تعد بطولة كأس العالم لكرة القدم حدثًا ثقافيًا عالميًا ضخمًا. والمونديال الذي يتابعه مليارات المشاهدين الشغوفين، بل حتى أولئك الذين ليسوا في العادة من عشاق هذه اللعبة، صار أكثر من مناسبة رياضية. حيث إن كرة القدم ليست مجرد نشاط ترفيهي أو تنافسي، بل هي ظاهرة اجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية ودبلوماسية، ولذلك فهي قابلة لأن تكون موضوع دراسة علمية. وعلى الرغم من تنشيطها لحياة الملايين من الناس عبر العالم، إلا أن هذه اللعبة ظلت بطيئة في إثارة الاهتمام الأكاديمي، حيث إن ناتج الدراسات الأكاديمية حولها لا يعكس الشعبية التي تحظى بها، لا سيما في منتديات البحث العربية.
لذلك، تحاول هذه الورقة أن تنقل كرة القدم، وبنفس لغتها، من الأجنحة إلى مركز الصدارة، حيث تكمن قيمتها في محاولة إدراك التلاحم الممكن بين كرة القدم والسياسة، ومركزية اللعبة في النظام الثقافي العالمي الحالي، وقيمتها في التقاط حدث استثنائي في تاريخ بطولات كأس العالم لكرة القدم. حيث يُظهر المونديال المنقضي بقطر القدرة على سرد كيف يمكن لعالم كرة القدم، بناء على إمكاناته وقوته، أن يكون استعارة للفعل السياسي وموقعا للعمل الدبلوماسي، في الوقت الذي لم تعد السياسة تقتصر على صالونات النخب التي لا ترمقها أعين الجماهير، وبدلا من ذلك أخذ معناها يتدحرج على العشب الأخضر في ملاعب كرة القدم، ثم لم يعد يُنظر إلى القوة تقليديًا من خلال عدسة اقتصادية أو عسكرية، إذ يتم نشر القوة في كرة القدم الدولية كقوة ناعمة موصوفة.
وتعتمد الورقة منهج دراسة الحالة، من خلال نموذج مثير للاهتمام في بطولة كأس العالم الأخيرة، هو الفريق المغربي الذي استطاع أن يحقق إنجازا غير مسبوق بالنسبة له وحتى بالنسبة لمحطيه الإقليمي، حيث سيتعرض التحليل في مستويين: داخلي وخارجي، كيفية تفسير ذلك الإنجاز سياسيا ودبلوماسيا.
الفريق المغربي لكرة القدم أيقونة مونديال قطر
دخل الفريق المغربي لكرة القدم غمار كأس العالم بقطر كمنتخب عادٍ قادما من مسار عادٍ، لكنه حقق ما ليس اعتياديا. لقد صارت قصة المونديال تحتمل اللامتوقع، لم تعد تنتهي بمرور منتخبات كأن لم تمر، بل تستمر بمنتخب بطل، وهكذا تركت مقولة "المستحيل ليس مغربيا" السؤال يجول في الأذهان: كيف ذلك؟ ولمَ لا؟
أظهر الفريق المغربي نفسا طويلا بالتفوق في مواجهات حاسمة، حيث قال كلمته وأخرس قوى كروية كبرى (بلجيكا، إسبانيا، والبرتغال)، وكان كل انتصار يحققه بمثابة خروج على النص واقتراف حماقة حلم المزيد، فاستطاع أن ينفخ الروح في كلمة المستحيل، ويبدله بالممكن المغربي ويقفز إلى واجهة الحدث، حيث لم ينتظره أحد ببلوغ مربع الأربعة الكبار في العالم، مغيرا بذلك مجرى تاريخ المونديال كأول فريق إفريقي وعربي يرتقي إلى هذا المستوى، وهو ما سمح له في نهاية المطاف بالوثوب عاليا في تصنيف الفيفا باحتلاله الصف الحادي عشر عالميا. وهكذا أصبح الفريق المغربي مصدر إلهام ليس فقط للمنتخبات الإفريقية والعربية بل حتى بالنسبة للمنتخبات الأوربية التي أعجبت بأدائه أيما إعجاب.
لقد أثرى الفريق المغربي مونديال قطر، حيث ظهر أكثر احترافية وأكثر قوة، فضد العديد من التوقعات النمطية التي لم ترشحه للعب أدوار طلائعية في البطولة، شكل مساره انتصارًا في أسلوب لعبه وكفاءته وتنظيمه، كانت لحظة ينبهر فيها الفريق المغربي بما يحققه من تفوق، وكانت عيون العالم على نهضته وعودته وتمرده.
ففي وقت ظل من الشائع أن يتولى تدريب الفريق المغربي مدرب أجنبي، وقبل ثلاثة أشهر فقط من انطلاف مونديال قطر، وقع الاختيار على تكليف المدرب الوطني وليد الركراكي بمهام تدريب الفريق المغربي مقابل ذكائه الكروي أكثر من أي مؤهلات أخرى قد يحوزها. الكل كان يحشد الفريق لمحاولة التخلص من عقدة السقوط في دور المجموعات لمدة طالت 36 سنة، فاذا به يحقق المفاجأة ويرتقي إلى أبعد من ذلك بكثير. لقد استلهم المدرب ثقافة كروية للفريق الوطني تتضمن تكيفا ثقافيا من أجل منافسة عالمية.
وهكذا استطاع أن يرفع مردودية لاعبي المجموعة التي تقلد الإشراف عليها، إذ وضع الفريق كنسق اشتراكي يتقاسم فيه الجميع نتائج المباريات، جاعلا كرة القدم صناعة تكون فيها النتائج هي الأهم، حيث بالنسبة له "لا يتعلق الأمر بمن لعب بشكل أفضل، ولكن بالأحرى من الذي لعب مرة أخرى أكثر من مرة.. لذلك فإن تسجيل هدف ضد فريق كبير في بطولة كأس العالم يجعل الفريق يشعر بأنه يسجل هدفا في التاريخ"(1).
فالطريقة التي اعتمدها المدرب خلطت أوراق وخواص اللعب لدى أعتى المنتخبات التي واجهها الفريق المغربي، إذ اعتمدت على العقلانية من خلال أسلوب اللعب الدفاعي الذي يعطي الأولوية لتأمين الشباك أمام الفريق الخصم، وعلى القيمة الثقافية للعب وتحديدا معنويات اللاعبين، حيث "يمكن التعبير عن الحالة الذهنية الدفاعية من خلال الإيقاع الجماعي الملاحظ"(2).
على أن المدرب لم يجعل الحالة الذهنية المطلوبة للفوز في المباريات مقصورة على الخطاب والممارسات داخل الميدان فحسب، وإنما حتى خارجه، ولذلك أرسى علاقة مباشرة بينه وبين الجمهور، بحيث كلما تحدث معه قذف من فمه الحكمة تلو الاخرى، وأوجد قاموسا خاصا يخاطبه به، ويكثف على الخصوص وصايا تمتح من الهوية الدينية والقيم المجتمعية، فما كان من المتفرجين إلا أن استجابوا وتفاعلوا وأحسنوا تشجيع فريقهم، فكانوا بحق اللاعب رقم 12 الذي يضطلع بمهمة شحذ همم اللاعبين.
صحيح أنه في الخطاب السائد، وصل الفريق المغربي إلى ما وصل إليه من مجد كروي لمهارة مدربه، ولكن ينبغي عدم إغفال الإمكانيات المهمة التي تم وضعها تحت تصرفه. فعلى خلفية أن "عالم كرة القدم الحديث، المهتم باستكشاف كل طريق في السعي لتحقيق النصر، يعتنق الآن العلم والاستراتيجية والتقنية"(3)، لأنها لم تعد لعبة ارتجال، اعتمد المدرب فريق عمل يضم خبراء متعددين في مجالات متنوعة من الطب الرياضي وتحليل الفيديو وتحليل الأداء والتغذية إلى غير ذلك.
إن اللياقة الذهنية التي ركز عليها المدرب جعلت اللاعبين يترابطون بروابط قوية كعائلة واحدة، ويسلمون أنفسهم لقناعات قائدهم، ذلك أنهم استوعبوا أن اللعب الجماعي هو أكبر إنتاج لجهودهم الفردية، وأن قيمة كل لا عب لا تبرز إلا وسط فريق منسجم ومتماسك، حيث "الذئب يعمل جيدا مع المجموعة". غير أن الانضباط التكتيكي للاعبين والالتزام بفلسفة النتائج التي سطرها المدرب لم يحل دون الامتاع كهدف مواز لها، إذ لم يمنعهم من توظيف المهارات الفردية داخل المجموعة، ففي أحايين كثيرة لعبوا كرة جميلة وأبانوا عن نمط لعب بحركات متميزة. وفي كل ذلك كشفوا عن روح قتالية عالية ليس فقط في مواجهة الخصوم، وإنما حتى في تحدي كثرة حالات الإرهاق أو الإصابات البدنية، حيث خضع لاعبون لحصص علاج تنسيهم الألم وتخدر حالتهم الصحية المتردية، فقط في سبيل تحقيق نتائج مرضية.
إن المواجهات الرياضية، بما فيها مباريات كرة القدم، لا تتعلق فقط بالفرق المتنافسة. ذلك أن "عروضنا وأحداثنا الرياضية اليوم تستمد معناها ليس من مجرد اللعب، ولكن من المتفرجين الذين يشاهدونهم ويحفظونهم. فبالنسبة إلى المتفرجين، تعتبر الأحداث الرياضية نفسها مهمة، ولكنها ليست السبب الوحيد لحضورها، تمنح الألعاب أيضًا للأشخاص سببًا للبقاء معًا والتفاعل مع بعضهم البعض. (4).
إن ما جعل مسار الفريق المغربي باق في ذاكرة المونديال الأخير، ليس أن لاعبيه تنافسوا بقوة على إثبات جدارتهم، بل لأن ملايين المشاهدين عبر العالم عاينوا، كيف أن الجماهير المغربية لم تكن الحدود الجغرافية محددا لدعم فريقها الوطني جاعلة من قميصه بطاقة تعريفها، وتابعوا مآثرها وهي تهيج جماعيا وتهتف له إلى حد الهوس من خلال مناشدة هوية مشتركة توحد المشاركين والمتفرجين على حد سواء.
لقد أثبت المشجعون المغاربة في الملاعب القطرية، الجانب المدهش في لعبة كرة القدم، حيث أخصبوا بحماستهم لعب اللاعبين، وكشفوا أن الشكل المناسب للترفيه في الملاعب هو ثقافة التشجيع الممهورة بالتزام تنظيمي داخل المدرجات فيما يتعلق بالهتافات وروح الاحتفال والتفاعل بين المشجعين.
تكوير للسياسة على الصعيد الداخلي
كرة القدم هي لعبة وثقافة وحتى ظاهرة سياسية، إذ تخلق موارد قابلة للاستخدام سياسيًا، فبالنسبة إلى Hobsbawm، فإن الإنتاج الثقافي لكرة القدم قادر على الاستيلاء على الخيال الشعبي وإثارة الميول القومية بشكل ملموس أكثر من المجالات الأخرى للبناء الثقافي والسياسي(5).
مع ما حققه الفريق المغربي لكرة القدم في مونديال قطر، تبين أن نجومه يتفوقون على سائر النخب في الأهمية العامة. فقد لعب الفريق دورا رمزيا في توحيد ما يفرقه الواقع السياسي، بل إنه في ظل أفول المشهد السياسي، أضحى الفريق الوطني الحزب الأوسع تأثيرا في المجتمع المغربي حاليا وبمسافة شاسعة عن أي جماعة أخرى، وذلك بالنظر إلى قدرته على الحشد الجماهيري.
لقد ساهم الفريق الوطتي في تحريك المشاعر العاطفية الاجتماعية، بل سمح للجماهير بالعبور إلى خارج الزمن الاجتماعي الاعتيادي، حيث أوقفوا حياتهم اليومية لمواكبة فريقهم. فقد كان الجميع ينتظرون مواعيد مبارياته بشغف، ولم يقتصر التشجيع على الحضور الجسدي داخل مدرجات الملاعب، وإنما امتد بدرجة أكبر إلى البيوت ومقار العمل، والمقاهي التي صار رزقها هو يوم مباريات المنتخب، هذه الأخيرة حظيت بمتابعة من الكبار والصغار، مع وجود مكثف من النساء المشجعات وليس فقط حضورا شكليا منهن بدون فهم كرة القدم وقواعدها.
ساهمت متابعة مباريات الفريق الوطني في خلق إحساس بالتماسك والاستقرار، فقد شكلت لحظات إجماع مجتمعي مهم تربط أكثر الخلطات الاجتماعية والثقافية تمايزا. فمن جهة أولى ساهمت في تعديل الخريطة الاجتماعية لكرة القدم، وظهور تحالف طبقي لدى الجماهير، حيث لم يعد المشجعون محدودي الدخل هم المهتمون فقط بالمباريات برغم التمايز الطبقي الذي ينعكس في تقسيم مدرجات الملاعب أو طاولات المقاهي. ففي حين أن الطبقات الاجتماعية غير متجانسة "فإن المشاعر العميقة التي تثيرها الألوان الوطنية والنشيد الوطني والترقب العصبي ليوم المباراة تؤدي عمومًا إلى جبهة موحدة ضخمة نيابة عن كيان وطني جماعي"(6).
ومن جهة ثانية، عملت كرة القدم كمعادل اجتماعي في ظل عدم التجانس الثقافي بين الفئات، ذلك أنه حتى الأوساط النخبوية التي تستخدم كليشيهات مثل "الكرة أفيون الشعوب" و"أداة السلطة في الإلهاء والسيطرة على الجماهير وجدت نفسها مندمجة في التعبيرات الشعبية عن الاعتزاز والاحتفال بانتصارات الفريق الوطني. "فالشغف والجنوح والخروج على المألوف الذي لازم هذه اللعبة هو ما يمثل روحها المتوقدة"(7).
إن كرة القدم ليست مجرد ظاهرة ثقافية أو مادة لاصقة اجتماعية تربط عناصر مجتمعية متنوعة، ولكنها ظاهرة اجتماعية بحد ذاتها، وقد تكون لها آثار على عالم ما وراء اللعبة"(8). ولهذا يبشر عصر كرة القدم الحالي باعتبارها المعبود العالمي للأنظار والألباب، بدين مدني رياضي، حيث تشكل كرة القدم الدين القومي الذي يغرس القيم العميقة للأمة في نفوس مواطنيها.
وفي هذا الإطار، ساهم الفريق المغربي في إذكاء المشاعر القومية، إذ لا تبدأ مباراة له إلا ويسبقها عزف النشيد الوطني، الذي ترافقه مشاعر الحماس الملتهبة، وهي مناسبات لتجديد الثقة في رموز البلد وتعزيز الوطنية بين المشجعين وارتفاع مستوى الفخر الوطني لديهم.
تشجيعات الجمهور المغربي لمنتخب بلاده جعلت المشاعر القومية رمزية عل نطاق أوسع بإدماج أبعاد متعددة للهوية المحلية، فقد شكل اضطلاع المتفرجين بمهمة الدعاء بالتوفيق للمنتخب الوطني؛ مزيجا بين الرياضة والوطنية والدين في لحظة لقاء صوفي جماهيري يغذي السعي لنصرة فريقهم الإسلامي. "تمثل روابط مشجعي كرة القدم نموذجا للهوية في إطار حقبة الحداثة المتأخرة. تلك الجماعات تبرز هويتها لخلق معان رمزية جديدة مع الآخر، وذلك استنادا إلى رؤية بورديو للرياضة بأنها مجال اجتماعي مستقل له ديناميكياته وتاريخيته، حيث تقوم الجماهير بإنشاء سردياتها وأنماط سلوكها"(9).
وعلى الرغم من أن جوهر كرة القدم يدفع إلى القول باعتبار صورة المنتخب المغربي في مونديال قطر أحد أشكال الفعل الاجتماعي المحايدة سياسياً، إلا أنه تم دمجها على الفور في السياسة الوطنية الاحتفالية للنظام، وقد ظهر ذلك في مشاركة ملك البلاد في حماس المواطنين وشغفهم بمنجزات الفريق الوطني بما يتماشى مع رؤيته الاستراتيجية في تكوين نخبة رياضية. فعلى خلاف كونه صانع السياسة الرياضية للبلاد، ظهر عاهل البلاد كمستهلك للفرجة الكروية أي كمشجع، حيث التقطته الكاميرات وهو يلبس قميص الفريق الوطني ويستمتع بالشارع العام إلى جانب باقي الجماهير بنجاح منتخب بلاده.
في المقابل، فالشعور المشترك بالوحدة الوطنية والهوية مع مؤازرة الفريق الوطني سمح بأن تصبح كرة القدم مجازًا لرفاهية البلاد وإمكاناتها، حيث الانغماس الانفعالي في التشجيع قد يكون تعويضا عن طموحات وطنية محبطة أو غير منجزة، كما أن المواطنين المثقلين بضغوط ضيق العيش صاروا ينظرون إلى كرة القدم كفرصة للترقي الاجتماعي، خاصة حينما يعاينون أن جل لاعبي المنتخب الوطني أتوا من أوساط اجتماعية صعبة الحال ومع ذلك استطاعوا أن يثبتوا ذواتهم ويحققوا المجد لأسرهم ووطنهم.
تحقق الرياضة ما تعجز عنه السياسة، وقد تكون وسيلة سياسية في بعض الأوقات، تعبر بها الدولة عن عمل سياسي(10)، حيث إن حصيلة مشاركة المنتخب في المونديال ستساهم في تحسين صورة الجامعة الملكية لكرة القدم (الاتحاد المحلي للعبة)، في الوقت الذي ظل الجمهور المغربي ينظر إليها كجزء من عملية إنفاق ضخمة للكثير من ميزانية الدولة على عدد قليل من الأفراد، وبأن الإنفاق على المنتخب إنفاق ضائع في ظل غياب النتائج. بل أكثر من ذلك فإن حصيلة فوزي لقجع رئيس الجامعة كسياسي وكوزير ستتأثر اطراديا بالحصيلة الإيجابية للمنتخب رغم عدم الرضى الشعبي على الحكومة ككل.
دبلوماسية العشب الأخضر والقوة الناعمة في الساحة الدولية:
تخضع معايير قوة الدول في العصر الحالي لتغييرات عميقة، حيث تنضم القوة الناعمة إلى القوة الصلبة. وفي هذا الإطار، "فالرياضة تتحول اليوم إلى مجال القوة الناعمة التي تحتل فيها صورة البلد مكانة أهم، وتتبوأ فيها الرياضة رمزية خاصة، بوصفها أداة لتلميع الصورة وإبرازها. يضاف إلى ذلك أن الرياضة، بألقها الدولي الذي تسبغه على الدول والنجوم، باتت تتجاوز الحدود الوطنية(11).
وتمثل كرة القدم أحد مصادر القوة الناعمة للدول المختلفة، فهي مكون رئيسي في الثقافة الشعبية للمجتمعات المختلفة، حيث تقدم من خلالها قيما دينية واجتماعية وثقافية. ولعلنا نلاحظ الاهتمام الكبير من قبل غالبية الزعماء السياسيين في العالم بحضور المناسبات الكروية الكبرى(12) لتشجيع منتخبات بلدانهم، ولذلك حرص الرئيس الفرنسي على حضور مبارتي فريق بلده في الدورين نصف النهائي والنهائي لكأس العالم بقطر.
أصبحت كرة القدم لعبة معولمة تساهم في تحقيق الإشعاع العالمي، وتخدم أغراض الدبلوماسية العامة تمامًا مثل الأشكال الأخرى للثقافة، فهي ملاذ للدولة على الصعيد الخارجي واستمرار لدبلوماسيتها بوسائل أخرى. "فالرياضة الأكثر شعبية في العالم صارت إحدى أدوات الدول في بناء صورتها الذهنية، وإظهار مكانتها العالمية، ودرجة النفوذ والتأثير في الساحة الدولية"(13).
وفي هذا الإطار، فالقفزة الرياضية التي حققها منتخب المغرب في مونديال قطر لا تكسب احتراما خارجيا للبلد فحسب، وإنما تعزز مكانته الدولية، حيث إن نتائجه المبهرة ستدفع الناس الذين يجهلونه عبر العالم إلى الاهتمام به.
إن الرياضة الدولية هي كفاح وطني ترمز فيه الفرق الوطنية إلى الأمم. ولا يتعلق الرمز الوطني بالفوز باللعبة أو خسارتها فحسب، بل يتعلق أيضًا بعرض هوية وطنية محددة في بيئة بطولة دولية(14). ذلك أن كرة القدم هي لعبة هوية، تسهم في إبراز صورة الدولة على الساحة الدولية، وفي هذا الإطار فكل مباراة من المباريات السبعة التي استطاع الفريق المغربي لعبها بفضل تقدم نتائجه، لا تبدأ إلا ويسبقها النشيد الوطني فيلهب ذلك مشاعر الحماس بين اللاعبين والمتفرجين، مشكلا مناسبة للالتفاف الوطني، وتعزيزا للفخر بالإنجازات والانتصارات التمكينية.
كذلك، فكرة القدم لعبة لا تعترف بمكانة الدول ولا إمكاناتها العسكرية والمادية، لعبة قادرة أن تكسر هرم العالم الاجتماعي، بين من في الأسفل ومن في الأعلى(15)، حيث الانتصار في مباراة دولية يتجاوز مجرد حسم النتيجة، "إنه مسألة فخر وطني، مسابقة لإظهار تفوق دولة على غيرها.. ولأنه يكلف أقل بكثير من الحرب العسكرية، يمكن لجميع البلدان استخدامها، بغض النظر عن حجمها أو نفوذها أو قوتها"(16). بل إن كرة القدم صارت هي نفسها مصدر قوة بالنسبة للدول، حتى إن "الدولة لم تعد محددة بالعناصر التقليدية الثلاثة وحدها (الإقليم والسكان والحكومة)، ولكن أيضًا بعنصر رابع: فريق كرة القدم الوطني"(17). وهكذا فالمغرب الذي يتأخر على مستويات عدة أمام دول واجهها فريقه في المونديال هو نفسه ينجح في تحقيق إنجاز كروي ويتفوق عليها. ذلك أنه حينما يكون الرهان هو الفوز في ظل اشتباك منتخبات الدول على الكأس العالمية "فإن هزيمة الفريق الذي يمثل دولة أخرى، هو طموح ربما يكون أقرب إلى مفهوم القوة الصلبة بدلاً من الدبلوماسية"(18).
لم يكن الفوز مع التقدم في المباريات المظهر الوحيد الذي أدى إلى نجاح دبلوماسية كرة القدم المغربية في مونديال قطر، حيث حظي الفريق الوطني بالتقدير منذ مباراته الأولى التي تعادل فيها مع كرواتيا، بل حتى مع انهزامه أمام فرنسا في الدور نصف النهائي، حافظ على نفس مستوى الإعجاب العالمي الذي راكمه من فوزه على فرق كبيرة. ذلك لأن "الأسلوب واللعب النظيف والكرامة والروح الرياضية، خاصة في حالة الهزيمة، يُعامل على أنه يتمتع بقيمة متساوية من الناحية الدبلوماسية"(19).
لقد قدمت بطولة كأس العالم التي تصل مشاهدها إلى مليارات الأشخاص عبر العالم، منصة سانحة للمغرب لا مثيل لها من قبل أي هيئة ثقافية أو سياسية دولية، حتى لو كانت الأمم المتحدة وأجهزتها. وقد ساهم فيها لاعبوا الفريق الوطني بالدعاية والترويج لبلدهم على نطاق واسع بشكل لم يقو حتى سياسيوه ودبلوماسيوه على تجسيده. ذلك أن مثل هذا "الحدث الرياضي الضخم، لا سيما في الأحداث الدولية الشمولية المنتظمة، عندما يتم تشكيله كحدث إعلامي واستهلاك عالمي، له تأثير عالمي"(20).
وإذا كان النجاح في الملعب يفسر على أنه أفضل شكل من أشكال دبلوماسية كرة القدم، فليس أعضاء الفريق وحدهم من ساهم في هذا الإنجاز بالنسبة للمغرب، وإنما حتى الجماهير التي كانت وراء أحداث صناعة الفوز أو طقوس الاحتفال. ففي حين أن دبلوماسية كرة القدم تقوم على وظيفتي التمثيل والاتصال، حيث اضطلع اللاعبون بوظيفة التمثيل فكسبوا القلوب والعقول عبر أرجاء العالم، ليس فقط بأدائهم وإنما بقيمهم الثقافية العائلية والتضامنية والدينية. لأن "الرياضة، وكرة القدم على وجه الخصوص، لا ينبغي أن تعامل فقط كشكل من أشكال الترفيه أو أوقات الفراغ ولكن كمكان للإنتاج الثقافي، حيث يتفاوض المعجبون ويعيدون التفاوض على هويات متعددة"(21).
أما الجمهور فجسد وظيفة الاتصال وروج لصورة أمة، وهكذا توحد الطرفان حول رسالة التسويق لفكرة وطن، فساهما معا في أن يكون المغرب في دائرة الضوء في كل وسائل الإعلام الدولية، ويحظى باعتزاز إقليمي عربي ملحوظ ويصبح الأمل القاري إفريقيا، بل إن الإنجاز غير المسبوق الذي حققه المغرب عزز الدعم للمنطقة العربية بموازاة نجاح قطر في تنظيم المونديال، حيث بطولة 2022 هي الأولى التي تقام في بلد عربي، وفيها يستطيع بلد عربي كذلك أن يحقق الاستثناء على مستوى الأداء.
باستحضار منظور القوة الناعمة الذي يتجاوز خرائط القوة الدولية للشمال المتقدم والجنوب المتخلف، ويتناسب مع الرياضة الأكثر شعبية في العالم، فإن الشهرة الكبيرة التي حازها الفريق المغربي في مونديال قطر والمكانة الدولية للبلد، تجعله يرتقي إلى قوة ثقافية تحقق أهداف السياسة من خلال الإعجاب بقيمها الثقافية. ففريق كرة القدم إذ يجسد الدولة، والصورة الرمزية للأمة، يساهم بشكل كبير في شعبية البلد، بنفس الكيفية التي تعمل بها العوامل الثقافية الأخرى.
لقد أثبتت كرة القدم أنها وسيلة فعالة من بين وسائل أخرى لتحقيق غايات الدولة السياسية، ذلك أنه إذا كانت السياسة تتعلق بالرسالة والدبلوماسية تتعلق بطريقة الرسالة، فإن "دبلوماسية كرة القدم تأخذ شكل هجوم ساحر، وهي حملة محسوبة مصممة لكسب الإعجاب والتأييد والدعم. يُنظر إلى كرة القدم على أنها تصدير ثقافي آخر يعطي رؤية عامة للأمة كنموذج سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي، وطريقة حياة يجب احترامها والإعجاب بها والوثوق بها وربما تقليدها"(22)، ذلك أن تزايد اهتمام الرأي العام بنشاط رياضي عالمي، هو ما يجعل مساهمته أفضل كمصدر ثقافي ملهم.
إن الحديث عن "الجغرافيا السياسية لكرة القدم"، يدفع للقول بدون مبالغة أنها غزت العالم، حيث صارت الظاهرة الأكثر عالمية اليوم، حتى إنها أكثر عالمية بكثير من القيم السياسية كالديمقراطية وحقوق الإنسان، إذ إنها متفردة في استقطاباتها وذلك بوصولها إلى الأوساط الأخرى من غير النخب. ولذلك فالمعجبون بالفريق المغربي في مونديال قطر لا يكترثون للأوضاع الداخلية للبلد مثلا، وإنما ما يهمهم الإنجاز الكروي المحقق الذي جعل بلدا يتعثر في تحديات مختلفة، تتطلع دول أخرى إلى الاقتداء بمثاله، وهذا هو بالضبط سحر "دبلوماسية العشب الأخضر" التي تفوق قوتها حركية الحكومات ودبلوماسيتها العامة، ولعل في التاريخ شواهد قصوى، حيث في "أحلك ساعات دكتاتورية البرازيل، كان هذا البلد قادرًا على الحفاظ على صورة محببة بفضل كرة القدم على وجه الخصوص، كرمز لكرم ومهارة شعبها"(23).
(1)- Mel Stanfill & Angharad N. Valdivia, (Dis)locating nations in the World Cup: football fandom and the global geopolitics of affect, Social Identities 23(1) 2016, p. 7. 110.
(2)- Niels N. Rossing & Lotte S. Skrubbeltrang, The language of football: a cultural analysis of selected world cup nations, sport in society, 20(5-6) 2016, p. 4.
(3)- Wagg, S, Angels of Us All? Football Management, Globalization and the Politics of Celebrity, Soccer & Society, 8(4) 2007, p. 446.
(4)- Thomas David Bunting, Democracy at The Ballpark: Sport, Spectatorship, and Politics, Published by State University of New York Press, (Albany: State University of New York, 2021), p. 12.
(5)- Bar-On, T. The Ambiguities of Football, Politics, Culture, and Social Transformation in Latin America, Sociological Research Online, Volume 2, Issue 4 Dec 1997, p. 18.
(7)- إسلام جاد الله، ما وراء العشب الأخضر: كرة القدم وتحديات زمن العولمة، مجلة الديمقراطية، العدد 71، 2018، ص. 151.
(8)- Del Burgo, Maurice Biriotti, Don’t Stop the Carnival: Football in the Societies of Latin America in: Stephen Wagg (editor) Giving the Game Away: Football, Politics and Culture on Five Continents, (London: St. Martin’s Press, 1995), cited in: Bar-On, T. Op Cit, p. 10.
(9)- مريم وحيد، التشجيع الكروي: ظلال الواقع السياسي والاجتماعي، مجلة الديمقراطية، العدد 71، يوليو 2018، ص. 177
(10)- كرم سعيد، أبعاد التداخل بين كرة القدم والعلاقات الدولية، مجلة السياسة الدولية، العدد 202، أكتوبر 2015، ص. 171.
(11)- أحمد دياب: الدوافع والتداعيات السياسية لمونديال البرازيل، مجلة السياسة الدولية، عدد 198، أكتوبر 2014، ص. 158.
(12)- مريم وحيد، التشجيع الكروي: ظلال الواقع السياسي والاجتماعي، مجلة الديمقراطية، العدد 71، يوليو 2018، ص. 175.
(14)- Niels N. Rossing & Lotte S. Skrubbeltrang, p. 9.
(16)- Nadim Nassif, Developing A National Elite Sport Policy in an Arab Country: The Case of Lebanon, In: Danyel Reiche and Tamir Sorek (eds.), Sport, Politics, and Society in the Middle East, (New York: Oxford University Press, 2019), p. 148.
(17)- Pascal Boniface, (1998): Football as a factor (and a reflection) of international politics, The International Spectator: Italian Journal of International Affairs, 33(4) 1998, p. 91.