الحرب الإسرائيلية السابعة على غزة: لا قواعد اشتباك جديدة

حاولت إسرائيل أن ترسي في حربها الأخيرة على غزة معادلة جديدة في الصراع، تقوم على إضعاف المقاومة عن الرد على "الاعتداءات الإسرائيلية" لكنها لم تنجح في ذلك، هذا بعض ما خلصت إليه هذه الورقة.
الفصائل الفلسطينية في غزة عملت إلى جانب حركة الجهاد الإسلامي على استهداف العمق الإسرائيلي من خلال غرفة عمليات مشتركة (رويترز).

مقدمة

شنَّت إسرائيل، في التاسع من مايو/أيار 2023، حملة عسكرية على قطاع غزة استهدفت بشكل خاص قيادات "سرايا القدس"، الجناح العسكري لحركة "الجهاد الإسلامي"، ومنشآت عسكرية تابعة للتنظيم. جاءت هذه الحملة بعد أسبوع على إطلاق الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة عشرات الصواريخ على العمق الإسرائيلي، ردًّا على وفاة الأسير في سجون الاحتلال، خضر عدنان، القيادي في "الجهاد" متأثرًا بإضرابه عن الطعام الذي امتد لستة وثمانين يومًا.

أسفرت الحملة التي استمرت خمسة أيام عن مقتل 33 فلسطينيًّا، من بينهم خمس من قيادات "سرايا القدس"، وثلاث نساء وستة أطفال، إلى جانب إصابة 111 آخرين. فيما ردت حركة "الجهاد الإسلامي" بإطلاق الصواريخ على المستوطنات الواقعة بين تل أبيب في الشمال وبئر السبع في الجنوب.

وتعد الحملة العسكرية الأخيرة التي أطلقت عليها إسرائيل "الدرع والسهم"، الحملة الثالثة التي تستهدف حركة "الجهاد الإسلامي" في غضون ثلاث سنوات ونصف. وقد انتهت الحملة بعد توصل إسرائيل و"الجهاد الإسلامي" إلى اتفاق وقف إطلاق النار بوساطة مصرية.

ترصد هذه الورقة الأسباب التي دفعت إسرائيل إلى شن هذه الحملة، والتحولات التي طرأت على أنماط الأداء الفلسطيني خلالها، سواء على الصعيد العملياتي وعلى صعيد إدارة المواجهة؛ وتختبر ما إذا كانت ستسفر عن تمكن أحد طرفي المواجهة من إملاء معادلات جديدة تخدم مصالحه؛ وتستشرف تأثيراتها على مستقبل الصراع بين غزة وإسرائيل، وانعكاس نتائجها على القضية الفلسطينية.

أهداف إسرائيل من الحملة

لعب العديد من العوامل دورًا في دفع إسرائيل لشن حملتها العسكرية الأخيرة ضد حركة "الجهاد الإسلامي" في قطاع غزة. وقد بررت القيادات السياسية والعسكرية الإسرائيلية اغتيال القادة العسكريين لـ"الجهاد الإسلامي" بمسؤوليتهم عن إطلاق الصواريخ ردًّا على وفاة القيادي، خضر عدنان، في السجن، ولدور بعضهم في توجيه العمل المقاوم في الضفة الغربية(1). كما أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أن إسرائيل سعت من الحملة إلى فرض "معادلة ردع جديدة"(2).

وحسب وجهة النظر الإسرائيلية، فإن معيار تكريس "معادلة ردع جديدة" يتمثل في إضعاف قدرة المقاومة على الرد على العمليات العسكرية الإسرائيلية، التي بالعادة تستهدف إحباط جهود مراكمة القوة العسكرية لدى المقاومة؛ والحرص على أن تدفع المقاومة ثمنًا باهظًا في أي مواجهة كي تمنعها من توظيف قدراتها للرد على سياسات إسرائيل في الساحات الأخرى، سواء في القدس، أو الضفة الغربية، وضد الأسرى في سجون الاحتلال، وتأتي في هذا السياق عمليات اغتيال القيادات المسؤولة مباشرة عن "العمل المقاوم".

ولم يكن من سبيل الصدفة أن اختارت إسرائيل شن حملتها العسكرية قبل تسعة أيام من انطلاق "مسيرة الأعلام" التي تنظمها "الجماعات اليهودية المتطرفة" في القدس بمناسبة حلول الذكرى السنوية لاحتلال المدينة؛ وذلك بهدف ردع الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة عن محاولة تكرار ما أقدمت عليه في مايو/أيار 2021، عندما أطلقت حركة حماس وابلًا من الصواريخ تجاه القدس أثناء تنظيم "المسيرة"، وهو ما أفضى إلى اندلاع مواجهة شاملة بين الجانبين، تفجرت على هامشها مواجهات غير مسبوقة بين فلسطينيي الداخل من جهة، وقوات الاحتلال و"الجماعات اليهودية المتطرفة" من جهة أخرى، وتحديدًا في المدن المختلطة بين العرب والإسرائيليين.

إلى جانب ذلك، مثَّلت الحرب الأخيرة فرصة لإسرائيل لتختبر ما تخشاه من إمكانية توسع المواجهات لتشمل عدة ساحات؛ لاسيما بعدما هدد قادة بعض الفصائل الفلسطينية وحزب الله بتبني هذا الخيار ردًّا على سياسات إسرائيل في الساحة الفلسطينية(3). ولا يمكن إغفال اعتبارات السياسة الداخلية الإسرائيلية لشن هذه الحملة؛ إذ دلَّلت نتائج استطلاعات الرأي المتواترة -التي أجريت قبل الحملة- على تآكل كبير في شعبية نتنياهو وتراجع التأييد الذي يحظى به حزب الليكود الذي يقوده، فضلًا عن الأحزاب الأخرى المشاركة في ائتلافه الحاكم؛ وذلك بسبب الرفض الجماهيري لخطة "التعديلات القضائية" التي أعلنتها حكومته، كما عكست ذلك المظاهرات التي نُظمت للاحتجاج عليها. ويمكن افتراض أن نتنياهو سعى لتوظيف الحملة العسكرية لإحداث تحول في سلم الأولويات الذي يحكم الجدل الداخلي، وتقديم الأمني منه لتقليص الاهتمام بالتعديلات القضائية. ومما يعزز من وزن اعتبارات السياسة الداخلية بوصفها مكونًا رئيسًا في شن الحملة، تحميل قادة المعارضة وكبار المعلقين في تل أبيب نتنياهو المسؤولية عن "تهاوي" قوة الردع الإسرائيلية، بعد سلسلة الهجمات الصاروخية، التي انطلقت في المواجهة السابقة (أبريل/نيسان 2023) من غزة وجنوب لبنان وسوريا(4).

كما وظف نتنياهو "العدوان" لضمان استقرار حكومته؛ إذ أعلنت حركة "المنعة اليهودية" بعد "العدوان"، وهي التي يقودها وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، عن عودة وزرائها إلى حضور اجتماعات مجلس الوزراء واستئناف نوابها التصويت لصالح مشاريع القوانين التي تقدمها الحكومة في البرلمان الإسرائيلي "الكنيست"، وذلك بعد أن امتنعت عن ذلك احتجاجًا على ما اعتبرته "الرد الضعيف" من الحكومة الإسرائيلية على إطلاق الصواريخ من غزة في أعقاب استشهاد القيادي، خضر عدنان.

التحول في الأداء الفلسطيني

شهدت جولة القتال الأخيرة العديد من التحولات على أداء الفعل النضالي الفلسطيني، سواء على صعيد إدارة المعركة أو على الصعيد التكتيكي العملياتي، بشكل أسهم في تمكين الفصائل الفلسطينية من الرد على عمليات الاغتيال وإطالة أمد المواجهة، لمزيد من الإضرار بالمصلحة الإسرائيلية.

فعلى صعيد إدارة المعركة، وبخلاف الحملتين العسكريتين اللتين شنتهما إسرائيل ضد "حركة الجهاد الإسلامي"، في نوفمبر/تشرين الأول 2019، وأغسطس/آب 2022، واللتان تُرك فيهما التنظيم وحيدًا في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية، فإن الفصائل الفلسطينية خلال المواجهة الأخيرة، توحدت في "إدارة الرد" على إسرائيل من خلال "غرفة العمليات المشتركة"، التي تشارك فيها الأذرع العسكرية لحركات المقاومة(5). وعلى الرغم من عدم وضوح الأدوار العسكرية التي قامت بها الفصائل الأخرى، إلا أنه يرجح أن حركة الجهاد تولت بشكل أساس مهمة إطلاق الصواريخ على العمق الإسرائيلي، في حين تولت الفصائل الأخرى إسناد الجهد الحربي لحركة الجهاد أو أنها شاركت في الرد بشكل محدود. وقد اتهمت دوائر عسكرية إسرائيلية حركة "حماس" تحديدًا بتوفير منصات الصواريخ التي استخدمتها "الجهاد" في إطلاق الصواريخ على العمق الإسرائيلي خلال المواجهة، وذلك بعد استهداف سلاح الجو الإسرائيلي منصات الصواريخ التابعة لـ"سرايا القدس" على نطاق واسع في اليوم الثاني للحملة العسكرية(6). ويمكن الافتراض أن أحد أهم الأسباب وراء توحد الفصائل الفلسطينية في الرد على هجمات إسرائيل خلال هذه الجولة يتمثل في ارتباطها بقضية الأسرى في سجون الاحتلال، التي تعد من أهم محاور الإجماع الوطني الفلسطيني؛ سيما أن وفاة أسير فلسطيني في سجون الاحتلال متأثرًا بإضرابه عن الطعام تعد سابقة في تاريخ الصراع.

وقد عمدت حركات المقاومة في غزة لأول مرة في تاريخ المواجهة العسكرية مع الاحتلال إلى استخدام تكتيك عملياتي جديد من خلال تأخير الرد على عمليات الاغتيال لأكثر من 36 ساعة، وذلك بخلاف التوقعات الإسرائيلية. أسهم هذا التكتيك في تكريس حالة انعدام اليقين لدى القيادة الإسرائيلية، التي توقعت أن تتصرف المقاومة كما اعتادت عليه في مثل هذه الظروف وترد بسرعة؛ مما يمكِّن الجيش الإسرائيلي من مواصلة ضرب بنك الأهداف الذي أعدَّه سلفًا حتى تتدخل الأطراف التي تتولى الوساطة بين الجانبين للتوصل لاتفاق وقف إطلاق نار في أسرع وقت ممكن. أسهم تأخر رد المقاومة في تفاقم الأعباء التي تحمَّلها المجتمع الإسرائيلي، خاصة أن إسرائيل أعلنت حالة الاستنفار في المناطق الجنوبية بمجرد أن شرعت في تنفيذ الهجمات ضد "الجهاد الإسلامي"؛ ومن ثم اتخذت عدة إجراءات: إخلاء آلاف المستوطنين إلى فنادق، وإغلاق القواعد والنقاط العسكرية القريبة من الحدود، وتعطيل التعليم، وفرض قيود على الحركة في المنطقة الفاصلة بين تل أبيب في الشمال إلى بئر السبع في الجنوب، وهو ما أفضى إلى شل مظاهر الحياة في هذه المنطقة التي يقطنها أكثر من نصف سكان إسرائيل، وضمن ذلك تعطيل المرافق الاقتصادية والإنتاجية.

ويبدو أن تعاون الفصائل في إدارة المواجهة الأخيرة أحدث فرقًا عن سابقتها، وهو ما تظهره مقارنة مجملة بين نتائج هذه الحملة والأخرى التي استهدفت حركة الجهاد الإسلامي في أغسطس/آب 2022. ففي هذه الأخيرة التي امتدت لثلاثة أيام وأسفرت عن مقتل 48 فلسطينيًّا، من بينهم ثلاث من قيادات "الجهاد" العسكريين، لم يتجاوز إجمالي ما أطلقته "الجهاد" من صواريخ على العمق الإسرائيلي مئة صاروخ، ولم تسفر عن أية إصابات في الجانب الإسرائيلي؛ ولم يكن لها تأثير كبير على الجبهة الداخلية الإسرائيلية، في حين أطلقت الفصائل في المواجهة الأخيرة 1469 صاروخًا، أسفرت عن "قتيل" وجرح عشرات آخرين، فضلًا عن إلحاق أضرار كبيرة بعدد من المنازل والمرافق(7).

قواعد الاشتباك

جاءت المواجهة الأخيرة، كسائر المواجهات التي نشبت بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل منذ مايو/أيار 2021 في إطار التصارع على فرض معادلات ردع جديدة. فقد سعت الفصائل الفلسطينية في غزة إلى إملاء قواعد اشتباك جديدة، تمثلت بربط فعلها النضالي بسياسات إسرائيل في الساحات الأخرى؛ في حين عمدت إسرائيل إلى محاولة إفشال المحاولات الفلسطينية عبر استخدام قدر غير متناسب من القوة العسكرية.

شنَّت إسرائيل الحرب على غزة في مايو/أيار 2021، بعد أن أطلقت حركة حماس مئات الصواريخ على العمق الإسرائيلي ردًّا على قرار إسرائيل تدمير منازل في حي "الشيخ رضوان" ورفضًا لسياسات إسرائيل تجاه الأقصى ولمنع "المنظمات اليهودية المتطرفة" من تنظيم "مسيرة الأعلام" في البلدة القديمة من القدس. وشنت إسرائيل حملتها على قيادة "الجهاد الإسلامي" في أغسطس/آب 2022، لإحباط توجه التنظيم لتنفيذ عمليات ضد إسرائيل ردًّا على اعتقال أحد أبرز قياديه في الضفة الغربية، بسام السعدي. في حين جاءت المواجهة الأخيرة نتاج محاولة المقاومة الفلسطينية ردع إسرائيل عن مواصلة "سياسة القمع" تجاه الأسرى في سجونها، عبر الرد على وفاة القيادي خضر عدنان في السجن متأثرًا بإضرابه عن الطعام.

إن تمكن أي من الطرفين من إملاء معادلة ردع تؤسس لقواعد اشتباك جديدة في أعقاب جولة القتال الأخيرة لا يتوقف فقط على ميزان القوى العسكري، بل أيضًا يتأثر بمستوى التصميم الذي يبديه كل طرف على مواصلة القتال بغض النظر عما يملكه من إمكانيات عسكرية. على صعيد ميزان القوى العسكرية فإنه يميل بشكل جارف إلى صالح إسرائيل ومكَّنها في الجولة الأخيرة من استخدام قدر غير متناسب من القوة العسكرية -مستغلة تفوقها التقني والاستخباري- في مباغتة الجهاد الإسلامي واغتيال قادته العسكريين واستهداف بناه العسكرية على نطاق واسع. إلا أن المقاومة الفلسطينية أظهرت في المقابل قدرًا كبيرًا من التصميم على مواصلة القتال وزيادة كثافة إطلاق الصواريخ، تحديدًا بعد كل عملية اغتيال نفذها جيش الاحتلال؛ ما أفقد إسرائيل القدرة على استغلال تفوقها العسكري في وضع حدٍّ لاستهداف عمقها الداخلي وإنهاء المواجهة في التوقيت الذي حددته(8). وإن كانت القيادة الإسرائيلية قد بررت اغتيال قادة الجهاد بمسؤوليتهم المباشرة عن إطلاق الصواريخ في أعقاب وفاة خضر عدنان، فإن إطلاق الصواريخ بكثافة بعد تنفيذ عمليات الاغتيال أثناء المواجهة، دلَّل على أن عمليات الاغتيال لم تسهم في تعزيز قوة الردع الإسرائيلية، أي بخلاف ما أعلنه نتنياهو في نهاية المواجهة.

وبشكل عام عندما تضطر دولة ما إلى شن حروب وحملات عسكرية ضد نفس العدو في أوقات متقاربة، مع كل ما ينطوي عليه الأمر من تداعيات على جبهتها الداخلية، فإن هذا يدل على أنها لم تنجح في ردع هذا العدو. شنَّت إسرائيل خمس عشرة حملة عسكرية على القطاع، منها أربع حروب كبيرة منذ أن تولت حركة حماس مقاليد الحكم في 2006. إلى جانب ذلك، فإن حرص إسرائيل على عدم استهداف حركة حماس خلال هذه المواجهة، رغم اتهامها بتقديم مساعدة عسكرية حاسمة لـ"الجهاد" مكنتها من مواصلة إطلاق الصواريخ، يدل على تراجع قوة ردع إسرائيل. فإسرائيل خشيت أن يسفر انضمام حماس إلى المعركة عن إطالة أمدها وجعلها أكثر كلفة بسبب ما تملكه الحركة من ترسانة صاروخية كبيرة مقارنة بما يملكه "الجهاد الإسلامي"(9). مع العلم أن إسرائيل كانت حتى العام 2019، ترد على أي عمل ينفذه أي تنظيم فلسطيني انطلاقًا من غزة عبر استهداف حماس من منطلق مسؤوليتها عن إدارة حكم القطاع.

إن إحدى النتائج المتوقعة للجولة الأخيرة، أن تبدي إسرائيل حساسية أكبر إزاء ظروف وشروط اعتقال الأسرى في سجونها، تجنبًا لإمكانية اندلاع مواجهات عسكرية مع المقاومة في غزة، لإدراك صانع القرار في تل أبيب أن هذه القضية تحظى بإجماع فلسطيني ولن تتردد حركات المقاومة مجددًا بالرد عسكريًّا، في حال أسفرت إجراءات مصلحة السجون القمعية عن وفاة أسرى. ومما يعزز من فرص تحقق هذا السيناريو حقيقة أن نتنياهو شخصيًّا تدخل بعد وفاة خضر عدنان لدى مصلحة السجون لمنعها من تطبيق تعليمات من وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، تقضي بتشديد ظروف اعتقالهم(10).

وبالمقابل، فإن محاولة المقاومة في غزة فرض قواعد اشتباك جديدة عبر السعي لردع إسرائيل عن تبني سياسات محددة في ساحات أخرى، مثل القدس والضفة الغربية، لم تحقق نجاحات كبيرة. ففي أعقاب تفجر حرب مايو/أيار 2021 زاد حرص إسرائيل على تنظيم "مسيرة الأعلام" في البلدة القديمة، وتعاظمت وتيرة الاعتداءات على المسجد الأقصى وتأججت رغبة إسرائيل في تغيير الواضع القائم هناك، فضلًا عن مواصلتها سياسة تدمير المنازل؛ إلى جانب مواصلتها عمليات الاغتيال والمداهمات في أرجاء الضفة الغربية. تعي مقاومة غزة أن توجيه فعلها النضالي للتصدي لسياسات إسرائيل في الساحات الأخرى، سيقترن ليس فقط باستهداف واسع لمقدراتها البشرية والعسكرية، بل أيضًا بزيادة الأعباء على حاضنتها الجماهيرية التي تعاني كثيرًا بفعل الحصار المتواصل منذ 2006.

وتدرك غزة أن التوجهات "اليمينية المتطرفة" للائتلاف الإسرائيلي الحاكم تلعب دورًا مهمًّا في زيادة مستوى تصميم تل أبيب على إفشال محاولة المقاومة في غزة ربط فعلها النضالي بالسياسات الإسرائيلية في القدس والضفة الغربية، لاسيما في ظل محدودية تأثير الفعل النضال الفلسطيني في القدس والضفة الغربية. وهذا ما يفسر اكتفاء الفصائل الفلسطينية في القطاع بتنفيذ مناشط احتجاجية على الحدود مع إسرائيل ردًّا على تنظيم "مسيرة الأعلام" الأخيرة (18 مايو/أيار 2023) في القدس. ولكن هذا لا يمنع أن المقاومة في غزة، يمكن أن تعاود ربط فعلها النضالي باتجاهات السياسة الإسرائيلية في الساحات الأخرى في ثلاث حالات:

أولًا: للتعبير عن موقفها الرافض لسياسات إسرائيل في القدس تحديدًا، فتقوم بتصعيد محدود، مثل إطلاق عدد قليل من القذائف الصاروخية باتجاه مناطق مفتوحة في محيط القطاع دون أن تترك تأثيرًا على مجرى الصراع، من منطلق ترجيحها أن هذا سيستدعي ردًّا إسرائيليًّا محدودًا.

ثانيًا: إذا أقدم جيش الاحتلال أو "المنظمات اليهودية المتطرفة" على ارتكاب جرائم كبيرة في القدس والضفة الغربية أو حدث تحول متسارع في التعاطي الإسرائيلي مع المسجد الأقصى، فإن المقاومة يمكن أن ترد بقوة، حتى مع إدراكها أن ردها لن يردع إسرائيل عن مواصلة هذه السياسة.

ثالثًا: في حال جاء رد غزة على هذه السياسات في إطار رد شامل لمكونات "محور القدس"، الذي يضم: إيران، وحزب الله، والفصائل الفلسطينية، يتم خلاله تفعيل "وحدة الساحات".

الوساطة الإقليمية  

أثبتت الحرب الأخيرة، كما جولات الحرب الأخرى، أهمية الدور الذي تلعبه الأطراف الإقليمية في التوصل لتفاهمات تنهي جولات القتال بين المقاومة وإسرائيل، وتحديدًا الدور المصري وبدرجة أقل الدور القطري. تسمح اتفاقات وقف إطلاق النار ذات الصيغ الفضفاضة للطرفين بالنزول عن الشجرة وتمكين كل طرف من المحاججة أمام جمهوره الداخلي بأنه حقق أهدافه من الحرب. جاء في نص اتفاق وقف إطلاق النار الذي أنهى جولة الحرب الأخيرة: "يتم الالتزام باتفاق وقف إطلاق النار الذي يشمل وقف استهداف المدنيين وهدم المنازل وأيضًا استهداف الأفراد"(11). وهو ما مكَّن "الجهاد" من تأكيد أن الاتفاق يمثل موافقة إسرائيلية على طلبها الالتزام بوقف عمليات الاغتيال، في حين حاججت إسرائيل بأن الاتفاق يعني تبني موقفها "الهدوء يقابل بالهدوء"، ومن منطلق أنها لن تستهدف أحدًا ما لم يكن ضالعًا في استهدافها(12).

مستقبل الصراع بين إسرائيل وغزة

دلَّت جولة الحرب الأخيرة على أن إسرائيل لا تملك إستراتيجية لحل المعضلة التي تمثلها غزة، وفشلت في ترجمة إنجازاتها التكتيكية -اغتيال قيادات حركات المقاومة واستهداف بناها العسكرية- في تكريس معادلة ردع تحول دون اضطرارها لشن حملات عسكرية في أوقات متقاربة تفاقم الأوضاع الأمنية سوءًا في جنوب إسرائيل.

نظريًّا، هناك أربعة سيناريوهات يمكن أن تسلكها إسرائيل في المستقبل لمعالجة التحدي الذي تمثله غزة:

أولًا: مواصلة السياسة الحالية القائمة على شن عمليات عسكرية، بهدف تقليص قدرة المقاومة على مراكمة القوة العسكرية وكذلك الرد على محاولتها ربط فعلها النضالي بالسياسات التي تتبناها إسرائيل في الساحات الأخرى. وفي الوقت ذاته العمل -أي من قبل إسرائيل- على تحسين الأوضاع الاقتصادية بشكل محدود في غزة عبر تقليص مظاهر الحصار والسماح لآلاف الغزيين بالعمل في إسرائيل.

ثانيًا: شن عملية برية واسعة تنتهي بإعادة احتلال غزة وإسقاط حكم حماس بهدف تدمير البنى التحتية والتنظيمية للمقاومة.

ثالثًا: خوض غمار عملية تفاوضية تنتهي بالتوصل لحل شامل للقضية الفلسطينية، تتم في إطاره تسوية معضلة غزة.

رابعًا: التوصل لتسوية بعيدة الأمد بين إسرائيل وحماس برعاية دولية وإقليمية، يتم في إطارها إحداث تحول إيجابي جذري على الأوضاع الاقتصادية في القطاع، وضمن ذلك تدشين مطار وميناء مع مراعاة ترتيبات أمنية تضمن عدم توظيفهما في تهريب السلاح، والتوصل لصفقة تبادل أسرى. ويرى المتحمسون لهذه الفكرة التي بلورها وزير الطاقة الإسرائيلي الليكودي، يسرائيل كاتس، أن تحسين الأوضاع الاقتصادية بشكل جذري يجعل حماس حريصة على عدم استهداف إسرائيل لأنه سيكون لديها ما تخسره في حال اندلعت مواجهة مع إسرائيل. فضلًا عن أن هذا الخيار يمنح تل أبيب "شرعية دولية" لاستخدام قوة غير متناسبة في حال انطلقت أعمال "عدائية" من قطاع غزة(13).

ويرجح أن تختار إسرائيل الخيار الأول، أي الاستمرار في السياسة الحالية، بسبب المحاذير التي تنطوي عليها الخيارات الثلاثة الأخرى. فإسرائيل ستتجنب إعادة احتلال غزة بحملة عسكرية (السيناريو الثاني) بسبب الكلفة الباهظة المتوقعة لهذا الخيار، سواء على صعيد العدد الكبير من القتلى من الجنود أو التبعات الاقتصادية الباهظة والتداعيات السياسية، كما أن المجتمع الإسرائيلي ليس مستعدًّا لدفع كلفة متطلبات الجهد الحربي. وإذا تم تجاوز الكلفة الباهظة لإعادة احتلال القطاع، فإن عدم وجود طرف ثالث مستعد لتولي زمام الأمور في غزة بعد "إسقاط" حكم حماس، يضع إسرائيل أمام خيارين: إما أن تتولى بشكل مباشر إدارة غزة مع كل ما ينطوي عليه الأمر من تورط لأمد بعيد، أو أن تغادر القطاع بدون وجود عنوان سلطوي يمكن تحميله مسؤولية ما يحدث في القطاع، ما يعني أن تعم الفوضى بشكل يفاقم التحديات الأمنية التي تمثلها غزة. أضف إلى ذلك أن إسرائيل، خاصة في ظل الحكومة الحالية التي تعد الأكثر تطرفًا في تاريخها، غير جاهزة لخوض عملية سياسية تفاوضية (السيناريو الثالث) يمكن أن يفضي إلى التوصل لتسوية للصراع، وينطوي على حل لمعضلة غزة.

وعلى الرغم من أن التوصل لتسوية بعيدة الأمد بين إسرائيل وحماس (السيناريو الرابع) يبدو مريحًا لليمين الإسرائيلي لأنه يكرس الفصل السياسي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، إلا أن بعض مكونات المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تعارضه من منطلق أن الترتيبات الأمنية التي سيعمل وفقها الميناء والمطار لن تنجح في منع تهريب سلاح نوعي إلى قطاع غزة؛ فضلًا عن أن هناك شكوكًا حول مدى استعداد القوى الإقليمية والدولية لتقديم الدعم المالي الذي يضمن تمويل هذه المشاريع(14).

خاتمة

أثبتت جولة الحرب الأخيرة أن غزة تلعب دورًا رئيسًا في النضال الوطني الفلسطيني، في وقت تقلص إسهام الضفة الغربية في الفعل النضالي المؤثر ضد الاحتلال، وذلك بسبب الظروف الصعبة التي تخضع لها. وعزز الأداء النضالي لغزة في هذه الحروب من مكانتها في الوعي الجمعي الفلسطيني؛ وكرَّس الرهان عليها مقوِّمًا رئيسًا في مواجهة الاحتلال.

وقد أثبتت المواجهة الأخيرة أن توحد فصائل المقاومة وتعاونها في إدارة المعركة ضد الاحتلال كان له دور في تحسين أداء الفعل النضالي وأسهم في جعل هذه المواجهة أكثر كلفة لإسرائيل مقارنة بسابقتها، فضلًا عن أن هذا الأداء منع إسرائيل من إملاء موعد إنهاء المواجهة وفق مصلحتها ما فاقم من معاناة الجبهة الداخلية الإسرائيلية. وتدلل الجولة الأخيرة على أن الفعل النضالي لغزة حال دون تمكن إسرائيل من فرض معادلة ردع تفضي إلى تقليص قدرة المقاومة للرد على عمليات إسرائيل الحربية.

وفي المقابل، على الرغم من محاولة المقاومة في غزة فرض قواعد اشتباك جديدة تمكنها من الرد على سياسات تل أبيب في الساحات الأخرى، فإنها لم تنجح حتى الآن في أن تجعل ردها مؤثرًا بشكل حاسم على سياسات وقرارات الاحتلال في الساحات الفلسطينية الأخرى.

ومن المرجح أن تسهم المواجهة الأخيرة في إحداث مزيد من التراجع في المكانة التمثيلية للسلطة الفلسطينية بسبب عجزها عن التأثير على السياسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، وهو ما أسهم في تهاوي شعبية قيادتها. مع العلم بأن قدرة غزة على التأثير على العلاقة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية محدودة إلى حدٍّ كبير. وبشكل عام لم تسهم نتائج الحروب والحملات العسكرية التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة منذ 2006 وحتى الآن في إحداث تحول على طابع العلاقة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية.

نبذة عن الكاتب

مراجع
  1. "رئيس الشاباك: أحد القياديين الذين تم اغتيالهم في غزة كان يدير خلية لصنع صواريخ في الضفة الغربية"، THE TIMES OF ISRAEL، 10 مايو/أيار 2023، (تاريخ الدخول: 10 مايو/أيار 2023):  https://bit.ly/3Wo9A1q
  2. "نتنياهو: جئنا لنغير معادلات الردع، حماس مردوعة" (نتنياهو: بانو لشنوت ههمشفآ، حماس مورتاع)، كول حاي، 15 مايو/أيار 2023، (تاريخ الدخول: 15 مايو/أيار 2023): https://bit.ly/3W6BDlN
  3. "السيد نصر الله يستقبل النخالة ويبحث معه معركة "وحدة الساحات"، الميادين، 24 أغسطس/آب 2022، (تاريخ الدخول: 15 مايو/أيار 2023): https://bit.ly/3I7QJSv
  4. "هل فقدت إسرائيل قوة الردع" هئم مدينات يسرائيل إبدا ههرتعا، سلطة البث الإسرائيلية، 4 مايو/أيار 2023، (تاريخ الدخول: 20 مايو/أيار 2023): https://bit.ly/3MIPTOE
  5. أكد رئيس الدائرة السياسية في "الجهاد الإسلامي"، محمد الهندي، أن الرد على عمليات الاغتيال التي نفذها جيش الاحتلال تم بتوافق وطني داخل الغرفة المشتركة. انظر: "الجهاد الإسلامي: الرد يتم بتوافق وطني داخل الغرفة المشتركة"، فلسطين، 10 مايو/أيار 2023، (تاريخ الدخول: 15 مايو/أيار 2023): https://bit.ly/3MsawOT
  6. "حماس ساعدت الجهاد الإسلامي ومكنته من استخدام منصات إطلاق الصواريخ"، حساب المراسل العسكري لإذاعة جيش الاحتلال، دورون كودوش، تويتر، 11 مايو/أيار 2023، (تاريخ الدخول: 11 مايو/أيار 2023): https://bit.ly/3WcnyDG
  7. "سرايا القدس" تعلن إطلاق 100 صاروخ على إسرائيل.. وغارات إسرائيلية جديدة على غزة"، سي. إن. إن. بالعربي، 5 أغسطس/آب 2022، (تاريخ الدخول: 15 مايو/أيار 2023): https://cnn.it/42Y1vTd.
  8. حسب تقرير المعلق العسكري نوعم أمير، لكل من صحيفة "ميكور ريشون" وقناة "14"، فإن القيادة العسكرية الإسرائيلية توقعت في حال مشاركة حركة الجهاد لوحدها في الحرب، إنهاء الحملة العسكرية يوم الخميس، أي بعد ثلاثة أيام على بدئها. انظر: نوعم أمير، "من يوم واحد إلى عملية عسكرية واسعة: خمسة سيناريوهات ممكنة على الطاولة"(مي يوم كراف عاد مفتساع تسفئي نرحاف: حميش ترحيشيم إفشريين عل هشولحان)، ميكور ريشون، 9 مايو/أيار 2023، (تاريخ الدخول: 22 مايو/أيار 2023):  https://bit.ly/3IADf1J
  9. كثير من الباحثين والمعلقين في إسرائيل توصلوا إلى هذا الاستنتاج، أحدهم ليراز مرغليت، الباحثة في جامعة رايخمان "هرتسليا". انظر: ليراز مرغليت، "إسرائيل لا تراكم ردعًا بل تُظهر ضعفًا" (يسرائيل لو ميتسيرت هرتعا إلا مشديرت حولشاه)، معاريف، 12 مايو/أيار 2023، (تاريخ الدخول: 20 مايو/أيار 2023): https://bit.ly/3WhXPK1
  10. ""صدع" بين نتنياهو وبن غفير... هل الائتلاف الحكومي في خطر؟"، عرب 48، 4 مايو/أيار 2023، (تاريخ الدخول: 15 مايو/أيار 2023): https://bit.ly/43d7zHG
  11. "اتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية المسلحة بوساطة مصرية"، فرانس 24، 13 مايو/أيار 2023، (تاريخ الدخول: 15 مايو/أيار 2023): https://bit.ly/433afaz
  12. "الهدوء يقابل بالهدوء"، كلكليست، 13 مايو/أيار 2023، (تاريخ الدخول: 15 مايو/أيار 2023): https://bit.ly/4330fhA
  13. إيتمار آيخنر، "جزيرة صناعية قبالة غزة- كاتس يدفع نحو حسم في المجلس الوزاري المصغر لشؤون الأمن" (إي مولوختي مول عزا – كاتس دوحيف لهخرعاه بكبنيت)، يديعوت أحرنوت، 21 يونيو/حزيران 2016، (تاريخ الدخول: 15 مايو/أيار 2023): https://bit.ly/2FRc42I
  14. توصل "مركز أبحاث الأمن القومي" الإسرائيلي إلى استنتاج مفاده أن كثيرًا من المعيقات السياسية والأمنية والاقتصادية تعيق تنفيذ هذا المشروع في الظروف الحالية، وأنه يمكن أن يكون عمليًّا جزءًا من حل الصراع مع الشعب الفلسطيني وليس بديلًا عنه. انظر: شموئيل أيفن، شلومو غرتنر، دوف كهات، "فكرة تدشين جزيرة اصطناعية قبالة سواحل غزة" (رعيون لهكمات إي ملوخوتي مول حوفي عزا)، عيدكون استراتيجي، (مركز أبحاث الأمن القومي، إسرائيل، مجلد 5، عدد 4، فبراير 2003)، ص ص 22-25.