زار الرئيس السوري، بشار الأسد، سلطنة عُمان، في 20 فبراير/شباط 2023، وهي ثاني رحلة رسمية إلى بلد عربي، الأولى كانت للإمارات، منذ أكثر من عقد على اندلاع الحرب في سوريا، وتأتي الزيارة بعد الزلزال الكبير الذي أصاب تركيا وسوريا (6 فبراير/شباط 2023)، وخلّف عشرات آلاف القتلى في تركيا وآلاف القتلى في سوريا، فضلًا عن الجرحى والخسائر المادية الكبيرة في الأبنية والبنية التحتية.
وسبق هذه الزيارة انفتاح عربي نسبيًّا على سوريا، حيث أرسلت عدة دول عربية مساعدات لسوريا، وكان الأكثر لفتًا للانتباه منها، المساعدات المقدمة من المملكة العربية السعودية التي شملت جهتي مناطق النظام، ومناطق المعارضة. كما أن وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، قال في منتدى ميونخ للأمن، في 18 فبراير/شباط 2023: "إن إجماعًا بدأ يتشكل في العالم العربي على أنه لا جدوى من عزل سوريا وأن الحوار مع دمشق مطلوب في وقت ما"، وأنه "في ظل غياب سبيل لتحقيق الأهداف القصوى من أجل حل سياسي، فإنه بدأ يتشكل نهج آخر"، وذلك بهدف معالجة مسألة اللاجئين في دول الجوار وحل معاناة المدنيين.
وفي السياق نفسه، كان قد التقى وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، مع الرئيس الأسد في دمشق، للتضامن مع الشعب السوري في مواجهة تداعيات الزلزال، وهي أول زيارة لمسؤول أردني رفيع إلى دمشق. والجدير بالذكر أن الملك الأردني، عبد الله الثاني، اتصل (7 فبراير/شباط 2023) معزِّيًا الرئيس الأسد في ضحايا الزلزال. وكان الملك الأردني، عبد الله الثاني، تحدث هاتفيًّا مع الأسد لمواساته في ضحايا الزلزال، وكذلك فعل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي. والتقى أيضًا وزير الخارجية المصري، سامح شكري، مع الرئيس الأسد في 28 فبراير/شباط 2023، وكان سبقه إلى ذلك (في 26 فبراير/شباط 2023) وفد نيابي عربي من ثمانية نواب ترأسه محمد الحلبوسي، رئيس الاتحاد البرلماني العربي ورئيس مجلس النواب العراقي.
هذا الانفتاح العربي على الرئيس الأسد بعد الزلزال، هو استمرار لجهود سابقة قادتها دولتان خليجيتان، هما: عمان والإمارات، دامت سنوات، فلقد زار وزير خارجية عمان السابق، يوسف بن علوي، دمشق في 2015 في أوج الحرب الأهلية، وكان يعمل على إعادة سوريا للمنتظم العربي. وكان السلطان، هيثم بن طارق، القائد العربي الوحيد الذي هنَّأ الأسد بفوزه مجددًا بالانتخابات الرئاسية في2021. زار وزير خارجية سوريا، فيصل المقداد، عمان لمدة ثلاثة أيام في مارس/آذار من نفس العام،
والتقى وزير خارجية عمان، سعيد البدر البوسعيدي، بشار الأسد في يناير/كانون الثاني 2023.
من جهتها، بادرت الإمارات إلى فتح سفارتها في دمشق في 2018، وكذلك فعلت البحرين في نفس العام. بعدها التقى وزير الخارجية الإماراتي، عبد الله بن زايد آل نهيان، الأسد بدمشق في خريف 2021، ثم استقبل ولي عهد أبوظبي حينها، محمد بن زايد، بحرارة، الأسد في مارس/آذار 2022.
لم تقرر عمان إعادة فتح سفارتها في دمشق إلا في 2020، بعد ثماني سنوات من قطعها في 2012.
في سوريا وقضايا عربية
تعرضت عموم العلاقات العربية في أعقاب مرحلة الثورات (2011) لهزات كبيرة، ويبدو أنها تتجه نحو الاستقرار، إلا أن تبعات المواقف المتصادمة من الثورة السورية، ومستقبل المعارضة السورية، واتساع نفوذ إيران وروسيا، وميلشياتهما في سوريا، وضعت عوائق أمام تطبيع العلاقات العربية مع سوريا، يضاف إليها اختلاف أولويات الدول العربية في التعامل مع سوريا، فلكل دولة مصالحها الخاصة التي قد تتناقض مع مصالح دول عربية أخرى.
في هذا المنظور العام، تبرز أهمية زيارة الأسد إلى عمان لأنها تلقي الضوء على تشابك الديناميات السياسية في المنطقة، وترسم ملامح اتجاهاتها القادمة.
تؤكد زيارة الأسد إلى عمان اتجاهًا مستمرًّا منذ مدة وهو أن مركز الثقل الإقليمي يوجد في منطقة الخليج، فلقد كانت دول الخليج الموجه الفعلي للموقف من الثورة السورية، حيث قادت إخراج سوريا من جامعة الدول العربية، ثم هي تقود حاليًّا عودته إلى المنتظم العربي، وإن كان تبرز في كل مرحلة دول خليجية وتتراجع أخرى.
لكن هذه الزيارة تدل من جهة أخرى على أن الدول الخليجية تتصرف باستقلالية، وتغلِّب العلاقات الثنائية على العلاقات الجماعية، فديناميات التقارب الجارية، لا تمر عبر مجلس التعاون الخليجي أو جامعة الدول العربية، وقد أثنى الأسد على هذه السياسات واعتبر العلاقات الثنائية هي السبيل الأمثل لإعادة علاقات بلاده ببقية الدول العربية.
أما عن عوائد التقارب العماني المتزايد مع سوريا، فإنها كبيرة لرصيد عمان الدبلوماسي. تحتفظ عمان بعلاقات جيدة مع مختلف القوى المتنازعة في الساحة السورية، فعلاقاتها مع النظام جيدة، وقد أشاد بها النظام السوري، وعلاقتها كذلك جيدة مع إيران وروسيا. وفي نفس الوقت علاقتها جيدة مع الولايات المتحدة الأميركية. وتراهن عمان على أن الملف السوري الشائك سيفرض في المستقبل على الأطراف المتنازعة التفاوض، وسيحتاجون حينها إلى وسيط يحظى بثقة الجميع. ولا يوجد مرشح أفضل لذلك من عمان لأن بقية الأطراف المعنية بالملف السوري لا تمتلك نفس المؤهلات الدبلوماسية.
ما يعزز حظوظ عمان في الوساطة بالملف السوري أن دورها سيكون دبلوماسيًّا، ولا تمتلك القدرات المالية التي تجعلها تلعب دورًا مؤثرًا في إعادة إعمار سوريا. قد يبدو هذا ضعفًا في الدور العماني لكنه حاليًّا نقطة قوتها لأن العقوبات الأميركية المفروضة على النظام السوري لا تسمح بالتعامل الاقتصادي والتجاري مع النظام السوري. لذلك لن يلعب الوزن الاقتصادي دورًا مؤثرًا حاليًّا في تسوية الأزمة السورية، بل يفوقه أهمية الوزن الدبلوماسي، وهو ما تتمتع به عمان دون غيرها من الوسطاء.
تموضع عمان في هذا الملف الإقليمي والدولي الشائك، يجعلها مركزًا دبلوماسيًّا؛ لأن الأزمة السورية تؤثر على دول عديدة، خصوصًا بموضوع اللاجئين، مثل لبنان والأردن والعراق وتركيا، وكذلك الدول الأوروبية المهددة بموجات اللجوء القادمة من سوريا. وعندما تنجح عمان في التوسط لتسوية هذه الأزمة ستحصل على الامتنان والتقدير من مختلف هذه الدول، فتعزز وضعها الدولي.
ملفات شائكة
سيواجه كل جهد لتسوية الأزمة السورية وتطبيع العلاقات العربية بالنظام السوري عدة ملفات شائكة:
- وجود الحرس الثوري والميليشيات الإيرانية في سوريا، فضلًا عن التحالف الوثيق الذي يجمع الرئيس الأسد مع القيادة الإيرانية، وهو الأمر الذي يقلق أكثر من دولة عربية، وخاصة منها المملكة العربية السعودية، إذ تخوض مواجهة على حدودها مع جماعة الحوثي الموالية لإيران في اليمن، وتخلت عن مساعدة لبنان بسبب "هيمنة حزب الله على الدولة اللبنانية"، بحسب تأكيد الرياض، وربطه لبنان بمحور إيران في المنطقة وذلك على الرغم من العلاقة الخاصة التي جمعت السعودية بلبنان، حيث كانت الراعي الأساسي لاتفاق الطائف (1990) الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية. ويبدو أن التمدد الإيراني في سوريا من أهم القضايا التي ستتحكم بطبيعة العلاقة العربية مع سوريا، حتى إن انفتاح الإمارات المبكر على الرئيس الأسد، فُسِّر إعلاميًّا على الأقل، بأن هدفه خلق مسافة بين سوريا وإيران لأهمية هذه القضية.
- تهريب الكبتاغون عبر الحدود، حيث أصبحت سوريا -فضلًا عن لبنان- محل اتهام بأنها مركز إقليمي لتهريب المخدرات، ويشتبه بأنها مصدر دخل أساسي لرفد الخزينة السورية بالعملات الأجنبية، وقد عانت عدة دول عربية من هذا التهديد منها الخليج، وهو وجهة أساسية لها، والأردن وهو معبر أساسي لها. حتى إن الأخير دخل في مواجهة عسكرية مع المهربين حتى باتت مسألة أمنية ملحة وفي مواجهة مجموعات منظمة تملك أسلحة وعتادًا حربيًّا. وقد فرضت الولايات المتحدة في ديسمبر/كانون الأول 2022، عقوبات على سوريا تحت قانون أشارت إليه باسم "قانون مكافحة انتشار وتهريب المخدرات للأسد" أو "قانون الكبتاغون".
- اللاجئين والنازحين، وتقدر أعدادهم بما يقترب من 13 مليون سوري يعيش معظمهم على المساعدات، وهي قضية تؤرق دول الجوار التي تستضيف أعدادًا كبيرة منهم فضلًا عن أوروبا نفسها وهي الوجهة المفضلة للهجرة. ويتحمل العبء الأكبر من اللاجئين من الدول العربية، لبنان والأردن. في حين تؤرق هذه القضية عموم العالم العربي وهناك تطلع دولي دائم نحو دول الخليج ليتحمل بعضًا من تكاليف إغاثتهم. وتعد مشكلة اللاجئين والنازحين من أهم المؤشرات على اتجاهات الأزمة السورية ومستوى شدتها، ولا يمكن تجاهلها البتة سواء في إدارة العلاقة مع الأسد أو في تحقيق أي حل للأزمة السورية دون حلها.
- إيجاد مسار للحل لا يتعارض مع مصالح الدول العربية الأساسية المعنية بالأزمة السورية، ويتضمن حلًّا ناجعًا لتلك القضايا الأساسية الملحة فضلًا عن سواها، وهو ما يمكن فهمه من إصرارها على أن توافق سوريا على حل الأزمة وفق القرار الدولي لمجلس الأمن رقم 2254، مع ما يتضمنه من مسار سياسي يعيد بناء السلطة ومؤسساتها في سوريا.
لا يملك الأسد القدرة على تحقيق كثير مما تطلبه الدول العربية، لأنه مقيد بالنفوذين، الروسي والإيراني، في البلاد، وتتأثر مواقفه بأجندة البلدين مثل الملف النووي الإيراني أو الحرب الروسية-الأوكرانية، وستستعمل الدولتان نفوذهما في سوريا ورقة لتحقيق مصالحهما الوطنية.
لهذا فإن كثيرًا مما يحدث من تقدم عربي في العلاقات مع الأسد لا يمكن فصله عن التأثير الجدلي للحوار الإيراني مع السعودية وما له من انعكاسات على العلاقات العربية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه يوفر للأسد خيارًا ولو جزئيًّا ليتحرر من الحاجة إلى إيران. وهذه المقاربة الأخيرة مبنية على أن اعتماد الأسد على طهران، جاء اضطرارًا وليس خيارًا، لاسيما أن العرب تركوا فراغًا بتخليهم عن الأسد، وكي يستعيد المبادرة مرة أخرى فإن على العرب أن يعودوا إلى دمشق.
توسيع المبادرة
ستقوي دينامية التقارب الثنائي التي تقودها عمان والإمارات موقف النظام السوري دوليًّا إذا ما استمرت باندفاعتها وعلى نفس المنوال؛ لأنها تعزز شرعيته السياسية، فتتناقص جدوى التزامه بأطر التسويات الجماعية الأخرى، مثل مسار أستانة وغيرها؛ لأنها تتعامل معه كطرف مثل بقية أطراف الأزمة السورية، وتشترط للاعتراف به أن يقبل بتقاسم السلطة مع المعارضة وتقديم تنازلات داخلية وخارجية. في المقابل، لا يفرض عليه المسار الذي تقوده عمان والإمارات مثل هذه القيود. وسيكون من الأجدى للنظام السوري الاستثمار أكثر في مسار التقارب الثنائي في المجال العربي، وتأخير بقية المسارات، واستعمال النجاحات المحققة في المسار الخليجي لتعزيز وضعه في جبهات أخرى خارجية. وقد تكون حسابات النظام السوري أنه سينجح في النهاية في الخروج من العزلة الخارجية، وستضطر بقية الدول المقاطعة له إلى التقارب منه.
أما داخليًّا، فقد تحفز هذه الدينامية النظام السوري على التقليل من جدوى التسوية السياسية أو إفراغها من مضمونها، وستشجعه على العمل على إعادة بسط سيطرته على المناطق الخارجة عن سيطرته، وقد نشهد مستقبلًا محاولات من قبله للسيطرة على مناطق من إدلب، لاسيما إن تمكن من فرض تنازلات على تركيا هناك في مقابل قبوله بعودة اللاجئين، وبالمقابل هناك تنازلات قد يقدمها الأكراد مقابل حمايته لهم من العمليات العسكرية التي تقوم بها تركيا.
خاتمة
لا يمكن إنكار التقدم في العلاقات العربية مع النظام السوري وتحديدًا مع الرئيس الأسد لاسيما بعد أن حدثت ثغرة في البوابة الخليجية وهي مهمة له وسيسعى للبناء عليها، إلا أنه لا يزال محكومًا بتطورات المنطقة التي تعج بالفاعلين الإقليميين والدوليين ومطالبهم، كما لا يمكن تجاوز الموقف الأميركي والذي يعد مفتاحًا أساسيًّا لأي مبادرة تجاه سوريا، حيث أسهم قانون قيصر، في يوليو/تموز 2016، في فرملة الاندفاعة العربية الأولى نحو دمشق، ثم جاء قانون الكبتاغون في العام 2022، وجاء مقرونًا باسم الأسد ليؤكد إصرار واشنطن على استمرارها في سياسة محاصرته، ولولا إعلان واشنطن تجميد بعض مفاعيل قانون قيصر لمدة 180 يومًا بسبب الزلزال لم تكن الانفتاحة العربية لتبلغ ما بلغته.