز "ويزنشتال" في لوس أنجلوس بتنظيم حملة لمقاطعتها بسبب لهجتها المعادية للسامية(14)، ومشاركتها في التحريض على إسرائيل، ضمن محاولات لطمس الحقائق وتشويهها، ومنح فضاء ومساحة تحرك للدعاية الإسرائيلية لخلق رواية تفسر الاعتداءات والانتهاكات(15).

4. أنواع الانتهاكات والمخاطر التي تواجه الصحفيين والمؤسسات الإعلامية

يواجه الصحفيون والمؤسسات الإعلامية العاملة في الأراضي الفلسطينية جملة من المخاطر والتهديدات المتعددة، وتشير المنظمات الحقوقية التي تتابع الحريات الإعلامية إلى أن النصف الأول من العام 2022، أظهر أن الضفة الغربية وقطاع غزة، بما فيها القدس المحتلة، شهدت وقوع 247 انتهاكًا ارتكب الاحتلال الإسرائيلي العدد الأكبر منها، بما عدده 195 اعتداء، بنسبة 79% من مجمل الانتهاكات خلال الشهور الستة الأولى من العام. أما شبكات التواصل الاجتماعي فقد ارتكبت 34 انتهاكًا بنسبة 13% من مجمل الانتهاكات الموثقة، من خلال إغلاق حسابات الصحفيين الفلسطينيين، ومحاربتها للمحتوى الفلسطيني(16).

ومن أهم الانتهاكات التي تواجه الصحفيين الفلسطينيين هناك العنف الإسرائيلي ضدهم في ساحات المواجهات، مما ترك آثاره وأعراضه الصحية والنفسية السيئة عليهم، وجعلهم يعملون في بيئة غير آمنة من الناحية الميدانية، مما يؤكد أن سياسة الاحتلال وإجراءاته وقوانينه تعرقل عملهم، فما زال يقتلهم ويعتقلهم ويصيبهم ويمنعهم من السفر والتنقل بحجج واهية.

لقد دفع الصحفيون الفلسطينيون والعاملون في وسائل الاعلام أثمانًا باهظة، خاصة خلال اعتداءات الاحتلال في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، والتي تسببت في تقويض عملهم بشدة، وانطوت تغطية المظاهرات على مخاطر كبيرة بالنسبة لهم، سواء بتعرضهم للاعتقال والعنف، أو تدمير معداتهم، والحرمان من بطاقة الاعتماد، فضلًا عما يسفر عنه استخدام الجيش الإسرائيلي للذخيرة الحية في عمليات تفريق المتظاهرين من إصابات خطيرة في صفوف المراسلين.

لم يتورع الاحتلال عن استهداف الصحفيين الفلسطينيين بشكل شخصي، وبطرق متنوعة، بهدف منعهم من ممارسة عملهم وفضح جرائمه التي تنتهك مواثيق القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، مع العلم بأن هناك خشية مستمرة لدى الصحفيين المقدسيين من فقدان هويتهم المقدسية على خلفية عملهم، خاصة أنهم غير مثبتي الهوية في السجلات الرسمية، فبطاقاتهم الثبوتية مؤقتة؛ مما يجعلهم عرضة لاستهداف الاحتلال لهم، وحرمانهم من الهوية المقدسية(17).

وهناك أيضًا تحديات ذاتية داخلية تواجه الصحفيين الفلسطينيين على صعيد المشاكل المهنية، والإرهاق الكبير بسبب العمل المستمر ليلًا ونهارًا، في ظل الانتهاكات الاسرائيلية المتواصلة على مدار الساعة، وتوزعها جغرافيًّا على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولذلك تعترضهم العديد من الصعوبات المتعلقة بالتنقل بين المدن الفلسطينية، وداخل المدينة الواحدة، بسبب طبيعة الأرض والمواصلات، والتحرك بين الأماكن، فضلًا عن الحواجز الإسرائيلية التي تعيق تنقل الصحفيين.

كما يواجه الصحفيون الفلسطينيون مشكلة تتعلق بعدم حفظ حقوقهم لدى العديد من المؤسسات الإعلامية المحلية والدولية التي لا تقدِّم لهم كامل حقوقهم؛ مما يستدعي تفعيل دور النقابات الصحفية لتحصيل حقوقهم، وتشكيل لجان متابعة ومساءلة فاعلة مستقلة، لأن عددًا من شبكات التلفزة ووكالات الأنباء الأجنبية ترفض توقيع عقود عمل معهم، مع وجود حالة من التمييز ضدهم لصالح نظرائهم الأجانب(18).

5. دوافع وأسباب الانتهاكات الإسرائيلية ضد الصحفيين

أسهم الاحتلال الإسرائيلي في تقويض حرية التعبير والصحافة في الأراضي الفلسطينية التي شهدت استمرارًا في تراجعها، رغم أن القانون الدولي الإنساني ألزم سلطات الاحتلال بعدم استهداف الصحفيين، وأكد تمتعهم بالحماية الكاملة كمدنيين. لكن الاحتلال مارس سياسة ممنهجة في استهداف الصحافة والمؤسسات الإعلامية تصل حد تصفيتهم الجسدية، مرورًا بتعمد إصابتهم بالرصاص، والاعتداء عليهم بالضرب، ومصادرة معداتهم وتهديدهم، وقصف مؤسساتهم وإغلاقها، ومنعهم من التنقل والسفر.

لم يسمح الاحتلال للصحافة ووسائل الإعلام بالقيام بدور المقاومة التي تحرض على التصدي له، فاستخدمت أساليب متعددة في سعيها لتجاوز الرقيب العسكري، ومن أبرزها تسريب المعلومات للصحافة الإسرائيلية التي تقوم بنشرها، ثم قيام الصحافة الفلسطينية بنقلها عن الصحف الإسرائيلية، وهو ما تسمح به الرقابة، وأحيانًا ترك فراغات في الصحف وفي المواقع التي تمَّ حذف المواد منها، وكتابة كلمة "نعتذر"، مما يُوجد نوعًا من الإثارة والفضول لدى القراء، ويوصل الرسالة بطريقة غير مباشرة إليهم(19).

لم يتوان الاحتلال عن اتهام المصورين الصحفيين بأنهم يسهمون في التحريض على العنف والتوتر، وجرت العادة أن يحتجزهم بتهمة نشر مواد على الإنترنت اعتُبرت "تحريضًا"، وخلال استجوابات المحققين الإسرائيليين لهؤلاء الصحفيين أظهروا لهم مقاطع فيديو إخبارية التقطوها توثِّق مواجهات بين الفلسطينيين وقوات الاحتلال، أو مواكب سياسية، أو جنازات، وأبلغوهم بأن الصور تشكِّل "تحريضًا"، وكأن "المشكلة هي الكاميرا نفسها، وليست الحقيقة التي توثقها"، وطلبوا منهم التوقف عن توثيق الأحداث، وفي بعض الحالات وُجهت إليهم لاحقًا لوائح اتهام لا علاقة لها بعملهم المهني، وفي حالات أخرى لم يتم تقديم لائحة اتهام ليسجن الصحفي دون محاكمة، ثم يطلق سراحه في النهاية.

عادة ما تحصل الاعتقالات أثناء وجود الصحفيين في ساحة العمل، وغالبًا ما يُتهم الصحفي بسبب حضوره لحدث سياسي مصورًا أو مراسلًا، لكن الاحتلال لا يميز بين صحفي يعمل في الميدان، ومشارك نشط. وهذه المعاملة تجعل الصحفيين يعيشون في حالة دائمة من الخوف، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى الرقابة الذاتية، لأن المحققين حصلوا على الكلمات السرية لحساباتهم على شبكات التواصل وعبثوا فيها، وأوقفوها في بعض الأحيان.

وجرت العادة أن ينتهي العديد من محن الصحفيين الفلسطينيين مع النيابة العسكرية الإسرائيلية بصفقات إقرار بالذنب؛ حيث يختار الصحفيون الإقرار به من أجل الإفراج عنهم، لكن الاحتلال لا يلتزم بالمدة التي حكم بها عليهم في السجن؛ فقبل أيام من تاريخ الإفراج عنهم يصدر أوامر اعتقال إداري ضدهم من شأنها أن تُبقيهم في السجن مددًا طويلة؛ حيث يبقون في الحجز دون محاكمة ثانية، أو حتى توجيه تهم جديدة لأشهر أخرى، وتبقى الخشية أن المزيد من الادعاءات والتهم الملفقة قد تبقيهم في السجن(20).

وقد تسلمت محكمة الجنايات الدولية، في أبريل/نيسان 2022، قبل أيام قليلة من اغتيال الصحفية، شيرين أبو عاقلة، شكوى تهدف لمحاكمة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بتهم ارتكاب جرائم حرب ضد الصحفيين بسبب استهدافها لهم، وتقاعسها عن التحقيق في عمليات القتل التي يتعرضون لها.

قدم الشكوى عدد من المنظمات الدولية أهمها الاتحاد الدولي للصحفيين، ونقابة الصحفيين الفلسطينيين، والمركز الدولي للعدالة من أجل الفلسطينيين، بالتنسيق مع محامين من مؤسستي "بيندمان" و"دافتي ستريت" القانونيتين، وتقدمت بالنيابة عن أربع ضحايا من الصحفيين، وهم: أحمد أبو حسين، وياسر مرتجي، ومعاذ عمارنة، ونضال اشتية، الذين استشهدوا أو أصيبوا من قبل قناصة إسرائيليين في أثناء مظاهرات فلسطينية، وجميعهم ارتدوا سترات مكتوب عليها "صحافة" حينما تعرضوا لإطلاق النار(21).

وتشير المعطيات الميدانية أن قوات الاحتلال تعمدت استهداف وسائل الإعلام والصحفيين، رغم القوانين والمواثيق الدولية التي تكفل حماية الحق في حرية الرأي والتعبير، وانتهجت التمييز ضدهم، ومارست الانتهاكات بحقهم، بما في ذلك فرض القيود على حركتهم، وقصف برجي الشروق والجوهرة في غزة، في مايو/أيار 2021.

ووسَّع الاحتلال في عرض الصحفيين للمحاكمة، وما تخللها من إجراءات التوقيف والتمديد، وفرض الأحكام الجائرة، بعد إخضاعهم للتعذيب والاحتجاز والاستجواب، وتم رصد ارتفاع وتيرة اقتحامه لمقار الإذاعات والتليفزيونات والصحف والمطابع، وإغلاق بعضها، بتهم التحريض الإعلامي، وفضح ممارساته، كما استخدم المنع من السفر أسلوبًا عقابيًّا ضد الصحفيين، بجانب تقييد حريتهم في التنقل، ووضع قيود مشددة على دخولهم القدس والأراضي المحتلة، عام 1948.

6. تأثيرات السياسة الإسرائيلية في نشاط المؤسسات الإعلامية والشبكات الدولية

سعت السياسة الإسرائيلية للتأثير في الأداء الإعلامي لوسائل الاعلام الفلسطينية والدولية من خلال محاولة التدخل في سياساتها التحريرية، بالتزامن مع تراجع الرواية والسردية الإسرائيلية حول العالم مقابل تصاعد قبول الرواية الفلسطينية ضد الاحتلال.

وقد دأبت الآلة الدعائية الإسرائيلية خلال السنوات الماضية على توظيف كبرى وسائل الإعلام العالمية لتجييرها لصالح خدمة روايتها: المسموعة والمقروءة والمرئية والإلكترونية، ويمكن الحديث هنا عن الإعلام الأميركي بشكل خاص الذي شكَّل لعقود مضت منبرًا لتصدير رواية الاحتلال إلى الرأي العام الأميركي والعالمي.

أكثر من ذلك، فقد قامت صحفية إسرائيلية بمراقبة تغطية الأحداث الإسرائيلية في صحيفة "نيويورك تايمز" لمدة عام كامل، وخرجت بنتائج "بعيدة" لا ترضي الإسرائيليين، فالصحيفة لا تتحدث عن "إرهاب" فلسطيني، وحماس تُعرف بـ"جماعة عسكرية إسلامية"، وليست إرهابية.

لفتت هذه المعطيات انتباه عدد غير قليل من الإسرائيليين، وباتت "نيويورك تايمز" النسخة الأميركية من صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، التي يقرأها اليساريون، وتتعاطف مع الفلسطينيين، رغم أننا أمام الصحيفة الأكثر شهرة عالميًّا، وتؤثر في وسائل الإعلام الأخرى بالولايات المتحدة وحول العالم، لكن هناك مشكلة لدى الإسرائيليين بأن يعتادوا على هذا الموقف من الصحيفة التي تبدو مؤيدة للفلسطينيين(22).

وأطلقت وزارة الخارجية الإسرائيلية حملة لتغيير طريقة تغطية وسائل الإعلام في العالم للأحداث الدائرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ودعتها لاستخدام مصطلحاتها، بحيث تصف مطلق النار الفلسطيني بأنه "إرهابي"، وعملية إطلاق النار بأنها "هجوم إرهابي".

وحاولت الجهات السياسية والدبلوماسية الإسرائيلية إقناع شبكات التليفزيون والصحف الرائدة في العالم بمنع "التغطية المنحازة للفلسطينيين"، وأبلغ مسؤولون إسرائيليون محرري كبرى الصحف الأجنبية بأنهم "يشوهون الواقع" إثر صدمتهم من بروز الرواية الفلسطينية في الإعلام العالمي، زاعمين أن الدوائر الدبلوماسية الإسرائيلية وجدت نفسها أمام أداء وتغطية لافتة لوسائل الإعلام العالمية المختلفة لتغيير التقارير المتحيزة بتصويرها للفلسطيني الذي قتل الإسرائيليين على أنه "مسلح" وليس "إرهابيًّا". وبعد الضغط الإسرائيلي غيرت بعض وسائل الإعلام تقاريرها، لكنها استمرت جميعًا في التهرب من وصف العمليات بـ"الإرهابية".

أما المتحدثة باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية، ليئور حايت، فزعمت أن "عدم تسمية المسلحين الفلسطينيين الذين يقتلون إسرائيليين بـ"الإرهابيين" يشرعن هجماتهم"، وخاطبت رئيس تحرير صحيفة "نيويورك تايمز"، دين بيكيت، أن تغطيتها تحمل "تحريفًا وخداعًا للقراء"، وتشويهًا للواقع، وتضليلًا للقراء، ودعت لما وصفتها بـ"جسر الفجوة" بين الرواية الإسرائيلية والتغطية الإعلامية العالمية. كما تم العمل مع وسائل إعلامية عالمية أخرى من خلال الرسائل، والزيارات السياسية والإعلامية لكبار مسؤولي الخارجية، وقسم الدعاية فيها(23).

وتزعم أوساط الاحتلال أن إسرائيل تواجه حملات إعلامية ودعائية مكثفة من الداخل والخارج، لأنها لا تنجح في تسويق نفسها كما ينبغي، وشرح عملياته، وإحباط المبادرات المعادية لها، خاصة في عصر ثورة المعلومات وشبكات التواصل. ويزداد هذا الإخفاق في أوقات الحملات العسكرية على الفلسطينيين، حيث يحصل مزيج بين "الفوضى القتالية والفشل الإعلامي"؛ مما شكَّل صدمة للرأي العام الإسرائيلي(24).

في الوقت ذاته، فبمجرد أن يشن الجيش الإسرائيلي عدوانه العسكري على الفلسطينيين، يعلن أن الساحة الإعلامية باتت "منطقة حرب"، وبالتالي ينشط المدونون والنشطاء الإسرائيليون والمتعاطفون معهم لإطلاق حملة إعلامية ودعاية نفسية في المدونات والمواقع المختلفة لتجميل صورة الاحتلال، وعدم خسارته المعركة الدعائية.

وضمن هذه الحملة الدعائية عمد جيش الاحتلال إلى "قصف" الصحافيين الأجانب عبر البريد الإلكتروني والرسائل القصيرة بمعلومات تنقل وجهة نظره، وإرسال فرق دعائية فور انتهاء الحروب لترميم صورته في العالم، وإجهاض محاكمة قادته كمجرمي حرب، واستمرار الترويج لخطر المقاومة الفلسطينية، والعمل على حظر الأسلحة عنها، وإنشاء قنوات فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي لتبرير اعتداءاته على الفلسطينيين.

في الوقت ذاته، واصلت إسرائيل تدخلاتها في السياسة التحريرية الخاصة بالعديد من وسائل الإعلام الدولية، لاسيما الغربية منها، في محاولة لا تخطئها العين، لجلبها إلى ساحتها وتبرير جرائمها، وتكرار مصطلحاتها ومفرداتها المتداولة في وسائلها الدعائية المناهضة للفلسطينيين، فتنجح تارة، وتخفق تارات أخرى، حسب قدرتها في التأثير على الإدارة التحريرية، مع العلم أن هذه التدخلات الإسرائيلية تزداد في أوقات الحملات العسكرية على الفلسطينيين من جهة، ومن جهة أخرى مع احتدام الهجمات الفدائية الفلسطينية.

أكثر من ذلك، فقد شغل خبر اغتيال الصحفية شيرين أبو عاقلة على يد قوات الاحتلال وسائل الإعلام كافة في العالم، ورغم ذلك فإن هذا الخبر لم تتم تغطيته بالطريقة نفسها في بعض وسائل الإعلام الأميركية والأوروبية، مما كشف عن معايير مزدوجة اعتمدتها في نقل الخبر انحيازًا منها للاحتلال تحت وقع تأثيراته وضغوطه عليها.

7. صورة إسرائيل في تقارير المنظمات الحقوقية الدولية التي تعنى بالحريات الإعلامية

يعتبــر القانــون الدولــي الإنساني أن الصحفيـيـن جــزء لا يتجــزأ مــن المدنييــن، وأن وجودهــم في مناطــق النــزاع الخطــرة لا يجــوز أن يســتخدم ذريعــة ومبــررًا لاســتهدافهم، وأعطت اتفاقيــة جنيــف الثالثــة لســنة 1949، الخاصــة بأســرى الحـرب، للمراسـلين الحربييـن حـق الاسـتفادة مـن وضعيـة وامتيـازات الأسـرى، في حـال أسـرهم.

وجرت العادة أن تصدر المنظمات الحقوقية الفلسطينية والدولية سلسلة تقارير دورية لرصد الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الصحفيين: المراسلين والمصورين والعاملين في المكاتب الصحفية، وأدانت استمرار الاحتلال في هذه الانتهاكات رغـم وجـود كل الشـارات المميـزة التـي تؤكـد طبيعيـة عملهـم، بـل إن الشهادات الحية الميدانية لهذه المنظمات أكدت في غير مرة تعمُّد جنـود وقناصـة الاحتـلال توجيـه الإصابـة للمنطقـة العليـا مـن أجساد الصحفيين؛ ما يوضح أن لدى هؤلاء أوامـر بإيقـاع خسـائر بشـرية في صفوفهم بغرض ردعهم عن تغطيـة جرائـمه ضد الفلسطينيين.

وتعتبر هذه المنظمات الحقوقية أن الانتهــاكات الإسرائيلية الجســيمة ضد الصحفيين والعاملين في وسائل الإعلام تعتبر امتــدادًا لما تقترفه ضد المدنييـن الفلسـطينيين، ودليلًا علـى الاسـتخفاف الإسـرائيلي بالقانـون الدولـي الإنساني واتفاقيــة جنيــف الرابعــة بشــأن حمايــة المدنيين في زمــن الحرب لعــام 1949.

ووثقت هذه المنظمات الحقوقية في تقاريرها الدورية جملة من الشهادات التي تكشف أن معظـم اعتـداءات الاحتلال بحـق الصحفييـن والعامليـن في وكالات الأنبـاء جرت أثناء حملهم مـا يميزهـم كأطقـم صحفيـة بغرض توفير مزيد من الحماية، ما يؤكد أن استهدافهم كان بشـكل متعمـد ومقصـود، أثنـاء قيامهـم بعملهـم. ولم يعد سرًّا أن الاعتـداءات المنظمة للاحتلال الإسرائيلي ضد وسائل الإعلام تهـدف إلى منـعها مـن تغطيـة ونشـر مـا تقترفـه قـواته مـن جرائـم بحـق المدنييـن في الأراضي الفلسـطينية المحتلـة تطبيقًا لنهج عنوانه "إخـراس الصحافـة".

ويلاحظ أن سياسة الإفلات من العقاب وغياب المحاسبة، وصمت المجتمع الدولي على ما تقترفه قوات الاحتلال الإسرائيلي بحق الصحفيين والعاملين في وسائل الإعلام، على مدى السنين الماضية، دفعها لاقتراف المزيد من الانتهاكات، مما جعلها تتصاعد بشكل ملحوظ، بما يخالف المعايير الدولية التي تكفل الحماية للصحفيين والمدنيين عامة.

ورغم التقارير الحقوقية ضد انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي بحق الصحفيين ووسائل الإعلام، لكنها لم تستطع كبح جماحه ووقف انتهاكاته، مما جعل هذه التقارير مع مرور الوقت جزءًا من الأرشيف الدوري دون أن يكون لها جدوى حقيقية على الأرض، بدليل استمرار تلك الانتهاكات، وعدم توقفها، بل اتساعها في بعض الأحيان، مما أسهم في فقدان الصحفيين لثقتهم في أداء هذه المؤسسات القانونية والحقوقية الدولية.

استنتاجات

تؤكد انتهاكات الجيش الإسرائيلي واعتداءاته ضد الصحفيين ووسائل الإعلام الفلسطينية والأجنبية أن الاستهداف ليس سلوكًا ميدانيًّا فقط تقوم بها قوات الاحتلال تجاه الصحفيين والعاملين في الميداني الإعلامي، بل يمثِّل توجهًا سياسيًّا أمنيًّا مدروسًا تقوم به المؤسسات السياسية والأمنية والدعائية الإسرائيلية ويُعبِّر عن سياسة الدولة، ويبدو ذلك من خلال:

 - مساهمة السياسات الإسرائيلية ضد الصحفيين ووسائل الإعلام الفلسطينية والدولية في زيادة العراقيل والقيود أمام نشاطها المهني، سواء القيود الميدانية المتعلقة بإعاقة تحركات الصحفيين، وتنقلهم بين المدن الفلسطينية، أو السياسات التحريرية داخل غرف التحرير.

- الرقابة الإسرائيلية المتبعة تجاه وسائل الإعلام الفلسطينية تحول دون قدرتها على معالجة قضايا سياسية واقتصادية وأمنية تهم المواطن الفلسطيني، بسبب تدخلات سلطات الاحتلال، الذي يرفض تزويد وسائل الإعلام بما يحتاج إليه من وثائق ومصادر ومعلومات.

نبذة عن الكاتب

مراجع

 

(1) "إدانة العدوان الواسع الذي تتعرض له الحريات الصحفية في غزة من الاحتلال الإسرائيلي"، المركز الفلسطيني للتنمية والحريات الإعلامية، 16 مايو/أيار 2021، (تاريخ الدخول: 22 يوليو/تموز 2022)، https://bit.ly/3bWazTQ.

(2) "الإعلام الإسرائيلي: البنية، الأدوات، أساليب العمل"، وكالة الأنباء الفلسطينية- وفا، بدون تاريخ، (تاريخ الدخول: 11 أغسطس/آب 2022)، https://bit.ly/3PnzHR4.

(3) "الصحافة الفلسطينية في ظل الاحتلال الإسرائيلي بين 1967-1993"، وكالة الأنباء الفلسطينية- وفا، بدون تاريخ، (تاريخ الدخول: 30 يوليو/تموز 2022)، https://bit.ly/3QJTg7i.

(4) "انتهاكات الاحتلال بحق الصحفيين والعاملين في حقل الإعلام"، مركز الميزان لحقوق الإنسان، 3 مايو/أيار 2021، (تاريخ الدخول: 4 أغسطس/آب 2022)، https://bit.ly/3QF4jP2.

(5) علاء الحلو، "عام على عدوان غزة: الإعلام يحاول التعافي"، العربي الجديد، 10 مايو/أيار 2022، (تاريخ الدخول: 29 يوليو/تموز 2022)، https://bit.ly/3w41WgQ.

(6) محمد خيال، "اغتيال شيرين أبو عاقلة.. تاريخ إسرائيلي حافل باستهداف حراس الحقيقة"، مصر 360، 13 مايو/أيار 2022، (تاريخ الدخول: 18 يونيو/حزيران 2022)، https://bit.ly/3Qi7blV

(7) طه المتوكل، "صحافة الأدب في الأراضي المحتلة: حرب السيف والقلم"، فلسطين الثورة، عدد 712، 14 أغسطس/آب 1988.

(8) أحمد المبيض، الرقابة على الإعلام في الأرض المحتلة، شؤون فلسطينية، (العدد 186، سبتمبر/أيلول 1988)، ص 26.

(9) إخراس الصحافة، المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، (غزة، ديسمبر/كانون الأول 2004)، ص 23.

(10) "العدوان على الحقوق الرقمية الفلسطينية"، المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي، 21 مايو/أيار 2021، (تاريخ الدخول، 4 يوليو/تموز 2022)، https://bit.ly/3QqOmfJ.

(11) "إدارة "فيسبوك" تتواطأ مع "إسرائيل" ضد الإعلام الفلسطيني"، شبكة نوى الإخبارية، 29 سبتمبر/أيلول 2016، (تاريخ الدخول: 18 يونيو/حزيران 2022)، https://bit.ly/3SMOjMP.

(12) ميرفت عوف، "كيف تحاصر دولة الاحتلال الإعلام الفلسطيني لوقف الانتفاضة؟"، ساسة بوست، 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، (تاريخ الدخول: 8 أغسطس/آب 2022)، https://bit.ly/3PpQcvM.

(13) عدنان أبو عامر، "دراسة في الأداء الإعلامي الإسرائيلي لأحداث انتفاضة الأقصى"، مجلة الجامعة الإسلامية، 2012، (تاريخ الدخول: 22 يونيو/حزيران 2022)، https://bit.ly/3zYOw6S.

(14) باسل النيرب، "الإعلام الإسرائيلي: رؤية الجلاد للضحية"، مجلة البيان، العدد 209، 2005، (تاريخ الدخول: 2 يوليو/تموز 2022)، https://bit.ly/3Aky5TH.

(15) "أهداف إسرائيل من استهداف الإعلام الفلسطيني، وكالة سوا، 15 مارس/آذار 2016، (تاريخ الدخول: 2 يوليو/تموز 2022)، https://bit.ly/3C20iAd.

(16) موسى الريماوي، انتهاكات الحريات الإعلامية في فلسطين، المركز الفلسطيني للتنمية والحريات الإعلامية (مدى)، 24 يوليو/تموز 2022، (تاريخ الدخول: 30 يوليو/تموز 2022)، https://bit.ly/3C5M5ly.

(17) نتالي كسابري، "يستهدفوننا لإصرارنا على نقل الحقيقة.. انتهاكات وصعوبات تواجه الصحفيين الفلسطينيين"، موقع رصيف، 29 يونيو/حزيران 2021، (تاريخ الدخول: 30 يوليو/تموز 2022)، https://bit.ly/3C5Ap2s.

(18) أماني شنينو، "أبرز العقبات التي تواجه عمل الصحفيات في فلسطين"، شبكة الصحفيين الدوليين، 11 مايو/أيار 2022، (تاريخ الدخول: 29 يوليو/تموز 2022)، https://bit.ly/3dzBmWE.

(19) فريد أبو ضهير، "الإعلام في ظل السلطة الفلسطينية"، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، بيروت، 2015، (تاريخ الدخول: 2 يونيو/حزيران 2022)، https://bit.ly/3PnX2lH.

(20) يوفال أبراهام، "رصد انتهاكات الاحتلال ضد الصحفيين الفلسطينيين"، "ذا إنترسبت"، 5 أبريل/نيسان 2022، (تاريخ الدخول: 30 يونيو/حزيران 2022)، https://bit.ly/3zVt3vF.

(21) "محكمة الجنايات الدولية تتسلم شكوى ضد إسرائيل لارتكابها جرائم حرب ضد الصحفيين"، 27 أبريل/نيسان 2022، (تاريخ الدخول: 1 أغسطس/آب 2022)، https://bit.ly/3zXDOO7.

(22) ليلاخ سيغان، "كيف تظهر إسرائيل في "نيويورك تايمز" أحد أكبر الصحف حول العالم؟"، معاريف، 5 فبراير/شباط 2022، (تاريخ الدخول: 5 أغسطس/آب 2022)، https://bit.ly/3K0JVFV.

(23) إيتمار آيخنر، "حملة إسرائيلية ضد تقدم الرواية الفلسطينية في الإعلام العالمي"، يديعوت أحرونوت، 13 أبريل/نيسان 2022، (تاريخ الدخول: 5 أغسطس/آب 2022)، https://bit.ly/3ph7VuP.

(24) ديفيد سيمان توف وعوفر فريدمان، "محطات في الاستراتيجية الإعلامية في إسرائيل"، معهد أبحاث الأمن القومي، جامعة تل أبيب، 3 أغسطس/آب 2020، (تاريخ الدخول: 25 يوليو/تموز 2022)، https://bit.ly/3pkVLkA.