أحداث الأقصى اختبار محدود لمواجهة إقليمية شاملة

إن الاعتداء الإسرائيلي الصارخ على الأقصى، من قبل حكومة توصف إسرائيليًّا ودوليًّا بالأكثر تطرفًا في تاريخ إسرائيل، وهي بذاتها أحد أسباب الانقسام في المجتمع الإسرائيلي، شكَّل فرصة مناسبة لتقديم "نموذج" محدود عن ترابط الساحات وإمكانية اتساع رقعة المواجهة ضد إسرائيل لتشمل دولًا من الجوار.
9 أبريل 2023
أثبت المسجد الأقصى أنه المركز الأساس الذي يجمع الساحات الفلسطينية رغم كل انقساماتها، وأنه يمكن أن يكون باعثًا على حرب شاملة (رويترز).

انتهت جولة من التصعيد الإسرائيلي على حدود غزة وعبر الحدود اللبنانية (7 أبريل/نيسان 2023)، والتي انطلقت شرارتها في أعقاب اعتداء القوات الإسرائيلية بوحشية على المعتكفين في المسجد الأقصى فجر يوم الخامس من أبريل/نيسان 2023. وقد اتسع نطاق المواجهة حيث أُطلقت صواريخ من غزة ومن لبنان، واتهمت إسرائيل حركة حماس أنها وراءها وقامت بقصف أهداف في غزة، قالت إنها أنفاق ومواقع تصنيع أسلحة ومراكز تدريب، وثلاثة أهداف في جنوب لبنان قرب مخيم الرشيدية الفلسطيني، ولم يسقط فيها جميعًا أي ضحايا. ومن ثم أطلقت أخرى (3 صواريخ) من سوريا في ليل 8 أبريل/نيسان، وأعلن ما أطلق على نفسه اسم فصيل "لواء القدس" مسؤوليته عنها، لتقوم إسرائيل بالمقابل بقصف عدة مواقع في سوريا.

سياق التصعيد وظروفه

لا شك أن استمرار إسرائيل في اقتحام الأقصى والاعتداء على المصلين، والتدخل في شؤونه بفرض شروط على الوصول إليه أو الاعتكاف والتعبد فيه، خاصة في شهر رمضان، وهو ما تكرر في الأعوام الأخيرة، هو أحد أهم أسباب اتساع رقعة المواجهات لتشمل الشعب الفلسطيني في كل الساحات، غزة والضفة والقدس والداخل الإسرائيلي. وقد كان الاعتداء على الأقصى أحد أهم أسباب الهبَّة الفلسطينية الشاملة في كل الساحات في العام 2021، وأطلقت في سياقها ثلاثة صواريخ أيضًا من جنوب لبنان، ولم يعلن أحد مسؤوليته عنها. أما في مواجهة رمضان 2023 فقد زاد عدد الصواريخ عن ثلاثين، وأعلنت إسرائيل عن اعتقادها أنها من تدبير حماس وبمعرفة حزب الله، وأن الدولة اللبنانية تتحمل مسؤولية ما يجري على أراضيها.

تأتي هذه المواجهة في ظل تصاعد التوتر الإقليمي بين إسرائيل وإيران على خلفية الوجود الإيراني في سوريا، والملف النووي الإيراني الذي تحذر منه إسرائيل في كل المحافل الدولية، وتعتبره خطرًا يهدد وجودها. وكانت إسرائيل قد كثفت هجماتها على مواقع لإيران وحلفائها في سوريا خلال شهر مارس/آذار، وأعلنت طهران عن مقتل مستشارين اثنين لها جرَّاءها، محتفظة بحق الرد.

يأتي هذا التصعيد أيضًا بعد عودة حماس بوضوح إلى ما يسمى "محور المقاومة" الذي تقوده إيران، وفي سياق سعي القوى الفلسطينية خاصة في غزة لتعزيز المقاومة تحت عنوان "وحدة الساحات"، كما أن عملية السلام كما حددها اتفاق أوسلو وصلت إلى طريق مسدود، خاصة بعد "صفقة القرن" التي رأى الفلسطينيون أنها تناقض حل الدولتين وتنهيه؛ الأمر الذي انعكس تصعيدًا في أعمال "المقاومة" بكل أشكالها. في هذا السياق، تُعد المواجهة الأخيرة أحد السيناريوهات المتوقعة.

إستراتيجيتان متقابلتان

كشفت المواجهة الأخيرة، رغم محدوديتها من حيث طبيعتها ومداها الزمني القصير، أن هناك محورًا قد اتضحت معالمه إلى حد بعيد، محور "إيران" وحزب الله مع القوى الفلسطينية، وأنه قطع شوطًا في توفير شروطٍ تُمكِّنه من دفع أي مواجهة مع أي من أطرافه لتشمل عموم المنطقة في مواجهة إسرائيل. وكان مسؤولون في حزب الله قد أعلنوا بوضوح وفي أكثر من مناسبة خلال العام 2022 أنهم يعملون على بناء محور للمقاومة في مواجهة إسرائيل، وأن هناك حربًا شاملة مقبلة، بغض النظر عن ظروفها وموعدها. وقد يطلق استهداف إيران أو مشروعها النووي إحدى جولات هذه الحرب.

تأتي هذه الإستراتيجية من "محور المقاومة" في مواجهة الإستراتيجية الإسرائيلية، المعروفة بـ"الحملات بين الحروب"، التي تستهدف الوجود الإيراني في سوريا ومنعه من الاستقرار. كما تأتي في مواجهة الجهود المكثفة التي تبذلها إسرائيل لحث الولايات المتحدة على رسم خط أحمر أمام المشروع النووي الإيراني ووضع الخيار العسكري ضده على الطاولة. ولا تفتأ إسرائيل تهدد باستهدافه بنفسها دون مشاركة أميركية إن تطلب الأمر.

يبدو أن المواجهة الأخيرة، وخاصة في جزئها اللبناني، رغم حرص حزب الله على إخلاء مسؤوليته عنها، ستكون نموذجًا لمعارك قد تتكرر بمشاركة أوسع من أطراف "محور المقاومة"، خاصة أن السبب الرئيسي لهذه المواجهة هو الاعتداء على المسجد الأقصى بما يمثله من رمزية ومكانة لدى عموم العرب والمسلمين، سواء على الصعيد الرسمي أو الشعبي. وقد يمثل هذا النوع من المواجهات إن استقر في معادلة، "تهديدًا وردعًا" لإسرائيل عن شن حرب واسعة ضد إيران أو محورها، لأنها ستقابَل آنذاك بأخرى شاملة في عموم المنطقة.

بالمقابل، وضعت إسرائيل، رغم كل التصعيد الإعلامي، هجماتها تحت عنوان الرد على حماس في غزة ولبنان، وأبعدت حزب الله عن الاستهداف والمواجهة، والتزمت بقواعد الاشتباك المعمول بها في لبنان وغزة. وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، قد أكد على المحافظة على الوضع القائم في الأقصى، بهدف تفادي مواجهة واسعة، وفعلت بالمثل في الاستهداف لسوريا.

يمكن فهم هذا السلوك وهذا "الرد المحسوب" في سياق استعداد إسرائيل لمعركتها الأساسية القادمة مع إيران ومشروعها الإقليمي والنووي؛ فالمواجهة الأخيرة، بمحدودية نطاقها وأهدافها، لا تصب في هذا الاتجاه، لاسيما أن أولوية واشنطن لا تزال متجهة للحرب الروسية على أوكرانيا، فضلًا عن أن ظروف إسرائيل الداخلية وما تشهده من انقسام حول روح الدولة وهويتها لا تزال متأججة، وهي التي وصفها الإسرائيليون قبل غيرهم أنها أزمة قد ترقي لتهديد وجودي أو تؤدي لحرب أهلية.

وبالنظر إلى طبيعة التصعيد من الجبهة اللبنانية وتواضعه، فإن ما ربحته إسرائيل اقتصاديًّا وما تجنيه من حقول الغاز بعد ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، في أكتوبر/تشرين الأول 2022، لا ينبغي تبديده أو تعريضه للمخاطر في مواجهة انزلقت إليها إسرائيل ولم يكن مخططًا لها.

دلالات التصعيد ومآلاته الممكنة

على الصعيد الفلسطيني، أثبت المسجد الأقصى على الدوام أنه المركز الأساس الذي يجمع الساحات الفلسطينية رغم كل انقساماتها، وأن تداعيات أي معركة تخاض بسببه تتجاوز كل القوى والأطراف وحتى الدول. ورغم أن مفاعيل المواجهة الأخيرة توقفت بين أطرافها الأساسية، إلا أن العمليات الفردية استمرت في أعقابها.

وعلى الصعيد الإقليمي، لم يخرج التصعيد الحالي عن المعادلات القائمة، سواء في غزة أو لبنان، وحتى في سوريا رغم خصوصيتها لأنها بالأصل ساحة مواجهة بين كل الأطراف. فهذه المواجهة المحدودة لم تخلِّف قتلى، كما لعبت الولايات المتحدة الأميركية والوسطاء دورًا في احتوائها، إلا أنها كشفت عن تشوف لدى الأطراف للخروج من الوضعية الإستراتيجية التي تحكم كلًّا منهم.

إن الاعتداء الإسرائيلي الصارخ على الأقصى، من قبل حكومة توصف إسرائيليًّا ودوليًّا بالأكثر تطرفًا في تاريخ إسرائيل، وهي بذاتها أحد أسباب الانقسام في المجتمع الإسرائيلي، شكَّل فرصة مناسبة لتقديم "نموذج" محدود عن ترابط الساحات وإمكانية اتساع رقعة المواجهة ضد إسرائيل في لبنان وفلسطين وربما في ساحات أخرى، لتشكل سلسلة من المعارك الصغيرة بين يدي حرب كبرى محتملة. ولا شك أن هذا النموذج سيواجه عددًا من التحديات كي يرسِّخ أسسه، خاصة في ظل الانقسامات التي تشهدها المنطقة جرَّاء تمدد النفوذ الإيراني وانخراطه في الكثير من الأزمات الإقليمية.

تبقى الاضافة الأهم في هذه المواجهة، هي دور إيران في إعادة بناء "محور المقاومة" على أعمدة القضية الفلسطينية خلال العامين الماضيين، بعد أن ارتكز، منذ انطلاق الربيع العربي في العام 2011، على المسألة السورية. وهكذا تصبح المواجهة بمنزلة إستراتيجية في مقابل أخرى: حملات متصاعدة من قبل المحور بين يدي "حرب شاملة"، في مواجهة الإستراتيجية الإسرائيلية القائمة على الحملات بين الحروب، بهدف فرض معادلة جديدة. وليس واضحًا ما إذا كانت المواجهة الأخيرة ستُثني إسرائيل عن الاستمرار في غاراتها المباشرة ضد مواقع إيرانية.

يبدو أن المنطقة دخلت في سباق بين "الإستراتيجيات"، للخروج من المعادلة السابقة التي وضعت مختلف الأطراف في أوضاع صعبة. وقد أوضحت هذه المواجهة لكل الأطراف ما ينتظرها؛ حيث خاض "محور المقاومة" لأول مرة حربًا تبدو منسقة بعد عودة حماس إليه، ونفذت إسرائيل مواجهة أقرب إلى كونها مناورة حية متناسقة على الحدود ومع الجبهة الداخلية وعلى أكثر من جبهة. كما قدمت لواشنطن، ولبقية الوسطاء، صورة محدودة عما ينتظر المنطقة عند التصعيد الشامل، وقد تعرضت أصلًا بعض مواقعها في العراق وسوريا لقصف وإن في سياق يبدو منفصلًا.

نبذة عن الكاتب